مجمع اللغة العربية بدمشق
الدكتور عبد الله واثق شهيد
الأمين العام لمجمع اللغة العربية بدمشق
تمهيد
نشأت أغلب المجامع اللغوية العربية على نسق واحد مستقى من نموذج المجمع الفرنسي، وروعيت في كلٍّ منها شروط البيئة التي أنشئ فيها المجمع وأحاطت به، وأهمها البيئة العربية والطابع العربي الذي طبع المجتمع وثقافته. لذلك كانت أغراض مجامع اللغة العربية وأهدافها متشابهة. تعمل جميعها على المحافظة على سلامة اللغة العربية وتنقيتها، وجعلها وافيةً بمطالب الآداب والعلوم والفنون ملائمة لحاجات العصر، وعلى وضع المصطلحات العلمية والمعاجم اللغوية والمختصة، وعلى تيسير تعلم اللغة العربية وتعليمها، نحوها وصرفها وإملائها، وعلى تحقيق التراث العربي الإسلامي العلمي واللغوي والأدبي. وهي إن اختلفت في الأغراض فإنما تختلف غالباً في صياغتها وفيما يصيب بعضها من تفصيل. وللمجامع العربية استقلالها الإداري والمالي ويرتبط أكثرها بوزير (وزير التعليم العالي أو التربية...) وبعضها بوزارة، وقليل منها بالملك أو برئاسة الجمهورية. أما وسائل عمل المجامع العربية وأساليبه لتحقيق أغراضها والقيام بمهامها فمتشابهة أيضاً: لكل منها مجلس ومكتب ولجان ورئيس ونائب ينوب عنه إذا غاب ويساعده فيما يشاء من مهامه، وأمين عام يقوم في بعضها مقام الرئيس ويكون عندئذ أميناً عاماً مدى الحياة، وتحلّ اللجنة الإدارية في بعضها محل المكتب في التسمية والاختصاص.
وقد يكون لوضع المصطلحات أكبر الأثر في الدفع الاجتماعي لإحداث المجامع، ويلاحظ ذلك من قيام كثير منها بدور لجنة للمصطلحات قبل إحداثها، وهذا هو ما نقرؤه في تاريخ مجامع دمشق والقاهرة وبغداد وعمان على الأقل. بل إن وضع المصطلحات وتنقية اللغة غرض مشترك من أغراض مجامع البلدان الآخذة في التطور، بلدان العالم الثالث. فلقد أدركت هذه الأمم أن تطورها يتوقف على تطوير لغاتها لتكون قادرة على الوفاء بمطالب العلوم والفنون وملائمة لحاجات العصر من جهة، وعلى الحفاظ على كيانها القومي وهويتها الثقافية من جهة أخرى، في عصر تصاعد فيه المد القومي واستشرت جميع أشكال القهر والتسلط التي واكبت عصر النهضة العربية.
ونرى ذلك واضحاً أيضاً في أغراض المجامع المجاورة الأخرى كمجمعي جارتينا الإسلاميتين تركيا وإيران. نرى أن تنقية اللغة التركية مما دخلها من اللغتين العربية والفارسية، ووضع معجم لغوي تركي وقواعد للغة التركية، كانت من أهم أغراض المجمع التركي اللغوي الذي كان أتاتورك يتابع أعماله بعناية. ونرى في المجمع اللغوي الإيراني، أن موضوع تنقية اللغة الفارسية مما دخلها من اللغة العربية، كان الموضوع الذي شاركت المجمع في نقاشه الجامعات والصحافة، وطال الجدل فيه بين متشددين قد يذهب بهم تشددهم إلى إفقاد اللغة بعض طاقتها على ملاءمة حاجات المجتمع، التي تأصلت فيه بطابع عربي إسلامي، ومعتدلين يرون في التعنّت إضراراً باللغة الفارسية وتشدداً غير مبرر([1]).
إن التشدد في صون اللغة والحفاظ عليها أصبح اليوم سمةً من سمات العصر، يزداد عزم الأمم تصميماً على صدّ أخطار الغزو الثقافي صوناً لها، ويزداد طموحها إلى التميز تشبثاً بها. وأصبح الحفاظ على التنوع الثقافيّ في عصرنا هذا الذي سمي عصر العولمة، ظاهرة تسطع فيه تعبيراً عن تآزر الأمم في الدفاع عن تنوع اللغات وحمايتها من عدوان اللغة الأمريكية الإنجليزية التي هي أيضاً أحد رموز العولمة. ولقد أثير في منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو) موضوع اندثار لغات عديدة سنوياً بفعل الوَقْع القوي للثقافة الأمريكية المحمولة على اقتصاد مهيمن، والمنقولة بلغتها في التلفزة والسينما والإذاعات والمواقع المتكاثرة على الإنترنت والصحافة المرئية والمقروءة والمكتوبة، ومحاولة فرضها في التعليم والاقتصاد وفي جميع المناشط الدولية والأنشطة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. إنه وَقْعٌ قوي ينهك اللغات الأخرى، ولا سيما غير العريقة التي يندثر العديد منها سنوياً. ولقد وقفت أمم الأرض قاطبة، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، في المنظمة الدولية (اليونسكو) تدافع عن ضرورة تنوع اللغات والثقافات ليُثري تنوعها الحضارة الإنسانية بما تحمله ثقافاتها من خصائص أمم الأرض والشعوب، واتخذت المنظمة قرارات متتالية في اجتماعاتها ومؤتمراتها في السنوات الثلاث السابقة، كان من أهمها قرار إحداث برنامج حفظ الإرث الثقافي، وكان آخرها القرار الحاسم بحماية التنوع الثقافي، الذي اتخذته في مؤتمرها السنوي العام في خريف عام 2005، بإجماع - استثني منه إسرائيل - ضد تعنّت الولايات المتحدة الأمريكية.
والمجامع اللغوية معنية بالدفاع عن اللغة كغيرها من الهيئات حكومية كانت أو غير حكومية، وربما تكون معنية أكثر من غيرها لأنها أُنشئت خصيصاً لهذه الغاية. وعليها أن تمتلك كل الوسائل وتستخدم جميع الأساليب التي تحتاج إليها للنجاح في مهمتها. وسنحاول فيما يلي من الصفحات تناول أعمال مجمع دمشق بالدراسة، دراسةً يكون مرجعنا فيها الوسائل والأساليب التي اتبعها لتحقيق أغراضه في إطار القوانين والأنظمة التي رسمت له، والبيئة الاجتماعية التي احتضنته وأحاطت به.
قام مجمع دمشق بالمهام المنوطة به في سنواته الأولى على أحسن وجه، ولم يكن في وثيقة إحداثه في هذه المرحلة ما ينظم عمله ويحدد أغراضه ومهامه والوسائل التي يمكنه استعمالها لتحقيق أغراضه، ولا الأساليب التي تيسر له النجاح في مهمته. فقد أصدر الحاكم العسكري الوثيقة التالية الموجهة إلى رئيس ديوان المعارف برقم وتاريخ 8/6/1919:
5698
2347
«دفعاً للالتباس الذي يمكن وقوعه نسبنا أن يسمى ديوانكم بالجمع العلمي (آقاده مي) وإننا لنرجو إفراز ميزانية المدارس على حدة وإرسالها إلى مدير المعارف العام والسلام عليكم»([2]). و(آقاده مني) هي كلمة (أكاديمي) كما كانت تلفظ في تلك الأيام إبّان الخروج من العهد العثماني. ويقول محمد كرد علي رئيس مجمع دمشق في التقرير الأول عن أعمال المجمع: «كان المجمع العلمي العربي يعرف لأول أمره بالشعبة الأولى للترجمة والتأليف التي أُسست على أثر تأليف الحكومة العربية في أواخر خريف سنة 1918، ثم جُعلت هذه الشعبة ديوانَ المعارف... موكولاً (ووُكِل) إليها النظر في أمور المعارف والتأليف وتأسيس دار للآثار والعناية بالمكاتب ولا سيما دار الكتب الظاهرية...» ([3]). وهذا يعني أن تأسيس دار للآثار والعناية بالمكتبات أو دور الكتب وإيلاء دار الكتب الظاهرية عناية خاصة، أصبحت كلها من مهام المجمع، إضافةً إلى مهامه اللغوية والعلمية. ويفهم من التقارير السنوية الستة الأولى أن المجمع ارتبط برئيس الدولة حتى سنة 1927 وبرئيس مجلس الوزراء في السنوات الثلاث التالية، ثم ارتبط إدارةً بوزارة المعارف كما نص على ذلك القرار ذو الرقم 135 لعام 1928 الخاص بتنظيم المجمع([4]). وهو أول تنظيم للمجمع تضعه الدولة.
لابدّ أن أغراض المجمع وأهدافه كانت واضحة في أذهان مؤسسيه وإن لم تصدر في وثيقة رسمية. ويؤيد هذا الرأي أن الدعوة إلى إنشاء المجامع في الجمعيات والصحافة، كما ذكر في هذه الدراسة، سبقت إنشاء مجمعنا بعدة عقود، وهو أيضاً وريث لجنة الترجمة، بأغراضها العامة التي وضعت لها منذ إنشائها، ثم إن رئيس المجمع صرح مراراً أن مجمعنا اتخذ المجمع الفرنسي نموذجاً أو أنه أنشئ على غراره وحذا حذوه([5])، وهذا يجعل المهام متشابهة؛ ويؤيده أخيراً ما يمكن استخلاصه من الأغراض التي جاءت في المنشور العام([6]) الذي أعده رئيس المجمع محمد كرد علي باللغتين العربية والفرنسية وأرسل، في 20 أيلول سنة 1919، أي في بدايات عمل المجمع، إلى المجلات والمجامع في الشرق والغرب. ولقد قام الأعضاء المؤسسون مع رئيسهم بوضع مشروع نظام أو قانون اتبعوه في عملهم دون أن يصدر([7])، وكان من أبرز ما فيه، التعريف بأغراض المجمع، وهي لا تخرج عن الأغراض العامة للمجامع العلمية اللغوية التي أشرنا إليها من قبل (في الصفحة 495 من المجلد 81)، وتصنيف أعضائه في ثلاثة أصناف: أعضاء عاملون (وهم موظفون) وعددهم ستة، وأعضاء مؤازرون في دمشق (غير موظفين) وعددهم ما بين 12 و18، وأعضاء مراسلون عددهم غير محدد.
كانت هذه هي كل المعالم الرئيسية التنظيمية للمجمع إبان تأسيسه. لقد تركت الوثيقة التي أصدرها الحاكم العسكري للمكلفين إنشاءه كثيراً من الحرية في العمل، ولم يصف المؤسسون إليها إلا القليل وقد أشرنا إليه. هذه الحرية حمّلت المؤسسين مسؤولية النجاح أو الإخفاق في قيام المجمع بما يعوّل عليه من المهام الضخمة التي يأتي في مقدمتها إزالة آثار التتريك في اللغة والثقافة؛ وضع المؤسسون خطتهم للقيام بالمهمة، وكان منها بعض المعالم التنظيمية التي أشرنا إليها، وشارك الأعضاء المؤازرون زملاءهم العاملين فعربوا الدواوين، وقاموا بتدريس الموظفين العربية والإنشاء، ووضعوا المصطلحات، وصححوا كتب المدارس وأغلاط الصحفيين، وشاركوا في تحقيق أغراض المجمع كلها دون أي تعويض أو مكافأة([8]). وقد أخذ الأعضاء الملازمون (المراسلون) باستخراج الأغلاط من الجرائد وتصحيحها([9])، ونشر المجمع في الصحف العامة ما صحح منها، قبل قراءتها في مجموعات في مجلس المجمع لنشرها في المجلة.
وكان من أهم مظاهر النشاط الثقافي اللغوي الذي قام به المجمع وواكب نهوضه بمهامه الأساسية منذ سنواته الأولى، إنشاء المجلة وإلقاء المحاضرات التثقيفية العامة. فقد أنشأ المجمع مجلة له صدر عددها الأول في كانون الثاني سنة 1921، وكان يسعى لإصدارها منذ انفصاله عن ديوان المعارف([10])، ثم قرر في جلسة بتاريخ 17 أيلول سنة 1919 أن يطلب من الحاكم العسكري الموافقة على إصدار مجلة تبحث في مواضيع تتفرع عن أغراضه و«ينشر فيها أعماله وأعمال أعضائه العاملين والمراسلين والشرفيين، ممن تخيرهم ليعاونوه بعد البحث الطويل في الشام ومصر والعراق وتونس والجزائر... و(كان) يبعث بمجلته إلى أعضائه مجاناً، وإلى أشهر المجامع والجامعات ودور الكتب في القارات الأربع... وقد بلغ عدد من تبادلهم مجلة المجمع من هذه المجامع والمكاتب والجامعات في أوربا (85). وبذلك زادت شهرة المجمع في الأندية العلمية...»([11]). ولقد بدأت المجلة بالصدور شهرياً حتى عام 1931، ثم أصبحت تصدر كل شهرين حتى عام 1949 ثم استقرت ربع سنوية. وتوقفت عن الصدور مرتين الأولى من 1/5/1933 حتى 1/5/1935، لأسباب إدارية تتعلق بإعادة النظر في أوضاع المجمع من الناحيتين الإدارية والمالية... والمرة الثانية من بداية عام 1938 حتى بداية عام 1941 بسبب نقص الموارد([12]). كما قرر المجمع أن تفتتح محاضراته «في قاعة المحاضرات يوم الأحد في 17 نيسان سنة 1921...، واستمر إلقاء هذه المحاضرات مرة كل أسبوعين. فلما زاد إقبال الناس عليها أنشأ المجمع يلقيها مرة في كل أسبوع... وشاء المجمع أن يكمل رسالته الثقافية فبحث في إلقاء محاضرات على السيدات...؛ وبعد المذاكرة في الجلسة المنعقدة بتاريخ 5 كانون الثاني سنة 1923 تقرر المبدأ». وقد استمرت محاضرات المجمع هذه حتى 12/4/1946. و«أما المحاضرون فهم أعضاء المجمع الموظفون وأعضاؤه العاملون أو من يكلفهم المجمع إلقاء المحاضرات» من رجال الثقافة واللغة الذين آمنوا بأهمية دور المجمع وأغراضه. وكان لابد من عرض المحاضرة على (لجنة النظر في المحاضرات والمقالات) ([13]) لينظر بعض أعضائها في الموضوع، وينظر بعض آخر في لغة المحاضرة.
وواكب هذه الأنشطة العلمية اللغوية والثقافية سعيٌ حثيثٌ وذكيٌ للتعريف بالمجمع وبأهدافه السامية في خدمة اللغة ونشر المعرفة، فأجاز «من موازنته بعض المجيدين من الكتاب والعلماء بمقدار من المال وبابتياع كمية من كتبهم ورسائلهم تنشيطاً لهم»([14]). وكان من بين من حصلوا على جوائز المجمع الأمير مصطفى الشهابي والدكتور محمد أسعد طلس في عام 1944 والدكتور صلاح الدين المنجد في عام 1949. ودعا المجمع الموسرين في البلد لمدِّ يَد العون والمشاركة في تشجيع المجيدين من الكتاب على التأليف والتجديد. ووزع المجمع العلمي الكتب والمجلات «على الطلاب والدارسين والباحثين، وعلى بعض غرف القراءة التي أنشئت حديثاً خارج دمشق، منها ما كان من مطبوعاته، ومنها مما ابتاعه أو مما أهدي إليه...» ([15])، كما عزم على جمع التبرعات للمجمع من الجاليات السورية في القارة الأمريكية([16]).
وأنجز المجمع إلى جانب قيامه بأعماله العلمية والثقافية، ترميم المدرسة العادلية قبل أن ينتقل إليها، وأهم ما يشهد اليوم على جودة مستوى تلك الأعمال، الخشبياتُ من أبواب ونوافذ أتقن صنعها وفق الهندسة والفنون العربية([17]). وتولى المجمع رعاية دار الكتب الظاهرية وإدارتها، وإنشاء دار الآثار، وأنشأ في حلب فرعاً له تحدث عنه رئيس المجمع محمد كرد علي في تقريره الثاني في عام 1923 والثالث في العام الذي يليه... وضُمّ المجمع ما بين عامي 1923 و1926 إلى الجامعة، وكان من مهامه في تلك المرحلة على الأقل، دراسة تنظيم التعليم الجامعي وتشجيع الإنتاج الأدبي... ([18]) فكان له فضل اقتراح إحداث مدرسة عليا للآداب وضَع نظامها، ووافقت حكومة الاتحاد (السوري) على إحداثها في عام 1924. ومع ذلك كله وإضافة إليه، فقد أقام المجمع معرضاً للصنائع الشرقية في مقره بالعادلية في حزيران سنة 1928.
كان أعضاء المجمع العاملون (الموظفون) في سنواته الأولى ستة فقط، ألفت منهم اللجنة الإدارية (مكتب المجمع)، وهم رئيس المجمع السيد محمد كرد علي ونائبه الشيخ سعيد الكرمي وأمين سر المجمع العام السيد عز الدين علم الدين التنوخي والشيخ عبد القادر المغربي والسيدان أنيس سلوم وديمتري قندلفت([19]). وفي آب 1921 حل السيد عيسى إسكندر المعلوف محل ديمتري قندلفت([20]) هؤلاء والشيخ أمين سويد هم مؤسسو المجمع الثمانية. ومنهم أيضاً كان أكثر أعضاء لجنة الترجمة وديوان المعارف نشاطاً، ويلاحظ أن أكثر منجزات المجمع في النصف الأول من العقد الأول من حياته (1919-1924) على الأقل، كانت من إعداد لجنة الترجمة وديوان المعارف([21]) ومن منجزاتهما، أو الأحرى هي من منجزات المؤسسين ومَن تعاون معهم في المرحلة التحضيرية لإنشاء المجمع. ومما تجدر ملاحظته أن أوضاع المجمع في العقد الأول من حياته، كانت كثيرة التقلب وحملت الكثير من المفاجآت، كتوقف العمل في المجمع ما بين تشرين الثاني من عام 1919 وأيلول من عام 1920 لأسباب إدارية ومالية، وكاضطراب أنظمته وسرعة تعديلها وتواتره، فباقتراحٍ مثلاً من الأمير شكيب أرسلان سار المجمع منذ عام 1921 على خطة التعريف بالعضو الجديد من قبل أحد الأعضاء في جلسة القبول أسوة بالمجامع العلمية الأجنبية([22]) وثُبِّت هذا التقليد فيما بعد في قانون المجمع([23])، وكتوالي تغير تصنيف أعضائه وعدد العاملين منهم فيه، وربطه بالجامعة في سنة 1923، ثم استقلاله عنها في آذار سنة 1926، وربطه أيضاً إدارياً تارة برئاسة الدولة وأخرى برئيس الوزراء. ولم يصب المجمع بعض الاستقرار إلا بعد صدور قانونه بالقرار ذي الرقم 135 لعام 1928 الذي وردت الإشارة إليه، والذي حدد أغراضه وعدد أعضائه العاملين وأعاد تصنيفهم، وربطه إدارياً بوزارة التربية، ونظم كيفية انتخاب أعضائه وانتخاب رئيس المجمع وعضوين دائمين من الأعضاء يساعدانه في تسيير شؤون المجمع. ومن أهم ما جاء فيه أيضاً:
˜ الاكتفاء بإشراف المجمع من الوجهة العلمية، على دور الآثار في دولة سورية، وهذه خطوة هامة في الطريق إلى فصل دور الآثار عن المجمع.
˜ تَرْك الخيار للمجمع في الإبقاء على فرعه في حلب.
˜ تحديد عدد اجتماعات مجلس المجمع بجلسة اعتيادية واحدة سنوياً وتَرْك الخيار لرئيس المجمع بدعوة المجلس أيضاً للاجتماع في جلسة غير اعتيادية.
˜ فرض إيداع المكتبة الوطنية (في دولة سورية) الملحقة به، ثلاثَ نسخٍ من كل مطبوعٍ ينشر في سورية...
في تلك البيئة المضطربة المتقلبة قدم المجمعيون المؤسسون وزملاؤهم المؤازرون الإنجازات الفذة التي أشرنا إليها باختصار، على الرغم مما دار فيها «حول المجمع في أواخر سنة 1922، وأوائل سنة 1923 من أخبار إلغائه أو إبقائه»([24]). في تلك البيئة، المضطربة قامت في سورية أول دولة عربية مستقلة في عصر النهضة، وقوّض تآمر الغرب بنيانها قبل أن يشتد، فاندلعت الثورات في أرجائها وانطلقت الثورة السورية الكبرى في عام 1925، فاضطر العديد من مؤسسي المجمع إلى الهجرة من دمشق، فعاد الشيخ سعيد الكرمي إلى عمان في أيار من عام 1922، وهاجر عز الدين علم الدين التنوخي إلى العراق في عام 1923. ولدى اندلاع الثورة السورية في عام 1925 عاد عيسى إسكندر المعلوف إلى لبنان واستقر في مدينة زحلة، وهاجر ديمتري قندلفت إلى لبنان أيضاً واستقر في بيروت، وغادر الشيخ أمين سويد دمشق إلى صيدا ثم إلى جرش في الأردن... ولم يعد إلى دمشق إلا قبل وفاته - التي كانت في عام 1936 - بثلاث سنوات، واعتلت صحة أنيس سلوم في عام 1926 فخفَّ نشاطه([25]). ولم يبق في المجمع من مؤسسيه في عام 1926 سوى الأستاذ محمد كرد علي والشيخ عبد القادر المغربي. في هذه الظروف الصعبة تابع المجمع مسيرته مع من واكب نشأته من الأعضاء الجدد والمؤازرين والمراسلين، وممن انضم إليه إبّان ما سميناه النفير([26]) العام للتعريب، فكان منهم جيل الريادة الثاني، في الحركة المجمعية السورية وفي التعريب أيضاً. إلا أن أغلب الذين هجروا دمشق من المؤسسين: الكرمي والتنوخي والمعلوف، لم يطيقوا هجرها وهجر العمل المجمعي، ودفعهم حنينهم إليه وتشوقهم إلى خدمة العربية، إلى القيام بمحاولات لإنشاء مجامع حيث حلوا، في الأردن والعراق ولبنان.
فما هي أسباب هذا النجاح الباهر الذي حققه المؤسسون في العقد الأول من حياة المجمع؟
- لقد كان من أهم أسباب هذا النجاح، البيئة التي نشأ فيها المجمع وأحاطت به:
* بيئة سادها اعتزاز الأمة بطردها المحتل، وشعور بالقوة والكرامة، فاندفعت إلى القضاء على ما خلَّفه التتريك في اللغة والمجتمع. وأنشأت لهذه المهمة المجمع الذي أنضج عصرُ النهضة تكوينَه ورسم صورته، فهبّ يخوض المعركة بأعضائه وبمن آزره من المتطوعين، وهم كثر في هذه البيئة، واستُنفرت فئات الأمة كلها لنصرة المجمع في مسعاه. منهم من وضع نفسه في خدمته لعله يأنس فيه الكفاءة لمؤازرته في التعريب أو في التعليم أو في تصحيح أخطاء الجرائد والكتاب... ومن الموظفين من تقدم يسأل المجمع تصحيح ما في ديوانه من ألفاظ أو تعريبها. وشرعت الصحافة تنشر ما يراه المجمع من تصحيح أغلاط الكتاب، وامتدت نصرة المجتمع وتشجيعه إلى البلاد العربية المجاورة فكانت تأتي في صورة بحث أو رأي ينشر في مجلته أو نقد لبعض ما نشر فيها، أو مجموعة من المخطوطات النفيسة يبعث بها معجب هديةً إلى مكتبته. وحوت تقارير رئيس المجمع السنوية الخمسة الأولى عن أعمال المجمع، في هذا العقد، الكثير مما لقيه المجمع من تقديرٍ وتشجيعٍ في بلاد الشام والبلاد العربية كلها وفي كثير من الأقطار الأجنبية.
* بيئة كانت القناعة فيها تسود شروط الحياة ولا ترهق مطالبُها الإنسان والأسرة. ولم يكن المجتمع الاستهلاكي وليد ستينيات القرن الماضي - والذي نزل بنا فيما بعد - في تصور وتقدير مستقبليات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الأيام.
* بيئة كان فيها إنسان تلك الأيام عامة متعطشاً للتنعم بالكرامة والحرية اللتين عزَّ طلبهما في وطننا قروناً، وللاستزادة من الثقافة والمعرفة ليبني له بهما موقعاً مرموقاً في المجتمع، يرضيه ويطمئن إليه. ولم يكن السعي لتحسين شروط الحياة يأخذ من طلاب العلم والمعرفة إلا القليل من جهدهم وتفكيرهم.
- لقد كان من أسباب نجاح المجمع، براعة الأسلوب الذي اتبعه المجمعيون وقتئذٍ في عملهم، إنه التفاعل والتعايش:
* كان عمل المجمع حصيلة تفاعله تفاعلاً نشيطاً مع جميع الفئات التي كانت تقع لديها مشكلات لغوية تحتاج إلى الإصلاح، إنها فئات طلاب المدارس والعسكريين والموظفين والكتاب والصحفيين...، يجعل تفاعلَهم نشيطاً تعايشُهم ومطلبٌ مشترك بينهم هو إصلاح اللغة. هذا التفاعل النشيط هو الذي دعاهم إلى إصلاح النطق ويسّره لهم ومكّنهم منه، فنشروا حصيلة ما أصلحوه في مجلة "المجمع" بعنوان عثرات الأفمام([27]) فتكامل مع سلسلة مقالاتهم في عثرات الأقلام.
* هذا التفاعل النشيط هو الذي حمل صيت المجمع إلى الجاليات العربية في القارة الأمريكية وحثّ على مؤازرته فيها وفي بلاد الشام، ودفع الموسرين إلى التبرع بجوائز مالية تشجيعاً للكتّاب على الجيد من مؤلفاتهم.
* وهذا التفاعل جعل المجمع في العقد الأول من حياته خلية نحلٍ، ملكتها اللغة والجميع في خدمتها، والمجمع هو الرائد المخطط والمنسق، يضع الخطط وما إن يشرع في التنفيذ حتى يزدحم حوله المؤازرون، يطلبون متطوعين، دوراً في التنفيذ لعلهم يرتفعون به إلى مصاف الوطنيين البررة، ويثلجون بالقيام به صدورهم.
* هذا التفاعل والتعايش نلمسه أيضاً في تعاون المجمع مع الاختصاصيين في مختلف الفنون التي وضع مصطلحاتها «فجمع بين قدرة أعضائه اللغوية وبين معرفة الاختصاصيين بمفاهيم الألفاظ الفنِّية»([28])، كما نلمسه في تعاونه مع مديرية المعارف «بحيث نظمت جلسات مشتركة بحث فيها عن أقرب الطرق لنشر الفصحى بين الطلاب والجمهور»([29])، واعتمد المجمع فيها تقريراً وضعه الشيخ عبد القادر المغربي([30]). ونلمسه أيضاً في محاضراته التثقيفية التي شرع يلقيها في ربيع عام 1921 ولاقت إقبالاً كبيراً من المواطنين فاتخذ قراراً بإلقاء محاضرات على السيدات في بداية عام 1923. لقد كانت محاضرات المجمع ضرباً من التفاعل والتعايش الذي قرّبه من المواطنين وزادهم ثقة به.
ويدخل في براعة الأسلوب أو الحكمة في معالجة المشكلات:
* تجنّب ما يدعو إلى الخلاف في الأمور اللغوية فيما ينشره المجمع في تصحيح الأغلاط، ودون ذكر اسم الشخص الذي وقع في الغلط([31]).
ولا شك أن النجاح الذي أصابه المجمع كان، قبل كل ما ذكر من الأسباب، ثمرة تعاون أعضاء المجمع وتآزرهم، واتفاقهم، فقد كانوا «لا يذخرون وسعاً في السعي، عاملين متآزرين نحو تحقيق الخطة التي اتفقوا عليها لإعلاء شأن العربية...»([32])، وهذا هو ما أهَّل المجمع لقيادة المشروع ووضْع خطة تنفيذه ومتابعته وتصحيح مسار الخطة وتطويرها.
ثم إن المجمع في تفاعله هذا، في البيئة التي أحاطت به، أصبح هو وسطاً ملائماً لنشوء أنشطة في بعض مجالات أغراض المجمع احتضنها العاملون فيه. فهم يعيشون في المجمع يومهم كله أو أكثره، يشاهدون التفاف الجماهير المثقفة حول أعضائه ومؤازريهم، ويسمعون ما يتداولونه من آراء للنهوض باللغة ولبناء الأجيال علماً وثقافة وفكراً، فيدفعهم ما يلقاه أعضاء المجمع من احترام وتقدير إلى الاقتداء بهم والسير على سننهم في العمل، فيعودون إلى ما حوته دار الكتب الظاهرية من نفائس الكتب ومختلف المراجع ليستزيدوا من بعض ما راق لهم مما سمعوه، أو ليمحِّصوا ما أشكل عليهم منه، فنمت حركة علمية في صفوف العاملين وإن كانوا قلة، ونشأ منهم من أصبح في عقد الثلاثينيات أو فيما بعده مؤرخاً أو محققاً أو أديباً أو باحثاً في بعض شؤون أغراض المجمع. وهذا هو نجاح آخر للمجمع كان ثمرة تردد أصداء عمل أعضائه وسيرتهم في البيئة التي أحاطت به، وخاصة في الأقربين إليه فيها، وهم العاملون فيه.
ولئن شارفت مهمة التخلص مما خلفه التتريك على الانتهاء، بعد تعريب الدواوين وتعليم الموظفين اللغة العربية والنظر في كتب المدارس الابتدائية والثانوية، وإصلاح ما فيها من أخطاء، ووضع مصطلحاتها بالتعاون مع المختصين، في العشرينيات من القرن الماضي، فإن مهمة تعريب التعليم العالي التي بدأت مع إحداث المجمع والمعهد الطبي العربي، لا ينجز منها في عقد من الزمن ما يمكن أن يمثل حالةً واضحة المعالم من حالات تعريب التعليم العالي، فمهمة المجمع على هذا المحور مهمة متجددة المصاعب والمشكلات. ويحسن تقسيم العقد الأول، الذي ينتهي مع عام 1928 ومع صدور أول تنظيم حكومي للمجمع (القرار 135) إلى مرحلتين. مرحلة أولى تنتهي في عام 1924، وكانت أصعب مراحل تعريب التعليم العالي في القطر، إذ كان على كل عضوٍ من أعضاء هيئة التدريس أن يكوِّن في هذه المرحلة الأفكار الرئيسية التي تقوده إلى الأسلوب الصحيح الذي سيتبعه ليشق طريقه في تعريب ما كُلِّف تدريسَه. فمن كانت الأفكار الرئيسية التي كوَّنها متناسقة متكاملة واضحة، وقامت على قاعدة متينة من الثقافة العربية عامةً واللغوية منها خاصة، أمكنه أن يضع ملامح الخطة التي سيتبعها، وأن يجد سبيله للقيام بالمهمة بنجاح، فيشرع بعدئذ بنشر ما يتوصل إليه في مجلتي "المجمع" و"المعهد"، اللتين كانت صفحاتهما منتدىً مفتوحاً لتبادل الآراء بين العلميين واللغويين العرب، يشدهم إلى نصرة المجمع والمعهد حرصهم على نجاح المسعى العربي في دمشق، واغتباطهم بما حققاه من نجاح. وانتهت المرحلة الصعبة مع بدايات ظهور المنهجية في معالجة مشكلات وضع المصطلح في فكر المجمعيين العلميين، والتي بدت في أعمال كل من الدكتور جميل الخاني والأمير مصطفى الشهابي اللذين باشرا نشرَ أفكارهما الأساسية حول تعريب التعليم العالي في عام 1924 في مجلة "المعهد الطبي العربي" بعنوان "لغة العلم"([33])، وفي مجلة "المجمع" بعنوان "قطع أغصان الشجرة"([34]). ثم تجمَّع في مرحلة ثانية تلت الأولى، لديهما ولدى كل عضوٍ من أعضاء هيئة التدريس في المعهد، مجموعاتٌ من المصطلحات يوجب ترتيبها وتنسيقها وائتلاف مفرداتها واتساق معانيها، نشرَها للاحتكام إلى أهل الاختصاص في العلم أو في اللغة أو لتسجيل السبق في ميدان التعريب. وقد امتدت هذه المرحلة إلى نهاية العقد الأول في عام 1928 لدى بعض أعضاء هيئة التدريس، وإلى بدايات عقد الثلاثينيات أو حتى إلى منتصفه لدى بعض آخر منهم.
وامتد طموح بعض العلميين إلى تطوير أساليب وضع المصطلح، فتابع الأمير مصطفى الشهابي نشر دراساته في هذا المجال([35]) منذ عام 1924 في مجلة "المجمع"، وكانت كلها في علوم الزراعة والمواليد ومصطلحاتها، ثم توسع في بحوثه فجمع أسس وضع المصطلح المتوارثة وأضاف إليها ونشر فيما بعد كتابه "المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث"... ونشأ في هذا العقد من الزمن مجموعة من أساتذة المعهد الطبي أصبحوا فيما بعد رواداً في حركة التعريب ووضع المصطلح من أمثال مرشد خاطر وجميل الخاني وصلاح الدين الكواكبي... وشرع بعضهم منذ العشرينات يضع الخطوط الأولية لصنع معجم مختص بالعلم الذي يعمل فيه، وبدؤوا بجمع مصطلحاتهم مرتبة ترتيباً ألفبائياً أو غيره في جداول طوروها تدريجياً لتقترب من معجم مختص انتهوا إليه في الثلاثينيات وفيما بعدها.
نستخلص من تأمل مسيرة المجمع في العقد الأول من حياته، كما جاءت في الصفحات القليلة السابقة، أن المجمع قام فيها بمهامه على محورين: محور تعريب التعليم العالي، ومحور إزالة آثار التتريك في اللغة والمجتمع، وتعريب الدواوين وإصلاح كتب المدارس وأغلاط الصحفيين ووضع مصطلحات الحياة العامة... الذي نصطلح على تسميته اختصاراً محور إزالة آثار التتريك في اللغة والمجتمع.
كانت القيادة في التخطيط والتنفيذ على المحور الثاني أو الأخير لأعضاء المجمع اللغويين([36])، ويلاحظ أن عملهم عليه كان جماعياً، بمعنى أن الأعضاء ومؤازريهم كانوا يعملون على تنفيذ خطة أو مهمة واحدة يوزعون لإنجازها الأدوار حتى على "المستنفَرين"، فأنهوا لذلك بنجاح المرحلة الأولى من مهمتهم.
أما على المحور الأول، محور تعريب التعليم العالي، فكانت القيادة فيه للعلمين، إلا أن هذه القيادة لم توزع الأدوار على الأعضاء في خطة لإنجاز المهمة، وقد تكون ظروف العمل على هذا المحور، هي التي فرضت هذا الواقع، فكل عضوٍ من أعضاء هيئة التدريس في المعهد، تفرغ لإنجاز مهمة التعريب في المادة التي يدرسها، ولم يكن في أي من مواد الدراسة في تلك الأيام أكثر من مدرس واحد، بل قد يوزع الأستاذ ما لديه من طاقة على أكثر من مادة، وتلك كانت، على سبيل المثال، حال الدكتور جميل الخاني الذي قام بتدريس مادتي أمراض الجلد والفيزياء. فالمدرِّس من هذا المنطلق ليس له في المعهد نظير يعود إليه يشاطره الخبرة ويتبادل معه الرأي، كما أن كلاًّ من زملائه منهمك في إنجاز المهمة في المادة التي يدرسها. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن أن نجد لقيادة المجمع عذراً في العمل على محور تعريب التعليم العالي دون تنسيق بين الأعضاء، إلا أن ما يجعلنا نستبعد الأخذ بهذا التعليل هو أن أساتذة المعهد الطبي (وجلهم أعضاء عاملون أو مراسلون في المجمع) كانوا ينشرون ما وضعوه من مصطلحات على صفحات مجلتي "المجمع" و"المعهد" كما ذكرنا، وكانوا يقرؤون فيهما ما يرد من نقدٍ لما نشروه ويُتْبِعونه بردودٍ ومناقشات قد تطول، كتلك المناقشات التي كانت تجري على صفحات المجلة بين الأب أنستاس ماري الكرملي وجميل الخاني، ثم أخذت تدور المناقشات على صفحات المجلتين بين أعضاء المجمع بعضهم مع بعض. فلم يكن الوقت هو ما ينقصهم للتنسيق، ولكن صعوبة القيام به، هي التي حالت دون محاولة الأخذ به وشككت في جدواه، فحل محله عرض مصطلحاتهم على صفحات مجلتي "المجمع" و"المعهد" لتنقحها الآراء والمناقشات المطروحة على تلك الصفحات. ولذلك أيضاً لا نجد في العشرينيات من القرن الماضي على هذا المحور، محور التعليم العالي، عملاً جماعياً أو تعاونياً كأعمال اللغويين.
كان العقد الأول من حياة المجمع، في رأي الرئيس كرد علي «دور تمرن واستقراء واستجماع قوى»([37]). لقد كان يطمح إذن أن يحقق المجمع قفزات تضاهي ما حققه في العقد الأول إن لم تكن أكبر. إلا أن ظروفاً عديدة استجدت لم تساعد المجمع على تحقيق أمانيّ مؤسسه. وسنحاول تلخيص أهم التطورات التي طرأت على نظم المجمع وعلى البيئة المحيطة به والتي يمكن أن يكون لها دور فعال في التأثير في نشاطه.
فأما أهم التطورات التي طرأت على نظم المجمع فهي صدور أول قانون ينظم عمله في عام 1928، وقد لخصنا من قبل (في الصفحة 716) أهم ما جاء فيه. إلا أن قانون المجمع الصادر بالمرسوم التشريعي ذي الرقم 60/ آ. س في عام 1943 كان أكمل تنظيماً وأشمل أحكاماً إذ استُكمل في نفس العام بالمرسوم ذي الرقم 571، الذي اشتمل على النظام الداخلي للمجمع (وهو ما يعرف اليوم باسم لائحته الداخلية). وأهم ما ورد فيهما: إضافة العمل على توحيد المصطلحات العلمية في الأقطار العربية إلى أغراض المجمع ومهامه، وإحداث إدارة ملحقة بالمجمع هي إدارة دور الكتب العامة وصيانة الإضبارات الوطنية، وإلغاء ارتباط إدارة الآثار بالمجمع إداريّاً وعلميّاً بإغفال ذكرها فيه، وإحداث لجنتين دائمتين تتمتعان بصلاحيات واسعة هما لجنة الشؤون الإدارية ولجنة المجلة والمطبوعات، واشتراط إقامة العضو العامل في دمشق، وبذلك أغلق فرع حلب حكماً. وأورد هذا القانون عدة أحكام في تعويضات حضور جلسات المجلس واللجان وإلقاء المحاضرات والنشر في المجلة... ضمّنها في عدد من مواده، وكان قانون عام 1928 قد اكتفى، في معرض تعداد أنواع النفقات في الموازنة، بالإشارة إلى التعويضات التي تعطى للأعضاء على الأبحاث والمحاضرات التي يكلفهم المجمع القيامَ بها. ويمكن أن نستخلص من هذه التطورات أن العمل على توحيد المصطلحات العلمية بين الأقطار العربية أصبح غرضاً من أغراض المجمع ومهمة أساسية من مهامه، بعد أن كان يكتفي منذ إنشائه بترويج توحيد المصطلحات ويدعو إليه بإلحاح، وأن التعويض المالي عن الأعمال العلمية وتنظيم صرفها أصبح أمراً مهماً يوجب أن ينفرد له مجموعة من المواد والأحكام في القانون وفي نظامه الداخلي. كما نلاحظ أن تشتت جهود المجمع بين عدة مهام كبرى أخذ يتقلص، فخرجت إدارة الآثار تدريجياً من حوزة المجمع، وتركزت مهامه في دمشق، بعد أن تحقق ما كان يتمناه الرئيس كرد علي ورئيس الدولة([38]) كما وردت تقريباً في قانون سنة 1943.
ولم تأت الوحدة السورية المصرية بتغيرات هامة على محتوى القانون ذي الرقم (90) في البنية والأغراض، فالقرار ذو الرقم 1144 لسنة 1960 القاضي بإنشاء مجمع اللغة العربية (وليس المجمع العلمي العربي) ولائحته الداخلية (وليس نظامه الداخلي) الصادرة بالقرار ذي الرقم 31 لسنة 1961 قريبان من حيث المحتوى مما جاء في المرسوم التشريعي ذي الرقم (90) ونظامه الداخلي. أما أهم ما استجد فيهما فكان في تيسير أسباب العمل، إذ أصبحت لجان المجمع الدائمة في حكم القانون الجديد أربع لجان بإضافة لجنة المخطوطات وإحياء التراث، ولجنة المصطلحات وألفاظ الحضارة، وأعطى القانون مجلس المجمع الحق في تأليف لجان دائمة أخرى، كما أبرز دور الخبراء في تنفيذ أعمال المجمع، ومنح أعضاء المجمع تعويضاً شهرياً يحدد بقرار من الوزير. وعلى الرغم من عدم صدور القرار المنتظر طوال نصف قرن تقريباً فإن أهمية الحكم تبقى كبيرة ونوعية، فقد حدد التعويضَ القانون ذو الرقم 38 لعام 2001، ويلاحظ أخيراً أن الرقابة الشديدة على ما يكتب وما يلقى من محاضرات قد ألغيت في قانون المجمع الذي جاء مع الوحدة السورية المصرية.
ونجمل أهم التغيرات التي طرأت على أنظمة المجمع، بعد مرور عقد من الزمن على إنشائه وحتى نهاية القرن العشرين بما يلي:
- لم يطرأ على مهام المجمع وأغراضه للنهوض باللغة العربية تغيرات تذكر.
- أُعفي المجمع من القيام بالمهام الأخرى وألغيت تدريجياً من قانونه، وهي: إدارة الآثار، فالإشراف العلمي عليها، وإدارة دور الكتب العامة وتنظيمها وصيانة الإضبارات الوطنية، وأخيراً تنظيم إلقاء المحاضرات في المجمع والمدن السورية.
- أصبحت إقامة العضو العامل في دمشق مقر المجمع شرطاً على المرشح لها، وأدَّى ذلك إلى تركيز أنشطة المجمع في دمشق وإغلاق فرعه في حلب.
- حذف شرط الحد الأدنى للسنّ على المرشحين لعضوية المجمع.
- ظهرت الحاجة إلى المكافأة المادية على العمل في وقت مبكر، ونظم القانون أحكام تقديرها وصرفها منذ عام 1943، ومنح القانون في عام 1960 تعويضاً شهرياً للأعضاء يحدد ويصدر بقرار من الوزير إلا أن ذلك القرار لم يصدر.
- أدخل القانون الصادر في عام 1960 بعض المستجدات في تيسير أسباب عمل المجمع، فأبرز دَور الخبراء في المشاركة في أعماله، وضاعف عدد اللجان الدائمة وفوض إلى مجلس المجمع وإحداث لجان دائمة أخرى.
وأما التطورات التي حلت بالبيئة التي تحيط بالمجمع ويعمل ضمن شروطها فأهمها ما يلي:
- خبوّ جذوة "النفير"([39]) للتعريب منذ القضاء على الدولة العربية في دمشق، بعد أن كانت قد اتقدت في حماها.
- إحداث مجمع القاهرة الذي استقطب نشاط الإخوة المصريين وكثيراً من العرب وحتى بعض مجمعيِّي دمشق.
- اضطراب شروط المعيشة وازدياد ضغطها على الأفراد وتحكم مطالبها في توجيه نشاطهم.
- تقهقر جودة تعليم اللغة العربية وتراجع المهارات اللغوية عند العلميين خاصة، وغياب اللغويين المؤهلين لعضوية المجمع عن دمشق إلى ما بعد بلوغهم الستين أو السبعين من العمر، وارتفاع سن المرشح لعضوية المجمع تبعاً لذلك.
هذه الأسباب حالت دون تحقيق المجمع قفزات تضاهي قفزته العملاقة في العقد الأول، إلا أنه تابع تألقه بفضل جهود مؤسسيه من الجيلين الأول والثاني، والاندفاع الشديد الذي ولدته الطاقات التي اختزنها في العقد الأول، وما اكتسبه من الخبرة والمكانة في المجتمعات العربية.
* * *
تناولنا في الصفحات السابقة نشأة مجمع دمشق في العقد الأول من حياته الذي انتهى بصدور أول قانون نَظَّمت به الدولة عمله في عام 1928. تلك النشأة التي سادها اضطراب وضعه في الدولة، واستقراره في المجتمع الذي أحاطه ببيئة لقي فيها الدعم والتعاون والاحترام. قام المجمع في ذلك العقد بتنفيذ أهم أغراضه فأزال آثار التتريك في التعليم والكتابة والإدارة، وأصدر مجلته، ونظم المحاضرات التثقيفية الأسبوعية التي ضمنت له في المجتمع استمرار الدعم، واتَّبع في عمله منهجاً ذكيّاً وسليماً، وبراعةً في أسلوب معالجة المشكلات، فأحرز نجاحاً باهراً وفريداً في سيرته. وخُتمت الحلقة بتلخيص التغيرات الطارئة على قانونه وأنظمته في القرن الماضي تهيئةً لعرض تطور أنشطته في هذه الحلقة، ومدى ما أحرز من نجاح وما لاقى من صعاب تراكمت بعد العقد الأول تدريجياً إلى أن استحالت في نهاية القرن إلى قيود محكمة ضيّقت على أنشطته بشدة.
ألجأت تلك الضائقة المجمع إلى محاولة تعديل قانونه وتطويره، فلاقت مبادرته تجاوباً وتشجيعاً من الدولة، فوضع المجمع في مشروعه ما ارتآه لتذليل تلك الصعاب.
تتناول هذه الحلقة عرض ما ذلل المجمع من الصعاب بتطبيق القانون الجديد، وما استعاد به من نشاط، وما لا يزال من المشكلات البنيوية مستعصيّاً حله على القانون. وتُختَتم الحلقة باقتراح بعض الأفكار لمتابعة تطوير القانون بحيث يصبح أقدر على معالجة ما يعترض تحقيق أغراضه من مشكلات بنيوية مشابهة.
انقضى العقد الأول من حياة المجمع، وتابع اللغويون عملهم على محورهم بجدٍّ ونشاط. إلا أن معظم ما كان يحتاج إليه جمهور الناس في حياتهم العامة، وما كانت تحتاج إليه الدواوين والمدارس من الألفاظ كان قد وضعه المجمع في العقد الأول، وأجاب على أسئلة الجمهور في صحة كثيرٍ من الألفاظ والمعاني، وفي كيفية الوضع والتعريب، فانخفضت غزارة ما يوجه منها إلى المجمع بعد سنواتٍ قليلةٍ من إنشائه، فتوجه اندفاع اللغويين فيه إلى العناية بالمجلة، وناقشوا الخيارات الثقافية الممكنة وكان أهمها وضع معجم جديد في اللغة العربية، وتثقيف الجمهور بتنظيم إلقاء المحاضرات، في القاعة التي كان قد خصصها المجمع لهذه الغاية في مقره بالمدرسة العادلية. أما مشروع المعجم فيبدو مما كتبه الرئيس كرد علي، أنه طرح من خاصة الناس على المجمع، إذ يقول في تقريره الثالث عن أعمال المجمع في عام 1924 «وهناك أناس من الوطنيين أخذوا هذه السنة يريدوننا على بلوغ الكمال في أعمال المجمع... ومن ذلك مطالبتهم للمجمع بتأليف معجم لغوي على مثال المجمع العلمي الباريزي، ولعلهم نسوا أن المادة غير متوفرة للقيام بهذا العمل النافع... ولا سيما وضع أكثر الأسماء الجديدة اللازمة في فنون العلم»([40])، ودافع المغربي على صفحات المجلة عن رأي المجمع في رفض قيامه بالمشروع([41]). ثم يعود كرد علي للحديث عن المشروع في تقريريه الرابع والسادس عن أعمال المجمع العلمي العربي فيذكر بعد ثلاث سنوات فقط، في الصفحة (14) من التقرير الرابع أن «في عزم المجمع أن ينشئ معجماً صغيراً يُدخِل فيه الأوضاع العلمية الحديثة...»، ويعود بعد ثلاث سنوات أخرى أيضاً فيقول، في الصفحة (3) من التقرير السادس «فللمجمع أمنية أخرى يعبّد لها الطرق الموصلة منذ سنين وهو (!) إحياء كتب... ووضع معجمٍ متوسطٍ يضم إليه ما وضعه جماعته (جماعة المجمع) أو غيرهم من الألفاظ والمصطلحات العلمية...»، ثم يضم إلى هذه الأمنية أمنيةً أخرى في نفس التقرير والصفحة فيقول «وبذلك يتيسر له (للمجمع)... أن يقوم بعد حين بوضع مَعْلمةٍ عربية "دائرة معارف"، مستعيناً بمن أنبغت البلاد العربية من الكاتبين والباحثين». إلاّ أن المجمع لم يُقدم على وضع معجم على غرار ما أقدم عليه المجمع العلمي الباريزي. وعلى الرغم من عزمه أن ينشئ معجماً صغيراً أو أن يضع معجماً متوسطاً، فإنه استبعد هذا المشروع من خطته وكان مصيباً في قراره، إذ لن يتوفر له من المصطلحات العلمية في عدة عقودٍ، ما يسوّغ له الإقدام على مثل هذا المشروع الكبير. إن تنفيذ مثل هذا المشروع يمتص معظم طاقات المجمع ولا يبقى له منها ما يُمكِّنه من إنجاز أعمالٍ تحفظ له تألقه في المجتمع، وهو أحوج ما يكون إلى التألق في تلك المرحلة التي شكك فيها بعضهم بجدوى وجوده([42]). وكان من أمانيه
- كما رأينا - وضع معلمةٍ عربيةٍ بعد حين مستعيناً بالباحثين والكاتبين العرب. فكأن المجمع، ممثلاً برئيسه، كان يفتش عن مشروعات يتطلب تنفيذَها اندفاعُه الشديد الذي ولّدته الطاقات المختزنة وما اكتسبه من خبرة ومكانة. فاندفع لذلك لغويو المجمع ومن يدخل من الأعضاء في القسم اللغوي منه([43])، في تنفيذ مشروع محاضراتٍ كنا عرضنا ملخصاً عما لاقاه من نجاح من قبل. ولقد عدنا إليه لأنه جزء من مشروعات المجمع في العقدين التاليين، واستنفد جزءاً هاماً من طاقاته، ولأن الهدف من إلقاء المحاضرات كان نشر الثقافة بين الجمهور، وهذا يعني أن موضوعاتها ستكون متنوعة وتخرج عن مقاصد المجمع. ومن هنا نشأ جدل طويل حول هذه المحاضرات، انقسمت فيه الآراء في ثلاثة اتجاهات: «فئة ترى أن يقتصر المجمع في محاضراته على اللغة وآدابها، لأنه من نوع الأكاديميات، وقد أُسس لإحياء اللغة العربية وإنعاشها... وإغنائها بالمصطلحات الحديثة، وفئة ثانية ترى أن تتناول المحاضرات أنواع الآداب والعلوم والفنون...، وفئة ثالثة لا ترى أن تكون المحاضرات من وظائف المجمع لأنه مركز للأبحاث اللغوية... والظاهر أن المجمع كان بحاجة ماسة إلى إقامة المحاضرات لإثبات وجوده حين تأسيسه ولقلة المعاهد والنوادي الثقافية حينئذ. ثم خفَّ إلحاح هذه الحاجة حينما أنشأ مجلته... وأصبح في دمشق عدد من المعاهد والنوادي والجمعيات الثقافية...»([44]). وانصرف اللغويون إلى إدارة المجلة وتطويرها وإلى تنفيذ مشروع المحاضرات التثقيفية الذي بدأ في 17 نيسان سنة 1921 وتوقف في 12 نيسان سنة 1946، وكان كما يستخلص من إحصاء المحاضرات، أقرب ما يكون إلى التوقف ما بين عامي 1932 و1941 كما كان نصيب العلوم فيها لا يتجاوز خمسة بالمئة([45]).
كاد يصبح عمل اللغويين في المجمع راتباً: إدارة مجلة "المجمع" والكتابة فيها، وإلقاء المحاضرات التثقيفية. وقد زيّن له النجاح الذي أحرزه في المحاضرات التثقيفية، استكمال دوره الثقافي في المجتمع، والقيام بمهام ذلك الدور التي هي مهام وزارة الثقافة في أيامنا هذه، فوسّع دوره ليشمل المراكز الثقافية، إضافة إلى دار الآثار، ومصلحة المكتبات العامة وحفظ الأضابير الوطنية، إذ سعى لإنشاء غرف للقراءة ونوادٍ للمحاضرات في حي الميدان وفي دار الحديث الأشرفيّة البرّانية في سفح قاسيون([46]). ويذكر كرد علي في "خطط الشام" أن سعيه للحصول على الدار كُلِّل بالنجاح، و«أخذها المجمع العلمي العربي من الأوقاف ليجعل فيها بعد أن يرمّها خزانة كتبٍ يختلف إليها أهل تلك المحلّة»([47]). لقد كان كرد علي يسعى بعزيمة وإصرار للقيام أيضاً بوظيفة المراكز الثقافية اليوم. ومما لا شك فيه أن هذه المهام امتصّت قدراً كبيراً من طاقات المجمع المختزنة، وأن ما ينشره الأعضاء اللغويون في المجلة كان مشتتاً يفتقد إلى وحدة الهدف التي تتجسد عادةً في مشروع يسعى المجمع إلى تنفيذه ليرقى به درجات على مدارج النجاح.
إن هذه الأسباب كانت من أهم ما حال دون تحقيق المجمع نجاحاً في خدمة أغراضه الأساسية في اللغة يضاهي ما حققه منها في العقد الأول. وعلى الرغم من توقف محاضرات المجمع التثقيفية في ربيع عام 1946 وقيام وزارة التربية فوزارة الثقافة بجميع المهام الثقافية التي كان يقوم بها المجمع، فإن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي مرت بالقطر وألقت عليه بتبعاتها، ألَمَّت بالمجمع أيضاً، فضعضعت اتساقه مع البيئة التي كانت تحيط به، وانضافت نتائجها إلى تلك الأسباب، التي وإن لم تحل بمجموعها بينه وبين إحراز المزيد من التقدم، فقد حالت بينه وبين النجاح الذي حققه في العقد الأول من حياته. وإن في متابعة إحراز الأعضاء العلميين على محور تعريب التعليم العالي العلمي نجاحاً مرموقاً في عقود من القرن الماضي امتدت حتى أواخر الخمسينيات، ما حفظ للمجمع حتى ذلك الحين مقاماً رفيعاً في سورية وفي المجتمعات العربية عامة، وهذا ما سنتناوله باختصار فيما يلي.
شرع المعهد الطبي العربي يدرِّس الطب باللغة العربية مع نشوء المجمع([48])، فكان على أعضاء هيئة التدريس فيه، إيجاد المصطلحات المناسبة للألفاظ الطبية في التراث العلمي العربي، فإن لم يجدوا فيه بغيتهم كان عليهم وضع المصطلح المناسب. وقد رأينا أنهم اجتازوا أصعب مرحلة في تعريب التعليم العالي بنجاح فريد، يذكِّر بالنجاح الذي حققه أسلافهم في عهد محمد علي في مصر. لقد رنوا منذ أواخر العقد الأول أو أواخر عقد العشرينيات إلى صنع معا
الدكتور عبد الله واثق شهيد
الأمين العام لمجمع اللغة العربية بدمشق
تمهيد
نشأت أغلب المجامع اللغوية العربية على نسق واحد مستقى من نموذج المجمع الفرنسي، وروعيت في كلٍّ منها شروط البيئة التي أنشئ فيها المجمع وأحاطت به، وأهمها البيئة العربية والطابع العربي الذي طبع المجتمع وثقافته. لذلك كانت أغراض مجامع اللغة العربية وأهدافها متشابهة. تعمل جميعها على المحافظة على سلامة اللغة العربية وتنقيتها، وجعلها وافيةً بمطالب الآداب والعلوم والفنون ملائمة لحاجات العصر، وعلى وضع المصطلحات العلمية والمعاجم اللغوية والمختصة، وعلى تيسير تعلم اللغة العربية وتعليمها، نحوها وصرفها وإملائها، وعلى تحقيق التراث العربي الإسلامي العلمي واللغوي والأدبي. وهي إن اختلفت في الأغراض فإنما تختلف غالباً في صياغتها وفيما يصيب بعضها من تفصيل. وللمجامع العربية استقلالها الإداري والمالي ويرتبط أكثرها بوزير (وزير التعليم العالي أو التربية...) وبعضها بوزارة، وقليل منها بالملك أو برئاسة الجمهورية. أما وسائل عمل المجامع العربية وأساليبه لتحقيق أغراضها والقيام بمهامها فمتشابهة أيضاً: لكل منها مجلس ومكتب ولجان ورئيس ونائب ينوب عنه إذا غاب ويساعده فيما يشاء من مهامه، وأمين عام يقوم في بعضها مقام الرئيس ويكون عندئذ أميناً عاماً مدى الحياة، وتحلّ اللجنة الإدارية في بعضها محل المكتب في التسمية والاختصاص.
وقد يكون لوضع المصطلحات أكبر الأثر في الدفع الاجتماعي لإحداث المجامع، ويلاحظ ذلك من قيام كثير منها بدور لجنة للمصطلحات قبل إحداثها، وهذا هو ما نقرؤه في تاريخ مجامع دمشق والقاهرة وبغداد وعمان على الأقل. بل إن وضع المصطلحات وتنقية اللغة غرض مشترك من أغراض مجامع البلدان الآخذة في التطور، بلدان العالم الثالث. فلقد أدركت هذه الأمم أن تطورها يتوقف على تطوير لغاتها لتكون قادرة على الوفاء بمطالب العلوم والفنون وملائمة لحاجات العصر من جهة، وعلى الحفاظ على كيانها القومي وهويتها الثقافية من جهة أخرى، في عصر تصاعد فيه المد القومي واستشرت جميع أشكال القهر والتسلط التي واكبت عصر النهضة العربية.
ونرى ذلك واضحاً أيضاً في أغراض المجامع المجاورة الأخرى كمجمعي جارتينا الإسلاميتين تركيا وإيران. نرى أن تنقية اللغة التركية مما دخلها من اللغتين العربية والفارسية، ووضع معجم لغوي تركي وقواعد للغة التركية، كانت من أهم أغراض المجمع التركي اللغوي الذي كان أتاتورك يتابع أعماله بعناية. ونرى في المجمع اللغوي الإيراني، أن موضوع تنقية اللغة الفارسية مما دخلها من اللغة العربية، كان الموضوع الذي شاركت المجمع في نقاشه الجامعات والصحافة، وطال الجدل فيه بين متشددين قد يذهب بهم تشددهم إلى إفقاد اللغة بعض طاقتها على ملاءمة حاجات المجتمع، التي تأصلت فيه بطابع عربي إسلامي، ومعتدلين يرون في التعنّت إضراراً باللغة الفارسية وتشدداً غير مبرر([1]).
إن التشدد في صون اللغة والحفاظ عليها أصبح اليوم سمةً من سمات العصر، يزداد عزم الأمم تصميماً على صدّ أخطار الغزو الثقافي صوناً لها، ويزداد طموحها إلى التميز تشبثاً بها. وأصبح الحفاظ على التنوع الثقافيّ في عصرنا هذا الذي سمي عصر العولمة، ظاهرة تسطع فيه تعبيراً عن تآزر الأمم في الدفاع عن تنوع اللغات وحمايتها من عدوان اللغة الأمريكية الإنجليزية التي هي أيضاً أحد رموز العولمة. ولقد أثير في منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو) موضوع اندثار لغات عديدة سنوياً بفعل الوَقْع القوي للثقافة الأمريكية المحمولة على اقتصاد مهيمن، والمنقولة بلغتها في التلفزة والسينما والإذاعات والمواقع المتكاثرة على الإنترنت والصحافة المرئية والمقروءة والمكتوبة، ومحاولة فرضها في التعليم والاقتصاد وفي جميع المناشط الدولية والأنشطة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. إنه وَقْعٌ قوي ينهك اللغات الأخرى، ولا سيما غير العريقة التي يندثر العديد منها سنوياً. ولقد وقفت أمم الأرض قاطبة، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، في المنظمة الدولية (اليونسكو) تدافع عن ضرورة تنوع اللغات والثقافات ليُثري تنوعها الحضارة الإنسانية بما تحمله ثقافاتها من خصائص أمم الأرض والشعوب، واتخذت المنظمة قرارات متتالية في اجتماعاتها ومؤتمراتها في السنوات الثلاث السابقة، كان من أهمها قرار إحداث برنامج حفظ الإرث الثقافي، وكان آخرها القرار الحاسم بحماية التنوع الثقافي، الذي اتخذته في مؤتمرها السنوي العام في خريف عام 2005، بإجماع - استثني منه إسرائيل - ضد تعنّت الولايات المتحدة الأمريكية.
والمجامع اللغوية معنية بالدفاع عن اللغة كغيرها من الهيئات حكومية كانت أو غير حكومية، وربما تكون معنية أكثر من غيرها لأنها أُنشئت خصيصاً لهذه الغاية. وعليها أن تمتلك كل الوسائل وتستخدم جميع الأساليب التي تحتاج إليها للنجاح في مهمتها. وسنحاول فيما يلي من الصفحات تناول أعمال مجمع دمشق بالدراسة، دراسةً يكون مرجعنا فيها الوسائل والأساليب التي اتبعها لتحقيق أغراضه في إطار القوانين والأنظمة التي رسمت له، والبيئة الاجتماعية التي احتضنته وأحاطت به.
قام مجمع دمشق بالمهام المنوطة به في سنواته الأولى على أحسن وجه، ولم يكن في وثيقة إحداثه في هذه المرحلة ما ينظم عمله ويحدد أغراضه ومهامه والوسائل التي يمكنه استعمالها لتحقيق أغراضه، ولا الأساليب التي تيسر له النجاح في مهمته. فقد أصدر الحاكم العسكري الوثيقة التالية الموجهة إلى رئيس ديوان المعارف برقم وتاريخ 8/6/1919:
5698
2347
«دفعاً للالتباس الذي يمكن وقوعه نسبنا أن يسمى ديوانكم بالجمع العلمي (آقاده مي) وإننا لنرجو إفراز ميزانية المدارس على حدة وإرسالها إلى مدير المعارف العام والسلام عليكم»([2]). و(آقاده مني) هي كلمة (أكاديمي) كما كانت تلفظ في تلك الأيام إبّان الخروج من العهد العثماني. ويقول محمد كرد علي رئيس مجمع دمشق في التقرير الأول عن أعمال المجمع: «كان المجمع العلمي العربي يعرف لأول أمره بالشعبة الأولى للترجمة والتأليف التي أُسست على أثر تأليف الحكومة العربية في أواخر خريف سنة 1918، ثم جُعلت هذه الشعبة ديوانَ المعارف... موكولاً (ووُكِل) إليها النظر في أمور المعارف والتأليف وتأسيس دار للآثار والعناية بالمكاتب ولا سيما دار الكتب الظاهرية...» ([3]). وهذا يعني أن تأسيس دار للآثار والعناية بالمكتبات أو دور الكتب وإيلاء دار الكتب الظاهرية عناية خاصة، أصبحت كلها من مهام المجمع، إضافةً إلى مهامه اللغوية والعلمية. ويفهم من التقارير السنوية الستة الأولى أن المجمع ارتبط برئيس الدولة حتى سنة 1927 وبرئيس مجلس الوزراء في السنوات الثلاث التالية، ثم ارتبط إدارةً بوزارة المعارف كما نص على ذلك القرار ذو الرقم 135 لعام 1928 الخاص بتنظيم المجمع([4]). وهو أول تنظيم للمجمع تضعه الدولة.
لابدّ أن أغراض المجمع وأهدافه كانت واضحة في أذهان مؤسسيه وإن لم تصدر في وثيقة رسمية. ويؤيد هذا الرأي أن الدعوة إلى إنشاء المجامع في الجمعيات والصحافة، كما ذكر في هذه الدراسة، سبقت إنشاء مجمعنا بعدة عقود، وهو أيضاً وريث لجنة الترجمة، بأغراضها العامة التي وضعت لها منذ إنشائها، ثم إن رئيس المجمع صرح مراراً أن مجمعنا اتخذ المجمع الفرنسي نموذجاً أو أنه أنشئ على غراره وحذا حذوه([5])، وهذا يجعل المهام متشابهة؛ ويؤيده أخيراً ما يمكن استخلاصه من الأغراض التي جاءت في المنشور العام([6]) الذي أعده رئيس المجمع محمد كرد علي باللغتين العربية والفرنسية وأرسل، في 20 أيلول سنة 1919، أي في بدايات عمل المجمع، إلى المجلات والمجامع في الشرق والغرب. ولقد قام الأعضاء المؤسسون مع رئيسهم بوضع مشروع نظام أو قانون اتبعوه في عملهم دون أن يصدر([7])، وكان من أبرز ما فيه، التعريف بأغراض المجمع، وهي لا تخرج عن الأغراض العامة للمجامع العلمية اللغوية التي أشرنا إليها من قبل (في الصفحة 495 من المجلد 81)، وتصنيف أعضائه في ثلاثة أصناف: أعضاء عاملون (وهم موظفون) وعددهم ستة، وأعضاء مؤازرون في دمشق (غير موظفين) وعددهم ما بين 12 و18، وأعضاء مراسلون عددهم غير محدد.
كانت هذه هي كل المعالم الرئيسية التنظيمية للمجمع إبان تأسيسه. لقد تركت الوثيقة التي أصدرها الحاكم العسكري للمكلفين إنشاءه كثيراً من الحرية في العمل، ولم يصف المؤسسون إليها إلا القليل وقد أشرنا إليه. هذه الحرية حمّلت المؤسسين مسؤولية النجاح أو الإخفاق في قيام المجمع بما يعوّل عليه من المهام الضخمة التي يأتي في مقدمتها إزالة آثار التتريك في اللغة والثقافة؛ وضع المؤسسون خطتهم للقيام بالمهمة، وكان منها بعض المعالم التنظيمية التي أشرنا إليها، وشارك الأعضاء المؤازرون زملاءهم العاملين فعربوا الدواوين، وقاموا بتدريس الموظفين العربية والإنشاء، ووضعوا المصطلحات، وصححوا كتب المدارس وأغلاط الصحفيين، وشاركوا في تحقيق أغراض المجمع كلها دون أي تعويض أو مكافأة([8]). وقد أخذ الأعضاء الملازمون (المراسلون) باستخراج الأغلاط من الجرائد وتصحيحها([9])، ونشر المجمع في الصحف العامة ما صحح منها، قبل قراءتها في مجموعات في مجلس المجمع لنشرها في المجلة.
وكان من أهم مظاهر النشاط الثقافي اللغوي الذي قام به المجمع وواكب نهوضه بمهامه الأساسية منذ سنواته الأولى، إنشاء المجلة وإلقاء المحاضرات التثقيفية العامة. فقد أنشأ المجمع مجلة له صدر عددها الأول في كانون الثاني سنة 1921، وكان يسعى لإصدارها منذ انفصاله عن ديوان المعارف([10])، ثم قرر في جلسة بتاريخ 17 أيلول سنة 1919 أن يطلب من الحاكم العسكري الموافقة على إصدار مجلة تبحث في مواضيع تتفرع عن أغراضه و«ينشر فيها أعماله وأعمال أعضائه العاملين والمراسلين والشرفيين، ممن تخيرهم ليعاونوه بعد البحث الطويل في الشام ومصر والعراق وتونس والجزائر... و(كان) يبعث بمجلته إلى أعضائه مجاناً، وإلى أشهر المجامع والجامعات ودور الكتب في القارات الأربع... وقد بلغ عدد من تبادلهم مجلة المجمع من هذه المجامع والمكاتب والجامعات في أوربا (85). وبذلك زادت شهرة المجمع في الأندية العلمية...»([11]). ولقد بدأت المجلة بالصدور شهرياً حتى عام 1931، ثم أصبحت تصدر كل شهرين حتى عام 1949 ثم استقرت ربع سنوية. وتوقفت عن الصدور مرتين الأولى من 1/5/1933 حتى 1/5/1935، لأسباب إدارية تتعلق بإعادة النظر في أوضاع المجمع من الناحيتين الإدارية والمالية... والمرة الثانية من بداية عام 1938 حتى بداية عام 1941 بسبب نقص الموارد([12]). كما قرر المجمع أن تفتتح محاضراته «في قاعة المحاضرات يوم الأحد في 17 نيسان سنة 1921...، واستمر إلقاء هذه المحاضرات مرة كل أسبوعين. فلما زاد إقبال الناس عليها أنشأ المجمع يلقيها مرة في كل أسبوع... وشاء المجمع أن يكمل رسالته الثقافية فبحث في إلقاء محاضرات على السيدات...؛ وبعد المذاكرة في الجلسة المنعقدة بتاريخ 5 كانون الثاني سنة 1923 تقرر المبدأ». وقد استمرت محاضرات المجمع هذه حتى 12/4/1946. و«أما المحاضرون فهم أعضاء المجمع الموظفون وأعضاؤه العاملون أو من يكلفهم المجمع إلقاء المحاضرات» من رجال الثقافة واللغة الذين آمنوا بأهمية دور المجمع وأغراضه. وكان لابد من عرض المحاضرة على (لجنة النظر في المحاضرات والمقالات) ([13]) لينظر بعض أعضائها في الموضوع، وينظر بعض آخر في لغة المحاضرة.
وواكب هذه الأنشطة العلمية اللغوية والثقافية سعيٌ حثيثٌ وذكيٌ للتعريف بالمجمع وبأهدافه السامية في خدمة اللغة ونشر المعرفة، فأجاز «من موازنته بعض المجيدين من الكتاب والعلماء بمقدار من المال وبابتياع كمية من كتبهم ورسائلهم تنشيطاً لهم»([14]). وكان من بين من حصلوا على جوائز المجمع الأمير مصطفى الشهابي والدكتور محمد أسعد طلس في عام 1944 والدكتور صلاح الدين المنجد في عام 1949. ودعا المجمع الموسرين في البلد لمدِّ يَد العون والمشاركة في تشجيع المجيدين من الكتاب على التأليف والتجديد. ووزع المجمع العلمي الكتب والمجلات «على الطلاب والدارسين والباحثين، وعلى بعض غرف القراءة التي أنشئت حديثاً خارج دمشق، منها ما كان من مطبوعاته، ومنها مما ابتاعه أو مما أهدي إليه...» ([15])، كما عزم على جمع التبرعات للمجمع من الجاليات السورية في القارة الأمريكية([16]).
وأنجز المجمع إلى جانب قيامه بأعماله العلمية والثقافية، ترميم المدرسة العادلية قبل أن ينتقل إليها، وأهم ما يشهد اليوم على جودة مستوى تلك الأعمال، الخشبياتُ من أبواب ونوافذ أتقن صنعها وفق الهندسة والفنون العربية([17]). وتولى المجمع رعاية دار الكتب الظاهرية وإدارتها، وإنشاء دار الآثار، وأنشأ في حلب فرعاً له تحدث عنه رئيس المجمع محمد كرد علي في تقريره الثاني في عام 1923 والثالث في العام الذي يليه... وضُمّ المجمع ما بين عامي 1923 و1926 إلى الجامعة، وكان من مهامه في تلك المرحلة على الأقل، دراسة تنظيم التعليم الجامعي وتشجيع الإنتاج الأدبي... ([18]) فكان له فضل اقتراح إحداث مدرسة عليا للآداب وضَع نظامها، ووافقت حكومة الاتحاد (السوري) على إحداثها في عام 1924. ومع ذلك كله وإضافة إليه، فقد أقام المجمع معرضاً للصنائع الشرقية في مقره بالعادلية في حزيران سنة 1928.
كان أعضاء المجمع العاملون (الموظفون) في سنواته الأولى ستة فقط، ألفت منهم اللجنة الإدارية (مكتب المجمع)، وهم رئيس المجمع السيد محمد كرد علي ونائبه الشيخ سعيد الكرمي وأمين سر المجمع العام السيد عز الدين علم الدين التنوخي والشيخ عبد القادر المغربي والسيدان أنيس سلوم وديمتري قندلفت([19]). وفي آب 1921 حل السيد عيسى إسكندر المعلوف محل ديمتري قندلفت([20]) هؤلاء والشيخ أمين سويد هم مؤسسو المجمع الثمانية. ومنهم أيضاً كان أكثر أعضاء لجنة الترجمة وديوان المعارف نشاطاً، ويلاحظ أن أكثر منجزات المجمع في النصف الأول من العقد الأول من حياته (1919-1924) على الأقل، كانت من إعداد لجنة الترجمة وديوان المعارف([21]) ومن منجزاتهما، أو الأحرى هي من منجزات المؤسسين ومَن تعاون معهم في المرحلة التحضيرية لإنشاء المجمع. ومما تجدر ملاحظته أن أوضاع المجمع في العقد الأول من حياته، كانت كثيرة التقلب وحملت الكثير من المفاجآت، كتوقف العمل في المجمع ما بين تشرين الثاني من عام 1919 وأيلول من عام 1920 لأسباب إدارية ومالية، وكاضطراب أنظمته وسرعة تعديلها وتواتره، فباقتراحٍ مثلاً من الأمير شكيب أرسلان سار المجمع منذ عام 1921 على خطة التعريف بالعضو الجديد من قبل أحد الأعضاء في جلسة القبول أسوة بالمجامع العلمية الأجنبية([22]) وثُبِّت هذا التقليد فيما بعد في قانون المجمع([23])، وكتوالي تغير تصنيف أعضائه وعدد العاملين منهم فيه، وربطه بالجامعة في سنة 1923، ثم استقلاله عنها في آذار سنة 1926، وربطه أيضاً إدارياً تارة برئاسة الدولة وأخرى برئيس الوزراء. ولم يصب المجمع بعض الاستقرار إلا بعد صدور قانونه بالقرار ذي الرقم 135 لعام 1928 الذي وردت الإشارة إليه، والذي حدد أغراضه وعدد أعضائه العاملين وأعاد تصنيفهم، وربطه إدارياً بوزارة التربية، ونظم كيفية انتخاب أعضائه وانتخاب رئيس المجمع وعضوين دائمين من الأعضاء يساعدانه في تسيير شؤون المجمع. ومن أهم ما جاء فيه أيضاً:
˜ الاكتفاء بإشراف المجمع من الوجهة العلمية، على دور الآثار في دولة سورية، وهذه خطوة هامة في الطريق إلى فصل دور الآثار عن المجمع.
˜ تَرْك الخيار للمجمع في الإبقاء على فرعه في حلب.
˜ تحديد عدد اجتماعات مجلس المجمع بجلسة اعتيادية واحدة سنوياً وتَرْك الخيار لرئيس المجمع بدعوة المجلس أيضاً للاجتماع في جلسة غير اعتيادية.
˜ فرض إيداع المكتبة الوطنية (في دولة سورية) الملحقة به، ثلاثَ نسخٍ من كل مطبوعٍ ينشر في سورية...
في تلك البيئة المضطربة المتقلبة قدم المجمعيون المؤسسون وزملاؤهم المؤازرون الإنجازات الفذة التي أشرنا إليها باختصار، على الرغم مما دار فيها «حول المجمع في أواخر سنة 1922، وأوائل سنة 1923 من أخبار إلغائه أو إبقائه»([24]). في تلك البيئة، المضطربة قامت في سورية أول دولة عربية مستقلة في عصر النهضة، وقوّض تآمر الغرب بنيانها قبل أن يشتد، فاندلعت الثورات في أرجائها وانطلقت الثورة السورية الكبرى في عام 1925، فاضطر العديد من مؤسسي المجمع إلى الهجرة من دمشق، فعاد الشيخ سعيد الكرمي إلى عمان في أيار من عام 1922، وهاجر عز الدين علم الدين التنوخي إلى العراق في عام 1923. ولدى اندلاع الثورة السورية في عام 1925 عاد عيسى إسكندر المعلوف إلى لبنان واستقر في مدينة زحلة، وهاجر ديمتري قندلفت إلى لبنان أيضاً واستقر في بيروت، وغادر الشيخ أمين سويد دمشق إلى صيدا ثم إلى جرش في الأردن... ولم يعد إلى دمشق إلا قبل وفاته - التي كانت في عام 1936 - بثلاث سنوات، واعتلت صحة أنيس سلوم في عام 1926 فخفَّ نشاطه([25]). ولم يبق في المجمع من مؤسسيه في عام 1926 سوى الأستاذ محمد كرد علي والشيخ عبد القادر المغربي. في هذه الظروف الصعبة تابع المجمع مسيرته مع من واكب نشأته من الأعضاء الجدد والمؤازرين والمراسلين، وممن انضم إليه إبّان ما سميناه النفير([26]) العام للتعريب، فكان منهم جيل الريادة الثاني، في الحركة المجمعية السورية وفي التعريب أيضاً. إلا أن أغلب الذين هجروا دمشق من المؤسسين: الكرمي والتنوخي والمعلوف، لم يطيقوا هجرها وهجر العمل المجمعي، ودفعهم حنينهم إليه وتشوقهم إلى خدمة العربية، إلى القيام بمحاولات لإنشاء مجامع حيث حلوا، في الأردن والعراق ولبنان.
فما هي أسباب هذا النجاح الباهر الذي حققه المؤسسون في العقد الأول من حياة المجمع؟
- لقد كان من أهم أسباب هذا النجاح، البيئة التي نشأ فيها المجمع وأحاطت به:
* بيئة سادها اعتزاز الأمة بطردها المحتل، وشعور بالقوة والكرامة، فاندفعت إلى القضاء على ما خلَّفه التتريك في اللغة والمجتمع. وأنشأت لهذه المهمة المجمع الذي أنضج عصرُ النهضة تكوينَه ورسم صورته، فهبّ يخوض المعركة بأعضائه وبمن آزره من المتطوعين، وهم كثر في هذه البيئة، واستُنفرت فئات الأمة كلها لنصرة المجمع في مسعاه. منهم من وضع نفسه في خدمته لعله يأنس فيه الكفاءة لمؤازرته في التعريب أو في التعليم أو في تصحيح أخطاء الجرائد والكتاب... ومن الموظفين من تقدم يسأل المجمع تصحيح ما في ديوانه من ألفاظ أو تعريبها. وشرعت الصحافة تنشر ما يراه المجمع من تصحيح أغلاط الكتاب، وامتدت نصرة المجتمع وتشجيعه إلى البلاد العربية المجاورة فكانت تأتي في صورة بحث أو رأي ينشر في مجلته أو نقد لبعض ما نشر فيها، أو مجموعة من المخطوطات النفيسة يبعث بها معجب هديةً إلى مكتبته. وحوت تقارير رئيس المجمع السنوية الخمسة الأولى عن أعمال المجمع، في هذا العقد، الكثير مما لقيه المجمع من تقديرٍ وتشجيعٍ في بلاد الشام والبلاد العربية كلها وفي كثير من الأقطار الأجنبية.
* بيئة كانت القناعة فيها تسود شروط الحياة ولا ترهق مطالبُها الإنسان والأسرة. ولم يكن المجتمع الاستهلاكي وليد ستينيات القرن الماضي - والذي نزل بنا فيما بعد - في تصور وتقدير مستقبليات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الأيام.
* بيئة كان فيها إنسان تلك الأيام عامة متعطشاً للتنعم بالكرامة والحرية اللتين عزَّ طلبهما في وطننا قروناً، وللاستزادة من الثقافة والمعرفة ليبني له بهما موقعاً مرموقاً في المجتمع، يرضيه ويطمئن إليه. ولم يكن السعي لتحسين شروط الحياة يأخذ من طلاب العلم والمعرفة إلا القليل من جهدهم وتفكيرهم.
- لقد كان من أسباب نجاح المجمع، براعة الأسلوب الذي اتبعه المجمعيون وقتئذٍ في عملهم، إنه التفاعل والتعايش:
* كان عمل المجمع حصيلة تفاعله تفاعلاً نشيطاً مع جميع الفئات التي كانت تقع لديها مشكلات لغوية تحتاج إلى الإصلاح، إنها فئات طلاب المدارس والعسكريين والموظفين والكتاب والصحفيين...، يجعل تفاعلَهم نشيطاً تعايشُهم ومطلبٌ مشترك بينهم هو إصلاح اللغة. هذا التفاعل النشيط هو الذي دعاهم إلى إصلاح النطق ويسّره لهم ومكّنهم منه، فنشروا حصيلة ما أصلحوه في مجلة "المجمع" بعنوان عثرات الأفمام([27]) فتكامل مع سلسلة مقالاتهم في عثرات الأقلام.
* هذا التفاعل النشيط هو الذي حمل صيت المجمع إلى الجاليات العربية في القارة الأمريكية وحثّ على مؤازرته فيها وفي بلاد الشام، ودفع الموسرين إلى التبرع بجوائز مالية تشجيعاً للكتّاب على الجيد من مؤلفاتهم.
* وهذا التفاعل جعل المجمع في العقد الأول من حياته خلية نحلٍ، ملكتها اللغة والجميع في خدمتها، والمجمع هو الرائد المخطط والمنسق، يضع الخطط وما إن يشرع في التنفيذ حتى يزدحم حوله المؤازرون، يطلبون متطوعين، دوراً في التنفيذ لعلهم يرتفعون به إلى مصاف الوطنيين البررة، ويثلجون بالقيام به صدورهم.
* هذا التفاعل والتعايش نلمسه أيضاً في تعاون المجمع مع الاختصاصيين في مختلف الفنون التي وضع مصطلحاتها «فجمع بين قدرة أعضائه اللغوية وبين معرفة الاختصاصيين بمفاهيم الألفاظ الفنِّية»([28])، كما نلمسه في تعاونه مع مديرية المعارف «بحيث نظمت جلسات مشتركة بحث فيها عن أقرب الطرق لنشر الفصحى بين الطلاب والجمهور»([29])، واعتمد المجمع فيها تقريراً وضعه الشيخ عبد القادر المغربي([30]). ونلمسه أيضاً في محاضراته التثقيفية التي شرع يلقيها في ربيع عام 1921 ولاقت إقبالاً كبيراً من المواطنين فاتخذ قراراً بإلقاء محاضرات على السيدات في بداية عام 1923. لقد كانت محاضرات المجمع ضرباً من التفاعل والتعايش الذي قرّبه من المواطنين وزادهم ثقة به.
ويدخل في براعة الأسلوب أو الحكمة في معالجة المشكلات:
* تجنّب ما يدعو إلى الخلاف في الأمور اللغوية فيما ينشره المجمع في تصحيح الأغلاط، ودون ذكر اسم الشخص الذي وقع في الغلط([31]).
ولا شك أن النجاح الذي أصابه المجمع كان، قبل كل ما ذكر من الأسباب، ثمرة تعاون أعضاء المجمع وتآزرهم، واتفاقهم، فقد كانوا «لا يذخرون وسعاً في السعي، عاملين متآزرين نحو تحقيق الخطة التي اتفقوا عليها لإعلاء شأن العربية...»([32])، وهذا هو ما أهَّل المجمع لقيادة المشروع ووضْع خطة تنفيذه ومتابعته وتصحيح مسار الخطة وتطويرها.
ثم إن المجمع في تفاعله هذا، في البيئة التي أحاطت به، أصبح هو وسطاً ملائماً لنشوء أنشطة في بعض مجالات أغراض المجمع احتضنها العاملون فيه. فهم يعيشون في المجمع يومهم كله أو أكثره، يشاهدون التفاف الجماهير المثقفة حول أعضائه ومؤازريهم، ويسمعون ما يتداولونه من آراء للنهوض باللغة ولبناء الأجيال علماً وثقافة وفكراً، فيدفعهم ما يلقاه أعضاء المجمع من احترام وتقدير إلى الاقتداء بهم والسير على سننهم في العمل، فيعودون إلى ما حوته دار الكتب الظاهرية من نفائس الكتب ومختلف المراجع ليستزيدوا من بعض ما راق لهم مما سمعوه، أو ليمحِّصوا ما أشكل عليهم منه، فنمت حركة علمية في صفوف العاملين وإن كانوا قلة، ونشأ منهم من أصبح في عقد الثلاثينيات أو فيما بعده مؤرخاً أو محققاً أو أديباً أو باحثاً في بعض شؤون أغراض المجمع. وهذا هو نجاح آخر للمجمع كان ثمرة تردد أصداء عمل أعضائه وسيرتهم في البيئة التي أحاطت به، وخاصة في الأقربين إليه فيها، وهم العاملون فيه.
ولئن شارفت مهمة التخلص مما خلفه التتريك على الانتهاء، بعد تعريب الدواوين وتعليم الموظفين اللغة العربية والنظر في كتب المدارس الابتدائية والثانوية، وإصلاح ما فيها من أخطاء، ووضع مصطلحاتها بالتعاون مع المختصين، في العشرينيات من القرن الماضي، فإن مهمة تعريب التعليم العالي التي بدأت مع إحداث المجمع والمعهد الطبي العربي، لا ينجز منها في عقد من الزمن ما يمكن أن يمثل حالةً واضحة المعالم من حالات تعريب التعليم العالي، فمهمة المجمع على هذا المحور مهمة متجددة المصاعب والمشكلات. ويحسن تقسيم العقد الأول، الذي ينتهي مع عام 1928 ومع صدور أول تنظيم حكومي للمجمع (القرار 135) إلى مرحلتين. مرحلة أولى تنتهي في عام 1924، وكانت أصعب مراحل تعريب التعليم العالي في القطر، إذ كان على كل عضوٍ من أعضاء هيئة التدريس أن يكوِّن في هذه المرحلة الأفكار الرئيسية التي تقوده إلى الأسلوب الصحيح الذي سيتبعه ليشق طريقه في تعريب ما كُلِّف تدريسَه. فمن كانت الأفكار الرئيسية التي كوَّنها متناسقة متكاملة واضحة، وقامت على قاعدة متينة من الثقافة العربية عامةً واللغوية منها خاصة، أمكنه أن يضع ملامح الخطة التي سيتبعها، وأن يجد سبيله للقيام بالمهمة بنجاح، فيشرع بعدئذ بنشر ما يتوصل إليه في مجلتي "المجمع" و"المعهد"، اللتين كانت صفحاتهما منتدىً مفتوحاً لتبادل الآراء بين العلميين واللغويين العرب، يشدهم إلى نصرة المجمع والمعهد حرصهم على نجاح المسعى العربي في دمشق، واغتباطهم بما حققاه من نجاح. وانتهت المرحلة الصعبة مع بدايات ظهور المنهجية في معالجة مشكلات وضع المصطلح في فكر المجمعيين العلميين، والتي بدت في أعمال كل من الدكتور جميل الخاني والأمير مصطفى الشهابي اللذين باشرا نشرَ أفكارهما الأساسية حول تعريب التعليم العالي في عام 1924 في مجلة "المعهد الطبي العربي" بعنوان "لغة العلم"([33])، وفي مجلة "المجمع" بعنوان "قطع أغصان الشجرة"([34]). ثم تجمَّع في مرحلة ثانية تلت الأولى، لديهما ولدى كل عضوٍ من أعضاء هيئة التدريس في المعهد، مجموعاتٌ من المصطلحات يوجب ترتيبها وتنسيقها وائتلاف مفرداتها واتساق معانيها، نشرَها للاحتكام إلى أهل الاختصاص في العلم أو في اللغة أو لتسجيل السبق في ميدان التعريب. وقد امتدت هذه المرحلة إلى نهاية العقد الأول في عام 1928 لدى بعض أعضاء هيئة التدريس، وإلى بدايات عقد الثلاثينيات أو حتى إلى منتصفه لدى بعض آخر منهم.
وامتد طموح بعض العلميين إلى تطوير أساليب وضع المصطلح، فتابع الأمير مصطفى الشهابي نشر دراساته في هذا المجال([35]) منذ عام 1924 في مجلة "المجمع"، وكانت كلها في علوم الزراعة والمواليد ومصطلحاتها، ثم توسع في بحوثه فجمع أسس وضع المصطلح المتوارثة وأضاف إليها ونشر فيما بعد كتابه "المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث"... ونشأ في هذا العقد من الزمن مجموعة من أساتذة المعهد الطبي أصبحوا فيما بعد رواداً في حركة التعريب ووضع المصطلح من أمثال مرشد خاطر وجميل الخاني وصلاح الدين الكواكبي... وشرع بعضهم منذ العشرينات يضع الخطوط الأولية لصنع معجم مختص بالعلم الذي يعمل فيه، وبدؤوا بجمع مصطلحاتهم مرتبة ترتيباً ألفبائياً أو غيره في جداول طوروها تدريجياً لتقترب من معجم مختص انتهوا إليه في الثلاثينيات وفيما بعدها.
نستخلص من تأمل مسيرة المجمع في العقد الأول من حياته، كما جاءت في الصفحات القليلة السابقة، أن المجمع قام فيها بمهامه على محورين: محور تعريب التعليم العالي، ومحور إزالة آثار التتريك في اللغة والمجتمع، وتعريب الدواوين وإصلاح كتب المدارس وأغلاط الصحفيين ووضع مصطلحات الحياة العامة... الذي نصطلح على تسميته اختصاراً محور إزالة آثار التتريك في اللغة والمجتمع.
كانت القيادة في التخطيط والتنفيذ على المحور الثاني أو الأخير لأعضاء المجمع اللغويين([36])، ويلاحظ أن عملهم عليه كان جماعياً، بمعنى أن الأعضاء ومؤازريهم كانوا يعملون على تنفيذ خطة أو مهمة واحدة يوزعون لإنجازها الأدوار حتى على "المستنفَرين"، فأنهوا لذلك بنجاح المرحلة الأولى من مهمتهم.
أما على المحور الأول، محور تعريب التعليم العالي، فكانت القيادة فيه للعلمين، إلا أن هذه القيادة لم توزع الأدوار على الأعضاء في خطة لإنجاز المهمة، وقد تكون ظروف العمل على هذا المحور، هي التي فرضت هذا الواقع، فكل عضوٍ من أعضاء هيئة التدريس في المعهد، تفرغ لإنجاز مهمة التعريب في المادة التي يدرسها، ولم يكن في أي من مواد الدراسة في تلك الأيام أكثر من مدرس واحد، بل قد يوزع الأستاذ ما لديه من طاقة على أكثر من مادة، وتلك كانت، على سبيل المثال، حال الدكتور جميل الخاني الذي قام بتدريس مادتي أمراض الجلد والفيزياء. فالمدرِّس من هذا المنطلق ليس له في المعهد نظير يعود إليه يشاطره الخبرة ويتبادل معه الرأي، كما أن كلاًّ من زملائه منهمك في إنجاز المهمة في المادة التي يدرسها. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن أن نجد لقيادة المجمع عذراً في العمل على محور تعريب التعليم العالي دون تنسيق بين الأعضاء، إلا أن ما يجعلنا نستبعد الأخذ بهذا التعليل هو أن أساتذة المعهد الطبي (وجلهم أعضاء عاملون أو مراسلون في المجمع) كانوا ينشرون ما وضعوه من مصطلحات على صفحات مجلتي "المجمع" و"المعهد" كما ذكرنا، وكانوا يقرؤون فيهما ما يرد من نقدٍ لما نشروه ويُتْبِعونه بردودٍ ومناقشات قد تطول، كتلك المناقشات التي كانت تجري على صفحات المجلة بين الأب أنستاس ماري الكرملي وجميل الخاني، ثم أخذت تدور المناقشات على صفحات المجلتين بين أعضاء المجمع بعضهم مع بعض. فلم يكن الوقت هو ما ينقصهم للتنسيق، ولكن صعوبة القيام به، هي التي حالت دون محاولة الأخذ به وشككت في جدواه، فحل محله عرض مصطلحاتهم على صفحات مجلتي "المجمع" و"المعهد" لتنقحها الآراء والمناقشات المطروحة على تلك الصفحات. ولذلك أيضاً لا نجد في العشرينيات من القرن الماضي على هذا المحور، محور التعليم العالي، عملاً جماعياً أو تعاونياً كأعمال اللغويين.
كان العقد الأول من حياة المجمع، في رأي الرئيس كرد علي «دور تمرن واستقراء واستجماع قوى»([37]). لقد كان يطمح إذن أن يحقق المجمع قفزات تضاهي ما حققه في العقد الأول إن لم تكن أكبر. إلا أن ظروفاً عديدة استجدت لم تساعد المجمع على تحقيق أمانيّ مؤسسه. وسنحاول تلخيص أهم التطورات التي طرأت على نظم المجمع وعلى البيئة المحيطة به والتي يمكن أن يكون لها دور فعال في التأثير في نشاطه.
فأما أهم التطورات التي طرأت على نظم المجمع فهي صدور أول قانون ينظم عمله في عام 1928، وقد لخصنا من قبل (في الصفحة 716) أهم ما جاء فيه. إلا أن قانون المجمع الصادر بالمرسوم التشريعي ذي الرقم 60/ آ. س في عام 1943 كان أكمل تنظيماً وأشمل أحكاماً إذ استُكمل في نفس العام بالمرسوم ذي الرقم 571، الذي اشتمل على النظام الداخلي للمجمع (وهو ما يعرف اليوم باسم لائحته الداخلية). وأهم ما ورد فيهما: إضافة العمل على توحيد المصطلحات العلمية في الأقطار العربية إلى أغراض المجمع ومهامه، وإحداث إدارة ملحقة بالمجمع هي إدارة دور الكتب العامة وصيانة الإضبارات الوطنية، وإلغاء ارتباط إدارة الآثار بالمجمع إداريّاً وعلميّاً بإغفال ذكرها فيه، وإحداث لجنتين دائمتين تتمتعان بصلاحيات واسعة هما لجنة الشؤون الإدارية ولجنة المجلة والمطبوعات، واشتراط إقامة العضو العامل في دمشق، وبذلك أغلق فرع حلب حكماً. وأورد هذا القانون عدة أحكام في تعويضات حضور جلسات المجلس واللجان وإلقاء المحاضرات والنشر في المجلة... ضمّنها في عدد من مواده، وكان قانون عام 1928 قد اكتفى، في معرض تعداد أنواع النفقات في الموازنة، بالإشارة إلى التعويضات التي تعطى للأعضاء على الأبحاث والمحاضرات التي يكلفهم المجمع القيامَ بها. ويمكن أن نستخلص من هذه التطورات أن العمل على توحيد المصطلحات العلمية بين الأقطار العربية أصبح غرضاً من أغراض المجمع ومهمة أساسية من مهامه، بعد أن كان يكتفي منذ إنشائه بترويج توحيد المصطلحات ويدعو إليه بإلحاح، وأن التعويض المالي عن الأعمال العلمية وتنظيم صرفها أصبح أمراً مهماً يوجب أن ينفرد له مجموعة من المواد والأحكام في القانون وفي نظامه الداخلي. كما نلاحظ أن تشتت جهود المجمع بين عدة مهام كبرى أخذ يتقلص، فخرجت إدارة الآثار تدريجياً من حوزة المجمع، وتركزت مهامه في دمشق، بعد أن تحقق ما كان يتمناه الرئيس كرد علي ورئيس الدولة([38]) كما وردت تقريباً في قانون سنة 1943.
ولم تأت الوحدة السورية المصرية بتغيرات هامة على محتوى القانون ذي الرقم (90) في البنية والأغراض، فالقرار ذو الرقم 1144 لسنة 1960 القاضي بإنشاء مجمع اللغة العربية (وليس المجمع العلمي العربي) ولائحته الداخلية (وليس نظامه الداخلي) الصادرة بالقرار ذي الرقم 31 لسنة 1961 قريبان من حيث المحتوى مما جاء في المرسوم التشريعي ذي الرقم (90) ونظامه الداخلي. أما أهم ما استجد فيهما فكان في تيسير أسباب العمل، إذ أصبحت لجان المجمع الدائمة في حكم القانون الجديد أربع لجان بإضافة لجنة المخطوطات وإحياء التراث، ولجنة المصطلحات وألفاظ الحضارة، وأعطى القانون مجلس المجمع الحق في تأليف لجان دائمة أخرى، كما أبرز دور الخبراء في تنفيذ أعمال المجمع، ومنح أعضاء المجمع تعويضاً شهرياً يحدد بقرار من الوزير. وعلى الرغم من عدم صدور القرار المنتظر طوال نصف قرن تقريباً فإن أهمية الحكم تبقى كبيرة ونوعية، فقد حدد التعويضَ القانون ذو الرقم 38 لعام 2001، ويلاحظ أخيراً أن الرقابة الشديدة على ما يكتب وما يلقى من محاضرات قد ألغيت في قانون المجمع الذي جاء مع الوحدة السورية المصرية.
ونجمل أهم التغيرات التي طرأت على أنظمة المجمع، بعد مرور عقد من الزمن على إنشائه وحتى نهاية القرن العشرين بما يلي:
- لم يطرأ على مهام المجمع وأغراضه للنهوض باللغة العربية تغيرات تذكر.
- أُعفي المجمع من القيام بالمهام الأخرى وألغيت تدريجياً من قانونه، وهي: إدارة الآثار، فالإشراف العلمي عليها، وإدارة دور الكتب العامة وتنظيمها وصيانة الإضبارات الوطنية، وأخيراً تنظيم إلقاء المحاضرات في المجمع والمدن السورية.
- أصبحت إقامة العضو العامل في دمشق مقر المجمع شرطاً على المرشح لها، وأدَّى ذلك إلى تركيز أنشطة المجمع في دمشق وإغلاق فرعه في حلب.
- حذف شرط الحد الأدنى للسنّ على المرشحين لعضوية المجمع.
- ظهرت الحاجة إلى المكافأة المادية على العمل في وقت مبكر، ونظم القانون أحكام تقديرها وصرفها منذ عام 1943، ومنح القانون في عام 1960 تعويضاً شهرياً للأعضاء يحدد ويصدر بقرار من الوزير إلا أن ذلك القرار لم يصدر.
- أدخل القانون الصادر في عام 1960 بعض المستجدات في تيسير أسباب عمل المجمع، فأبرز دَور الخبراء في المشاركة في أعماله، وضاعف عدد اللجان الدائمة وفوض إلى مجلس المجمع وإحداث لجان دائمة أخرى.
وأما التطورات التي حلت بالبيئة التي تحيط بالمجمع ويعمل ضمن شروطها فأهمها ما يلي:
- خبوّ جذوة "النفير"([39]) للتعريب منذ القضاء على الدولة العربية في دمشق، بعد أن كانت قد اتقدت في حماها.
- إحداث مجمع القاهرة الذي استقطب نشاط الإخوة المصريين وكثيراً من العرب وحتى بعض مجمعيِّي دمشق.
- اضطراب شروط المعيشة وازدياد ضغطها على الأفراد وتحكم مطالبها في توجيه نشاطهم.
- تقهقر جودة تعليم اللغة العربية وتراجع المهارات اللغوية عند العلميين خاصة، وغياب اللغويين المؤهلين لعضوية المجمع عن دمشق إلى ما بعد بلوغهم الستين أو السبعين من العمر، وارتفاع سن المرشح لعضوية المجمع تبعاً لذلك.
هذه الأسباب حالت دون تحقيق المجمع قفزات تضاهي قفزته العملاقة في العقد الأول، إلا أنه تابع تألقه بفضل جهود مؤسسيه من الجيلين الأول والثاني، والاندفاع الشديد الذي ولدته الطاقات التي اختزنها في العقد الأول، وما اكتسبه من الخبرة والمكانة في المجتمعات العربية.
* * *
تناولنا في الصفحات السابقة نشأة مجمع دمشق في العقد الأول من حياته الذي انتهى بصدور أول قانون نَظَّمت به الدولة عمله في عام 1928. تلك النشأة التي سادها اضطراب وضعه في الدولة، واستقراره في المجتمع الذي أحاطه ببيئة لقي فيها الدعم والتعاون والاحترام. قام المجمع في ذلك العقد بتنفيذ أهم أغراضه فأزال آثار التتريك في التعليم والكتابة والإدارة، وأصدر مجلته، ونظم المحاضرات التثقيفية الأسبوعية التي ضمنت له في المجتمع استمرار الدعم، واتَّبع في عمله منهجاً ذكيّاً وسليماً، وبراعةً في أسلوب معالجة المشكلات، فأحرز نجاحاً باهراً وفريداً في سيرته. وخُتمت الحلقة بتلخيص التغيرات الطارئة على قانونه وأنظمته في القرن الماضي تهيئةً لعرض تطور أنشطته في هذه الحلقة، ومدى ما أحرز من نجاح وما لاقى من صعاب تراكمت بعد العقد الأول تدريجياً إلى أن استحالت في نهاية القرن إلى قيود محكمة ضيّقت على أنشطته بشدة.
ألجأت تلك الضائقة المجمع إلى محاولة تعديل قانونه وتطويره، فلاقت مبادرته تجاوباً وتشجيعاً من الدولة، فوضع المجمع في مشروعه ما ارتآه لتذليل تلك الصعاب.
تتناول هذه الحلقة عرض ما ذلل المجمع من الصعاب بتطبيق القانون الجديد، وما استعاد به من نشاط، وما لا يزال من المشكلات البنيوية مستعصيّاً حله على القانون. وتُختَتم الحلقة باقتراح بعض الأفكار لمتابعة تطوير القانون بحيث يصبح أقدر على معالجة ما يعترض تحقيق أغراضه من مشكلات بنيوية مشابهة.
انقضى العقد الأول من حياة المجمع، وتابع اللغويون عملهم على محورهم بجدٍّ ونشاط. إلا أن معظم ما كان يحتاج إليه جمهور الناس في حياتهم العامة، وما كانت تحتاج إليه الدواوين والمدارس من الألفاظ كان قد وضعه المجمع في العقد الأول، وأجاب على أسئلة الجمهور في صحة كثيرٍ من الألفاظ والمعاني، وفي كيفية الوضع والتعريب، فانخفضت غزارة ما يوجه منها إلى المجمع بعد سنواتٍ قليلةٍ من إنشائه، فتوجه اندفاع اللغويين فيه إلى العناية بالمجلة، وناقشوا الخيارات الثقافية الممكنة وكان أهمها وضع معجم جديد في اللغة العربية، وتثقيف الجمهور بتنظيم إلقاء المحاضرات، في القاعة التي كان قد خصصها المجمع لهذه الغاية في مقره بالمدرسة العادلية. أما مشروع المعجم فيبدو مما كتبه الرئيس كرد علي، أنه طرح من خاصة الناس على المجمع، إذ يقول في تقريره الثالث عن أعمال المجمع في عام 1924 «وهناك أناس من الوطنيين أخذوا هذه السنة يريدوننا على بلوغ الكمال في أعمال المجمع... ومن ذلك مطالبتهم للمجمع بتأليف معجم لغوي على مثال المجمع العلمي الباريزي، ولعلهم نسوا أن المادة غير متوفرة للقيام بهذا العمل النافع... ولا سيما وضع أكثر الأسماء الجديدة اللازمة في فنون العلم»([40])، ودافع المغربي على صفحات المجلة عن رأي المجمع في رفض قيامه بالمشروع([41]). ثم يعود كرد علي للحديث عن المشروع في تقريريه الرابع والسادس عن أعمال المجمع العلمي العربي فيذكر بعد ثلاث سنوات فقط، في الصفحة (14) من التقرير الرابع أن «في عزم المجمع أن ينشئ معجماً صغيراً يُدخِل فيه الأوضاع العلمية الحديثة...»، ويعود بعد ثلاث سنوات أخرى أيضاً فيقول، في الصفحة (3) من التقرير السادس «فللمجمع أمنية أخرى يعبّد لها الطرق الموصلة منذ سنين وهو (!) إحياء كتب... ووضع معجمٍ متوسطٍ يضم إليه ما وضعه جماعته (جماعة المجمع) أو غيرهم من الألفاظ والمصطلحات العلمية...»، ثم يضم إلى هذه الأمنية أمنيةً أخرى في نفس التقرير والصفحة فيقول «وبذلك يتيسر له (للمجمع)... أن يقوم بعد حين بوضع مَعْلمةٍ عربية "دائرة معارف"، مستعيناً بمن أنبغت البلاد العربية من الكاتبين والباحثين». إلاّ أن المجمع لم يُقدم على وضع معجم على غرار ما أقدم عليه المجمع العلمي الباريزي. وعلى الرغم من عزمه أن ينشئ معجماً صغيراً أو أن يضع معجماً متوسطاً، فإنه استبعد هذا المشروع من خطته وكان مصيباً في قراره، إذ لن يتوفر له من المصطلحات العلمية في عدة عقودٍ، ما يسوّغ له الإقدام على مثل هذا المشروع الكبير. إن تنفيذ مثل هذا المشروع يمتص معظم طاقات المجمع ولا يبقى له منها ما يُمكِّنه من إنجاز أعمالٍ تحفظ له تألقه في المجتمع، وهو أحوج ما يكون إلى التألق في تلك المرحلة التي شكك فيها بعضهم بجدوى وجوده([42]). وكان من أمانيه
- كما رأينا - وضع معلمةٍ عربيةٍ بعد حين مستعيناً بالباحثين والكاتبين العرب. فكأن المجمع، ممثلاً برئيسه، كان يفتش عن مشروعات يتطلب تنفيذَها اندفاعُه الشديد الذي ولّدته الطاقات المختزنة وما اكتسبه من خبرة ومكانة. فاندفع لذلك لغويو المجمع ومن يدخل من الأعضاء في القسم اللغوي منه([43])، في تنفيذ مشروع محاضراتٍ كنا عرضنا ملخصاً عما لاقاه من نجاح من قبل. ولقد عدنا إليه لأنه جزء من مشروعات المجمع في العقدين التاليين، واستنفد جزءاً هاماً من طاقاته، ولأن الهدف من إلقاء المحاضرات كان نشر الثقافة بين الجمهور، وهذا يعني أن موضوعاتها ستكون متنوعة وتخرج عن مقاصد المجمع. ومن هنا نشأ جدل طويل حول هذه المحاضرات، انقسمت فيه الآراء في ثلاثة اتجاهات: «فئة ترى أن يقتصر المجمع في محاضراته على اللغة وآدابها، لأنه من نوع الأكاديميات، وقد أُسس لإحياء اللغة العربية وإنعاشها... وإغنائها بالمصطلحات الحديثة، وفئة ثانية ترى أن تتناول المحاضرات أنواع الآداب والعلوم والفنون...، وفئة ثالثة لا ترى أن تكون المحاضرات من وظائف المجمع لأنه مركز للأبحاث اللغوية... والظاهر أن المجمع كان بحاجة ماسة إلى إقامة المحاضرات لإثبات وجوده حين تأسيسه ولقلة المعاهد والنوادي الثقافية حينئذ. ثم خفَّ إلحاح هذه الحاجة حينما أنشأ مجلته... وأصبح في دمشق عدد من المعاهد والنوادي والجمعيات الثقافية...»([44]). وانصرف اللغويون إلى إدارة المجلة وتطويرها وإلى تنفيذ مشروع المحاضرات التثقيفية الذي بدأ في 17 نيسان سنة 1921 وتوقف في 12 نيسان سنة 1946، وكان كما يستخلص من إحصاء المحاضرات، أقرب ما يكون إلى التوقف ما بين عامي 1932 و1941 كما كان نصيب العلوم فيها لا يتجاوز خمسة بالمئة([45]).
كاد يصبح عمل اللغويين في المجمع راتباً: إدارة مجلة "المجمع" والكتابة فيها، وإلقاء المحاضرات التثقيفية. وقد زيّن له النجاح الذي أحرزه في المحاضرات التثقيفية، استكمال دوره الثقافي في المجتمع، والقيام بمهام ذلك الدور التي هي مهام وزارة الثقافة في أيامنا هذه، فوسّع دوره ليشمل المراكز الثقافية، إضافة إلى دار الآثار، ومصلحة المكتبات العامة وحفظ الأضابير الوطنية، إذ سعى لإنشاء غرف للقراءة ونوادٍ للمحاضرات في حي الميدان وفي دار الحديث الأشرفيّة البرّانية في سفح قاسيون([46]). ويذكر كرد علي في "خطط الشام" أن سعيه للحصول على الدار كُلِّل بالنجاح، و«أخذها المجمع العلمي العربي من الأوقاف ليجعل فيها بعد أن يرمّها خزانة كتبٍ يختلف إليها أهل تلك المحلّة»([47]). لقد كان كرد علي يسعى بعزيمة وإصرار للقيام أيضاً بوظيفة المراكز الثقافية اليوم. ومما لا شك فيه أن هذه المهام امتصّت قدراً كبيراً من طاقات المجمع المختزنة، وأن ما ينشره الأعضاء اللغويون في المجلة كان مشتتاً يفتقد إلى وحدة الهدف التي تتجسد عادةً في مشروع يسعى المجمع إلى تنفيذه ليرقى به درجات على مدارج النجاح.
إن هذه الأسباب كانت من أهم ما حال دون تحقيق المجمع نجاحاً في خدمة أغراضه الأساسية في اللغة يضاهي ما حققه منها في العقد الأول. وعلى الرغم من توقف محاضرات المجمع التثقيفية في ربيع عام 1946 وقيام وزارة التربية فوزارة الثقافة بجميع المهام الثقافية التي كان يقوم بها المجمع، فإن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي مرت بالقطر وألقت عليه بتبعاتها، ألَمَّت بالمجمع أيضاً، فضعضعت اتساقه مع البيئة التي كانت تحيط به، وانضافت نتائجها إلى تلك الأسباب، التي وإن لم تحل بمجموعها بينه وبين إحراز المزيد من التقدم، فقد حالت بينه وبين النجاح الذي حققه في العقد الأول من حياته. وإن في متابعة إحراز الأعضاء العلميين على محور تعريب التعليم العالي العلمي نجاحاً مرموقاً في عقود من القرن الماضي امتدت حتى أواخر الخمسينيات، ما حفظ للمجمع حتى ذلك الحين مقاماً رفيعاً في سورية وفي المجتمعات العربية عامة، وهذا ما سنتناوله باختصار فيما يلي.
شرع المعهد الطبي العربي يدرِّس الطب باللغة العربية مع نشوء المجمع([48])، فكان على أعضاء هيئة التدريس فيه، إيجاد المصطلحات المناسبة للألفاظ الطبية في التراث العلمي العربي، فإن لم يجدوا فيه بغيتهم كان عليهم وضع المصطلح المناسب. وقد رأينا أنهم اجتازوا أصعب مرحلة في تعريب التعليم العالي بنجاح فريد، يذكِّر بالنجاح الذي حققه أسلافهم في عهد محمد علي في مصر. لقد رنوا منذ أواخر العقد الأول أو أواخر عقد العشرينيات إلى صنع معا