انتقادات القاعدة النحوية
ومن هذا الجانب تعرضت القواعد النحوية ومنهج جمع مادتها ووضعها لكثير من الانتقادات والتعديلات والملاحظات [1]. ومن الانتقادات الموجهة إلى منهج اللغويين في السماع: قيام المنهج على تحديد القبائل العربية التي يحتج بلغاتها، ولا شك أن هذا التحديد الزماني والمكاني لمصادر السماع، واستبعاد بقية القبائل، يتنافى مع النهج السليم في دراسة العربية، واستخلاص قواعدها وأحكامها؛ لأن ذلك الصنيع حرم النحوي مادةً لغويةً وفيرةً، وأساليب عربيةً كثيرةً، مما جعل أحكامه جزئيةً غير شمولية.
كما انتقد بعض العلماء مفهوم الكثرة التي اعتمد عليها النحاة عند وضع قواعدهم، لأنهم " لم يوضحوا مرادهم بالكثرة... أهي الكثرة العددية بين أفراد القبيلة الواحدة؟ أم القبائل جمعاء؟ أهي الكثرة النسبية القائمة على الاستقراء التام والعد واستخراج النسب؟ فإذا كان الأول فما حدها؟ أهي ثلاثة أم خمسة أم عشرة أم ماذا؟ وإذا كانت الثانية فكم نسبة الكثير؟!" [2].
والحق أن النحويين عندما قعدوا قواعدهم، وبنوا أحكامهم اعتمدوا كلام العرب، إلا أن القواعد التي أصلوها لم تصدر عن استقصاء تام للغة، واستقراء لأساليبها وتراكيبها، بل كان استقراءً ناقصًا، لأنهم اعتمدوا على قليل مما سمعوه من أقوال العرب النثرية والشعرية، وأكد بعض العلماء أن النحاة "لم يعتمدوا في وضع القاعدة على الاستقراء وحده بل اعتمدوا على القياس الذي كانت له مكانة كبيرة لديهم"[3]. يقول سعيد الأفغاني: "الحق أن النقد يجد في صف النحاة، وفي قواعد نحوهم ثغرًا عديدةً، ينفذ منها إلى الصميم، فهم يريدون بناء قواعدهم على كلام العرب، فيجمعون نتفًا نثريةً وشعريةً من هذه القبيلة، ومن تلك، من أعرابي في الشمال إلى امرأة في الجنوب، ومن شعر لا يعرف قائله إلى جملة غير منسوبة، يجمعون هذه إلى أقوال معروفة مشهورة، ويضعون قواعد تصدق على أكثر ما وصل إليهم بهذا الاستقراء الناقص الذي لا يستند إلى خطة محكمة في الجمع، ثم يسددون هذه القواعد بمقاييس منطقية يريدون اطرادها في الكلام"[4].
ومن البدهي أن لغات القبائل التي اعتمد عليها النحاة، لا تحوي جميع لغات القبائل الأخرى ولهجاتها، من أساليب وتراكيب وتصرف في استخدام اللغة. ومما لا شك فيه أن اللغة العربية أوسع مما جمعه الرواة في عصر التدوين، وما ضاع من اللغة وأساليبها أكثر بكثير مما دون، ومن هنا جاءت بعض الأحكام النحوية قاصرةً؛ لأن النحويين ندت منهم شواهد كثيرة وأساليب عديدة، فصاغوا أحكامهم بناءً على استقراء ناقص، ولو وسعوا دائرة الاحتجاج، لتغيرت بعض تلك الأحكام والقواعد، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة.
إذن إن أكبر نقد يوجه إلى منهج النحويين، هو أنهم بنوا قواعدهم وصاغوا أحكامهم على استقراء ناقص، ثم حكموا تلك القواعد والأحكام بأصح الأقوال وأوثقها، وكان المنهج السليم يقتضي أن يصحح النحاة قواعدهم، لتستوعب كل ما ثبتت صحته من العربية، ولو فعلوا ذلك لكانت قواعدهم أشد إحكامًا. وهناك من يرى غير ذلك، حيث يرى بعض العلماء أن النحاة في" تقعيدهم لقواعد العربية لم يًقتصروا على مصدر واحد؛ وهو لغتها المشتركة النموذجية الأدبية كما كان الواجب، بل أقحموا معها اللهجات العربية القديمة بصفاتها وخصائصها المتباينة، وهكذا حاولوا تقعيد القواعد من عدة مصادر"[5].
كما أخذ بعض الباحثين على النحاة القدماء عدم تفرقتهم بين مستويات اللغة، إذ إنهم نظروا إلى اللغة بمستوياتها المختلفة ولهجاتها المتنوعة نظرةً واحدةً، وفي ذلك يقول علي أبو المكارم:" ولكن ثمة خطأً أساسيًا وقع فيه أولئك العلماء الذين رحلوا إلى البادية، ليسمعوا ويدونوا، أو رحل إليهم أعراب البادية، فسمعوا ودونوا، وهو خلطهم بين المستويات اللغوية المختلفة التي كانوا يأخذون عنها، فقد اعتبروا كل ما يسمعونه (عربيةً )، ونسوا شيئًا مهمًا وخطير الأثر، وهو أن ما يسمعونه ينتمي إلى مستويات متعددة، ينبغي التفرقة الحاسمة فيها بين المستويين: مستوى اللغة الفصحى، ثم مستوى اللهجات، وعلى الرغم من إدراكهم لوجود ظواهر صوتية تنتمي إلى اللهجات القبلية، فإنهم لم يقفوا كثيرًا عند تأثير اللهجات في الظواهر التركيبية أو المعجمية للغة، كما لم يدرسوا الخصائص التركيبية والمعجمية للهجات ذاتها"[6].
ومما يتصل بالمأخذ السابق، ما أخذه الوصفيون على النحاة القدامى، من اقتصارهم على اللغة الأدبية، وتحييدهم لغة التخاطب اليومي، واعتمادهم على الشعر كثيرًا في استنباط القواعد، مع أن للشعر لغته الخاصة به، يقول عبده الراجحي:" وقد أشرنا إلى أن الوصفيين يقررون أن هناك مستويات مختلفة من الكلام، وأن لكل مستوى نظامه وقوانينه، وأن الشعر على وجه الخصوص له نظامه الذي يختلف عن نظام غيره من مستويات اللغة الأدبية... وقصر الدرس النحوي على هذا المستوى أفضى بهم إلى وضع قواعد العربية على أساس من النصوص المختارة، مما أبعدهم عن الاستعمال الشائع في اللغة، ولم يكن مناص، من أن يواجهوا نصوصًا من هذا المستوى الأدبي، تخالف ما وضعوه من قواعد، فاضطروا إلى اللجوء إلى الضرورة أو الشاذ، بل إلى وضع نصوص تسند هذه الأحكام "[7].
لكن الإنصاف يقتضي منا أن نعذر نحاتنا الأوائل فيما انتهجوه من الاقتصار على اللغة الأدبية، وذلك لأن الغاية من نشوء النحو هي خدمة القرآن الكريم، والقرآن نزل بلغة أدبية رفيعة المستوى، فلا سبيل إلى فهمه وتحليل أساليبه وتراكيبه إلا في ضوء الأساليب الأدبية الرفيعة عند العرب، وهذا في ظني ما دعاهم إلى الاعتماد على لغة الشعر، كونها أرقى مستويات الأدب، واتخاذها مصدرًا لقواعدهم وأحكامهم.
وقد عبر عن ذلك تمام حسان أفضل تعبير فقال:" فماذا عسانا أن يكون موقفنا من النحاة في ضوء هذه الملابسات؟ أنلومهم لأنهم خالفوا مقاييس وطرقًا منهجيةً لم يكن لها وجود في زمانهم، أم نرى ما رأوه ضرورة الأخذ بهذه اللغة الأدبية؟ إن النحاة العرب لم يتصدوا لهذه المهمة الجليلة إلا لخدمة القرآن، فلولا عنايتهم بالمحافظة على النص القرآني من أن تتسرب إليه ظاهرة اللحن، ما فكروا في ذلك الزمان بعينه، والمكان بعينه في إنشاء النحو، والقرآن نص أنزل باللغة الأدبية، وليس بلغة التخاطب العادية، فكان على من يود المحافظة على القرآن، أن يدرس اللغة التي أنزل بها"[8]. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، وهو أنه لم يكن بوسع النحاة أن ينتهجوا غير هذا المنهج، ولو انتهجوا غيره لكان خيانةً منهم لهدفهم الذي سعوا إليه فقال:"ولو أن النحاة استخرجوا النحو من لغة التخاطب لما وصلوا إلى ما يريدون، ولكان ذلك منهم خيانةً للغاية التي سعوا إليها، وإجهاضًا للغرض النبيل الذي عملوا من أجله"[9].
وكل ما سبق من مآخذ وانتقادات وغيرها لا يعني أن القوم لم يوفقوا ويسددوا في استقرائهم لمعظم الظواهر اللغوية؛ فالقواعد الكلية الكبرى التي صنعـوا، لها سند مما هو كثير في كلام العرب، وبخاصة أن معظمها يكفي فيه استقراء ناقص، كما هو الشأن في العلوم التجريبية، ولكن الأمر فيما يتصل بالقواعد الجزئية والأحكام الخاصة، في موضوع بعينه، فإنه لا يكفي فيها الاستقراء الناقص بل تحتاج إلى استقراء تام، كما تحتاج إلى إدامة نظر في الأدلة، فلعلها تحتمل ما منعوه أو تمنع ما احتملوه.
وإن التراث النحوي تراث غني وعريق، تعاقبت على صنعه وبنائه أجيال من النحويين واللغويين الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم لهذا التراث، حتى توطد بناؤه، وشمخ صرحه عاليًا، فقد أشادوا بنيانه على أسس ثابتة متينة لا تتزعزع؛ لهذا صمد طويلًا أمام كثير من الهزات والزلازل التي تعرض لها قديمًا وحديثًا. ومما لا جدال حوله أن هذا التراث النحوي من صنع البشر، فلا عجب أن يعثر الباحث فيه، المدقق في تفاصيله على غير قليل من الثغرات، وأن يكتشف في بعض جوانبه شيئًا من الضعف والوهن. وهذه سمات أي عمل بشري، مهمًا أتقن صنعه، وأخلص في عمله، يقول عباس حسن:" والحق أن النحو - من نشأته إلى عصرنا هذا - مصاب ببعض علل وآفات، تكاد تكون متشابكةً متداخلةً، يعسر فصل واحد من آثارها ونتائجها من الأخرى. أضعفت شأنه، وشوهت جماله، وتولتها الأيام بالرعاية والإذكاء حتى كادت تقضي عليه وانتهت به إلى ما ترى" [10].
ولا زلت أؤكد - على الرغم مما أثير من انتقادات لمنهج النحاة في التقعيد - أن قواعدهم ما زالت قويةً شامخةً لم يستطع عالم أن يلغيها أو يمدنا ببديل مناسب صالح يحل محلها ويقـوم بدورها، وفي هذا الشأن يقول المستشرق الألماني (يوهان فك):" ولقد تكفلت القواعد التي وضعها النحاة العرب في جهد لا يعرف الكلل، وتضحية جديرة بالإعجاب؛ بعرض الفصحى وتطويرها في جميع مظاهرها من ناحية الأصوات والصيغ، وتركيب الجمل ومعاني المفردات على صورة شاملة، حتى بلغت كتب القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد"[11].
[1] ينظر: القاعدة النحوية، لأحمد عبدالعظيم ( على سبيل المثال ).
[2] البحث اللغوي عند العرب، لأحمد مختار عمر (128).
[3] الضرورة الشعرية، لحماسة عبداللطيف، مكتبة دار العلوم، القاهرة، الطبعة الأولى، 1979م(ص87-88).
[4]في أصول النحو، لسعيد الأفغاني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1407هـ/1987م (ص31).
[5] من أسرار اللغة، لإبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة، القاهرة،1966م (ص39). وينظر: الضرورة الشعرية، لحماسة عبد اللطيف (ص86).
[6] في أصول التفكير النحوي، لعلي أبو المكارم، منشورات الجامعة الليبية، كلية التربية، 1393هـ/1973م(ص26-27).
[7] النحو العربي والدرس الحديث، لعبده الراجحي، دار النهضة العربية، بيروت، 1979م (ص48-49).
[8] الأصول، لتمام حسان (ص103-104).
[9] الأصول، لتمام حسان (ص104).
[10] اللغة والنحو بين القديم والحديث، لعباس حسن، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1966م (ص71).
[11] العربية، ليوهان فك، ترجمة: عبد الحليم النجار، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1951م (ص2).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/86657/#ixzz3afRnLK00
ومن هذا الجانب تعرضت القواعد النحوية ومنهج جمع مادتها ووضعها لكثير من الانتقادات والتعديلات والملاحظات [1]. ومن الانتقادات الموجهة إلى منهج اللغويين في السماع: قيام المنهج على تحديد القبائل العربية التي يحتج بلغاتها، ولا شك أن هذا التحديد الزماني والمكاني لمصادر السماع، واستبعاد بقية القبائل، يتنافى مع النهج السليم في دراسة العربية، واستخلاص قواعدها وأحكامها؛ لأن ذلك الصنيع حرم النحوي مادةً لغويةً وفيرةً، وأساليب عربيةً كثيرةً، مما جعل أحكامه جزئيةً غير شمولية.
كما انتقد بعض العلماء مفهوم الكثرة التي اعتمد عليها النحاة عند وضع قواعدهم، لأنهم " لم يوضحوا مرادهم بالكثرة... أهي الكثرة العددية بين أفراد القبيلة الواحدة؟ أم القبائل جمعاء؟ أهي الكثرة النسبية القائمة على الاستقراء التام والعد واستخراج النسب؟ فإذا كان الأول فما حدها؟ أهي ثلاثة أم خمسة أم عشرة أم ماذا؟ وإذا كانت الثانية فكم نسبة الكثير؟!" [2].
والحق أن النحويين عندما قعدوا قواعدهم، وبنوا أحكامهم اعتمدوا كلام العرب، إلا أن القواعد التي أصلوها لم تصدر عن استقصاء تام للغة، واستقراء لأساليبها وتراكيبها، بل كان استقراءً ناقصًا، لأنهم اعتمدوا على قليل مما سمعوه من أقوال العرب النثرية والشعرية، وأكد بعض العلماء أن النحاة "لم يعتمدوا في وضع القاعدة على الاستقراء وحده بل اعتمدوا على القياس الذي كانت له مكانة كبيرة لديهم"[3]. يقول سعيد الأفغاني: "الحق أن النقد يجد في صف النحاة، وفي قواعد نحوهم ثغرًا عديدةً، ينفذ منها إلى الصميم، فهم يريدون بناء قواعدهم على كلام العرب، فيجمعون نتفًا نثريةً وشعريةً من هذه القبيلة، ومن تلك، من أعرابي في الشمال إلى امرأة في الجنوب، ومن شعر لا يعرف قائله إلى جملة غير منسوبة، يجمعون هذه إلى أقوال معروفة مشهورة، ويضعون قواعد تصدق على أكثر ما وصل إليهم بهذا الاستقراء الناقص الذي لا يستند إلى خطة محكمة في الجمع، ثم يسددون هذه القواعد بمقاييس منطقية يريدون اطرادها في الكلام"[4].
ومن البدهي أن لغات القبائل التي اعتمد عليها النحاة، لا تحوي جميع لغات القبائل الأخرى ولهجاتها، من أساليب وتراكيب وتصرف في استخدام اللغة. ومما لا شك فيه أن اللغة العربية أوسع مما جمعه الرواة في عصر التدوين، وما ضاع من اللغة وأساليبها أكثر بكثير مما دون، ومن هنا جاءت بعض الأحكام النحوية قاصرةً؛ لأن النحويين ندت منهم شواهد كثيرة وأساليب عديدة، فصاغوا أحكامهم بناءً على استقراء ناقص، ولو وسعوا دائرة الاحتجاج، لتغيرت بعض تلك الأحكام والقواعد، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة.
إذن إن أكبر نقد يوجه إلى منهج النحويين، هو أنهم بنوا قواعدهم وصاغوا أحكامهم على استقراء ناقص، ثم حكموا تلك القواعد والأحكام بأصح الأقوال وأوثقها، وكان المنهج السليم يقتضي أن يصحح النحاة قواعدهم، لتستوعب كل ما ثبتت صحته من العربية، ولو فعلوا ذلك لكانت قواعدهم أشد إحكامًا. وهناك من يرى غير ذلك، حيث يرى بعض العلماء أن النحاة في" تقعيدهم لقواعد العربية لم يًقتصروا على مصدر واحد؛ وهو لغتها المشتركة النموذجية الأدبية كما كان الواجب، بل أقحموا معها اللهجات العربية القديمة بصفاتها وخصائصها المتباينة، وهكذا حاولوا تقعيد القواعد من عدة مصادر"[5].
كما أخذ بعض الباحثين على النحاة القدماء عدم تفرقتهم بين مستويات اللغة، إذ إنهم نظروا إلى اللغة بمستوياتها المختلفة ولهجاتها المتنوعة نظرةً واحدةً، وفي ذلك يقول علي أبو المكارم:" ولكن ثمة خطأً أساسيًا وقع فيه أولئك العلماء الذين رحلوا إلى البادية، ليسمعوا ويدونوا، أو رحل إليهم أعراب البادية، فسمعوا ودونوا، وهو خلطهم بين المستويات اللغوية المختلفة التي كانوا يأخذون عنها، فقد اعتبروا كل ما يسمعونه (عربيةً )، ونسوا شيئًا مهمًا وخطير الأثر، وهو أن ما يسمعونه ينتمي إلى مستويات متعددة، ينبغي التفرقة الحاسمة فيها بين المستويين: مستوى اللغة الفصحى، ثم مستوى اللهجات، وعلى الرغم من إدراكهم لوجود ظواهر صوتية تنتمي إلى اللهجات القبلية، فإنهم لم يقفوا كثيرًا عند تأثير اللهجات في الظواهر التركيبية أو المعجمية للغة، كما لم يدرسوا الخصائص التركيبية والمعجمية للهجات ذاتها"[6].
ومما يتصل بالمأخذ السابق، ما أخذه الوصفيون على النحاة القدامى، من اقتصارهم على اللغة الأدبية، وتحييدهم لغة التخاطب اليومي، واعتمادهم على الشعر كثيرًا في استنباط القواعد، مع أن للشعر لغته الخاصة به، يقول عبده الراجحي:" وقد أشرنا إلى أن الوصفيين يقررون أن هناك مستويات مختلفة من الكلام، وأن لكل مستوى نظامه وقوانينه، وأن الشعر على وجه الخصوص له نظامه الذي يختلف عن نظام غيره من مستويات اللغة الأدبية... وقصر الدرس النحوي على هذا المستوى أفضى بهم إلى وضع قواعد العربية على أساس من النصوص المختارة، مما أبعدهم عن الاستعمال الشائع في اللغة، ولم يكن مناص، من أن يواجهوا نصوصًا من هذا المستوى الأدبي، تخالف ما وضعوه من قواعد، فاضطروا إلى اللجوء إلى الضرورة أو الشاذ، بل إلى وضع نصوص تسند هذه الأحكام "[7].
لكن الإنصاف يقتضي منا أن نعذر نحاتنا الأوائل فيما انتهجوه من الاقتصار على اللغة الأدبية، وذلك لأن الغاية من نشوء النحو هي خدمة القرآن الكريم، والقرآن نزل بلغة أدبية رفيعة المستوى، فلا سبيل إلى فهمه وتحليل أساليبه وتراكيبه إلا في ضوء الأساليب الأدبية الرفيعة عند العرب، وهذا في ظني ما دعاهم إلى الاعتماد على لغة الشعر، كونها أرقى مستويات الأدب، واتخاذها مصدرًا لقواعدهم وأحكامهم.
وقد عبر عن ذلك تمام حسان أفضل تعبير فقال:" فماذا عسانا أن يكون موقفنا من النحاة في ضوء هذه الملابسات؟ أنلومهم لأنهم خالفوا مقاييس وطرقًا منهجيةً لم يكن لها وجود في زمانهم، أم نرى ما رأوه ضرورة الأخذ بهذه اللغة الأدبية؟ إن النحاة العرب لم يتصدوا لهذه المهمة الجليلة إلا لخدمة القرآن، فلولا عنايتهم بالمحافظة على النص القرآني من أن تتسرب إليه ظاهرة اللحن، ما فكروا في ذلك الزمان بعينه، والمكان بعينه في إنشاء النحو، والقرآن نص أنزل باللغة الأدبية، وليس بلغة التخاطب العادية، فكان على من يود المحافظة على القرآن، أن يدرس اللغة التي أنزل بها"[8]. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، وهو أنه لم يكن بوسع النحاة أن ينتهجوا غير هذا المنهج، ولو انتهجوا غيره لكان خيانةً منهم لهدفهم الذي سعوا إليه فقال:"ولو أن النحاة استخرجوا النحو من لغة التخاطب لما وصلوا إلى ما يريدون، ولكان ذلك منهم خيانةً للغاية التي سعوا إليها، وإجهاضًا للغرض النبيل الذي عملوا من أجله"[9].
وكل ما سبق من مآخذ وانتقادات وغيرها لا يعني أن القوم لم يوفقوا ويسددوا في استقرائهم لمعظم الظواهر اللغوية؛ فالقواعد الكلية الكبرى التي صنعـوا، لها سند مما هو كثير في كلام العرب، وبخاصة أن معظمها يكفي فيه استقراء ناقص، كما هو الشأن في العلوم التجريبية، ولكن الأمر فيما يتصل بالقواعد الجزئية والأحكام الخاصة، في موضوع بعينه، فإنه لا يكفي فيها الاستقراء الناقص بل تحتاج إلى استقراء تام، كما تحتاج إلى إدامة نظر في الأدلة، فلعلها تحتمل ما منعوه أو تمنع ما احتملوه.
وإن التراث النحوي تراث غني وعريق، تعاقبت على صنعه وبنائه أجيال من النحويين واللغويين الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم لهذا التراث، حتى توطد بناؤه، وشمخ صرحه عاليًا، فقد أشادوا بنيانه على أسس ثابتة متينة لا تتزعزع؛ لهذا صمد طويلًا أمام كثير من الهزات والزلازل التي تعرض لها قديمًا وحديثًا. ومما لا جدال حوله أن هذا التراث النحوي من صنع البشر، فلا عجب أن يعثر الباحث فيه، المدقق في تفاصيله على غير قليل من الثغرات، وأن يكتشف في بعض جوانبه شيئًا من الضعف والوهن. وهذه سمات أي عمل بشري، مهمًا أتقن صنعه، وأخلص في عمله، يقول عباس حسن:" والحق أن النحو - من نشأته إلى عصرنا هذا - مصاب ببعض علل وآفات، تكاد تكون متشابكةً متداخلةً، يعسر فصل واحد من آثارها ونتائجها من الأخرى. أضعفت شأنه، وشوهت جماله، وتولتها الأيام بالرعاية والإذكاء حتى كادت تقضي عليه وانتهت به إلى ما ترى" [10].
ولا زلت أؤكد - على الرغم مما أثير من انتقادات لمنهج النحاة في التقعيد - أن قواعدهم ما زالت قويةً شامخةً لم يستطع عالم أن يلغيها أو يمدنا ببديل مناسب صالح يحل محلها ويقـوم بدورها، وفي هذا الشأن يقول المستشرق الألماني (يوهان فك):" ولقد تكفلت القواعد التي وضعها النحاة العرب في جهد لا يعرف الكلل، وتضحية جديرة بالإعجاب؛ بعرض الفصحى وتطويرها في جميع مظاهرها من ناحية الأصوات والصيغ، وتركيب الجمل ومعاني المفردات على صورة شاملة، حتى بلغت كتب القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد"[11].
[1] ينظر: القاعدة النحوية، لأحمد عبدالعظيم ( على سبيل المثال ).
[2] البحث اللغوي عند العرب، لأحمد مختار عمر (128).
[3] الضرورة الشعرية، لحماسة عبداللطيف، مكتبة دار العلوم، القاهرة، الطبعة الأولى، 1979م(ص87-88).
[4]في أصول النحو، لسعيد الأفغاني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1407هـ/1987م (ص31).
[5] من أسرار اللغة، لإبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة، القاهرة،1966م (ص39). وينظر: الضرورة الشعرية، لحماسة عبد اللطيف (ص86).
[6] في أصول التفكير النحوي، لعلي أبو المكارم، منشورات الجامعة الليبية، كلية التربية، 1393هـ/1973م(ص26-27).
[7] النحو العربي والدرس الحديث، لعبده الراجحي، دار النهضة العربية، بيروت، 1979م (ص48-49).
[8] الأصول، لتمام حسان (ص103-104).
[9] الأصول، لتمام حسان (ص104).
[10] اللغة والنحو بين القديم والحديث، لعباس حسن، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1966م (ص71).
[11] العربية، ليوهان فك، ترجمة: عبد الحليم النجار، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1951م (ص2).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/86657/#ixzz3afRnLK00