الفعل تعريفه وَأقسامُهُ وأبوابُه - صَلاح الدين الزعبَلاوي
تشعبت أقوال النحاة في تعريف الفعل، وتباينت مذاهبهم في اعتماد الحد الذي يعقد عليه هذا التعريف، كما اختلفت كلمتهم في تقسيمه بين البصرية والكوفية. ولابد من بسط الكلام على هذا كله، قبل المضي في البحث عن أبوابه.
تعريف الفعل
أقدم ما بلغنا في تعريف الفعل مقالة سيبويه (183هـ)، في الكتاب. قال سيبويه في (باب علم ما الكلمُ من العربية ـ 2، 1): "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع"، وأردف: "فأما بناء ما مضى فذهب وسمع ومُكث وحُمد، وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمراً: اذهب واقتل واضرب، ومخبراً: يقتل ويذهب ويضرب ويُقتل ويُضرب، وكذلك بناء مالم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت"، وختم كلامه فقال: "فهذه الأمثلة التي أخذت من لفظ أحداث الأسماء، ولها أبنية كثيرة، ستبين إن شاء الله".
*تعريف الفعل بالمثال:
ونلحظ أن هذا التعريف إنما عقد على حد (المثال) إذ قال: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء". فالفعل، كما جاء، أمثلة اشتقت من لفظ أحداث الأسماء، أي المصادر. قال سيبويه: "الأحداث نحو الضرب والقتل والحمد". فمن هذه الأمثلة ما اشتق لما مضى، وهو الفعل الماضي، وما اشتق لما يكون ولم يقع، وهو فعل الأمر، وثالث اشتق لما هو كائن لم ينقطع، وهو المضارع، وكل مثال من هذه الأمثلة قد صيغ لزمن من الأزمنة.
وممن جرى على منهاج سيبويه هذا في تعريف الفعل فاتخذ (المثال) حداً في التعريف كبير نحاة الأندلس أبو بكر محمد بن الحسن الزُبيدي الإشبيلي الأندلسي (379هـ). وقد عُرف نحاة الأندلس بسلوك طرائق النحاة المشارقة في كثير مما كتبوه في اللغة والأدب، وقد يستدركون عليهم شيئاً مما حققوه. فألَّف الزبيدي مختصر كتاب العين للخليل بن أحمد، وطبقات النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس، وكتاب الواضح في العربية. وقد عكف على (الكتاب) مؤلف سيبويه فثقفه ومهره وأحصى مسائله واستقرى دقائقه، لكنه استدرك عليه بعض ما جاء فيه، في كتابه (الأبنية)، قال الزبيدي في كتاب الواضح: "اعلم أن جميع الكلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. فالاسم.. والفعل قولك: ضرب وخرج وانطلق، ويضرب ويخرج، واضرب و اسمع، وما أشبه هذا"، فلم يزد في تعريف الفعل على أن جاء بأمثلة منه للماضي والمضارع والأمر.
*تعريف الفعل بإحدى دلالتيه الزمن وبدلالتيه الحدث والزمن:
ومن النحاة من اتخذ في تعريف الفعل حد الزمن وحده. فالفعل ما اقترن بزمن والاسم مالم يقترن به. ويُعترض على هذا بأن الزمن واحد من دلالتي الفعل، فقد وضع الفعل ليدل على معنى، الزمن جزء منه، كما وضع الاسم ليدل على معنى، ليس الزمن جزءاً منه. وأقدم تعريف اتخذ مثل هذا الحد، هو ما جاء به الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة (189هـ). فقد روي عن الكسائي أنه قال: "الفعل ما دل على زمان"، كما ذكره الدكتور الساقي في كتاب (أقسام الكلام العربي،69).
والكسائي إمام الكوفيين في النحو واللغة وأحد القراء السبعة.
وقد حذا هذا الحذو أبو الحسن بن كيسان (299هـ)، فقد حكي عنه قوله: "الفعل ما كان مذكوراً لأحد الزمانين: إما ماضٍ أو مستقبل، والحد بينهما"، كما أشار إليه الدكتور الساقي في كتابه (أقسام الكلام العربي،69). وابن كيسان أحد العلماء البغداديين الذين أخذوا النحو عن إمام البصريين المبرّد أبي العباس محمد بن يزيد (285هـ)، وإمام الكوفيين ثعلب أبي العباس أحمد بن يحيى (291هـ). فكان بصرياً كوفياً.
وإذا كان الكسائي وابن كيسان قد عرّفا (الفعل) بالزمن فوصفاه بأحد دلالتيه، فقد عمد النحاة بعدهما إلى إحكام تعريفه فوصفوه بدلالتيه (الحدث والزمن). وأقدم ما جاء من ذلك في تعريف الفعل، ما قاله أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (337هـ)، في كتابه الإيضاح: "الفعل على أوضاع النحويين ما دل على حدث وزمان ماضٍ أو مستقبل نحو قام يقوم،53". وذكر ذلك في كتاب (الجمل،17). أيضاً. والزجاجي ممن جمعوا علم الكوفة إلى علم البصرة، وقد كان إلى البصرية أميل، لكنه لم يتعصب لأحد المذهبين فيحاكي بغير دليل أو يتابع بغير حجة.
ونهج الفارسي أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار (377هـ). نهج الزجاجي في التعريف فقال: "كل لفظة دلت على معنى مقترن بزمان محصل". ولما وصف المعنى باقترانه بالزمان تحقق أنه الحدث، وفي إشارته إلى اقتران الحدث بزمان محصل زيادة في الإحكام. والفارسي كما هو معروف علم من أعلام البصرة والقياس. ومن مؤلفاته الإيضاح والتكملة والتذكرة وسواها.
وجرى النحاة بعد الفارسي على هذه السنة في التعريف فقال جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (538هـ)، في كتابه (المفصل، 243): "الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان". والزمخشري من أئمة القياس بعد الفارسي وابن جني، وهو صاحب المفصل والكشاف.
وعلى ذلك كلام ابن الحاجب في الكافية (646هـ)، إذ قال: "الفعل ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة". وقد عقب على هذا شارح الكافية الإمام عبد الرحمن محمد الجامي (897 هـ)، فقال: "ولما وصف ذلك المعنى باقترانه بالزمان تعين أن يكون المراد به الحدث". وابن الحاجب هو أبو عمرو عثمان بن عمر. وقد صنف في النحو الكافية وشرحها، وشرح (المفصل) بكتابه (الإيضاح)، كما صنف في الصرف كتابه (الشافيه).
وهكذا فعل الإمام الرضي في شرحه لكافية ابن الحاجب، إذ قال: "إن هذا اللفظ الدال على معنى مفرد أعني الكلمة، إما أن يدل على معنى في نفسه أو على معنى لا في نفسه، الثاني الحرف... والأول أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها إما أن تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة أولاً، الثاني الاسم... والأول الفعل أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة...،7". والرضي هو الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاسترباذي(686هـ).
ولا ننسى الإمام ابن عقيل عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله (769هـ)، شارح ألفية ابن مالك، محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي (672هـ)، إذ قال: "الكلمة إما اسم وإما فعل وإما حرف، لأنها إن دلت على معنى في نفسها غير مقترن بزمان فهي الاسم، وإن اقترن بزمان فهي الفعل، وإن لم تدل على معنى في نفسها بل في غيرها فهي الحرف".
أما ابن مالك فقد عرّف الفعل في شرح التسهيل بدلالتيه الحدث والزمان المعين، كما عرّفه في تسهيله وشرحه بشأنه في الإسناد، بل عرَّفه في ألفيته بعلاماته أيضاً، كما سنراه.
ولم يخرج السيوطي الإمام الحافظ جلال الدين بن عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ)، في كتابه (همع الهوامع،4)، عما جاء به ابن الحاجب في الكافية والجامي والرضي في شرح الكافية، وابن عقيل في شرحه للألفية. ومضى سائر المتأخرين من النحاة على هذا النهج حتى القرن الرابع عشر الهجري.
فقد ثبت بما تقدّم أن النحاة قد نحوا منذ القرن الرابع الهجري إلى تعريف الفعل بدلالتيه الحدث والزمان. وقد اهتدوا إلى ذلك بطبيعة الحال باستقراء مواضع استعمال الفعل العربي في مختلف نصوصه شعراً ونثراً. ولا يعني هذا بالطبع أن أسلافهم قد قصدوا في تعريف الفعل إلى إغفال هاتين الدلالتين وكل ما في الأمر أن كل جماعة قد اتجه اهتمامها إلى صفة أو أكثر من صفات الفعل، أو خاصة أو أكثر من خواصه، أو استرعى نظرها شأن من شؤونه في بناء الجملة، فأبرزت ذلك في تعريفها له.
فقد قال سيبويه في تعريف الفعل مثلاً أنه أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى ولما يكون، ومادام الفعل قد اشتق من لفظ الأحداث، أي المصادر، وبُني لما مضى ولما يكون فقد اقترن معناه هذا بالزمان فتعيّن بذلك أن يدل على الحدث والزمان جميعاً.
ولا ننسى أن سيبويه قد أشار في تعريفه هذا إلى مذهب البصريين في اشتقاق الفعل من المصدر، فالمصدر هو الأصل والفعل هو الفرع، خلافاً للكوفيين الذين اعتدوا الفعل هو الأصل. وقد استوفى أبو البقاء العكبري عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين الإمام محب الدين (616هـ)، شرح مذهب البصرية هذا. قال السيوطي في (الأشباه والنظائر ـ 1، 128): "قال أبو البقاء في التبيين: الدليل على أن الفعل مشتق من المصدر طرق، منها: وجود حد الاشتقاق في الفعل، وذلك أن الفعل يدل على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقاً وفرعاً على المصدر... وتحقيق هذه الطريقة أن الاشتقاق يُراد لتكثير المعاني، وهذا المعنى لا يتحقق إلا في الفرع الذي هو الفعل، وذلك أن المصدر له معنى واحد، وهو دلالته على الحدث فقط، ولا يدل على الزمان بلفظه، والفعل يدل على الحدث والزمان المخصوص، فهو بمنزلة اللفظ المركب فإنه يدل على أكثر مما يدلّ عليه المفرد، ولا تركيب إلا بعد الإفراد، كما أنه لا دلالة على الحدث والزمان المخصوص إلا بعد الدلالة على الحدث وحده..."، وأردف: "وطريقة أخرى وهي أن تقول: الفعل يشتمل لفظه على حروف زائدة على حروف المصدر، تدل تلك الزيادة على معاني زائدة على معنى المصدر، فكان مشتقاً من المصدر... ومعلوم ما لا زيادة فيه أصل لما فيه الزيادة...". والعكبري هو صاحب اللباب في علل البناء والإعراب، ومؤلف الإعراب عن علل الإعراب، والبيان في إعراب القرآن، وإعراب الحديث النبوي وسواها. وهو من مصنفاته النحوية محيط بآراء أئمة النحو. وقد أخذ بآراء البصرية عن بيّنة وساق أدلّتهم وحججهم وقام بشرح كثير من مصنفاتهم.
وممن عرّف الفعل بدلالتيه الحدث والزمان أبو حيان الأندلسي أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن علي بن يوسف، فقال: "إنه ـ أي الفعل ـ يدل على الحدث بلفظه وعلى الزمان بصيغته". كما حكاه السيوطي في الاقتراح (ص،10)، وقد أشار ابن جني (392هـ) إلى هذا في الخصائص (3، 98)، فقال: "ألا ترى إلى ـ قام ـ ودلالة لفظه على مصدره، ودلالة بنائه على زمانه، ودلالة معناه على فاعله، فهذه ثلاث دلائل من لفظه وصيغته ومعناه". فأوحى كلامه هذا بأن تعريف الفعل بدلالتيه أدنى إلى علم الصرف الذي يبحث بنية الكلمة فيعنى بالمفردات من حيث صورها وهيآتها، على حين جاء تعريف الفعل بشأنه في الإسناد، كما سنرى، أدنى إلى علم النحو الذي يُعنى ببناء الكلام وتأليفه فيتناول الإسناد أي نسبة كل من عنصري الجملة اسمين كانا أو اسماً وفعلاً أحدهما إلى الآخر، حقيقة وحكماً. أوليس الإسناد ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفي عنه؟.. وقد قصد بما يجري مجرى الكلمة الجملة الواقعة خبراً عن مبتدأ. قال الشريف علي بن محمد الجرجاني في تعريفه: "الإسناد في عرف النحاة عبارة عن ضم إحدى الكلمتين إلى الأخرى على وجه الإفادة التامة، أي على وجه يحسن السكوت عليه، وفي اللغة إضافة الشيء إلى الشيء ،14".
*تعريف الفعل بشأنه في الإسناد:
نحا النحاة في القرن الرابع الهجري نهجاً آخر في تعريف الفعل فعرَّفوه بملاحظة ماله من شأن في الإسناد. فالاسم في بناء الجملة ما يسند ويسند إليه، أي يخبر به ويخبر عنه، والفعل ما يسند ولا يسند إليه أي يخبر به ولا يخبر عنه، أما الحرف فما لا يسند ولا يسند إليه.
وأقدم تعريف اعتمد هذا الحد، في تعريف عناصر الجملة الثلاثة الاسم والفعل والحرف وتمييز أحدهما من الآخر، هو أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السرّاج (316هـ). فعلى حين نهج في كتابه (الخط) نهج سيبويه في التعريف، فقال: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم مثل رجل وفرس و الفعل مثل جلس يجلس، و الحرف نحو من وحتى والباء في قولك: مررت بزيد، واللام في قولك: لزيد مال..". فقد نهج في كتابه (الموجز) نهجاً طريفاً فقال: "والفعل ماكان خبراً، ولا يجوز أن يخبر عنه"، وأبو بكر هذا قد أخذ النحو واللغة عن المبرَّد أبي العباس محمد بن يزيد، وإليه انتهت رسالة النحو بعد موت الزجاج أبي إسحاق (311هـ)، ولأبي بكر عدة مؤلفات منها (الخط) و(الأصول) وموجزه، وقد خالف فيها البصريين في مسائل كثيرة.
وحذا هذا الحذو في تعريف الفعل شيخ نحاة الأندلس أبو علي عمر بن محمد الإشبيلي المعروف بالشلوبين (645هـ)، فقد حكي عنه قوله: "وأيضاً فإن الاسم يخبر به ويخبر عنه، والفعل لا يكون إلا مخبراً به، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه". كما جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي (1، 119)، وللشلوبين كتاب في التعليق على كتاب سيبويه، وآخر في النحو سمَّاه التوطئة
وقد شاع نحو من هذا التعريف عند كثير من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى الشرق، ومنهم محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي (672هـ)، وقد نسب إلى (جيَّان) الأندلسية وهي تقع إلى الشرق من قرطبة. ولد ابن مالك في هذه البلدة وانتقل إلى دمشق وتوفي فيها. وقد صاغ في (النحو) ألفيته التي نظمها وسماها بالخلاصة، وذاع صيتها وكثر شراحها، ومن هؤلاء الشراح ابن الناظم بدر الدين بن محمد بن عبد الله بن مالك (686هـ)، وقد جاء في شرح التسهيل لابن مالك قوله: "الكلمة إن لم تكن ركن الإسناد فهي الحرف، وإن كانت ركناً له فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي اسم، وإلا فهي فعل".
وقال الإمام بدر الدين في شرحه للألفية: "الكلمة إما أن يصح أن تكون ركناً للإسناد أولا، الثاني: الحرف، والأول: إما أن يصح أن يسند إليه أولا، الثاني الفعل والأول الاسم".
وجرى على ذلك شرّاح الألفية فقال علي بن محمد بن عيسى أبو الحسن الأشموني (نحو 900 هـ): "إن الكلمة إما أن تصلح ركناً للإسناد أو لا، الثاني الحرف، والأول إما أن يقبل الإسناد بطرفيه أو بطرف، الأول الاسم والثاني الفعل"، ولا يخرج كلامه هذا عما جاء به ابن الناظم الإمام بدر الدين. وقد أردف الشيخ الأشموني يقول:"والنحويون مجمعون على هذا، إلا من لا يعتدَّ بخلافه. وقد أرشد بتعريفه إلى كيفية تألف الكلام من الكلم بأنه ضم كلمة إلى كلمة فأكثر على وجه تحصل منه الفائدة...".
ولاشك أن تعريف الفعل بشأنه في الإسناد كان ثمرة البحث في الجملة المفيدة وما تنطوي عليه من مسند إليه أو مخبر عنه، ومن مسند أو مخبر به، ومن إسناد أو ارتباط للمسند بالمسند إليه ووقوع النسبة بينهما. ولا ريب أن هذا البحث في حقيقة أمره جزء لا ينفك عن مادة النحو، ولو غدا تفصيل القول في أحوال الإسناد والمسند إليه، والمسند، من خصائص علم المعاني الذي عقد موضوعه على البحث في أحوال التراكيب العربية، ويعد الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ)، صاحب الرسالة الشافعية في الإعجاز ودلائل الإعجاز، أول واضع لهذا العلم.
*تعريف الفعل بعلاماته:
وقد عمد بعض أئمة القرن الرابع الهجري إلى تعريف الفعل بما يختص به من علامات يتميز بها من الاسم والحرف. وأقدم من نحا هذا النحو الإمام ابن جني أبو الفتح عثمان (392هـ)، وابن جني أعلم أهل عصره بالنحو والتصريف، وقد تلمذ لأبي علي الفارسي خاصة، وله في الصرف كتب كثيرة، منها اللمع في التصريف، والمنصف في شرح تصريف المازني، والتصريف الملوكي، عدا ما جاء في كتابيه النفيسين: سر صناعة الإعراب والخصائص، مما يتصل بهذا العلم. وقد جاء في كتاب اللمع قوله: "والفعل ما حسن فيه قد، أو كان أمراً، فأما قد فنحو قولك: قد قام وقد قعد، وقد يقوم وقد يقعد، وكونه أمراً نحو قم واقعد". وكتاب اللمع كتاب مشهور عمد كثير من الأئمة إلى شرحه، ومن هؤلاء الثمانيني أبو القاسم عمر بن ثابت (442 هـ)، ومنهم ابن الشجري أبو السعادات هبة الله بن علي (542هـ)، كما شرح كتاب (التصريف الملوكي). ومنهم ابن الدهان أبو محمد سعيد بن المبارك البغدادي (569هـ)، وقد أسماه الغرَّة، ومنهم محب الدين أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (616هـ)، وقد أسماه (المتبع في شرح اللمع).
وقد حذا هذا الحذو في التعريف ابن مالك (672هـ)، فقد عرَّف الكلام وما يتألف منه في متن (ألفيته) فقال:
كلامُنا لفظ مفيد كاستقم
واسم فعل ثم حرف الكلم
وميز الاسم من الفعل والحرف فقال:
بالجرِّ والتنوين والندا وأل
ومسند للاسم تمييز حصل
وميَّز الفعل فقال:
بتا فعلتَ وأتتْ ويا افعلي
ونون اقبلنَّ فعلٌ ينجلي
فذكر من علامات الفعل: تاء الفاعل وتاء التأنيث الساكنة وياء المخاطبة ونون التوكيد. ودرج ابن أجروم محمد بن داود الصنهاجي(722هـ)، على هذا في مقدمته المشهورة المعروفة بالأجرومية، فقال: "والفعل يعرف بقد والسين وسوف وتاء التأنيث الساكنة".
وهكذا فعل الإمام أبو محمد جمال الدين بن يوسف... ابن هشام الأنصاري المصري (761هـ)، في كتابه أوضح المسالك، فذكر من علامات الاسم الجر والتنوين والنداء و(أل) غير الموصولة، كما عدَّد من علامات الفعل تاء الفاعل، وتاء التأنيث الساكنة، وياء المخاطبة ونون التوكيد، كما جاء في متن الألفية. وقد ذكر ابن هشام في كتابه (قطر الندى) نحواً من هذا، مقترناً بشيء من التفصيل إذ قال: "وأما الفعل فثلاثة أقسام ماضٍ ويعرف بتاء التأنيث الساكنة، وبناؤه على الفتح كضرب، إلا مع واو الجماعة فيضم كضربوا أو الضمير المرفوع المتحرك فيسكن كضربت... وأمر ويعرف بدلالته على الطلب مع قبوله ياء المخاطبة... ومضارع ويعرف بلم وافتتاحه بحرف من حروف أنيت، ويسكن مع نون النسوة... ويفتح مع نون التوكيد...".
وقد قام الشيخ خالد الأزهري (905هـ)، يشرح كتاب (أوضح المسالك)، وجرى عليه في متن (أزهريته) فقال: "وعلامة الفعل قد، نحو قد قام زيد وقد يقوم، والسين نحو سيقول، وتاء التأنيث الساكنة نحو قامت، وياء المخاطبة مع الطلب نحو قومي". وقد أقرَّ ذلك بالشرح الوافي الشيخ حسن بن محمد العطار الشافعي المصري الأزهري (1250هـ)، وله حاشية على الأزهرية، وعلى جمع الجوامع كتاب الإمام السيوطي.
ولاشك أن من نهج في تعريف الفعل هذا النهج، فميزه من الاسم والحرف بعلامات فارقة، إنما سلك في ذلك الطريقة التعليمية التي يأخذ بها المصنفون حيناً لترسيخ سمات الشيء في ذهن الدارس، وهي لا تعني أكثر من تعقب الفعل في مواضع استعماله المختلفة واستقراء ما يتصل به فيها من أداة سابقة له أو لاحقة.
أزمنة الفعل
مرَّ بنا في تعريف سيبويه للفعل في (الكتاب ـ 1، 2). قوله: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع"، وقد شرح قوله هذا فقال: "فأما بناء ما مضى فذهب...". فقضى بأن أول أزمنة الفعل هو الماضي. وأردف: "وأما بناء مالم يقع فإنه قولك أمراً: اذهب واقتل، ومخبراً: يقتل ويذهب". فأنبنى على هذا أن ثاني الأزمنة عند سيبويه هو المستقبل أمراً كان أو مضارعاً. ومضى يقول: "وكذلك بناء مالم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت". أي وكذلك يقتل أو يذهب إذا بني للحال فهو كائن لم ينقطع، فأزمنة الفعل عند سيبويه إذاً ثلاثة: ماض ومستقبل يكون أمراً أو مضارعاً دالاً على الآتي، ومضارع أي حال مستمر. وقد جرى النحاة على هذا فالفعل عندهم ماض ومضارع للحال أو الاستقبال، وأمر مخصص بالاستقبال.
*الرأي في قسمة الفعل إلى ماض ومضارع وأمر:
لا خلاف بين الأئمة على جريان الفعل على الماضي والمضارع. فالفعل الماضي ما دلَّ على معنى مقترن بالزمان الماضي، والمضارع ما دلَّ على معنى مقترن بزمان يحتمل الحال والاستقبال. أما جريان الفعل على (الأمر) ففيه نظر.
ذلك أن الفعل يدل على الحدث مقترناً بزمان، فهل الأمر مقترن بزمان؟...
أقول (الأمر) صيغة يطلب بها الفعل من الفاعل، فهو صيغة إنشاء طلبي يراد بها طلب القيام بالفعل. فالكلام إما خبر وإما إنشاء. فالخبر قولك كتب زيد ويكتب عمرو. ففي الجملة ها هنا إسناد خبري مقترن بزمان. أما قولك اكتب فهو إسناد إنشائي غير مقترن بزمان فأنت تطلب من المخاطب القيام بفعل الكتابة ولا تخبره بحدث الكتابة مقترناً بزمان. فإذا استجاب المخاطب قامت استجابته فيما يستقبل من الزمان.
وإن شئت التفصيل قلت إن معنى (الأمر) غير مقترن بزمان، لأنه لا يخبر بحدث، وإنما المقترن بزمان هو تلفظك به، أي قولك (أكتب) فهو يجري في الحاضر، وكذلك الاستجابة للأمر إذا حدثت فإنها تجري في المستقبل.
وطبيعي أن يكون المعوَّل في الحكم على (الأمر) هو دلالته، لا التلفظ به، وكذلك فعل علماء الأصول، إذا قضوا أن (الأمر) هو طلب الفعل أي طلب القيام به وليس الفعل، أي وليس التلفظ به، قال ابن العيني زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، في شرح كتاب (المنار) لابن الملك: "ومنه أي من الخاص الأمر لأنه وضع لمعنى معلوم على انفراد، وهو طلب الفعل"، ويمضي في الشرح فيقول: "وخرج بالقول، أي بتعريف ابن الملك، الفعل"، أي خرج بالتعريف أن يكون (الأمر) هو الفعل، أي التلفظ به، لأنه طلب الفعل، أي طلب القيام به.
*أزمنة الفعل عند ابن يعيش:
قال موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش الحلبي (643هـ)، في شرح كتاب (المفصل)، للزمخشري (ج2، ص7): "لما كانت الأفعال مساوقة للزمان، والزمان من مقومات الأفعال، توجد عند وجوده، وتنعدم عند عدمه، انقسمت بأقسام الزمان، ولما كان الزمان ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل، وذلك من قبل أن الأزمنة حركات الفلك، فمنها حركة مضت، ومنها حركة لم تأت بعد، ومنها حركة تفصل بين الماضية والآتية، كانت الأفعال كذلك ماض ومستقبل وحاضر. فالماضي ما عدم بعد وجوده، فيقع الإخبار عنه في زمان بعد زمان وجوده، وهو المراد بقوله: الدال على اقتران حدث بزمان قبل زمانك، أي قبل زمان إخبارك، ويريد بالاقتران وقت وجود الحدث، لا وقت الحديث عنه، ولولا ذلك لكان الحد فاسداً... والمستقبل مالم يكن له وجود بعد، بل يكون زمان الإخبار عنه قبل زمان وجوده. وأما الحاضر فهو الذي يصل إليه المستقبل، ويسري منه الماضي، فيكون الإخبار عنه هو زمان وجوده".
فالذي أراده ابن يعيش، أن الفعل مادام مقترناً بزمان، والأزمنة ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل، فالفعل كذلك: ماض وحاضر ومستقبل. لكنه حين قسم الفعل اتبع فيه القسمة الشائعة المعروفة عند النحاة فقال: الفعل ماض ومضارع وأمر، فأين (الأمر) من قسمة الأزمنة أو الأفعال هذه؟...
*ما القول في فعل الأمر:
كلام ابن يعيش على أزمنة الفعل لا يدع للأمر مكاناً في قسمة الأزمنة بل الأفعال. فالماضي إنما يقع الإخبار عنه بعد زمان وجوده، والمستقبل إنما يقع الإخبار عنه قبل زمان وجوده. أما الحاضر فيخبر عنه زمان وجوده. وهذا يعني أن الفعل الماضي يخبر به عن الحدث الفائت بعد زمان وجوده. ويخبر بالفعل الآتي قبل زمان الحدث الآتي: ويخبر بالفعل الحاضر زمن وقوع حدثه. فالفعل إنما يخبر به عن الأحداث الجارية في هذه الأزمنة الثلاثة.
أما (الأمر) فليس مما يخبر به، في الأصل، لأنه صيغة إنشاء، لا إخبار، فلا يصح فيه إذاً حد الفعل.
ومن ثم أشكل على النحاة مجيء خبر المبتدأ جملة إنشائية، لأن الإنشاء لا يخبر به، فذهب قوم إلى صحة الإخبار بها على تأويل صفة، فإذا قيل: زيد اضربه، كان كأنه قيل: زيد مطلوب ضربه. والتزم ابن السرَّاج تقدير قول محذوف قبلها، أي زيد أقول لك اضربه. وذهب ابن الأنباري إلى امتناع الإخبار به مطلقاً وتبعه قوم من النحاة... أما الجملة الخبرية فالإخبار بها هو الأصل الشائع الكثير، وهي إما اسمية نحو زيد أبوه قائم أو فعلية نحو زيد قام أبوه.
*الزجاجي وقسمة الفعل بحسب أزمنته:
الزجاجي أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق(337هـ)، من علماء بغداد الذين أخذوا من البصرية ومن الكوفية. فما الذي قاله في قسمة الفعل بحسب أزمنته؟...
قال الزجاجي في كتابه (الجمل): "الفعل ما دل على حدث وزمان ماض أو مستقبل، نحو قام يقوم وقعد يقعد، وما أشبه ذلك،17". ولا يعني هذا أن الزجاجي قد أسقط من حسابه (الحال)، فقد ذكر في مواضع آخر من كتابه: "الأفعال ثلاثة: فعل ماض وفعل مستقبل" وأردف:"وفعل في الحال يسمى الدائم"، فجعل (الحال) بين الماضي الذي فات حدثه قبل التلفظ به، والمستقبل الذي ينتظر حدثه بعد التلفظ به. ولاشك أنه تابع في وصف (الحال) بالدائم أمام الصناعة. قال سيبويه في (الكتاب): "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع". فالفعل الذي هو كائن لم ينقطع إذا أخبرت به، عند سيبويه، هو الفعل الدائم أو المستمر عند الزجاجي.
والزجاجي إذا كان ممن أعجب بسيبويه، فإنه لم يشايعه في كل ما ذهب إليه. ومن ذلك أنه لم يجعل للأمر حيزاً في أقسام الفعل خلافاً لسيبويه حين قال: "وأما بناء مالم يقع فإنه قولك أمراً: اذهب واقتل واضرب".
وقد تعجب لِمَ عوَّلَ الزجاجي على (الماضي والمستقبل)، حيناً دون (الحال)، والشائع عند النحاة أن صيغة المضارع للحال والاستقبال، وهي للحال أخص، لأنها تستعمل في الحال بغير قرينة وفي الاستقبال بقرينة (السين وسوف)؟.. أقول عمد الزجاجي إلى الاكتفاء حيناً بذكر (المستقبل)، دون (الحال) لأنه اعتد (المستقبل)، أسبق الأفعال، فقد قال في كتابه (الإيضاح ،85): "اعلم أن أسبق الأفعال في التقدم: الفعل المستقبل لأن الشيء لم يكن ثم كان، والعدم سابق... ثم يصير في الحال ثم يصير ماضياً... فأسبق الأفعال في المرتبة: المستقبل، ثم فعل الحال، ثم فعل الماضي". وهذا ما حمله أن يستغني حيناً بذكر الماضي والمستقبل، لاسيما وأن (الحال) لا ينفرد ببناء خاص دون المستقبل.
على أن تذرع الزجاجي بالمنطق في تعليل الأحكام اللغوية وتحقيقها ها هنا، ليس مما يعوّل عليه، فلهذه الأحكام معايير أخرى. والزجاجي، مع ذلك، لا يوغل في التعليل الجدلي إيغال كثير من النحاة، كابن الشجري هبة الله أبي السعادات (542هـ)، وابن الأنباري أبي البركات كمال الدين بن عبد الرحمن (577هـ).
*الكوفيون وأزمنة الفعل:
إذا كان البصريون قد ذهبوا في قسمة الفعل بحسب أزمنته إلى ماض ومضارع وأمر، فقد نحا الكوفيون في ذلك منحى آخر قسموا به الفعل إلى ماض ومضارع أو مستقبل، ولم يجعلوا (الأمر) قسماً ثالثاً، وإنما جعلوه فرعاً على المضارع، وتصوروا أنه مقتطع منه.
قالوا: قد دخلت على المضارع لام الأمر فقيل (لتفعل) ثم حذفت اللام وتاء المضارة لكثرة الاستعمال، فآل قولك (لتفعلْ)، إلى قولك (افعلْ). ولا يخفى ما في تصور الكوفييين هذا من تكلّف واضح اعتدوا فيه الاحتمال بمنزلة الحقيقة الثابتة، ولا يتساوى في المعنى قولك (افعل) وقولك (لتفعل)، ولو كانا صيغتين للأمر.
وقد تذرّع الكوفيون بمذهبهم هذا في (الأمر) ليعللوا بذلك الوجه في إعرابه، خلافاً للبصريين الذين قالوا ببناء فعل الأمر، على الأصل، فالبناء عندهم أصل في الأفعال مالم تضارع الأسماء، والأمر لا يضارعها كما يضارع ما أسموه بفعل (المضارع). ذلك أن النحاة قد قضوا بإعراب الأسماء وعللوا ذلك باختلاف معانيها النحوية، فإن للمعاني التي يكتسبها الاسم في التركيب دلالات تكشف عنها مواقعه فيه، فاعلة أو مفعولة أو مضافاً إليها، وليس لصور هذه الأسماء أو أبنيتها علاقة بهذه المعاني، وقد جاءت حركات الإعراب لتكشف عن المعاني النحوية هذه، ولو لم تنفرد في هذا الكشف إذ شاركتها فيه الأدوات الداخلة في التركيب، ولذا سميت هذه الأدوات بحروف المعاني.
وقد أغنى الإعراب أن يلتزموا في التركيب تقديم فاعل أو تأخير مفعول، فاتسعوا في الكلام وتصرّفوا فيه بتقديم وتأخير، فضمنوا بذلك حسن الأداء ودقة التعبير واستجابوا بهذا لضرورات الشعر والسجع، ولو لم يطلقوا العنان لتصرّفهم هذا، إذا لم يستجيزوا التقديم والتأخير في كل موضع. ونجم عن هذا، على كل حال، أنه لم يُغنهم في الكشف عن المعاني النحوية لزوم الرتبة بتقديم الفاعل وتأخير المفعول، كما توجبه اللغات غير المعربة.
وانفرد الكوفيون فأضافوا في تعليل إعراب الاسم إلى اختلاف معانيه النحوية في التركيب، اختلاف معانيه اللغوية في الأصل، قبل التركيب.
وهكذا قال النحاة بإعراب المضارع مالم تتصل به نون التوكيد المباشرة أو نون النسوة، وعللوا إعرابه باختلاف المعاني عليه، كما اختلفت على الأسماء، فثمة فارق في المعنى بين المضارع مرفوعاً ومجزوماً ومنصوباً. وقد استوجب اختلاف المعاني اختلاف الحركات واختلاف الأداة، وهكذا أتت حركة الإعراب لتنبه على المعنى الذي حملته الأداة.
وهكذا قسّم الكوفيون الفعل إلى ماض ومستقبل، ولم يجعلوا الأمر قسيماً لهما، فهل جعلوا للماضي والمستقبل قسيماً آخر؟ أقول ذكر الكوفيون (الفعل الدائم) وجعلوه هذا القسيم، فما الذي عنوه بالفعل الدائم؟ لم يعنِ الكوفيون بالفعل الدائم ما ذهب إليه الزجاجي من أنه الفعل الحاضر، وإنما عنوا بهذه التسمية (اسم الفاعل). فكيف تصور الكوفيون اسم الفاعل فعلاً ولم أسموه الفعل الدائم؟...
*الكوفيون والفعل الدائم:
أقول قد أسمى الكوفيون (اسم الفاعل) فعلاً لأنه يعمل عمل فعله، وهذا معروف متفق عليه، وهو عند جمهور النحاة شبه الفعل. وأسمى الكوفيون اسم الفاعل فعلاً دائماً، لاشتمال دلالته على الحال والاستقبال حيناً، والماضي حيناً آخر، ولكن متى يدل (اسم الفاعل) على الحال أو الاستقبال، أو يدل على الماضي.
أراد الكوفيون باسم الفاعل هذا، وقد أسموه (الفعل الدائم) أو المستمر، اسم الفاعل المعدّ للعمل، وقد اشترط جمهور النحاة لاسم الفاعل المجرد من (أل) ليعمل فينصب مفعولاً به، أن يدل دلالة المضارع على الحال أو الاستقبال، دون الماضي ويسبق بنفي أو استفهام، أو يكون خبراً أو صلة أو وصفاً فتستحكم المشابهة بينه وبين الفعل. فإذا دل على الماضي ألغي عمله:
قال أبو البقاء الكفوي في (الكليات): (اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال أو الاستقبال، وإلغاؤه نظراً إلى اشتماله على الماضي ـ 5، 317).
وقد ذهب الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة إمام الكوفية (189 هـ) وشايعه جماعة إلى أن (اسم الفاعل) يعمل ولو دل على الماضي. واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد( الكهف ،18. فإن زمن حصول الحدث للمخبر عنه سابق لزمن نزول الآية. لكنه أجيب بأن الآية قد أتت لحكاية الحال في الماضي، بدليل قوله تعالى: (وكلبهم باسط( والواو للحال، والذي يحسن بعد واو الحال قولك (وكلبهم يبسط)، لا (وكلبهم بسط). وقد تقدّم هذا في الآية، قوله تعالى: (ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال...(. فجاء (نقلِّبهم) فعلاً مضارعاً دالاً على الحال أو الاستقبال. وفي هذه الإجابة وجه متقبل سائغ.
لكن الكسائي احتج إلى ذلك بآية أخرى، هي قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم(. الأنعام ،96 فقد قرئ (وجاعل الليل سكناً( كما قرئ (فَلَق الإصباح(. وقد تقدم هذه الآية، قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى(. فقدر في هذا معنى المضي، كما قدَّر فيه معنى الحال. قال أبو البقاء عبد الله العكبري في (إعراب القرآن): "قوله تعالى (فالق الحب( يجوز أن يكون معرفة لأنه ماضٍ، وأن يكون نكرة على أنه حكاية". أي يجوز أن تكون إضافة (فالق) محضة تفيد التعريف فتفيد المضي فيلغى عمل اسم الفاعل، كما يجوز أن تكون إضافته غير محضة فلا تفيد تعريفاً فتدل على الحال ويكون اسم الفاعل عاملاً. ويمضي العكبري فيقول: "وجاعل الليل مثل فالق الإصباح في الوجهين". أي في كون الإضافة محضة أو غير محضة، وفي إعمال اسم الفاعل أو إلغائه، وإفادة الحال، أو الماضي. وبقي الخلاف في نصب (سكناً) من قوله تعالى: (وجاعل الليل سكناً(. قال العكبري: "وسكناً مفعول جاعل إذا لم تعرفه، وإن عرفته كان منصوباً بفعل محذوف أي جعله سكناً"، أي أن الإضافة إذا لم تكن محضة فاسم الفاعل عامل يفيد الحال، و(سكناً) مفعول لاسم الفاعل. وإذا كانت محضة فاسم الفاعل ملغى يفيد المضي و(سكناً) مفعول لفعل محذوف. وهنا محل الخلاف، فالكسائي قد ذهب إلى أن نصب (سكناً) مع دلالة اسم الفاعل على المضي، دليل على عمل اسم الفاعل ولو أفاد الماضي و(سكناً) مفعول لاسم الفاعل، خلافاً للبصريين الذين اشترطوا لعمل اسم الفاعل أن يدل على الحال أو الاستقبال، دون الماضي، فإذا دل على المضي فقد ألغي عمله، وهذا ما قادهم إلى أن يقدروا فعلاً محذوفاً ينصبون به (سكناً) على المفعولية، بعد أن ألغوا اسم الفاعل حين قدروا فيه معنى المضي. وقد أخذ العكبري في (إعراب القرآن)، عامة بمذهب البصرية.
ولا يعني ما تقدم من قول العكبري أن لنا أن نقدر في كل (اسم فاعل مضاف) أن تكون إضافته غير محضة فيكون عاملاً ويدل على الحال ولا يفيد التعريف، أو تكون إضافته محضة فيكون ملغى ويدل على الماضي ويفيد التعريف، فإن مرد ذلك إلى القرينة. فقد جاء قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. بإضافة (ذائقة) إلى الموت إضافة غير محضة، وليس ثمة ما يتسع هنا لإضافة (ذائقة) إلى الموت إضافة محضة. قال العكبري في إعراب القرآن: (وإضافة ذائقة غير محضة لأنها نكرة يُحكى بها الحال، وقرئ شاذاً ذائقة الموت بالتنوين والإعمال).
*الفراء واسم الفاعل:
نهج الفراء يحيى بن زياد (207 هـ)، وهو عَلَمْ من أعلام الكوفية، نهج الكسائي في اتخاذ أصول الكوفية، وتجلَّى ذلك في كتابه الأول (معاني القرآن). وقد عمد فيه (1، 45). إلى تمييز اسم الفاعل العامل فأسماه (فعلاً دائماً)، من اسم الفاعل غير العامل، وقد أبقاه على الأصل (اسماً).
قال الفراء في تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. الأنبياء ،35. بإضافة (ذائقة) إلى الموت، قال في كتابه (معاني القرآن): "ولو نونت ذائقة ونصبت كان صواباً". وهذا يعني أن (ذائقة الموت) بتنوين الأول ونصب الثاني، على إعمال اسم الفاعل، جائز جواز (ذائقة الموت) بالإضافة غير المحضة، فكلاهما يفيد الحال أو الاستقبال. وأردف: "وأكثر ما تختار العرب التنوين والنصب في المستقبل"، ومؤدَّى ذلك أن العرب قد تعني المضي في اسم الفاعل العامل، ولو أن الكثير الغالب أن تعني المستقبل. ويمضي الفراء قائلاً: "فإذا كان معناه ماضياً لم يكادوا يقولون إلا بالإضافة"، وفحوى ذلك أن المضي إنما يعبر عنه غالباً بالإضافة، ولكن قد يعبر عنه بإعمال اسم الفاعل أيضاً، وهذا رأي الكوفية خلافاً للبصرية التي لا ترى في الأعمال إلا دلالة الحال والاستقبال، لكنها ترى في الإضافة دلالة الحال إذا لم تكن محضة، والمضي إذا كانت محضة.
*البصريون واسم الفاعل:
ذهب البصريون إلى أن اسم الفاعل إما أن يفيد الماضي، ولا يتأتى ذلك إلا بإضافته إضافة محضة تفيد التعريف، وإما أن تفيد الحال أو الاستقبال، ولا يكون هذا إلا بإعمال اسم الفاعل وتنوينه، أو بإضافته إضافة غير محضة لا تفيد تعريفاً.
وقد بسط القول في ذلك القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري في تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. آل عمران، 185. قال القرطبي: "(ذائقة الموت(. بالإضافة، وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت. قالوا لأنها لم تذق بعد". وأردف: "ذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي، والثاني بمعنى الاستقبال. فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده، كذلك قولك: هذا ضارب زيد أمس... لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم..."، أي أن الإضافة فيه محضة. وتابع يقول: "وإن أردت الثاني جاز الجر والنصب والتنوين، فيما هذا سبيله هو الأصل، لأنه يجري مجرى الفعل المضارع، فإن كان غير متعدٍ لم يتعدَّ نحو قائم زيد. وإن كان متعدياً عدّيته ونصبت به فتقول: زيد ضارب عمرواً بمعنى يضرب عمرواً. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفاً"، ومعنى هذا أن تنوين اسم الفاعل ونصبه المفعول به، كحذف تنوينه مع إضافته، في إفادة الحال، مادامت الإضافة غير محضة.
*اسم الفاعل والاستمرار:
إذا قيل أن دلالة اسم الفاعل هي (الاستمرار) فسِّر ذلك على أحد وجهين: الأول أن يعني الاستمرار اشتمال هذه الدلالة على الحال أو الاستقبال حيناً وعلى الماضي حيناً آخر. وهذا ما حمل الكوفيين على أن يسمُّوا اسم الفاعل بالفعل الدائم. وقد جاء في الكليات لأبي البقاء: "اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال أو الاستقبال، وإلغاؤه نظراً إلى اشتماله على الماضي ـ 5،317"، كما ذكرنا ذلك قبل، ولا ننسى أن الكوفيين قد اعتقدوا اشتماله على الماضي أيضاً، ولو كان عاملاً.
الثاني: أن يعني الاستمرار الثبوت في الأزمنة المختلفة. وقد أشار صاحب الكليات إلى هذا حين قال:"معنى الاستمرار هو الثبوت من غير أن يعتبر معه الحدث في أحد الأزمنة ـ 5،323"، وهو الأصل فيه، إذ قال: "اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً بأصل وضعه ـ 5،173".
ولكن متى يدل اسم الفاعل على الثبوت أي الاستمرار في الأزمنة المختلفة؟...
أقول يدل اسم الفاعل على الثبوت أو الدوام أو الاستمرار في الأزمنة المختلفة، إذا أضفته إضافة محضة، أي إضافة معنوية أو حقيقية، فجرى مجرى الاسم الجامد، وقد يدل في هذه الحال أيضاً على الماضي، والقرينة تفصل بين الدلالتين.
قال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم( الأنعام ،96". وقرئ فالق الإصباح بالنصب على المدح وجاعل الليل سكناً ونصبه بفعل دلَّ عليه جاعل لا به، فإنه في معنى الماضي ويدل عليه قراءة الكوفيين وجعل الليل"، أي وقرئ (جاعل الليل ساكناً)، وقد نصب (سكناً)، بفعل محذوف لدلالة جاعل على الماضي، لأن عمل اسم الفاعل ونصبه للمفعول مشروط بدلالته على الحال أو الاستقبال، دون الماضي، خلافاً للكسائي، وابن هشام وابن مضاء. ومضى الإمام البيضاوي يقول:"..... وبه على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة". أي وقرئ (وجاعل الليل سكناً)، على أن المراد جعل الخالق الليل كذلك مستمراً على الدوام. فثبت بهذا أن إضافة اسم الفاعل الإضافة المحضة أو المعنوية الحقيقية قد تنطوي على دلالته على الماضي، كما تنطوي على دلالته على الاستمرار، والقرينة تميز إحداهما من الأخرى.
وانظر إلى ما جاء في شرح الإمام عبد الرحمن بن محمد الجامي لكافية ابن الحاجب. قال ابن الحاجب: "فإن كان للماضي وجب الإضافة معنى، خلافاً للكسائي". فقال الجامي: "فإن كان اسم الفاعل المتعدِّي للزمان الماضي بالاستقلال، أو في ضمن الاستمرار، وأريد ذكر مفعوله وجبت الإضافة، أي إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله معنى أي إضافة معنوية لفوات شرط الإضافة اللفظية مثل زيد ضارب عمرو أمس، خلافاً للكسائي فإنه ذهب إلى عدم وجوب إضافته، لأنه يعمل عنده سواء كان بمعنى الماضي أو الحال أو الاستقبال فيجوز أن يكون منصوباً على المفعولية وعلى تقدير إضافته ليست إضافته معنوية لأنها عنده من قبيل إضافة الصفة إلى معمولها..."، أي أنه لابد لإعمال اسم الفاعل المتعدِّي ونصبه مفعولاً، من أن يدل على الحال أو الاستقبال دون الماضي، فينون أو يضاف إضافة لفظية، لا معنوية. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. فقرئ (ذائقة) بالإضافة وبالتنوين.
فإذا أريد دلالة اسم الفاعل على الماضي أو على الاستمرار فلابد من إضافته. وإضافته ها هنا معنوية كقولك زيد ضارب عمرو أمس، خلافاً للكسائي الذي أجاز إعمال اسم الفاعل، ولو دلَّ على الماضي، فلم ير ضرورة إضافته في هذه الحال الإضافة المعنوية المحضة التي أوجبها البصريون.
وهكذا إذا قصد تعريف الصفة المضافة إلى معمولها كاسم الفاعل تعرَّفت بدلالة الوصف على الاستمرار في الأزمنة المختلفة، وكانت إضافتها محضة معنوية، فوصفت بها المعرفة. قال الإمام السيوطي في همع الهوامع: "فإن قصد تعريفها، أي الصفة المضافة إلى معمولها بأن قصد الوصف بها من غير اختصاص بزمان دون زمان تعرَّفت، ولذا وصفت بها المعرفة، في قوله تعالى.... غافر الذنب ـ 2، 48".
قال تعالى: (حم( تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم(غافر الذنب وقابل التوب( شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير( غافر،3". فقال أبو البقاء العكبري في (إعراب القرآن)."غافر الذنب قابل التوب كلتاهما صفة لما قبله والإضافة محضة". أي صفة لله، وأردف: "وأما شديد العقاب منكرة لأن التقدير شديد عقابه فيكون بدلاً. ويجوز أن يكون شديد بمعنى مشدِّد. فتكون الإضافة محضة فيتعرف ويكون وصفاً أيضاً. أما ـ ذي الطول فصفة أيضاً".
وقال تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم( ـ الأنعام ،96". فجاء في إعراب القرآن للعكبري أن دلالة (فالق الإصباح) قد تكون الماضي والإضافة محضة تفيد التعريف، وقد تكون الحال والإضافة غير محضة تفيد التنكير. فهل ثمة وجه تكون الدلالة الزمنية فيه، هي الاستمرار والإضافة محضة؟...
أقول جاء في تفسير القرطبي قوله: "فالق الإصباح، نعت لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح"، فثبت بهذا أن إضافته محضة تفيد التعريف لأن النعت يتبع المنعوت في تعريفه وتنكيره. وقد قال القرطبي في دلالته الزمنية: "وقيل المعنى أن الله فالق الإصباح، والصبح والصباح أول النهار وكذلك الإصباح، أي فالق الصبح كل يوم، والإصباح مصدر أصبح"، وأردف: "وقال الضحاك فالق الإصباح خالق النهاروهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين"، فثبت بقوله: (فالق الصبح كل يوم)، أنه دال على الاستمرار.
وقد جاء في إعراب (الفاتحة) للإمام خالد الأزهري في كتابه (الأزهري في علم النحو): "الحمد مبتدأ، لله جار ومجرور.... رب نعت أول لله وهو مضاف، العالمين مضاف إليه، الرحمن نعت ثان لله، الرحيم نعت ثالث لله، مالك نعت رابع لله، وصح ذلك لدلالته على الدوام والاستمرار لكونه من صفات الباري تعالى وهو مضاف إضافة محضة، 186". فقد رأيت كيف جعل اسم الفاعل المضاف إضافة محضة وهو (مالك) نعتاً لمعرفة، ذلك لدلالته على الدوام الاستمرار.
*المخزومي والسامرائي ودلالة اسم الفاعل على الاستمرار:
أشرنا فيما تقدم إلى أن وصف اسم الفاعل بالمستمر أو الدائم يعني أحد أمرين:
الأول: دلالة هذه الصيغة على الماضي حيناً والمضارع والمستقبل حيناً آخر، وهذا ما عناه الكوفيون بوصفهم اسم الفاعل بأنه (الفعل الدائم). ويطابق ذلك ما أراده الباحث (بول كراوس) في (محاضراته عام 1943)، وقد تحدث عنها الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اللغات السامية ،16)، حين أشار إلى أن اللغات السامية قد عرفت عهداً غابراً، لم يكن لها فيه صيغة للماضي وأخرى للمضارع أو المستقبل، وإنما كانت هناك صيغة تستعمل في التعبير عن الأزمنة جميعاً. وهذا ما ذكره الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (في النحو العربي،111)، إذ قال: "يرى بعض فقهاء اللغة المحدثين من المستشرقين والمعنيين بالدراسات المقارنة أن الزمان ليس شيئاً أصيلاً، وأن اقتران الفعل العربي به حديث النشأة، بعد أن وجدت صيغة ـ فَعَلَ ـ المتطورة عن صيغة ـ فَعل ـ وهي الصيغة التي يسمونها: برمانسيف أو الفعل الدائم في تعبير الكوفيين، والتي يعدونها أقدم وجوداً من الفعل الماضي.
أقول إن التعبير بصيغة واحدة عن أزمنة مختلفة لا ينفي البتة اقتران الفعل بدلالته الزمنية. قال الدكتور ولفنسون: "كذلك يعتقد العلماء أن صيغة المضارع كانت في مدى قرون كثيرة تدل على جميع الأزمنة، كما هو الحال في اللغة الصينية وفي اللغة الأندرو جرمانية الأصلية،16".
وهكذا فإن اسم الفاعل صيغة واحدة تدل على الماضي حيناً كما تدل على الحال والاستقبال حيناً آخر. وهذا ما حمل الكوفيين على تسميته بالفعل الدائم.
الثاني: دلالة اسم الفاعل على الاستمرار في مختلف الأزمنة، دون زمن معين، قال المخزومي في كتابه (في النحو العربي،139): "وأما مثال فاعل فهو أحد أقسام الفعل، وهو الفعل الدائم الذي لا دلالة له على زمان معين إذا لم يوصل بصلة من مضاف إليه أو مفعول". وفي كلام المخزومي هذا نظر من ناحيتين:
ـ الأولى: أن الكوفيين لم يعنوا بالفعل الدائم الفعل الذي لا دلالة له على زمان معين، وإنما عنوا به الفعل الذي يدل على الماضي تارة وعلى المضارع أو المستقبل تارة أخرى.
الثانية: إن قول المخزومي: "الذي لا دلالة له على زمان معين"، يعني الإشارة إلى صفة الاستمرار في اسم الفاعل، ودلالة اسم الفاعل على الاستمرار ليست مرهونة بعدم إضافته، فقد يدل اسم الفاعل على الاستمرار ويكون مضافاً، وقد مثلنا لذلك بقوله تعالى: (غافر الذنب(. غافر،3"، كما مثلنا له بقوله تعالى: (فالق الإصباح( الأنعام ،96".
وقد بحث هذا الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه (الفعل زمانه وأبنتيه) وانتهى منه إلى القول: "والقول بدلالة فاعل على الاستمرار مما انفرد به المخزومي، فقد اقتصر السابقون على دلالة فاعل على المستقبل، وهو اسم الفاعل المنون العامل نحو أنا صائم يوم الخميس أي سأصوم، وعلى المضي وهو اسم الفاعل المضاف نحو هو قاتل أخيه، أي قتل ـ 43". قال السامرائي هذا وقد ثبت بما لا وجه فيه لشك أو ارتياب، دلالة اسم الفاعل على الاستمرار، كما رأيت.
ولا ننسى قول أبي البقاء الحسيني الكفوي في (كلياته): "اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً ب
تشعبت أقوال النحاة في تعريف الفعل، وتباينت مذاهبهم في اعتماد الحد الذي يعقد عليه هذا التعريف، كما اختلفت كلمتهم في تقسيمه بين البصرية والكوفية. ولابد من بسط الكلام على هذا كله، قبل المضي في البحث عن أبوابه.
تعريف الفعل
أقدم ما بلغنا في تعريف الفعل مقالة سيبويه (183هـ)، في الكتاب. قال سيبويه في (باب علم ما الكلمُ من العربية ـ 2، 1): "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع"، وأردف: "فأما بناء ما مضى فذهب وسمع ومُكث وحُمد، وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمراً: اذهب واقتل واضرب، ومخبراً: يقتل ويذهب ويضرب ويُقتل ويُضرب، وكذلك بناء مالم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت"، وختم كلامه فقال: "فهذه الأمثلة التي أخذت من لفظ أحداث الأسماء، ولها أبنية كثيرة، ستبين إن شاء الله".
*تعريف الفعل بالمثال:
ونلحظ أن هذا التعريف إنما عقد على حد (المثال) إذ قال: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء". فالفعل، كما جاء، أمثلة اشتقت من لفظ أحداث الأسماء، أي المصادر. قال سيبويه: "الأحداث نحو الضرب والقتل والحمد". فمن هذه الأمثلة ما اشتق لما مضى، وهو الفعل الماضي، وما اشتق لما يكون ولم يقع، وهو فعل الأمر، وثالث اشتق لما هو كائن لم ينقطع، وهو المضارع، وكل مثال من هذه الأمثلة قد صيغ لزمن من الأزمنة.
وممن جرى على منهاج سيبويه هذا في تعريف الفعل فاتخذ (المثال) حداً في التعريف كبير نحاة الأندلس أبو بكر محمد بن الحسن الزُبيدي الإشبيلي الأندلسي (379هـ). وقد عُرف نحاة الأندلس بسلوك طرائق النحاة المشارقة في كثير مما كتبوه في اللغة والأدب، وقد يستدركون عليهم شيئاً مما حققوه. فألَّف الزبيدي مختصر كتاب العين للخليل بن أحمد، وطبقات النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس، وكتاب الواضح في العربية. وقد عكف على (الكتاب) مؤلف سيبويه فثقفه ومهره وأحصى مسائله واستقرى دقائقه، لكنه استدرك عليه بعض ما جاء فيه، في كتابه (الأبنية)، قال الزبيدي في كتاب الواضح: "اعلم أن جميع الكلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. فالاسم.. والفعل قولك: ضرب وخرج وانطلق، ويضرب ويخرج، واضرب و اسمع، وما أشبه هذا"، فلم يزد في تعريف الفعل على أن جاء بأمثلة منه للماضي والمضارع والأمر.
*تعريف الفعل بإحدى دلالتيه الزمن وبدلالتيه الحدث والزمن:
ومن النحاة من اتخذ في تعريف الفعل حد الزمن وحده. فالفعل ما اقترن بزمن والاسم مالم يقترن به. ويُعترض على هذا بأن الزمن واحد من دلالتي الفعل، فقد وضع الفعل ليدل على معنى، الزمن جزء منه، كما وضع الاسم ليدل على معنى، ليس الزمن جزءاً منه. وأقدم تعريف اتخذ مثل هذا الحد، هو ما جاء به الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة (189هـ). فقد روي عن الكسائي أنه قال: "الفعل ما دل على زمان"، كما ذكره الدكتور الساقي في كتاب (أقسام الكلام العربي،69).
والكسائي إمام الكوفيين في النحو واللغة وأحد القراء السبعة.
وقد حذا هذا الحذو أبو الحسن بن كيسان (299هـ)، فقد حكي عنه قوله: "الفعل ما كان مذكوراً لأحد الزمانين: إما ماضٍ أو مستقبل، والحد بينهما"، كما أشار إليه الدكتور الساقي في كتابه (أقسام الكلام العربي،69). وابن كيسان أحد العلماء البغداديين الذين أخذوا النحو عن إمام البصريين المبرّد أبي العباس محمد بن يزيد (285هـ)، وإمام الكوفيين ثعلب أبي العباس أحمد بن يحيى (291هـ). فكان بصرياً كوفياً.
وإذا كان الكسائي وابن كيسان قد عرّفا (الفعل) بالزمن فوصفاه بأحد دلالتيه، فقد عمد النحاة بعدهما إلى إحكام تعريفه فوصفوه بدلالتيه (الحدث والزمن). وأقدم ما جاء من ذلك في تعريف الفعل، ما قاله أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (337هـ)، في كتابه الإيضاح: "الفعل على أوضاع النحويين ما دل على حدث وزمان ماضٍ أو مستقبل نحو قام يقوم،53". وذكر ذلك في كتاب (الجمل،17). أيضاً. والزجاجي ممن جمعوا علم الكوفة إلى علم البصرة، وقد كان إلى البصرية أميل، لكنه لم يتعصب لأحد المذهبين فيحاكي بغير دليل أو يتابع بغير حجة.
ونهج الفارسي أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار (377هـ). نهج الزجاجي في التعريف فقال: "كل لفظة دلت على معنى مقترن بزمان محصل". ولما وصف المعنى باقترانه بالزمان تحقق أنه الحدث، وفي إشارته إلى اقتران الحدث بزمان محصل زيادة في الإحكام. والفارسي كما هو معروف علم من أعلام البصرة والقياس. ومن مؤلفاته الإيضاح والتكملة والتذكرة وسواها.
وجرى النحاة بعد الفارسي على هذه السنة في التعريف فقال جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (538هـ)، في كتابه (المفصل، 243): "الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان". والزمخشري من أئمة القياس بعد الفارسي وابن جني، وهو صاحب المفصل والكشاف.
وعلى ذلك كلام ابن الحاجب في الكافية (646هـ)، إذ قال: "الفعل ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة". وقد عقب على هذا شارح الكافية الإمام عبد الرحمن محمد الجامي (897 هـ)، فقال: "ولما وصف ذلك المعنى باقترانه بالزمان تعين أن يكون المراد به الحدث". وابن الحاجب هو أبو عمرو عثمان بن عمر. وقد صنف في النحو الكافية وشرحها، وشرح (المفصل) بكتابه (الإيضاح)، كما صنف في الصرف كتابه (الشافيه).
وهكذا فعل الإمام الرضي في شرحه لكافية ابن الحاجب، إذ قال: "إن هذا اللفظ الدال على معنى مفرد أعني الكلمة، إما أن يدل على معنى في نفسه أو على معنى لا في نفسه، الثاني الحرف... والأول أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها إما أن تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة أولاً، الثاني الاسم... والأول الفعل أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة...،7". والرضي هو الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاسترباذي(686هـ).
ولا ننسى الإمام ابن عقيل عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله (769هـ)، شارح ألفية ابن مالك، محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي (672هـ)، إذ قال: "الكلمة إما اسم وإما فعل وإما حرف، لأنها إن دلت على معنى في نفسها غير مقترن بزمان فهي الاسم، وإن اقترن بزمان فهي الفعل، وإن لم تدل على معنى في نفسها بل في غيرها فهي الحرف".
أما ابن مالك فقد عرّف الفعل في شرح التسهيل بدلالتيه الحدث والزمان المعين، كما عرّفه في تسهيله وشرحه بشأنه في الإسناد، بل عرَّفه في ألفيته بعلاماته أيضاً، كما سنراه.
ولم يخرج السيوطي الإمام الحافظ جلال الدين بن عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ)، في كتابه (همع الهوامع،4)، عما جاء به ابن الحاجب في الكافية والجامي والرضي في شرح الكافية، وابن عقيل في شرحه للألفية. ومضى سائر المتأخرين من النحاة على هذا النهج حتى القرن الرابع عشر الهجري.
فقد ثبت بما تقدّم أن النحاة قد نحوا منذ القرن الرابع الهجري إلى تعريف الفعل بدلالتيه الحدث والزمان. وقد اهتدوا إلى ذلك بطبيعة الحال باستقراء مواضع استعمال الفعل العربي في مختلف نصوصه شعراً ونثراً. ولا يعني هذا بالطبع أن أسلافهم قد قصدوا في تعريف الفعل إلى إغفال هاتين الدلالتين وكل ما في الأمر أن كل جماعة قد اتجه اهتمامها إلى صفة أو أكثر من صفات الفعل، أو خاصة أو أكثر من خواصه، أو استرعى نظرها شأن من شؤونه في بناء الجملة، فأبرزت ذلك في تعريفها له.
فقد قال سيبويه في تعريف الفعل مثلاً أنه أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى ولما يكون، ومادام الفعل قد اشتق من لفظ الأحداث، أي المصادر، وبُني لما مضى ولما يكون فقد اقترن معناه هذا بالزمان فتعيّن بذلك أن يدل على الحدث والزمان جميعاً.
ولا ننسى أن سيبويه قد أشار في تعريفه هذا إلى مذهب البصريين في اشتقاق الفعل من المصدر، فالمصدر هو الأصل والفعل هو الفرع، خلافاً للكوفيين الذين اعتدوا الفعل هو الأصل. وقد استوفى أبو البقاء العكبري عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين الإمام محب الدين (616هـ)، شرح مذهب البصرية هذا. قال السيوطي في (الأشباه والنظائر ـ 1، 128): "قال أبو البقاء في التبيين: الدليل على أن الفعل مشتق من المصدر طرق، منها: وجود حد الاشتقاق في الفعل، وذلك أن الفعل يدل على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقاً وفرعاً على المصدر... وتحقيق هذه الطريقة أن الاشتقاق يُراد لتكثير المعاني، وهذا المعنى لا يتحقق إلا في الفرع الذي هو الفعل، وذلك أن المصدر له معنى واحد، وهو دلالته على الحدث فقط، ولا يدل على الزمان بلفظه، والفعل يدل على الحدث والزمان المخصوص، فهو بمنزلة اللفظ المركب فإنه يدل على أكثر مما يدلّ عليه المفرد، ولا تركيب إلا بعد الإفراد، كما أنه لا دلالة على الحدث والزمان المخصوص إلا بعد الدلالة على الحدث وحده..."، وأردف: "وطريقة أخرى وهي أن تقول: الفعل يشتمل لفظه على حروف زائدة على حروف المصدر، تدل تلك الزيادة على معاني زائدة على معنى المصدر، فكان مشتقاً من المصدر... ومعلوم ما لا زيادة فيه أصل لما فيه الزيادة...". والعكبري هو صاحب اللباب في علل البناء والإعراب، ومؤلف الإعراب عن علل الإعراب، والبيان في إعراب القرآن، وإعراب الحديث النبوي وسواها. وهو من مصنفاته النحوية محيط بآراء أئمة النحو. وقد أخذ بآراء البصرية عن بيّنة وساق أدلّتهم وحججهم وقام بشرح كثير من مصنفاتهم.
وممن عرّف الفعل بدلالتيه الحدث والزمان أبو حيان الأندلسي أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن علي بن يوسف، فقال: "إنه ـ أي الفعل ـ يدل على الحدث بلفظه وعلى الزمان بصيغته". كما حكاه السيوطي في الاقتراح (ص،10)، وقد أشار ابن جني (392هـ) إلى هذا في الخصائص (3، 98)، فقال: "ألا ترى إلى ـ قام ـ ودلالة لفظه على مصدره، ودلالة بنائه على زمانه، ودلالة معناه على فاعله، فهذه ثلاث دلائل من لفظه وصيغته ومعناه". فأوحى كلامه هذا بأن تعريف الفعل بدلالتيه أدنى إلى علم الصرف الذي يبحث بنية الكلمة فيعنى بالمفردات من حيث صورها وهيآتها، على حين جاء تعريف الفعل بشأنه في الإسناد، كما سنرى، أدنى إلى علم النحو الذي يُعنى ببناء الكلام وتأليفه فيتناول الإسناد أي نسبة كل من عنصري الجملة اسمين كانا أو اسماً وفعلاً أحدهما إلى الآخر، حقيقة وحكماً. أوليس الإسناد ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفي عنه؟.. وقد قصد بما يجري مجرى الكلمة الجملة الواقعة خبراً عن مبتدأ. قال الشريف علي بن محمد الجرجاني في تعريفه: "الإسناد في عرف النحاة عبارة عن ضم إحدى الكلمتين إلى الأخرى على وجه الإفادة التامة، أي على وجه يحسن السكوت عليه، وفي اللغة إضافة الشيء إلى الشيء ،14".
*تعريف الفعل بشأنه في الإسناد:
نحا النحاة في القرن الرابع الهجري نهجاً آخر في تعريف الفعل فعرَّفوه بملاحظة ماله من شأن في الإسناد. فالاسم في بناء الجملة ما يسند ويسند إليه، أي يخبر به ويخبر عنه، والفعل ما يسند ولا يسند إليه أي يخبر به ولا يخبر عنه، أما الحرف فما لا يسند ولا يسند إليه.
وأقدم تعريف اعتمد هذا الحد، في تعريف عناصر الجملة الثلاثة الاسم والفعل والحرف وتمييز أحدهما من الآخر، هو أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السرّاج (316هـ). فعلى حين نهج في كتابه (الخط) نهج سيبويه في التعريف، فقال: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم مثل رجل وفرس و الفعل مثل جلس يجلس، و الحرف نحو من وحتى والباء في قولك: مررت بزيد، واللام في قولك: لزيد مال..". فقد نهج في كتابه (الموجز) نهجاً طريفاً فقال: "والفعل ماكان خبراً، ولا يجوز أن يخبر عنه"، وأبو بكر هذا قد أخذ النحو واللغة عن المبرَّد أبي العباس محمد بن يزيد، وإليه انتهت رسالة النحو بعد موت الزجاج أبي إسحاق (311هـ)، ولأبي بكر عدة مؤلفات منها (الخط) و(الأصول) وموجزه، وقد خالف فيها البصريين في مسائل كثيرة.
وحذا هذا الحذو في تعريف الفعل شيخ نحاة الأندلس أبو علي عمر بن محمد الإشبيلي المعروف بالشلوبين (645هـ)، فقد حكي عنه قوله: "وأيضاً فإن الاسم يخبر به ويخبر عنه، والفعل لا يكون إلا مخبراً به، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه". كما جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي (1، 119)، وللشلوبين كتاب في التعليق على كتاب سيبويه، وآخر في النحو سمَّاه التوطئة
وقد شاع نحو من هذا التعريف عند كثير من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى الشرق، ومنهم محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي (672هـ)، وقد نسب إلى (جيَّان) الأندلسية وهي تقع إلى الشرق من قرطبة. ولد ابن مالك في هذه البلدة وانتقل إلى دمشق وتوفي فيها. وقد صاغ في (النحو) ألفيته التي نظمها وسماها بالخلاصة، وذاع صيتها وكثر شراحها، ومن هؤلاء الشراح ابن الناظم بدر الدين بن محمد بن عبد الله بن مالك (686هـ)، وقد جاء في شرح التسهيل لابن مالك قوله: "الكلمة إن لم تكن ركن الإسناد فهي الحرف، وإن كانت ركناً له فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي اسم، وإلا فهي فعل".
وقال الإمام بدر الدين في شرحه للألفية: "الكلمة إما أن يصح أن تكون ركناً للإسناد أولا، الثاني: الحرف، والأول: إما أن يصح أن يسند إليه أولا، الثاني الفعل والأول الاسم".
وجرى على ذلك شرّاح الألفية فقال علي بن محمد بن عيسى أبو الحسن الأشموني (نحو 900 هـ): "إن الكلمة إما أن تصلح ركناً للإسناد أو لا، الثاني الحرف، والأول إما أن يقبل الإسناد بطرفيه أو بطرف، الأول الاسم والثاني الفعل"، ولا يخرج كلامه هذا عما جاء به ابن الناظم الإمام بدر الدين. وقد أردف الشيخ الأشموني يقول:"والنحويون مجمعون على هذا، إلا من لا يعتدَّ بخلافه. وقد أرشد بتعريفه إلى كيفية تألف الكلام من الكلم بأنه ضم كلمة إلى كلمة فأكثر على وجه تحصل منه الفائدة...".
ولاشك أن تعريف الفعل بشأنه في الإسناد كان ثمرة البحث في الجملة المفيدة وما تنطوي عليه من مسند إليه أو مخبر عنه، ومن مسند أو مخبر به، ومن إسناد أو ارتباط للمسند بالمسند إليه ووقوع النسبة بينهما. ولا ريب أن هذا البحث في حقيقة أمره جزء لا ينفك عن مادة النحو، ولو غدا تفصيل القول في أحوال الإسناد والمسند إليه، والمسند، من خصائص علم المعاني الذي عقد موضوعه على البحث في أحوال التراكيب العربية، ويعد الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ)، صاحب الرسالة الشافعية في الإعجاز ودلائل الإعجاز، أول واضع لهذا العلم.
*تعريف الفعل بعلاماته:
وقد عمد بعض أئمة القرن الرابع الهجري إلى تعريف الفعل بما يختص به من علامات يتميز بها من الاسم والحرف. وأقدم من نحا هذا النحو الإمام ابن جني أبو الفتح عثمان (392هـ)، وابن جني أعلم أهل عصره بالنحو والتصريف، وقد تلمذ لأبي علي الفارسي خاصة، وله في الصرف كتب كثيرة، منها اللمع في التصريف، والمنصف في شرح تصريف المازني، والتصريف الملوكي، عدا ما جاء في كتابيه النفيسين: سر صناعة الإعراب والخصائص، مما يتصل بهذا العلم. وقد جاء في كتاب اللمع قوله: "والفعل ما حسن فيه قد، أو كان أمراً، فأما قد فنحو قولك: قد قام وقد قعد، وقد يقوم وقد يقعد، وكونه أمراً نحو قم واقعد". وكتاب اللمع كتاب مشهور عمد كثير من الأئمة إلى شرحه، ومن هؤلاء الثمانيني أبو القاسم عمر بن ثابت (442 هـ)، ومنهم ابن الشجري أبو السعادات هبة الله بن علي (542هـ)، كما شرح كتاب (التصريف الملوكي). ومنهم ابن الدهان أبو محمد سعيد بن المبارك البغدادي (569هـ)، وقد أسماه الغرَّة، ومنهم محب الدين أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (616هـ)، وقد أسماه (المتبع في شرح اللمع).
وقد حذا هذا الحذو في التعريف ابن مالك (672هـ)، فقد عرَّف الكلام وما يتألف منه في متن (ألفيته) فقال:
كلامُنا لفظ مفيد كاستقم
واسم فعل ثم حرف الكلم
وميز الاسم من الفعل والحرف فقال:
بالجرِّ والتنوين والندا وأل
ومسند للاسم تمييز حصل
وميَّز الفعل فقال:
بتا فعلتَ وأتتْ ويا افعلي
ونون اقبلنَّ فعلٌ ينجلي
فذكر من علامات الفعل: تاء الفاعل وتاء التأنيث الساكنة وياء المخاطبة ونون التوكيد. ودرج ابن أجروم محمد بن داود الصنهاجي(722هـ)، على هذا في مقدمته المشهورة المعروفة بالأجرومية، فقال: "والفعل يعرف بقد والسين وسوف وتاء التأنيث الساكنة".
وهكذا فعل الإمام أبو محمد جمال الدين بن يوسف... ابن هشام الأنصاري المصري (761هـ)، في كتابه أوضح المسالك، فذكر من علامات الاسم الجر والتنوين والنداء و(أل) غير الموصولة، كما عدَّد من علامات الفعل تاء الفاعل، وتاء التأنيث الساكنة، وياء المخاطبة ونون التوكيد، كما جاء في متن الألفية. وقد ذكر ابن هشام في كتابه (قطر الندى) نحواً من هذا، مقترناً بشيء من التفصيل إذ قال: "وأما الفعل فثلاثة أقسام ماضٍ ويعرف بتاء التأنيث الساكنة، وبناؤه على الفتح كضرب، إلا مع واو الجماعة فيضم كضربوا أو الضمير المرفوع المتحرك فيسكن كضربت... وأمر ويعرف بدلالته على الطلب مع قبوله ياء المخاطبة... ومضارع ويعرف بلم وافتتاحه بحرف من حروف أنيت، ويسكن مع نون النسوة... ويفتح مع نون التوكيد...".
وقد قام الشيخ خالد الأزهري (905هـ)، يشرح كتاب (أوضح المسالك)، وجرى عليه في متن (أزهريته) فقال: "وعلامة الفعل قد، نحو قد قام زيد وقد يقوم، والسين نحو سيقول، وتاء التأنيث الساكنة نحو قامت، وياء المخاطبة مع الطلب نحو قومي". وقد أقرَّ ذلك بالشرح الوافي الشيخ حسن بن محمد العطار الشافعي المصري الأزهري (1250هـ)، وله حاشية على الأزهرية، وعلى جمع الجوامع كتاب الإمام السيوطي.
ولاشك أن من نهج في تعريف الفعل هذا النهج، فميزه من الاسم والحرف بعلامات فارقة، إنما سلك في ذلك الطريقة التعليمية التي يأخذ بها المصنفون حيناً لترسيخ سمات الشيء في ذهن الدارس، وهي لا تعني أكثر من تعقب الفعل في مواضع استعماله المختلفة واستقراء ما يتصل به فيها من أداة سابقة له أو لاحقة.
أزمنة الفعل
مرَّ بنا في تعريف سيبويه للفعل في (الكتاب ـ 1، 2). قوله: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع"، وقد شرح قوله هذا فقال: "فأما بناء ما مضى فذهب...". فقضى بأن أول أزمنة الفعل هو الماضي. وأردف: "وأما بناء مالم يقع فإنه قولك أمراً: اذهب واقتل، ومخبراً: يقتل ويذهب". فأنبنى على هذا أن ثاني الأزمنة عند سيبويه هو المستقبل أمراً كان أو مضارعاً. ومضى يقول: "وكذلك بناء مالم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت". أي وكذلك يقتل أو يذهب إذا بني للحال فهو كائن لم ينقطع، فأزمنة الفعل عند سيبويه إذاً ثلاثة: ماض ومستقبل يكون أمراً أو مضارعاً دالاً على الآتي، ومضارع أي حال مستمر. وقد جرى النحاة على هذا فالفعل عندهم ماض ومضارع للحال أو الاستقبال، وأمر مخصص بالاستقبال.
*الرأي في قسمة الفعل إلى ماض ومضارع وأمر:
لا خلاف بين الأئمة على جريان الفعل على الماضي والمضارع. فالفعل الماضي ما دلَّ على معنى مقترن بالزمان الماضي، والمضارع ما دلَّ على معنى مقترن بزمان يحتمل الحال والاستقبال. أما جريان الفعل على (الأمر) ففيه نظر.
ذلك أن الفعل يدل على الحدث مقترناً بزمان، فهل الأمر مقترن بزمان؟...
أقول (الأمر) صيغة يطلب بها الفعل من الفاعل، فهو صيغة إنشاء طلبي يراد بها طلب القيام بالفعل. فالكلام إما خبر وإما إنشاء. فالخبر قولك كتب زيد ويكتب عمرو. ففي الجملة ها هنا إسناد خبري مقترن بزمان. أما قولك اكتب فهو إسناد إنشائي غير مقترن بزمان فأنت تطلب من المخاطب القيام بفعل الكتابة ولا تخبره بحدث الكتابة مقترناً بزمان. فإذا استجاب المخاطب قامت استجابته فيما يستقبل من الزمان.
وإن شئت التفصيل قلت إن معنى (الأمر) غير مقترن بزمان، لأنه لا يخبر بحدث، وإنما المقترن بزمان هو تلفظك به، أي قولك (أكتب) فهو يجري في الحاضر، وكذلك الاستجابة للأمر إذا حدثت فإنها تجري في المستقبل.
وطبيعي أن يكون المعوَّل في الحكم على (الأمر) هو دلالته، لا التلفظ به، وكذلك فعل علماء الأصول، إذا قضوا أن (الأمر) هو طلب الفعل أي طلب القيام به وليس الفعل، أي وليس التلفظ به، قال ابن العيني زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، في شرح كتاب (المنار) لابن الملك: "ومنه أي من الخاص الأمر لأنه وضع لمعنى معلوم على انفراد، وهو طلب الفعل"، ويمضي في الشرح فيقول: "وخرج بالقول، أي بتعريف ابن الملك، الفعل"، أي خرج بالتعريف أن يكون (الأمر) هو الفعل، أي التلفظ به، لأنه طلب الفعل، أي طلب القيام به.
*أزمنة الفعل عند ابن يعيش:
قال موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش الحلبي (643هـ)، في شرح كتاب (المفصل)، للزمخشري (ج2، ص7): "لما كانت الأفعال مساوقة للزمان، والزمان من مقومات الأفعال، توجد عند وجوده، وتنعدم عند عدمه، انقسمت بأقسام الزمان، ولما كان الزمان ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل، وذلك من قبل أن الأزمنة حركات الفلك، فمنها حركة مضت، ومنها حركة لم تأت بعد، ومنها حركة تفصل بين الماضية والآتية، كانت الأفعال كذلك ماض ومستقبل وحاضر. فالماضي ما عدم بعد وجوده، فيقع الإخبار عنه في زمان بعد زمان وجوده، وهو المراد بقوله: الدال على اقتران حدث بزمان قبل زمانك، أي قبل زمان إخبارك، ويريد بالاقتران وقت وجود الحدث، لا وقت الحديث عنه، ولولا ذلك لكان الحد فاسداً... والمستقبل مالم يكن له وجود بعد، بل يكون زمان الإخبار عنه قبل زمان وجوده. وأما الحاضر فهو الذي يصل إليه المستقبل، ويسري منه الماضي، فيكون الإخبار عنه هو زمان وجوده".
فالذي أراده ابن يعيش، أن الفعل مادام مقترناً بزمان، والأزمنة ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل، فالفعل كذلك: ماض وحاضر ومستقبل. لكنه حين قسم الفعل اتبع فيه القسمة الشائعة المعروفة عند النحاة فقال: الفعل ماض ومضارع وأمر، فأين (الأمر) من قسمة الأزمنة أو الأفعال هذه؟...
*ما القول في فعل الأمر:
كلام ابن يعيش على أزمنة الفعل لا يدع للأمر مكاناً في قسمة الأزمنة بل الأفعال. فالماضي إنما يقع الإخبار عنه بعد زمان وجوده، والمستقبل إنما يقع الإخبار عنه قبل زمان وجوده. أما الحاضر فيخبر عنه زمان وجوده. وهذا يعني أن الفعل الماضي يخبر به عن الحدث الفائت بعد زمان وجوده. ويخبر بالفعل الآتي قبل زمان الحدث الآتي: ويخبر بالفعل الحاضر زمن وقوع حدثه. فالفعل إنما يخبر به عن الأحداث الجارية في هذه الأزمنة الثلاثة.
أما (الأمر) فليس مما يخبر به، في الأصل، لأنه صيغة إنشاء، لا إخبار، فلا يصح فيه إذاً حد الفعل.
ومن ثم أشكل على النحاة مجيء خبر المبتدأ جملة إنشائية، لأن الإنشاء لا يخبر به، فذهب قوم إلى صحة الإخبار بها على تأويل صفة، فإذا قيل: زيد اضربه، كان كأنه قيل: زيد مطلوب ضربه. والتزم ابن السرَّاج تقدير قول محذوف قبلها، أي زيد أقول لك اضربه. وذهب ابن الأنباري إلى امتناع الإخبار به مطلقاً وتبعه قوم من النحاة... أما الجملة الخبرية فالإخبار بها هو الأصل الشائع الكثير، وهي إما اسمية نحو زيد أبوه قائم أو فعلية نحو زيد قام أبوه.
*الزجاجي وقسمة الفعل بحسب أزمنته:
الزجاجي أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق(337هـ)، من علماء بغداد الذين أخذوا من البصرية ومن الكوفية. فما الذي قاله في قسمة الفعل بحسب أزمنته؟...
قال الزجاجي في كتابه (الجمل): "الفعل ما دل على حدث وزمان ماض أو مستقبل، نحو قام يقوم وقعد يقعد، وما أشبه ذلك،17". ولا يعني هذا أن الزجاجي قد أسقط من حسابه (الحال)، فقد ذكر في مواضع آخر من كتابه: "الأفعال ثلاثة: فعل ماض وفعل مستقبل" وأردف:"وفعل في الحال يسمى الدائم"، فجعل (الحال) بين الماضي الذي فات حدثه قبل التلفظ به، والمستقبل الذي ينتظر حدثه بعد التلفظ به. ولاشك أنه تابع في وصف (الحال) بالدائم أمام الصناعة. قال سيبويه في (الكتاب): "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع". فالفعل الذي هو كائن لم ينقطع إذا أخبرت به، عند سيبويه، هو الفعل الدائم أو المستمر عند الزجاجي.
والزجاجي إذا كان ممن أعجب بسيبويه، فإنه لم يشايعه في كل ما ذهب إليه. ومن ذلك أنه لم يجعل للأمر حيزاً في أقسام الفعل خلافاً لسيبويه حين قال: "وأما بناء مالم يقع فإنه قولك أمراً: اذهب واقتل واضرب".
وقد تعجب لِمَ عوَّلَ الزجاجي على (الماضي والمستقبل)، حيناً دون (الحال)، والشائع عند النحاة أن صيغة المضارع للحال والاستقبال، وهي للحال أخص، لأنها تستعمل في الحال بغير قرينة وفي الاستقبال بقرينة (السين وسوف)؟.. أقول عمد الزجاجي إلى الاكتفاء حيناً بذكر (المستقبل)، دون (الحال) لأنه اعتد (المستقبل)، أسبق الأفعال، فقد قال في كتابه (الإيضاح ،85): "اعلم أن أسبق الأفعال في التقدم: الفعل المستقبل لأن الشيء لم يكن ثم كان، والعدم سابق... ثم يصير في الحال ثم يصير ماضياً... فأسبق الأفعال في المرتبة: المستقبل، ثم فعل الحال، ثم فعل الماضي". وهذا ما حمله أن يستغني حيناً بذكر الماضي والمستقبل، لاسيما وأن (الحال) لا ينفرد ببناء خاص دون المستقبل.
على أن تذرع الزجاجي بالمنطق في تعليل الأحكام اللغوية وتحقيقها ها هنا، ليس مما يعوّل عليه، فلهذه الأحكام معايير أخرى. والزجاجي، مع ذلك، لا يوغل في التعليل الجدلي إيغال كثير من النحاة، كابن الشجري هبة الله أبي السعادات (542هـ)، وابن الأنباري أبي البركات كمال الدين بن عبد الرحمن (577هـ).
*الكوفيون وأزمنة الفعل:
إذا كان البصريون قد ذهبوا في قسمة الفعل بحسب أزمنته إلى ماض ومضارع وأمر، فقد نحا الكوفيون في ذلك منحى آخر قسموا به الفعل إلى ماض ومضارع أو مستقبل، ولم يجعلوا (الأمر) قسماً ثالثاً، وإنما جعلوه فرعاً على المضارع، وتصوروا أنه مقتطع منه.
قالوا: قد دخلت على المضارع لام الأمر فقيل (لتفعل) ثم حذفت اللام وتاء المضارة لكثرة الاستعمال، فآل قولك (لتفعلْ)، إلى قولك (افعلْ). ولا يخفى ما في تصور الكوفييين هذا من تكلّف واضح اعتدوا فيه الاحتمال بمنزلة الحقيقة الثابتة، ولا يتساوى في المعنى قولك (افعل) وقولك (لتفعل)، ولو كانا صيغتين للأمر.
وقد تذرّع الكوفيون بمذهبهم هذا في (الأمر) ليعللوا بذلك الوجه في إعرابه، خلافاً للبصريين الذين قالوا ببناء فعل الأمر، على الأصل، فالبناء عندهم أصل في الأفعال مالم تضارع الأسماء، والأمر لا يضارعها كما يضارع ما أسموه بفعل (المضارع). ذلك أن النحاة قد قضوا بإعراب الأسماء وعللوا ذلك باختلاف معانيها النحوية، فإن للمعاني التي يكتسبها الاسم في التركيب دلالات تكشف عنها مواقعه فيه، فاعلة أو مفعولة أو مضافاً إليها، وليس لصور هذه الأسماء أو أبنيتها علاقة بهذه المعاني، وقد جاءت حركات الإعراب لتكشف عن المعاني النحوية هذه، ولو لم تنفرد في هذا الكشف إذ شاركتها فيه الأدوات الداخلة في التركيب، ولذا سميت هذه الأدوات بحروف المعاني.
وقد أغنى الإعراب أن يلتزموا في التركيب تقديم فاعل أو تأخير مفعول، فاتسعوا في الكلام وتصرّفوا فيه بتقديم وتأخير، فضمنوا بذلك حسن الأداء ودقة التعبير واستجابوا بهذا لضرورات الشعر والسجع، ولو لم يطلقوا العنان لتصرّفهم هذا، إذا لم يستجيزوا التقديم والتأخير في كل موضع. ونجم عن هذا، على كل حال، أنه لم يُغنهم في الكشف عن المعاني النحوية لزوم الرتبة بتقديم الفاعل وتأخير المفعول، كما توجبه اللغات غير المعربة.
وانفرد الكوفيون فأضافوا في تعليل إعراب الاسم إلى اختلاف معانيه النحوية في التركيب، اختلاف معانيه اللغوية في الأصل، قبل التركيب.
وهكذا قال النحاة بإعراب المضارع مالم تتصل به نون التوكيد المباشرة أو نون النسوة، وعللوا إعرابه باختلاف المعاني عليه، كما اختلفت على الأسماء، فثمة فارق في المعنى بين المضارع مرفوعاً ومجزوماً ومنصوباً. وقد استوجب اختلاف المعاني اختلاف الحركات واختلاف الأداة، وهكذا أتت حركة الإعراب لتنبه على المعنى الذي حملته الأداة.
وهكذا قسّم الكوفيون الفعل إلى ماض ومستقبل، ولم يجعلوا الأمر قسيماً لهما، فهل جعلوا للماضي والمستقبل قسيماً آخر؟ أقول ذكر الكوفيون (الفعل الدائم) وجعلوه هذا القسيم، فما الذي عنوه بالفعل الدائم؟ لم يعنِ الكوفيون بالفعل الدائم ما ذهب إليه الزجاجي من أنه الفعل الحاضر، وإنما عنوا بهذه التسمية (اسم الفاعل). فكيف تصور الكوفيون اسم الفاعل فعلاً ولم أسموه الفعل الدائم؟...
*الكوفيون والفعل الدائم:
أقول قد أسمى الكوفيون (اسم الفاعل) فعلاً لأنه يعمل عمل فعله، وهذا معروف متفق عليه، وهو عند جمهور النحاة شبه الفعل. وأسمى الكوفيون اسم الفاعل فعلاً دائماً، لاشتمال دلالته على الحال والاستقبال حيناً، والماضي حيناً آخر، ولكن متى يدل (اسم الفاعل) على الحال أو الاستقبال، أو يدل على الماضي.
أراد الكوفيون باسم الفاعل هذا، وقد أسموه (الفعل الدائم) أو المستمر، اسم الفاعل المعدّ للعمل، وقد اشترط جمهور النحاة لاسم الفاعل المجرد من (أل) ليعمل فينصب مفعولاً به، أن يدل دلالة المضارع على الحال أو الاستقبال، دون الماضي ويسبق بنفي أو استفهام، أو يكون خبراً أو صلة أو وصفاً فتستحكم المشابهة بينه وبين الفعل. فإذا دل على الماضي ألغي عمله:
قال أبو البقاء الكفوي في (الكليات): (اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال أو الاستقبال، وإلغاؤه نظراً إلى اشتماله على الماضي ـ 5، 317).
وقد ذهب الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة إمام الكوفية (189 هـ) وشايعه جماعة إلى أن (اسم الفاعل) يعمل ولو دل على الماضي. واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد( الكهف ،18. فإن زمن حصول الحدث للمخبر عنه سابق لزمن نزول الآية. لكنه أجيب بأن الآية قد أتت لحكاية الحال في الماضي، بدليل قوله تعالى: (وكلبهم باسط( والواو للحال، والذي يحسن بعد واو الحال قولك (وكلبهم يبسط)، لا (وكلبهم بسط). وقد تقدّم هذا في الآية، قوله تعالى: (ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال...(. فجاء (نقلِّبهم) فعلاً مضارعاً دالاً على الحال أو الاستقبال. وفي هذه الإجابة وجه متقبل سائغ.
لكن الكسائي احتج إلى ذلك بآية أخرى، هي قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم(. الأنعام ،96 فقد قرئ (وجاعل الليل سكناً( كما قرئ (فَلَق الإصباح(. وقد تقدم هذه الآية، قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى(. فقدر في هذا معنى المضي، كما قدَّر فيه معنى الحال. قال أبو البقاء عبد الله العكبري في (إعراب القرآن): "قوله تعالى (فالق الحب( يجوز أن يكون معرفة لأنه ماضٍ، وأن يكون نكرة على أنه حكاية". أي يجوز أن تكون إضافة (فالق) محضة تفيد التعريف فتفيد المضي فيلغى عمل اسم الفاعل، كما يجوز أن تكون إضافته غير محضة فلا تفيد تعريفاً فتدل على الحال ويكون اسم الفاعل عاملاً. ويمضي العكبري فيقول: "وجاعل الليل مثل فالق الإصباح في الوجهين". أي في كون الإضافة محضة أو غير محضة، وفي إعمال اسم الفاعل أو إلغائه، وإفادة الحال، أو الماضي. وبقي الخلاف في نصب (سكناً) من قوله تعالى: (وجاعل الليل سكناً(. قال العكبري: "وسكناً مفعول جاعل إذا لم تعرفه، وإن عرفته كان منصوباً بفعل محذوف أي جعله سكناً"، أي أن الإضافة إذا لم تكن محضة فاسم الفاعل عامل يفيد الحال، و(سكناً) مفعول لاسم الفاعل. وإذا كانت محضة فاسم الفاعل ملغى يفيد المضي و(سكناً) مفعول لفعل محذوف. وهنا محل الخلاف، فالكسائي قد ذهب إلى أن نصب (سكناً) مع دلالة اسم الفاعل على المضي، دليل على عمل اسم الفاعل ولو أفاد الماضي و(سكناً) مفعول لاسم الفاعل، خلافاً للبصريين الذين اشترطوا لعمل اسم الفاعل أن يدل على الحال أو الاستقبال، دون الماضي، فإذا دل على المضي فقد ألغي عمله، وهذا ما قادهم إلى أن يقدروا فعلاً محذوفاً ينصبون به (سكناً) على المفعولية، بعد أن ألغوا اسم الفاعل حين قدروا فيه معنى المضي. وقد أخذ العكبري في (إعراب القرآن)، عامة بمذهب البصرية.
ولا يعني ما تقدم من قول العكبري أن لنا أن نقدر في كل (اسم فاعل مضاف) أن تكون إضافته غير محضة فيكون عاملاً ويدل على الحال ولا يفيد التعريف، أو تكون إضافته محضة فيكون ملغى ويدل على الماضي ويفيد التعريف، فإن مرد ذلك إلى القرينة. فقد جاء قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. بإضافة (ذائقة) إلى الموت إضافة غير محضة، وليس ثمة ما يتسع هنا لإضافة (ذائقة) إلى الموت إضافة محضة. قال العكبري في إعراب القرآن: (وإضافة ذائقة غير محضة لأنها نكرة يُحكى بها الحال، وقرئ شاذاً ذائقة الموت بالتنوين والإعمال).
*الفراء واسم الفاعل:
نهج الفراء يحيى بن زياد (207 هـ)، وهو عَلَمْ من أعلام الكوفية، نهج الكسائي في اتخاذ أصول الكوفية، وتجلَّى ذلك في كتابه الأول (معاني القرآن). وقد عمد فيه (1، 45). إلى تمييز اسم الفاعل العامل فأسماه (فعلاً دائماً)، من اسم الفاعل غير العامل، وقد أبقاه على الأصل (اسماً).
قال الفراء في تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. الأنبياء ،35. بإضافة (ذائقة) إلى الموت، قال في كتابه (معاني القرآن): "ولو نونت ذائقة ونصبت كان صواباً". وهذا يعني أن (ذائقة الموت) بتنوين الأول ونصب الثاني، على إعمال اسم الفاعل، جائز جواز (ذائقة الموت) بالإضافة غير المحضة، فكلاهما يفيد الحال أو الاستقبال. وأردف: "وأكثر ما تختار العرب التنوين والنصب في المستقبل"، ومؤدَّى ذلك أن العرب قد تعني المضي في اسم الفاعل العامل، ولو أن الكثير الغالب أن تعني المستقبل. ويمضي الفراء قائلاً: "فإذا كان معناه ماضياً لم يكادوا يقولون إلا بالإضافة"، وفحوى ذلك أن المضي إنما يعبر عنه غالباً بالإضافة، ولكن قد يعبر عنه بإعمال اسم الفاعل أيضاً، وهذا رأي الكوفية خلافاً للبصرية التي لا ترى في الأعمال إلا دلالة الحال والاستقبال، لكنها ترى في الإضافة دلالة الحال إذا لم تكن محضة، والمضي إذا كانت محضة.
*البصريون واسم الفاعل:
ذهب البصريون إلى أن اسم الفاعل إما أن يفيد الماضي، ولا يتأتى ذلك إلا بإضافته إضافة محضة تفيد التعريف، وإما أن تفيد الحال أو الاستقبال، ولا يكون هذا إلا بإعمال اسم الفاعل وتنوينه، أو بإضافته إضافة غير محضة لا تفيد تعريفاً.
وقد بسط القول في ذلك القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري في تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. آل عمران، 185. قال القرطبي: "(ذائقة الموت(. بالإضافة، وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت. قالوا لأنها لم تذق بعد". وأردف: "ذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي، والثاني بمعنى الاستقبال. فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده، كذلك قولك: هذا ضارب زيد أمس... لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم..."، أي أن الإضافة فيه محضة. وتابع يقول: "وإن أردت الثاني جاز الجر والنصب والتنوين، فيما هذا سبيله هو الأصل، لأنه يجري مجرى الفعل المضارع، فإن كان غير متعدٍ لم يتعدَّ نحو قائم زيد. وإن كان متعدياً عدّيته ونصبت به فتقول: زيد ضارب عمرواً بمعنى يضرب عمرواً. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفاً"، ومعنى هذا أن تنوين اسم الفاعل ونصبه المفعول به، كحذف تنوينه مع إضافته، في إفادة الحال، مادامت الإضافة غير محضة.
*اسم الفاعل والاستمرار:
إذا قيل أن دلالة اسم الفاعل هي (الاستمرار) فسِّر ذلك على أحد وجهين: الأول أن يعني الاستمرار اشتمال هذه الدلالة على الحال أو الاستقبال حيناً وعلى الماضي حيناً آخر. وهذا ما حمل الكوفيين على أن يسمُّوا اسم الفاعل بالفعل الدائم. وقد جاء في الكليات لأبي البقاء: "اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال أو الاستقبال، وإلغاؤه نظراً إلى اشتماله على الماضي ـ 5،317"، كما ذكرنا ذلك قبل، ولا ننسى أن الكوفيين قد اعتقدوا اشتماله على الماضي أيضاً، ولو كان عاملاً.
الثاني: أن يعني الاستمرار الثبوت في الأزمنة المختلفة. وقد أشار صاحب الكليات إلى هذا حين قال:"معنى الاستمرار هو الثبوت من غير أن يعتبر معه الحدث في أحد الأزمنة ـ 5،323"، وهو الأصل فيه، إذ قال: "اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً بأصل وضعه ـ 5،173".
ولكن متى يدل اسم الفاعل على الثبوت أي الاستمرار في الأزمنة المختلفة؟...
أقول يدل اسم الفاعل على الثبوت أو الدوام أو الاستمرار في الأزمنة المختلفة، إذا أضفته إضافة محضة، أي إضافة معنوية أو حقيقية، فجرى مجرى الاسم الجامد، وقد يدل في هذه الحال أيضاً على الماضي، والقرينة تفصل بين الدلالتين.
قال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم( الأنعام ،96". وقرئ فالق الإصباح بالنصب على المدح وجاعل الليل سكناً ونصبه بفعل دلَّ عليه جاعل لا به، فإنه في معنى الماضي ويدل عليه قراءة الكوفيين وجعل الليل"، أي وقرئ (جاعل الليل ساكناً)، وقد نصب (سكناً)، بفعل محذوف لدلالة جاعل على الماضي، لأن عمل اسم الفاعل ونصبه للمفعول مشروط بدلالته على الحال أو الاستقبال، دون الماضي، خلافاً للكسائي، وابن هشام وابن مضاء. ومضى الإمام البيضاوي يقول:"..... وبه على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة". أي وقرئ (وجاعل الليل سكناً)، على أن المراد جعل الخالق الليل كذلك مستمراً على الدوام. فثبت بهذا أن إضافة اسم الفاعل الإضافة المحضة أو المعنوية الحقيقية قد تنطوي على دلالته على الماضي، كما تنطوي على دلالته على الاستمرار، والقرينة تميز إحداهما من الأخرى.
وانظر إلى ما جاء في شرح الإمام عبد الرحمن بن محمد الجامي لكافية ابن الحاجب. قال ابن الحاجب: "فإن كان للماضي وجب الإضافة معنى، خلافاً للكسائي". فقال الجامي: "فإن كان اسم الفاعل المتعدِّي للزمان الماضي بالاستقلال، أو في ضمن الاستمرار، وأريد ذكر مفعوله وجبت الإضافة، أي إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله معنى أي إضافة معنوية لفوات شرط الإضافة اللفظية مثل زيد ضارب عمرو أمس، خلافاً للكسائي فإنه ذهب إلى عدم وجوب إضافته، لأنه يعمل عنده سواء كان بمعنى الماضي أو الحال أو الاستقبال فيجوز أن يكون منصوباً على المفعولية وعلى تقدير إضافته ليست إضافته معنوية لأنها عنده من قبيل إضافة الصفة إلى معمولها..."، أي أنه لابد لإعمال اسم الفاعل المتعدِّي ونصبه مفعولاً، من أن يدل على الحال أو الاستقبال دون الماضي، فينون أو يضاف إضافة لفظية، لا معنوية. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت(. فقرئ (ذائقة) بالإضافة وبالتنوين.
فإذا أريد دلالة اسم الفاعل على الماضي أو على الاستمرار فلابد من إضافته. وإضافته ها هنا معنوية كقولك زيد ضارب عمرو أمس، خلافاً للكسائي الذي أجاز إعمال اسم الفاعل، ولو دلَّ على الماضي، فلم ير ضرورة إضافته في هذه الحال الإضافة المعنوية المحضة التي أوجبها البصريون.
وهكذا إذا قصد تعريف الصفة المضافة إلى معمولها كاسم الفاعل تعرَّفت بدلالة الوصف على الاستمرار في الأزمنة المختلفة، وكانت إضافتها محضة معنوية، فوصفت بها المعرفة. قال الإمام السيوطي في همع الهوامع: "فإن قصد تعريفها، أي الصفة المضافة إلى معمولها بأن قصد الوصف بها من غير اختصاص بزمان دون زمان تعرَّفت، ولذا وصفت بها المعرفة، في قوله تعالى.... غافر الذنب ـ 2، 48".
قال تعالى: (حم( تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم(غافر الذنب وقابل التوب( شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير( غافر،3". فقال أبو البقاء العكبري في (إعراب القرآن)."غافر الذنب قابل التوب كلتاهما صفة لما قبله والإضافة محضة". أي صفة لله، وأردف: "وأما شديد العقاب منكرة لأن التقدير شديد عقابه فيكون بدلاً. ويجوز أن يكون شديد بمعنى مشدِّد. فتكون الإضافة محضة فيتعرف ويكون وصفاً أيضاً. أما ـ ذي الطول فصفة أيضاً".
وقال تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم( ـ الأنعام ،96". فجاء في إعراب القرآن للعكبري أن دلالة (فالق الإصباح) قد تكون الماضي والإضافة محضة تفيد التعريف، وقد تكون الحال والإضافة غير محضة تفيد التنكير. فهل ثمة وجه تكون الدلالة الزمنية فيه، هي الاستمرار والإضافة محضة؟...
أقول جاء في تفسير القرطبي قوله: "فالق الإصباح، نعت لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح"، فثبت بهذا أن إضافته محضة تفيد التعريف لأن النعت يتبع المنعوت في تعريفه وتنكيره. وقد قال القرطبي في دلالته الزمنية: "وقيل المعنى أن الله فالق الإصباح، والصبح والصباح أول النهار وكذلك الإصباح، أي فالق الصبح كل يوم، والإصباح مصدر أصبح"، وأردف: "وقال الضحاك فالق الإصباح خالق النهاروهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين"، فثبت بقوله: (فالق الصبح كل يوم)، أنه دال على الاستمرار.
وقد جاء في إعراب (الفاتحة) للإمام خالد الأزهري في كتابه (الأزهري في علم النحو): "الحمد مبتدأ، لله جار ومجرور.... رب نعت أول لله وهو مضاف، العالمين مضاف إليه، الرحمن نعت ثان لله، الرحيم نعت ثالث لله، مالك نعت رابع لله، وصح ذلك لدلالته على الدوام والاستمرار لكونه من صفات الباري تعالى وهو مضاف إضافة محضة، 186". فقد رأيت كيف جعل اسم الفاعل المضاف إضافة محضة وهو (مالك) نعتاً لمعرفة، ذلك لدلالته على الدوام الاستمرار.
*المخزومي والسامرائي ودلالة اسم الفاعل على الاستمرار:
أشرنا فيما تقدم إلى أن وصف اسم الفاعل بالمستمر أو الدائم يعني أحد أمرين:
الأول: دلالة هذه الصيغة على الماضي حيناً والمضارع والمستقبل حيناً آخر، وهذا ما عناه الكوفيون بوصفهم اسم الفاعل بأنه (الفعل الدائم). ويطابق ذلك ما أراده الباحث (بول كراوس) في (محاضراته عام 1943)، وقد تحدث عنها الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اللغات السامية ،16)، حين أشار إلى أن اللغات السامية قد عرفت عهداً غابراً، لم يكن لها فيه صيغة للماضي وأخرى للمضارع أو المستقبل، وإنما كانت هناك صيغة تستعمل في التعبير عن الأزمنة جميعاً. وهذا ما ذكره الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (في النحو العربي،111)، إذ قال: "يرى بعض فقهاء اللغة المحدثين من المستشرقين والمعنيين بالدراسات المقارنة أن الزمان ليس شيئاً أصيلاً، وأن اقتران الفعل العربي به حديث النشأة، بعد أن وجدت صيغة ـ فَعَلَ ـ المتطورة عن صيغة ـ فَعل ـ وهي الصيغة التي يسمونها: برمانسيف أو الفعل الدائم في تعبير الكوفيين، والتي يعدونها أقدم وجوداً من الفعل الماضي.
أقول إن التعبير بصيغة واحدة عن أزمنة مختلفة لا ينفي البتة اقتران الفعل بدلالته الزمنية. قال الدكتور ولفنسون: "كذلك يعتقد العلماء أن صيغة المضارع كانت في مدى قرون كثيرة تدل على جميع الأزمنة، كما هو الحال في اللغة الصينية وفي اللغة الأندرو جرمانية الأصلية،16".
وهكذا فإن اسم الفاعل صيغة واحدة تدل على الماضي حيناً كما تدل على الحال والاستقبال حيناً آخر. وهذا ما حمل الكوفيين على تسميته بالفعل الدائم.
الثاني: دلالة اسم الفاعل على الاستمرار في مختلف الأزمنة، دون زمن معين، قال المخزومي في كتابه (في النحو العربي،139): "وأما مثال فاعل فهو أحد أقسام الفعل، وهو الفعل الدائم الذي لا دلالة له على زمان معين إذا لم يوصل بصلة من مضاف إليه أو مفعول". وفي كلام المخزومي هذا نظر من ناحيتين:
ـ الأولى: أن الكوفيين لم يعنوا بالفعل الدائم الفعل الذي لا دلالة له على زمان معين، وإنما عنوا به الفعل الذي يدل على الماضي تارة وعلى المضارع أو المستقبل تارة أخرى.
الثانية: إن قول المخزومي: "الذي لا دلالة له على زمان معين"، يعني الإشارة إلى صفة الاستمرار في اسم الفاعل، ودلالة اسم الفاعل على الاستمرار ليست مرهونة بعدم إضافته، فقد يدل اسم الفاعل على الاستمرار ويكون مضافاً، وقد مثلنا لذلك بقوله تعالى: (غافر الذنب(. غافر،3"، كما مثلنا له بقوله تعالى: (فالق الإصباح( الأنعام ،96".
وقد بحث هذا الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه (الفعل زمانه وأبنتيه) وانتهى منه إلى القول: "والقول بدلالة فاعل على الاستمرار مما انفرد به المخزومي، فقد اقتصر السابقون على دلالة فاعل على المستقبل، وهو اسم الفاعل المنون العامل نحو أنا صائم يوم الخميس أي سأصوم، وعلى المضي وهو اسم الفاعل المضاف نحو هو قاتل أخيه، أي قتل ـ 43". قال السامرائي هذا وقد ثبت بما لا وجه فيه لشك أو ارتياب، دلالة اسم الفاعل على الاستمرار، كما رأيت.
ولا ننسى قول أبي البقاء الحسيني الكفوي في (كلياته): "اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً ب