نقلا عن شبكة الفصيح
القافية عند الخليل من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرك الذي قبل الساكن (1)، وقيل: مع الحركة التي قبل
الساكن (2) وقد ذكر الخليل ستة حروف ضمن هذا التعريف وست حركات ، أما الحروف فهي: الروي والوصل والخروج والردف والتأسيس والدخيل، وأما الحركات فهي: المجرى والنفاذ والحذو والرس والإشباع والتوجيه. وترد معظم هذه الحروف والحركات في قافية البيت التالي، وهو للبحتري:
(1) يفني الشباب إذا ما تم تكملة ( ) والشيء يرجعه نقصا تكامُلُهُ
القافية على قول الخليل الأول من الكاف إلى آخر البيت، وعلى الحكاية الثانية من فتحة الكاف نفسها إلى آخر البيت. وفيها نجد بعد الروي، وهو هنا اللام، الضمة وهي المجرى، ثم الهاء وهي الوصل، ثم الضمة وهي النفاذ، ثم الواو الأخيرة وهي الخروج. ونجد قبل الروي الضمة وهي الإشباع، وقبلها الميم وهو الدخيل، فالتأسيس وهو الألف، وقبله فتحة الكاف وهي الرس. ولم نجد اسما لهذه الكاف وهي المتحرك الذي بدأت به القافية. ويبقى من الحروف والحركات المسميات، مما لم نمثل له، الردف والحذو والتوجيه. فأما الردف والحذو فتجدهما في بيت البحتري التالي:
(2) عاود القلب بثه وخبالُهْ ( ) لخليطٍ زُمّت بليلٍ جِمالُهْ
الألف قبل الروي : ردف، والفتحة قبلها حذو.
وأما التوجيه، وهي حركة الحرف الذي قبل الروي المقيد، فتجدها في قول البحتري أيضا:
(3) إن شعري سار في كل بلد ( ) واشتهى رقته كل أحد
فتحة الحاء قبل الدال الساكنة: توجيه. وقبل هذا التوجيه سلسلة طويلة من الحروف والحركات غير المسميات، تبدأ من الكاف فضمتها، فاللام الأولى، وهي أول الساكنين، ثم اللام الثانية وضمتها، ثم الهمزة وفتحتها، ثم الحاء . فهذه إذن خمسة أحرف وثلاث حركات دخلت جميعها في القافية بحكم التعريف الذي وضعه الخليل، إلا أن أيا من هذه الحروف والحركات لم يحظ باسم يخصه، وهو ما يعني إعفاءها جميعا من أي قدر من الالتزام، وبالتالي يثار التساؤل هنا حول ما يدعو لعدها من حروف القافية.
التعريف الكوفي للقافية:
ذهب ابن كيسان إلى أن القافية كل شيء لزمت إعادته في آخر البيت، قال ابن جني (3) "وقد لاذ هذا بنحو من رأي الخليل إلا أنه يلزم منه تقطع القافية واختلالها واعتراض أشياء بين أثنائها ليست منها. ألا ترى إلى قول عدي بن زيد:
لم أر مثل الفتيان في غـَبَن الأيــــ( م )ــام ينسَون ما عَواقِبُها
فأول ما يلزم في هذه القافية فتحة الواو، ثم الألف، ثم الباء، ثم الهاء والقاف يجوز مكانها غيرها، فقد اختلفت القافية لدخول ما ليس منها بين بعض أجزائها وبعض. وقول الخليل لا يلزم عليه، ألا ترى أنه يرى أن القافية من فتحة الواو إلى آخر البيت، والقاف دخيلة فيه، وإن جاء اختلافها ".
وقال ابن رشيق في العمدة (4) : إن الفراء يحيى بن زياد قد نص في كتاب حروف المعجم أن القافية هي حرف الروي، واتبعه على ذلك أكثر الكوفيين: منهم أحمد بن كيسان، وغيره، وخالفه من أهل الكوفة أبو موسى الحامض فقال : القافية ما لزم الشاعر تكراره في آخر كل بيت". ثم علق على قول أبي موسى بقوله: "وهذا كلام مختصر مليح الظاهر، إلا أنه إذا تأملته كلام الخليل بعينه لا زيادة فيه ولا نقصان"، فهو لم يلمح في هذا التعريف الخلل الذي أشار إليه ابن جني . ومع ذلك فقد وجدنا ابن السراج يشير إلى خلل آخر ولكن في تعريف الخليل هذه المرة، قال في المعيار (5): إنه"إن أجاز (ينطلق) مع (يحترق) أجاز اختلاف القافية، وإن منعه خالف الإجماع" . وكذلك نحا الدكتور عبد الله الغذامي نحو ابن السراج في نقده لتعريف الخليل بالقول إنه "ينطبق على كل نهاية في أي جملة مفيدة، فلو قلنا مثلا: (جاء الفتى باسما، لأنه حاز على جائزة) لصارت كلمة (باسما) قافية للجملة الأولى، وكلمة (جائزة) قافية للجملة الثانية مع أن هذا الكلام نثر لا شعر (6)".
إن نقد ابن السراج يشير إلى أن ثمة مجموعة من الحروف لا تتكرر بعينها في القافية مع أنها داخلة في تعريف الخليل لها، في حين تخلص التعريف الكوفي من هذا المأزق بالنص على "ما لزمت إعادته في آخر البيت"، وبالتالي فلم يدخل في اعتباره الحروف التي لا تتكرر في كلمتي ينطلق ويحترق، واستحق بذلك وصف ابن رشيق له بأنه كلام مختصر مليح الظاهر.
وأما الغذامي فقد رأي في تعريف الخليل ما يمكن تطبيقه على كل نهاية في أي جملة مفيدة، فهي لا بد وأن تنتهي بساكنين بينهما أي عدد من الحروف والحركات، ولم يجد في التعريف إلى ما يشير إلى لزوم التكرار في حروف أو حركات معينة منها.
وفي رأيي أن الخلل الذي لمحه ابن جني في التعريف الكوفي كان يجب أن يتصل بنوع التكرار الذي يحدث للحروف والحركات في القافية؛ إذ ليست كل الحروف والحركات من قبيل ما يتكرر بعينه فقط، وإنما منها الذي يتكرر بحسب نوعه كالدخيل، فلا بد أن يكون موضعه أي صامت من الأصوات متبوع بحركة . ومنها أيضا الردف ، وفيه تتقارض الواو والياء ، ولا تجتمع معهما الألف لأنها، بسبب من اختلاف عدد ذبذباتها، خرجت وحدها نوعا مختلفا. ومن هنا يبدو لي أن تعريف الفارابي الذي ذكره في كتاب جوامع الشعر، يكمل النقص في التعريف الكوفي ، قال: " وكثير منهم يشترطون فيها مع ذلك تساوي نهايات أجزائها، وذلك إما أن تكون حروفا واحدة بأعيانها أو حروفا ينطق بها في أزمان متساوية (7)". وأعتقد أنه يقصد بالحروف التي ينطق بها في أزمان متساوية أنواع الصوت اللغوي الأربعة وهي: الحركات القصيرة والطويلة والصوامت وأنصاف الصوامت، وإن لم يبين لنا الفارابي أيا من هذه الحروف ما يتكرر بعينه، وأيا منها الذي ينطق به في أزمان متساوية.
عرض التعريفات الثلاثة على مثال تطبيقي:
قال بعضهم:
تخضب كفا بُتِكَت من زَندها
فتخضب الحنّاء من مسودّها
كأنها والكحل في مـرودّهــا
تكحل عينيها ببعض جلدها
قال المرزوقي في شرح الحماسة: وقوله في مرودّها، استقبح الزحاف فشدد الدال ، ومثله:
تعرّض المهرة في الطِّوَلِّ
والتقط هذا القول شارح آخر هو الإستراباذي فخفف الدال ، وقال: "والذي رويناه بالتخفيف لا يلزم التشديد لأن مفتعلن مطوي مستفعلن يجري في الرجز مجرى الأصل، وليس كذلك الطول لأنه لو ترك التشديد لاختل الوزن".
قال د. عبد الله عسيلان : "وعقب أبو الرضا الراوندي على ذلك ذاهبا إلى أنه لا بد من تشديد المرود ، وإلا اختلت القافية؛ لأن ما قبل الدال من كل بيت ساكن، فلو خففت كان ما قبل الدال من مرودها متحركا، وهذا لا يجوز، فأما الوزن فإنه لا يختل (8)".
فلنعرض هذا القول إذن على أصحاب التعريفات لنرى رأيهم في مكونات هذه القافية. أما الخليل فقوافي هذه الأبيات عنده هي : زندها، ودّها، مِرْوَدِها، جلدها. ومرودها على الأصل هي مفتعلن، وهي زحاف مقبول لمستفعلن، فما الداعي إذن لتشديد الدال فيها؟ ثم إنا لا نجد قبل الروي حرف مد ولين يكون ردفا فيلتزم، ولا حركة تعد من التوجيه لأن الروي مطلق، وإذن فصنيع الإستراباذي في تخفيف الدال على الأصل مقبول عند الخليل.
وأما أصحاب التعريف الكوفي فهم لا يرون من هذه القافية إلا حروفا ثلاثة تتكرر هي الدال والهاء والألف، ولهذا فهم لا يرون بأسا من تخفيف مرودها . فإذا عرضنا الأمر على الفارابي وجدناه يقترب أكثر ممن سبقوه إلى رأي الراوندي القائل بالتشديد لأن "ما قبل الدال من كل بيت ساكن" وعليه يلزم النطق بهذه السواكن في أزمان متساوية ، ونظنه لهذا يوافق الشاعر على تشديد الكلمة على الضرورة مراعاة للتوازن في القافية.
من هنا نخلص إلى وجوب صياغة تعريف للقافية يجمع بين التعريفات الثلاثة الماضية فنقول إنها : حرف الروي وما قد يليه من أصوات، مع نوع الصوت الذي يسبق الروي ، ولنسمه الردف توسعا في المصطلح . فإذا كان هذا الردف حركة قصيرة ، وكان ثاني صوت يسبقه ألف مد، التزم هذان الصوتان بعينهما، وليس بنوعهما فقط (9).
وفي الرجز السابق ، القافية هي: الدال والهاء والألف مع الردف وهو الحرف الساكن قبل الروي، ولا شيء غير ذلك.
حول أقسام القافية:
أفرز التعريف الخليلى للقافية عددا من التقسيمات يختلف باختلاف عدد الحركات بين الساكنين الأخيرين في البيت فصار لدينا خمسة أقسام أسماؤها كالتالي:
1- المتكاوس : وهو ما توالت فيه أربع حركات، نحو قوله:
قد جبر الدين الإ/لهُ فَجَبَرْ
2- المتراكب : ما توالت فيه ثلاث حركات نحو قوله:
أخبّ فيـ/ـها وأضَعْ
3- المتدارك : وهي ما توالت فيه حركتان نحو قوله:
يا ليتني فيـ/ـها جذَعْ
4- المتواتر : وهي ما وقع فيه حرف متحرك بين الساكنين الأخيرين ، نحو قوله:
يا طلل الحي بذا/ت الصمًدْ
5- المترادف وهو كل قافية اجتمع في آخرها ساكنان، نحوقوله:
وأسعد في ليل البلابل صفـ/ـوانْ
والمتأمل في هذه الأقسام الخمسة لا يرى طائلا من ورائها ، فما هي في واقع الأمر إلا تشكيلات متنوعة من الحركات بين الساكنين الأخيرين في القافية، توهم بالأسماء الموضوعة لها بأنها كالأوزان أو الضروب لا يجب أن يجتمع اثنان منها في قصيدة واحدة. وهي، في النهاية، لم تتشكل إلا وفقا للتعريف الخليلي للقافية ، وإذن، فهي لا تعني شيئا يذكر عند أصحاب التعريف الكوفي. والمثال التالي يظهر وحدة القافية على الرغم من تعدد أقسامها، قال أبو العتاهية:
إن أخاك الصدق من كان معك
ومـــن يضر نفســـه لينفعــــك
ومن إذا ريب الزمان صدعك
شـــتت فيــــــه شمله ليجمعك
تجد فيها ثلاثة أقسام للقافية : المتراكب في البيت الأول ، والمتدارك في البيتين الثاني والرابع ، وأما في البيت الثالث فتجد المتكاوس. والقافية فيها جميعا واحدة تتألف من الروي وهو العين ، يليه حركة تسمى المجرى وحرف يسمى الوصل. وأما الردف فهو الحركة التي تسبق الروي، وهذا الوصف هو عينه في كل قسم من أقسام التي يمكن أن تقع في القصيدة.
تعريفات أخرى للقافية:
قال الأخفش : اعلم أن القافية آخر كلمة في البيت، ثم ذكر تعريفين آخرين لبعض العرب، الأول أنها: البيت ، كما في قول حسان:
فنُحكِم بالقوافي من هجانا ( ) ونضرب حين تختلط الدماء
والثاني أنها: القصيدة، قالت الخنساء:
وقافية مثل حد السنا (م ) نِ تبقى ويذهب من قالها
وقال ابن جني مؤيدا تعريف الأخفش : "إذا جاز أن تسمي القصيدة كلها قافية، كانت تسمية الكلمة التي فيها القافية قافية أجدر". ثم قال: "وعندي أن تسمية الكلمة والبيت والقصيدة قافية إنما هو على إرادة ذو القافية (10)"، ولا نعلم ما إذا كان قوله الأخيرهذا استدراكا لما قبله من الكلام ، أم أنه من كلام ابن سيده وقد اختلط بقول ابن جني الذي نقله في المحكم.
وانتقد الأخفش من زعم بأن حرف الروي هو القافية لأنه لازم بقوله: "إن الأسماء لا تؤخذ بالقياس، وإنما ننظر ما تسمي العرب فنسمي به. ونقول له : صحة البيت لازمة ، فهلا تجعلها قافية؟! وتأليفه لازم له وبناؤه، فهلا تجعل كل واحد من ذا قافية"؟!
ولم ينسب هذا الزعم لأحد، ولكننا وجدنا ابن كيسان في كتابه (تلقيب القوافي وتلقيب حركاتها) يقول: "قال الخليل : القافية الحرف الذي يلزمه الشاعر في آخر كل بيت حتى يفرغ من شعره (11)". ثم لم يذكر لنا ابن كيسان تعريفا آخر سوى ما أشار إليه من قول الأخفش "وقد يسمى البيت بأسره قافية، ويجوز أن يكون سمي قافية بالحرف الذي فيه، وإنما سمي الحرف قافية لأنه يقفو ما تقدمه من الحروف".
وقول ابن كيسان هذا يبدو غريبا بالنظر إلى ما ذكرناه من أن ابن جني نقل له تعريفا مختلفا للقافية . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ما يثير حيرتنا في الأمر هو ما أشار إليه ابن رشيق من اتباع ابن كيسان وغيره من الكوفيين لرأي الفراء في القافية، ولم يقل لرأي الخليل كما رأينا في كتابه، فالأمر يبدو وكأن لابن كيسان كتبا أخرى تعددت فيها وجهات نظره!
والروي هو آخر حرف في البيت إذا كان من أصول الكلمة، ولم بكن يعد من الزوائد وهي : الألف والواو والياء، اللاتي للمد ، والهاء والتاء والكاف والميم والنون، وهذه الأحرف الزوائد لا تصلح أن تكون رويا لأنها كثيرة الشيوع. قال الدكتورعلي يونس: "إن الصوت يمنع من أن يكون رويا أو يفضل غيره عليه في موقع الروي إذا شعر أصحاب اللغة أنه صوت "ضعيف" ؛ إما لخفوته في السمع ، وإما لشيوعه إلى حد يضعف الإحساس به، وإما لشعورهم بأن دوره ثانوي في تكوين متن اللغة، أو لأنه مورفيم مقيد، وهو في إحساسهم أقل قيمة وقوة من المورفيم الحر (12)".
لكن هذه الحروف الزوائد يمكن لها أن تكون رويا إذا كان ما يسبقها حرف ساكن أو صوت مد، كما في قول البحتري :
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها ( ) نعم نسائلها عن بعض أهليها
فالروي فيها الهاء مع أنها من الحروف الزوائد.
وقد يكون الروي ثالث حرف من آخر البيت إذا لم يصلح ما بعده أن يكون رويا، وذلك نحو قول ابن قيس الرقيات:
ألا هزئت بنا قرشــيّــ( م )ـــة يهتزّ موكبُها
الباء القافية ، والهاء صلة ، والألف خروج ، وهذا على النحو الذي سار عليه ابن كيسان في الإشارة إلى حرف الروي في كتابه، وبهذا يصبح للقافية عنده معنيان : المعنى العام للقافية حسب تعريف الخليل المشهور، والمعنى الخاص الذي يشير إلى حرف الروي.
الهوامش:
1- كتاب القوافي للأخفش تحقيق أحمد راتب النفاخ ط 1 ، ص 3 .
2- كتاب الكافي في علم القوافي لابن السراج تحقيق د. محمد رضوان الداية ط3 ص 116 .
3- الوافي بمعرفة القوافي للعنابي الأندلسي تحقيق د. نجاة بنت حسن نولي عام 1997 م ، ص 48.
4- العمدة لابن رشيق الجزء تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ج 1 ، ص 153 .
5- كتاب الكافي في علم القوافي لابن السراج تحقيق د. محمد رضوان الداية ط3 ، ص 116
6- الصوت القديم الجديد للدكتور عبد الله الغذامي ط 2 ، ص 131 .
7- السابق، ص 134 .
8- حماسة أبي تمام وشروحها للدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان، عام 1983 م، ص 187 .
9- في نظرية العروض العربي تأليف سليمان أحمد أبو ستة عام 1992 م ، ص 48 .
10- انظر : الوافي بمعرفة القوافي ص 53 ، وكلام ابن جني هذا في المحكم لابن سيده.
11- تلقيب القوافي وتلقيب حركاتها لابن كيسان نشرة وليم رايت ، ص 48 .
12- دراسات عروضية للدكتور علي يونس ، ص 108 .
نقلا عن شبكة الفصيح
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=58508
القافية عند الخليل من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرك الذي قبل الساكن (1)، وقيل: مع الحركة التي قبل
الساكن (2) وقد ذكر الخليل ستة حروف ضمن هذا التعريف وست حركات ، أما الحروف فهي: الروي والوصل والخروج والردف والتأسيس والدخيل، وأما الحركات فهي: المجرى والنفاذ والحذو والرس والإشباع والتوجيه. وترد معظم هذه الحروف والحركات في قافية البيت التالي، وهو للبحتري:
(1) يفني الشباب إذا ما تم تكملة ( ) والشيء يرجعه نقصا تكامُلُهُ
القافية على قول الخليل الأول من الكاف إلى آخر البيت، وعلى الحكاية الثانية من فتحة الكاف نفسها إلى آخر البيت. وفيها نجد بعد الروي، وهو هنا اللام، الضمة وهي المجرى، ثم الهاء وهي الوصل، ثم الضمة وهي النفاذ، ثم الواو الأخيرة وهي الخروج. ونجد قبل الروي الضمة وهي الإشباع، وقبلها الميم وهو الدخيل، فالتأسيس وهو الألف، وقبله فتحة الكاف وهي الرس. ولم نجد اسما لهذه الكاف وهي المتحرك الذي بدأت به القافية. ويبقى من الحروف والحركات المسميات، مما لم نمثل له، الردف والحذو والتوجيه. فأما الردف والحذو فتجدهما في بيت البحتري التالي:
(2) عاود القلب بثه وخبالُهْ ( ) لخليطٍ زُمّت بليلٍ جِمالُهْ
الألف قبل الروي : ردف، والفتحة قبلها حذو.
وأما التوجيه، وهي حركة الحرف الذي قبل الروي المقيد، فتجدها في قول البحتري أيضا:
(3) إن شعري سار في كل بلد ( ) واشتهى رقته كل أحد
فتحة الحاء قبل الدال الساكنة: توجيه. وقبل هذا التوجيه سلسلة طويلة من الحروف والحركات غير المسميات، تبدأ من الكاف فضمتها، فاللام الأولى، وهي أول الساكنين، ثم اللام الثانية وضمتها، ثم الهمزة وفتحتها، ثم الحاء . فهذه إذن خمسة أحرف وثلاث حركات دخلت جميعها في القافية بحكم التعريف الذي وضعه الخليل، إلا أن أيا من هذه الحروف والحركات لم يحظ باسم يخصه، وهو ما يعني إعفاءها جميعا من أي قدر من الالتزام، وبالتالي يثار التساؤل هنا حول ما يدعو لعدها من حروف القافية.
التعريف الكوفي للقافية:
ذهب ابن كيسان إلى أن القافية كل شيء لزمت إعادته في آخر البيت، قال ابن جني (3) "وقد لاذ هذا بنحو من رأي الخليل إلا أنه يلزم منه تقطع القافية واختلالها واعتراض أشياء بين أثنائها ليست منها. ألا ترى إلى قول عدي بن زيد:
لم أر مثل الفتيان في غـَبَن الأيــــ( م )ــام ينسَون ما عَواقِبُها
فأول ما يلزم في هذه القافية فتحة الواو، ثم الألف، ثم الباء، ثم الهاء والقاف يجوز مكانها غيرها، فقد اختلفت القافية لدخول ما ليس منها بين بعض أجزائها وبعض. وقول الخليل لا يلزم عليه، ألا ترى أنه يرى أن القافية من فتحة الواو إلى آخر البيت، والقاف دخيلة فيه، وإن جاء اختلافها ".
وقال ابن رشيق في العمدة (4) : إن الفراء يحيى بن زياد قد نص في كتاب حروف المعجم أن القافية هي حرف الروي، واتبعه على ذلك أكثر الكوفيين: منهم أحمد بن كيسان، وغيره، وخالفه من أهل الكوفة أبو موسى الحامض فقال : القافية ما لزم الشاعر تكراره في آخر كل بيت". ثم علق على قول أبي موسى بقوله: "وهذا كلام مختصر مليح الظاهر، إلا أنه إذا تأملته كلام الخليل بعينه لا زيادة فيه ولا نقصان"، فهو لم يلمح في هذا التعريف الخلل الذي أشار إليه ابن جني . ومع ذلك فقد وجدنا ابن السراج يشير إلى خلل آخر ولكن في تعريف الخليل هذه المرة، قال في المعيار (5): إنه"إن أجاز (ينطلق) مع (يحترق) أجاز اختلاف القافية، وإن منعه خالف الإجماع" . وكذلك نحا الدكتور عبد الله الغذامي نحو ابن السراج في نقده لتعريف الخليل بالقول إنه "ينطبق على كل نهاية في أي جملة مفيدة، فلو قلنا مثلا: (جاء الفتى باسما، لأنه حاز على جائزة) لصارت كلمة (باسما) قافية للجملة الأولى، وكلمة (جائزة) قافية للجملة الثانية مع أن هذا الكلام نثر لا شعر (6)".
إن نقد ابن السراج يشير إلى أن ثمة مجموعة من الحروف لا تتكرر بعينها في القافية مع أنها داخلة في تعريف الخليل لها، في حين تخلص التعريف الكوفي من هذا المأزق بالنص على "ما لزمت إعادته في آخر البيت"، وبالتالي فلم يدخل في اعتباره الحروف التي لا تتكرر في كلمتي ينطلق ويحترق، واستحق بذلك وصف ابن رشيق له بأنه كلام مختصر مليح الظاهر.
وأما الغذامي فقد رأي في تعريف الخليل ما يمكن تطبيقه على كل نهاية في أي جملة مفيدة، فهي لا بد وأن تنتهي بساكنين بينهما أي عدد من الحروف والحركات، ولم يجد في التعريف إلى ما يشير إلى لزوم التكرار في حروف أو حركات معينة منها.
وفي رأيي أن الخلل الذي لمحه ابن جني في التعريف الكوفي كان يجب أن يتصل بنوع التكرار الذي يحدث للحروف والحركات في القافية؛ إذ ليست كل الحروف والحركات من قبيل ما يتكرر بعينه فقط، وإنما منها الذي يتكرر بحسب نوعه كالدخيل، فلا بد أن يكون موضعه أي صامت من الأصوات متبوع بحركة . ومنها أيضا الردف ، وفيه تتقارض الواو والياء ، ولا تجتمع معهما الألف لأنها، بسبب من اختلاف عدد ذبذباتها، خرجت وحدها نوعا مختلفا. ومن هنا يبدو لي أن تعريف الفارابي الذي ذكره في كتاب جوامع الشعر، يكمل النقص في التعريف الكوفي ، قال: " وكثير منهم يشترطون فيها مع ذلك تساوي نهايات أجزائها، وذلك إما أن تكون حروفا واحدة بأعيانها أو حروفا ينطق بها في أزمان متساوية (7)". وأعتقد أنه يقصد بالحروف التي ينطق بها في أزمان متساوية أنواع الصوت اللغوي الأربعة وهي: الحركات القصيرة والطويلة والصوامت وأنصاف الصوامت، وإن لم يبين لنا الفارابي أيا من هذه الحروف ما يتكرر بعينه، وأيا منها الذي ينطق به في أزمان متساوية.
عرض التعريفات الثلاثة على مثال تطبيقي:
قال بعضهم:
تخضب كفا بُتِكَت من زَندها
فتخضب الحنّاء من مسودّها
كأنها والكحل في مـرودّهــا
تكحل عينيها ببعض جلدها
قال المرزوقي في شرح الحماسة: وقوله في مرودّها، استقبح الزحاف فشدد الدال ، ومثله:
تعرّض المهرة في الطِّوَلِّ
والتقط هذا القول شارح آخر هو الإستراباذي فخفف الدال ، وقال: "والذي رويناه بالتخفيف لا يلزم التشديد لأن مفتعلن مطوي مستفعلن يجري في الرجز مجرى الأصل، وليس كذلك الطول لأنه لو ترك التشديد لاختل الوزن".
قال د. عبد الله عسيلان : "وعقب أبو الرضا الراوندي على ذلك ذاهبا إلى أنه لا بد من تشديد المرود ، وإلا اختلت القافية؛ لأن ما قبل الدال من كل بيت ساكن، فلو خففت كان ما قبل الدال من مرودها متحركا، وهذا لا يجوز، فأما الوزن فإنه لا يختل (8)".
فلنعرض هذا القول إذن على أصحاب التعريفات لنرى رأيهم في مكونات هذه القافية. أما الخليل فقوافي هذه الأبيات عنده هي : زندها، ودّها، مِرْوَدِها، جلدها. ومرودها على الأصل هي مفتعلن، وهي زحاف مقبول لمستفعلن، فما الداعي إذن لتشديد الدال فيها؟ ثم إنا لا نجد قبل الروي حرف مد ولين يكون ردفا فيلتزم، ولا حركة تعد من التوجيه لأن الروي مطلق، وإذن فصنيع الإستراباذي في تخفيف الدال على الأصل مقبول عند الخليل.
وأما أصحاب التعريف الكوفي فهم لا يرون من هذه القافية إلا حروفا ثلاثة تتكرر هي الدال والهاء والألف، ولهذا فهم لا يرون بأسا من تخفيف مرودها . فإذا عرضنا الأمر على الفارابي وجدناه يقترب أكثر ممن سبقوه إلى رأي الراوندي القائل بالتشديد لأن "ما قبل الدال من كل بيت ساكن" وعليه يلزم النطق بهذه السواكن في أزمان متساوية ، ونظنه لهذا يوافق الشاعر على تشديد الكلمة على الضرورة مراعاة للتوازن في القافية.
من هنا نخلص إلى وجوب صياغة تعريف للقافية يجمع بين التعريفات الثلاثة الماضية فنقول إنها : حرف الروي وما قد يليه من أصوات، مع نوع الصوت الذي يسبق الروي ، ولنسمه الردف توسعا في المصطلح . فإذا كان هذا الردف حركة قصيرة ، وكان ثاني صوت يسبقه ألف مد، التزم هذان الصوتان بعينهما، وليس بنوعهما فقط (9).
وفي الرجز السابق ، القافية هي: الدال والهاء والألف مع الردف وهو الحرف الساكن قبل الروي، ولا شيء غير ذلك.
حول أقسام القافية:
أفرز التعريف الخليلى للقافية عددا من التقسيمات يختلف باختلاف عدد الحركات بين الساكنين الأخيرين في البيت فصار لدينا خمسة أقسام أسماؤها كالتالي:
1- المتكاوس : وهو ما توالت فيه أربع حركات، نحو قوله:
قد جبر الدين الإ/لهُ فَجَبَرْ
2- المتراكب : ما توالت فيه ثلاث حركات نحو قوله:
أخبّ فيـ/ـها وأضَعْ
3- المتدارك : وهي ما توالت فيه حركتان نحو قوله:
يا ليتني فيـ/ـها جذَعْ
4- المتواتر : وهي ما وقع فيه حرف متحرك بين الساكنين الأخيرين ، نحو قوله:
يا طلل الحي بذا/ت الصمًدْ
5- المترادف وهو كل قافية اجتمع في آخرها ساكنان، نحوقوله:
وأسعد في ليل البلابل صفـ/ـوانْ
والمتأمل في هذه الأقسام الخمسة لا يرى طائلا من ورائها ، فما هي في واقع الأمر إلا تشكيلات متنوعة من الحركات بين الساكنين الأخيرين في القافية، توهم بالأسماء الموضوعة لها بأنها كالأوزان أو الضروب لا يجب أن يجتمع اثنان منها في قصيدة واحدة. وهي، في النهاية، لم تتشكل إلا وفقا للتعريف الخليلي للقافية ، وإذن، فهي لا تعني شيئا يذكر عند أصحاب التعريف الكوفي. والمثال التالي يظهر وحدة القافية على الرغم من تعدد أقسامها، قال أبو العتاهية:
إن أخاك الصدق من كان معك
ومـــن يضر نفســـه لينفعــــك
ومن إذا ريب الزمان صدعك
شـــتت فيــــــه شمله ليجمعك
تجد فيها ثلاثة أقسام للقافية : المتراكب في البيت الأول ، والمتدارك في البيتين الثاني والرابع ، وأما في البيت الثالث فتجد المتكاوس. والقافية فيها جميعا واحدة تتألف من الروي وهو العين ، يليه حركة تسمى المجرى وحرف يسمى الوصل. وأما الردف فهو الحركة التي تسبق الروي، وهذا الوصف هو عينه في كل قسم من أقسام التي يمكن أن تقع في القصيدة.
تعريفات أخرى للقافية:
قال الأخفش : اعلم أن القافية آخر كلمة في البيت، ثم ذكر تعريفين آخرين لبعض العرب، الأول أنها: البيت ، كما في قول حسان:
فنُحكِم بالقوافي من هجانا ( ) ونضرب حين تختلط الدماء
والثاني أنها: القصيدة، قالت الخنساء:
وقافية مثل حد السنا (م ) نِ تبقى ويذهب من قالها
وقال ابن جني مؤيدا تعريف الأخفش : "إذا جاز أن تسمي القصيدة كلها قافية، كانت تسمية الكلمة التي فيها القافية قافية أجدر". ثم قال: "وعندي أن تسمية الكلمة والبيت والقصيدة قافية إنما هو على إرادة ذو القافية (10)"، ولا نعلم ما إذا كان قوله الأخيرهذا استدراكا لما قبله من الكلام ، أم أنه من كلام ابن سيده وقد اختلط بقول ابن جني الذي نقله في المحكم.
وانتقد الأخفش من زعم بأن حرف الروي هو القافية لأنه لازم بقوله: "إن الأسماء لا تؤخذ بالقياس، وإنما ننظر ما تسمي العرب فنسمي به. ونقول له : صحة البيت لازمة ، فهلا تجعلها قافية؟! وتأليفه لازم له وبناؤه، فهلا تجعل كل واحد من ذا قافية"؟!
ولم ينسب هذا الزعم لأحد، ولكننا وجدنا ابن كيسان في كتابه (تلقيب القوافي وتلقيب حركاتها) يقول: "قال الخليل : القافية الحرف الذي يلزمه الشاعر في آخر كل بيت حتى يفرغ من شعره (11)". ثم لم يذكر لنا ابن كيسان تعريفا آخر سوى ما أشار إليه من قول الأخفش "وقد يسمى البيت بأسره قافية، ويجوز أن يكون سمي قافية بالحرف الذي فيه، وإنما سمي الحرف قافية لأنه يقفو ما تقدمه من الحروف".
وقول ابن كيسان هذا يبدو غريبا بالنظر إلى ما ذكرناه من أن ابن جني نقل له تعريفا مختلفا للقافية . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ما يثير حيرتنا في الأمر هو ما أشار إليه ابن رشيق من اتباع ابن كيسان وغيره من الكوفيين لرأي الفراء في القافية، ولم يقل لرأي الخليل كما رأينا في كتابه، فالأمر يبدو وكأن لابن كيسان كتبا أخرى تعددت فيها وجهات نظره!
والروي هو آخر حرف في البيت إذا كان من أصول الكلمة، ولم بكن يعد من الزوائد وهي : الألف والواو والياء، اللاتي للمد ، والهاء والتاء والكاف والميم والنون، وهذه الأحرف الزوائد لا تصلح أن تكون رويا لأنها كثيرة الشيوع. قال الدكتورعلي يونس: "إن الصوت يمنع من أن يكون رويا أو يفضل غيره عليه في موقع الروي إذا شعر أصحاب اللغة أنه صوت "ضعيف" ؛ إما لخفوته في السمع ، وإما لشيوعه إلى حد يضعف الإحساس به، وإما لشعورهم بأن دوره ثانوي في تكوين متن اللغة، أو لأنه مورفيم مقيد، وهو في إحساسهم أقل قيمة وقوة من المورفيم الحر (12)".
لكن هذه الحروف الزوائد يمكن لها أن تكون رويا إذا كان ما يسبقها حرف ساكن أو صوت مد، كما في قول البحتري :
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها ( ) نعم نسائلها عن بعض أهليها
فالروي فيها الهاء مع أنها من الحروف الزوائد.
وقد يكون الروي ثالث حرف من آخر البيت إذا لم يصلح ما بعده أن يكون رويا، وذلك نحو قول ابن قيس الرقيات:
ألا هزئت بنا قرشــيّــ( م )ـــة يهتزّ موكبُها
الباء القافية ، والهاء صلة ، والألف خروج ، وهذا على النحو الذي سار عليه ابن كيسان في الإشارة إلى حرف الروي في كتابه، وبهذا يصبح للقافية عنده معنيان : المعنى العام للقافية حسب تعريف الخليل المشهور، والمعنى الخاص الذي يشير إلى حرف الروي.
الهوامش:
1- كتاب القوافي للأخفش تحقيق أحمد راتب النفاخ ط 1 ، ص 3 .
2- كتاب الكافي في علم القوافي لابن السراج تحقيق د. محمد رضوان الداية ط3 ص 116 .
3- الوافي بمعرفة القوافي للعنابي الأندلسي تحقيق د. نجاة بنت حسن نولي عام 1997 م ، ص 48.
4- العمدة لابن رشيق الجزء تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ج 1 ، ص 153 .
5- كتاب الكافي في علم القوافي لابن السراج تحقيق د. محمد رضوان الداية ط3 ، ص 116
6- الصوت القديم الجديد للدكتور عبد الله الغذامي ط 2 ، ص 131 .
7- السابق، ص 134 .
8- حماسة أبي تمام وشروحها للدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان، عام 1983 م، ص 187 .
9- في نظرية العروض العربي تأليف سليمان أحمد أبو ستة عام 1992 م ، ص 48 .
10- انظر : الوافي بمعرفة القوافي ص 53 ، وكلام ابن جني هذا في المحكم لابن سيده.
11- تلقيب القوافي وتلقيب حركاتها لابن كيسان نشرة وليم رايت ، ص 48 .
12- دراسات عروضية للدكتور علي يونس ، ص 108 .
نقلا عن شبكة الفصيح
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=58508