بعد غربة اللغة العربية أصبحنا نخشى على اللغة الدارجة !
بقلم الشيخ أبي العباس أحمد بن الهاشمي الجزائري – رحمه الله –
من المناظر التي تفاجئ ولا تفارق الباحث المتجول في القطر الجزائري ما يشاهده في غالب العنصر الإسلامي من العي في الألسن , والضعف البادي في ملكة الكلام حتى في الأمور الجارية المألوفة . ولا تسأل عمّا إذا دعت مناسبة إلى حكاية قصّة من القصص , أو شرحِ واقعة من الوقائع فهناك ينكشف الستار ويظهر العار وتتجلى للعيان فاقة اللسان وفقده لنصاب الألفاظ الذي لا غنى عنه للتفاهم في الشؤون العامة . ولست أعني التعبير باللغة الفصيحة فتلك – ويا للأسف – خصوصية حكم الزمان بأن تبقى وقفاً على أفراد قليلين , عددهم نتيجة هاتين المقدمتين : درجة حرارة الشعور في الأمّة من جهة , وقوة أو ضعف غيرتها على تراثها الديني والإجتماعي من الجهة من الجهة الأخرى .
هذا على فرض انتفاء المانع وسلامة الطريق من العراقيل , إن مرادي أهون والغرض الذي أرمي إليه لا يخرج عن دائرة مستطاع كل أحد , مرادي التعبير باللغة العاميّة الدّارجة .
كأني بالقارئ وقد أخذ منه العجب مأخذه عند ما يرى جريدة هي لسان حال علماء تنتصر للغة عامية وتنشر الدعاية للترغيب فيها والحث على صرف طرف من الإهتمام في تحصيلها . . على رسلك أيها الأخ ! أعرف حق المعرفة كما يعرف غيري أن جمعية العلماء بحكم تسميتها من شأنها السعي في ترويج لغة العلم – أعني اللغة الفصحى - وتعميم الوسائل الصالحة لنشرها , وجمع القلوب على حبها وأما اللهجة العامية فظاهر الحال يعطي أنها ليست من مشمولات رعاية الجمعية ولا داخلة في ضمن دائرة أعمالها , لكن من نظر إلى المسألة نظرة بحث وتحقيق انكشف له في الحال ما بين الفصحى والعامية من كمال النسبة وعموم الاتصال . ولا إخالني مجازفاً إن قلت أن اللغة العامية عربية الأصل على نسبة ربما لا تقل عن سبعين في المائة , وإنما طرأ عليها - مع توالي السنين - ما طمس بعض معالمها وغطى – بضروب من التغيير - رسمها ! الأمر الذي سلبها حلتها الأولى وأبدلها منها ثوب العامية يشهد لهذا أن أخف البحث كاف للتيقن من أن لحمتها وسداها من جنس لحمة وسدى أمّها الفصحى ولا بدع ولا غرابة فإن تاريخ اللغات دلنا على أنه طرأ على اللاتينية نفس الذي نقوله الآن عن العربية فتولد عنها هي أيضاً إلى جانب لغة العلم لغة عامية أطلق عليها اسم ( اللاتينة المنحطة ) فأنت ترى ما بين هذه التسمية وبين لفظة ( العامية ) عندنا كمال المماثلة , وكيفما كان الحال فإنه لا سبيل إلى إنكار أنها أحد مظاهر حياة الأمة العظام ضروة انها الوسيلة العامة للتفاهم بين سائر الطبقات فلو لم يقم بها إلا هذا الوصف لاستحقت أن تكون محل عناية العموم وعلى الأخص طلبة العلم فإنهم يجدون فيها مرعى خصبا ينمي ثروتهم اللغوية ويكسبهم أوثق وسيلة وأفيدها لتبلغ أمانة العلم للعامة وتهيئة نفوسهم لقبول الحجة سيما وهي لا تكلف طلابها نفقة ولا عناء .
كما أنها لا تزاحم العربية في الأوقات المخصصة لها لا في المدارس ولا في البيوت وهبها زاحمتها نوعا ما ألم تقرر الحكومات في برامج التعليم الرسمي وجوب تعلم ثلاث أو أربع لغات زيادة على لغتهم القومية ؟ هنا تذكرت بحكم أن الشيئ بالشيئ يذكر العهد المدرسي وما يفتحه أمام التلميذ الساذج من نوافذ على رياض العلوم الغناء وآفاقها المترامية الأطراف , أتذكر أنه لم يمض على يومئذ أكثر من سنة حتى شعرت بما تكنه اللغة الدارجة تحت غطاء عاميتها من وافر الثروة اللغوية وبقي تعلقي بها يتزايد إلى أن صارت عندي بمنزلة ( قاموس سماعي ) – " أعني غير مدون " مازال لي نعم العون على استقراء المواد اللغوية وحفظها .
ومن جال في الأقطار الإسلامية وتتبّع لهجات الحواضر والبوادي بهره ما يتخلل تلك اللهجات من المفردات والأصول اللغوية لذلك كان دأبي تقييد كل ما يلتقطه سمعي من مستملح العبارات ومحاسن الأمثال بعد تحقيق معانيها ومواردها , الأمر الذي حبب إلي التردد على الأندية ومحادثة المحنكين ووعاة الأخبار .
وبقدر ماكان عندي من الشغف بانتجاع مراعي الكلام , بقدر ما كنت أبغض الفهاهة وأستهجن قصور اللسان عن أداء وظيفته عند الإحتياج . فكم حضرت من ولائم ومحافل كنت في جلها أرى صمتاً ثقيلاً سائداً بين الجموع تنظر منهم الأعين ولا تنطق لهم ألسن على كثرة ما في الوقت الحاضر من مواضيع للكلام زيادة عن كون الولائم وسائر المجتمعات هي مظان المحاورات ومظاهر الأنس عادة . وزاد في الطين بلة , وفي الشطرنج بغلة , ما فشا واستفاض بين أكثر الطبقات من خلط الكلام العربي بالعجمي في الموضوع الواحد في البساط الواحد , فنجم عن ذلك خليط لا هو بعربي ولا عجمي ( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) .
وهكذا أصبحنا نرى إلى جانب منافق الإسلام منافقاً آخر هو منافق الكلام . ذلك ما دعاني إلى الإهابة بكم معشر الشباب أن تعيروا لغة أسلافكم وأمتكم شطراً كبيراً من عنايتكم وصادق اهتمامكم , فإن أول نعمة ردفت الخلقة هي نعمة البيان " خلق الإنسان علمه البيان " إيذاناً بأن الاثنين هما الأصلان اللذان يتحقق بهما معنى الحياة . ولئن كان منكم من حيل بينه وبين الفصحى فلا أقل من أن ينال حظه من اللغة الدارجة فإن الرطانة التي تفاحش أمرها في عموم القطر وتشوهت بها الألسن أيما تشويه تركتنا خائفين على لغتنا العامية , ذلك الخيال الباقي من العربية , وهنا سمعت كأن هاتفاً همس في أذني يقول القائل :
كنا إذا جئنا لمن قبلكم // بادر بالترحيب قبل السلام
والآن صرنا حين نأتيكم // نقنع منكم بلذيذ الكلام
لا بدّل الله بكم خشية // من أن يجي من لا يرد السلام
وإلى نباهة القاري أكل استبانة النسبة التي بين الأبيات والموضوع .
( أبو العباس أحمد بن الهاشمي )
البصائر السنة الأولى العدد الثامن 1354 / 1936
بقلم الشيخ أبي العباس أحمد بن الهاشمي الجزائري – رحمه الله –
من المناظر التي تفاجئ ولا تفارق الباحث المتجول في القطر الجزائري ما يشاهده في غالب العنصر الإسلامي من العي في الألسن , والضعف البادي في ملكة الكلام حتى في الأمور الجارية المألوفة . ولا تسأل عمّا إذا دعت مناسبة إلى حكاية قصّة من القصص , أو شرحِ واقعة من الوقائع فهناك ينكشف الستار ويظهر العار وتتجلى للعيان فاقة اللسان وفقده لنصاب الألفاظ الذي لا غنى عنه للتفاهم في الشؤون العامة . ولست أعني التعبير باللغة الفصيحة فتلك – ويا للأسف – خصوصية حكم الزمان بأن تبقى وقفاً على أفراد قليلين , عددهم نتيجة هاتين المقدمتين : درجة حرارة الشعور في الأمّة من جهة , وقوة أو ضعف غيرتها على تراثها الديني والإجتماعي من الجهة من الجهة الأخرى .
هذا على فرض انتفاء المانع وسلامة الطريق من العراقيل , إن مرادي أهون والغرض الذي أرمي إليه لا يخرج عن دائرة مستطاع كل أحد , مرادي التعبير باللغة العاميّة الدّارجة .
كأني بالقارئ وقد أخذ منه العجب مأخذه عند ما يرى جريدة هي لسان حال علماء تنتصر للغة عامية وتنشر الدعاية للترغيب فيها والحث على صرف طرف من الإهتمام في تحصيلها . . على رسلك أيها الأخ ! أعرف حق المعرفة كما يعرف غيري أن جمعية العلماء بحكم تسميتها من شأنها السعي في ترويج لغة العلم – أعني اللغة الفصحى - وتعميم الوسائل الصالحة لنشرها , وجمع القلوب على حبها وأما اللهجة العامية فظاهر الحال يعطي أنها ليست من مشمولات رعاية الجمعية ولا داخلة في ضمن دائرة أعمالها , لكن من نظر إلى المسألة نظرة بحث وتحقيق انكشف له في الحال ما بين الفصحى والعامية من كمال النسبة وعموم الاتصال . ولا إخالني مجازفاً إن قلت أن اللغة العامية عربية الأصل على نسبة ربما لا تقل عن سبعين في المائة , وإنما طرأ عليها - مع توالي السنين - ما طمس بعض معالمها وغطى – بضروب من التغيير - رسمها ! الأمر الذي سلبها حلتها الأولى وأبدلها منها ثوب العامية يشهد لهذا أن أخف البحث كاف للتيقن من أن لحمتها وسداها من جنس لحمة وسدى أمّها الفصحى ولا بدع ولا غرابة فإن تاريخ اللغات دلنا على أنه طرأ على اللاتينية نفس الذي نقوله الآن عن العربية فتولد عنها هي أيضاً إلى جانب لغة العلم لغة عامية أطلق عليها اسم ( اللاتينة المنحطة ) فأنت ترى ما بين هذه التسمية وبين لفظة ( العامية ) عندنا كمال المماثلة , وكيفما كان الحال فإنه لا سبيل إلى إنكار أنها أحد مظاهر حياة الأمة العظام ضروة انها الوسيلة العامة للتفاهم بين سائر الطبقات فلو لم يقم بها إلا هذا الوصف لاستحقت أن تكون محل عناية العموم وعلى الأخص طلبة العلم فإنهم يجدون فيها مرعى خصبا ينمي ثروتهم اللغوية ويكسبهم أوثق وسيلة وأفيدها لتبلغ أمانة العلم للعامة وتهيئة نفوسهم لقبول الحجة سيما وهي لا تكلف طلابها نفقة ولا عناء .
كما أنها لا تزاحم العربية في الأوقات المخصصة لها لا في المدارس ولا في البيوت وهبها زاحمتها نوعا ما ألم تقرر الحكومات في برامج التعليم الرسمي وجوب تعلم ثلاث أو أربع لغات زيادة على لغتهم القومية ؟ هنا تذكرت بحكم أن الشيئ بالشيئ يذكر العهد المدرسي وما يفتحه أمام التلميذ الساذج من نوافذ على رياض العلوم الغناء وآفاقها المترامية الأطراف , أتذكر أنه لم يمض على يومئذ أكثر من سنة حتى شعرت بما تكنه اللغة الدارجة تحت غطاء عاميتها من وافر الثروة اللغوية وبقي تعلقي بها يتزايد إلى أن صارت عندي بمنزلة ( قاموس سماعي ) – " أعني غير مدون " مازال لي نعم العون على استقراء المواد اللغوية وحفظها .
ومن جال في الأقطار الإسلامية وتتبّع لهجات الحواضر والبوادي بهره ما يتخلل تلك اللهجات من المفردات والأصول اللغوية لذلك كان دأبي تقييد كل ما يلتقطه سمعي من مستملح العبارات ومحاسن الأمثال بعد تحقيق معانيها ومواردها , الأمر الذي حبب إلي التردد على الأندية ومحادثة المحنكين ووعاة الأخبار .
وبقدر ماكان عندي من الشغف بانتجاع مراعي الكلام , بقدر ما كنت أبغض الفهاهة وأستهجن قصور اللسان عن أداء وظيفته عند الإحتياج . فكم حضرت من ولائم ومحافل كنت في جلها أرى صمتاً ثقيلاً سائداً بين الجموع تنظر منهم الأعين ولا تنطق لهم ألسن على كثرة ما في الوقت الحاضر من مواضيع للكلام زيادة عن كون الولائم وسائر المجتمعات هي مظان المحاورات ومظاهر الأنس عادة . وزاد في الطين بلة , وفي الشطرنج بغلة , ما فشا واستفاض بين أكثر الطبقات من خلط الكلام العربي بالعجمي في الموضوع الواحد في البساط الواحد , فنجم عن ذلك خليط لا هو بعربي ولا عجمي ( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) .
وهكذا أصبحنا نرى إلى جانب منافق الإسلام منافقاً آخر هو منافق الكلام . ذلك ما دعاني إلى الإهابة بكم معشر الشباب أن تعيروا لغة أسلافكم وأمتكم شطراً كبيراً من عنايتكم وصادق اهتمامكم , فإن أول نعمة ردفت الخلقة هي نعمة البيان " خلق الإنسان علمه البيان " إيذاناً بأن الاثنين هما الأصلان اللذان يتحقق بهما معنى الحياة . ولئن كان منكم من حيل بينه وبين الفصحى فلا أقل من أن ينال حظه من اللغة الدارجة فإن الرطانة التي تفاحش أمرها في عموم القطر وتشوهت بها الألسن أيما تشويه تركتنا خائفين على لغتنا العامية , ذلك الخيال الباقي من العربية , وهنا سمعت كأن هاتفاً همس في أذني يقول القائل :
كنا إذا جئنا لمن قبلكم // بادر بالترحيب قبل السلام
والآن صرنا حين نأتيكم // نقنع منكم بلذيذ الكلام
لا بدّل الله بكم خشية // من أن يجي من لا يرد السلام
وإلى نباهة القاري أكل استبانة النسبة التي بين الأبيات والموضوع .
( أبو العباس أحمد بن الهاشمي )
البصائر السنة الأولى العدد الثامن 1354 / 1936