يجمع علماء اللغة وفقهاؤها على حقيقة لا شك فيها قط، وهي أن اللغة، من حيث هي لغة، كائن حي، يخضع لقانون النمو ولسنة التطور.
إنّ التطوّر أصلٌ أصيلٌ في حياة اللغة بما هي كائن اجتماعي، وأساس التطور هو الوجود البسيط أولاً، ثم النماء المترقي ثانياً، وخلال هذا الانتقال يتكون الكائن مترقياً، ويتغير تغيرات مندرجة (1).
ولكننا لا نذهب إلى أبعد مدى في التسليم بهذه المقولة، أو لنقل بعبارة أدق، إننا لا نفهم التطور بمعنى القطيعة مع التراث، والاقتلاع من الجذور، وتجاوز الأصول والثوابت. ولذلك فإنَّ الرأي الذي نعتمده في هذه القضية، هو تطور اللغة في إطار خصائصها وضوابطها، وبمنهجية يضعها اللغويون.
وليس في حرصنا على الالتزام بهذه المنهجية حجرٌ على الفكر اللغوي، أو ضربٌ من التزمت والانغلاق والانكفاء على الذات، وإنما هو الانضباط الذي يقتضيه تعاملنا مع هذه القضية، والاحتياط الذي يستوجبه قيامنا بواجبنا تجاه لغتنا.
وإلى ذلك، فإن للتطور اللغوي مستويات؛ المستوى الأول، تطوير اللغة من الداخل، ونقصد به مسايرة نموّ المجتمع ومواكبة تطوره، من خلال الاشتقاق والنحت والتجوز والتوليد والتعريب، وهذا الضرب من التطوّر بطيء بطبيعته، قد لا يشعر به أهل اللغة في جيل أو عدة أجيال، لأنهم يعيشونه ويندمجون فيه، وإنما تشعر به وتلمسه الأجيال اللاحقة. أما المستوى الثاني، فهو تطوير اللغة من الخارج، ونقصد به التأثيرات الضاغطة التي تفرض التصرّف في اللغة قلباً وتحويراً، وحذفاً وإضافة، وإفساداً وتشويهاً، وخروجاً على القواعد المتبعة والأصول المعتمدة، وهذا الضرب من التطور قَسْريٌّ وقهريٌّ، لأنه مفروض بقوة الواقع، أو تحت تأثير غزو فكري يستصحب غزواً لغوياً.
كذلك هو النموّ الذي قد تعرفه لغة من اللغات، فهو لا يكون نموًّا سليماً بصورة مطردة، وإنما قد يكون نموًّا عشوائياً يفسد اللغة ويدمّر أركانها.
ولم تعرف اللغة العربية عبر تاريخها الطويل ما تعرفه اليوم من سرعة في النموّ، واندفاع في التطوّر ومسايرة المتغيرات، بحكم عوامل كثيرة ونتيجة لأسباب متعددة، لعلَّ أقواها تأثيراً، النفوذ الواسع الذي تمتلكه وتمارسه وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، والذي يبلغ الدرجة العليا من التأثير على المجتمع، في قيمه ومبادئه، وفي نظمه وسلوكياته، وفي ثقافته ولغته، وعلى النحو الذي يفقد بعض المجتمعات هويتها الحضارية، وينال من خصوصياتها الثقافية، وفي المقدمة منها الخصوصية اللغوية.
إن العلاقة بين اللغة والإعلام لا تسير دائماً في خطوط متوازية؛ فالطرفان لا يتبادلان التأثير، نظراً إلى انعدام التكافؤ بينهما، لأنّ الإعلام هو الطرف الأقوى، ولذلك يكون تأثيره في اللغة بالغاً الدرجة التي تضعف الخصائص المميزة للغة، وتُلحق بها أضراراً تصل أحياناً إلى تشوّهات تفسد جمالها.
وإذا كان لكلّ علم وفن وكلّ فرع من فروع النشاط الإنساني لغة خاصة به، بمعنى من المعاني، فإن اللغة في الإعلام تختلف، من وجوه كثيرة، عنها في تلك الحقول من التخصصات جميعاً، فهي في موقف ضعف أمام قوة الإعلام وجبروته، فقلما تفرض اللغة نفسها على الإعلام، وإنما الإعلام هو الذي يهيمن على اللغة، ويقتحم حرمها، وينال من مكوّناتها ومقوماتها، فتصبح أمام عنفوانه وطغيانه، طيّعة لينة، تسير في ركابه، وتخضع لإرادته، وتخدم أهدافه، ولا تملك إزاءه سلطة ولا نفوذاً.
ولما كانت قوة اللغة تستمدها من قوة أهلها، لأن اللغة تقوى وتزدهر وتنتشر، بقدر ما تتقوّى الأمة التي تنتسب إليها وتترقى في مدارج التقدم الثقافي والأدبي والعلمي والازدهار الاجتماعي والسياسي والحضاري، فإن الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية في هذه المرحلة من التاريخ، لا يوفر للغة العربية حظوظاً أكبر للبروز وامتلاك شروط القوة، مما يترتب عليه ضعف اللغة وعدم قدرتها على فرض الوجود والتحكم في توجّهات الإعلام، والخروج من دائرة سيطرة نفوذه، والفكاك من هيمنة وسائله، بحيث تصير اللغة تابعة للإعلام، متجاوزةً بذلك الفواصل بين الإصلاح والإفساد.
لقد كان الغيورون على لغة الضاد عند ظهور الصحافة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر، يحذرون من انحدار اللغة إلى مستويات متدنية، فتعالت صيحات الكتاب والأدباء في غير ما قطر عربي، داعية إلى الحرص على صحة اللغة وسلامتها، وظهرت عدة كتب تعنى بما اصطلح عليه بلغة الجرائد؛ تصحح الخطأ، وتقوّم المعوج من أساليب الكتابة، وتردّ الاعتبار إلى اللغة العربية. وقد أفلحت الجهود التي بذلها أساطين اللغة والرواد الأُول الحريصون على سلامة اللغة السائدة في الصحافة، أو (اللغة السيَّارة)، قياساً على قولنا (الصحف السيَّارة).
ولكن مع الانتشار الواسع للصحافة الذي تَزَامَنَ مع الازدياد في عدد المتعلمين من خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس، وما استصحب ذلك كلّه من هبوط في المستوى الدراسي بصورة عامة، نتيجة لأسباب وعوامل كثيرة، اقتصادية وسياسية وثقافية، انتهى الأمر إلى ضعف اللغة العربية وهيمنة اللهجات العامية المحلية عليها، وسريان ذلك إلى وسائل الإعلام، على نحو يكاد يكون مطرداً، بعد أن لم تعد تجدي صيحات التحذير التي يطلقها علماء اللغة والغيورون عليها، ولم تعد تنفع القرارات والتوصيات التي تصدر عن المجامع اللغوية، أو تلك التي تصدر عن الندوات والمؤتمرات المختصة.
وقد ترتَّب على هذا الوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية، أن دخلت عصر الإعلام الواسع الانتشار، وهي تعاني من ضعف المناعة، مما أدَّى إلى هجوم مكتسح وغزو جارف لما يطلق عليه (لغة الإعلام)، على اللغة الفصحى، فوقع تداخل بين اللغتين الفصيحة والعامية، تولَّدت عنه لغة ثالثة هجينة ما لبثت أن انتشرت على نطاق واسع داخل الأقطار العربية وخارجها حيث يوجد من يعرف اللغة العربية من الجاليات العربية وممن تعلَّم العربية وهي ليست لغته الأم.
واللغة الثالثة هذه، والتي صارت لغة الإعلام المعتمدة، هي منزلة بين المنزلتين، كما كان يقول أهل العدل والتوحيد في تاريخنا؛ فلا هي اللغة الفصيحة في قواعدها ومقاييسها وأبنيتها وأصولها، ولا هي لغة عامية لا تلتزم قيوداً ولا تخضع لقياس ولا تسري عليها أحكام. ولكن ميزة هذه اللغة أنها واسعة الانتشار انتقل بها الحرف العربي إلى آفاق بعيدة، ولكن الخطورة هنا، تكمن في أنها تحل محل الفصحى، وتنتشر بما هي عليه من ضعف وفساد باعتبارها اللغة العربية التي ترقى فوق الشك والريبة. وبذلك تكتسب هذه اللغة الجديدة (مشروعية الاعتماد)، ويخلو لها المجال، فتصير هي لغة الفكر والأدب والفن والإعلام والإدارة والديبلوماسية، أي لغة الحياة التي لا تزاحمها لغة أخرى من جنسها أو من غير جنسها.
وبحكم التوسّع في وسائل الإعلام وتعدّد قنواته ومنابره ووسائطه، ونظراً إلى التأثير العميق والبالغ الذي يمارسه الإعلام في اللغة، وفي الحياة والمجتمع بصورة عامة، فإن العلاقة بين اللغة العربية والإعلام أضحت تشكل ظاهرة لغوية جديرة بالتأمل، وهي ذات مظهرين اثنين :
ـ أولهما أن اللغة العربية انتشرت وتوسَّع نطاق امتدادها وإشعاعها إلى أبعد المدى، بحيث يمكن القول إن العربية لم تعرف هذا الانتشار والذيوع في أي مرحلة من التاريخ. وهذا مظهر إيجابي، باعتبار أن مكانة اللغة العربية قد تعززت كما لم يسبق من قبل، وأن الإقبال عليها زاد بدرجات فائقة، وأنها أصبحت لغة عالمية بالمعنى الواسع للكلمة.
ـ ثانيهما ويتمثَّل في شيوع الخطأ في اللغة، وفشوّ اللحن على ألسنة الناطقين بها، والتداول الواسع للأقيسة والتراكيب والصيغ والأساليب التي لا تمتّ بصلة إلى الفصحى، والتي تفرض نفسها على الحياة الثقافية والأدبية والإعلامية، فيقتدى بها ويُنسج على منوالها، على حساب الفصحى التي تتوارى وتنعزل إلاَّ في حالات استثنائية. وبذلك تصبح اللغة الهجينة هي القاعدة، واللغة الفصيحة هي الاستثناء. وهذا مظهر سلبي للظاهرة.
وإذا قمنا بالتكييف اللغوي ـ على غرار التكييف القانوني ـ لهذه الظاهرة، لا نعدو الحق إذا قلنا إن اللغة العربية تعاني في هذه المرحلة من (التلوث) الذي يُلحق أفدح الأضرار بالبيئة اللغوية، ويفسد الفكر، ويشيع ضروباً من الاضطراب والإرباك والقلق في العقول، علاوة على ما يسبّبه هذا الوضع اللغوي غير المستقر، من فساد في الحياة العقلية للأمة، تنتقل عدواه إلى فساد في معظم المجالات، فتختلط المعاني والدلالات والمفاهيم والرموز في لغة الحوار بين الطبقات المثقفة، وبين قيادات المجتمع، فيؤدي ذلك إلى الغموض والالتباس والتداخل في مدلولات الكلمات، مما ينشأ عنه حالة من (الفوضى اللغوية) التي إن عمّت وانتشرت، أفضت إلى فوضى عارمة في الحياة الفكرية والثقافية، وإلى ما هو أعظم خطراً من ذلك كله.
إن هذا التشخيص للعلاقة بين اللغة والإعلام يمكننا من أن نقف على حقيقة الوضع اللغوي للضاد(2)، في هذه المرحلة الحافلة بالمتغيرات الإقليمية والدولية الحاسمة. وليس من المبالغة في شيء، في ضوء ذلك، قولنا إن هذا الوضع خطير بالمقاييس جميعاً، وبالمعاني كلها، ومن عدة وجوه، ولكن هذه الخطورة لا تمنع من معالجة الخلل وتطهير البيئة اللغوية من التلوث، وإفساح المجال أمام تنمية لغوية يُعاد فيها الاعتبار إلى الفصحى، وتستقيم فيها حال اللغة، بحيث تقوم العلاقة بينها وبين الإعلام على أساس سليم، فيتبادلان التأثير في اعتدال وفي حدود معقولة، فلا يطغى طرف على آخر، بحيث تبقى اللغة محتفظة بشخصيتها، ويظل الإعلام يؤدي وظيفته في التنوير والتثقيف والترفيه النظيف، فيتكامل الطرفان وينسجمان، فتصبح اللغة في خدمة الإعلام، ويصبح الإعلام داعماً لمركز اللغة.
ولكننا لا نيأس من إصلاح اللغة العربية في المدى القريب، فلقد تحقق اليوم ما يعبر عنه (بالتضخم اللغوي)، أو (التوسّع اللغوي)(3)، وذلك نتيجة لاتساع رقعة الإعلام وتأثيره في المجتمعات، ولانتشار اللغة العربية بوضعها الحالي، على نطاق واسع، وهو الأمر الذي يخدم أحد أغراض التنمية اللغوية بالمعنى الشامل للتنمية المعتمد في الخطاب المعاصر. وليس في التضخم اللغوي خطر على اللغة، كما هو الشأن في الاقتصاد، لأن التضخم هنا توسيع لنطاق استخدام اللغة، وإغناء لمضامينها ومعانيها، وتلك غاية سامية من الغايات التي تهدف إليها التنمية اللغوية.
وكما أن للتنمية من حيث هي، سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية، قواعد وضوابط ومعايير وأهداف مرسومة، فكذلك هي التنمية اللغوية التي لن يتحقق الغرض منها ما لم تتوافر لها الشروط الموضوعية.
ويأتي في مقدمة هذه الشروط التي إن انتفى شرط واحد منها، فقدت التنمية اللغوية الهدف المتوخى منها، ثلاثة شروط، هي:
أولاً : أن تلتزم اللغة القواعد والأبنية والتراكيب والمقاييس المعتمدة والتي بها تكتسب الصحة والسلامة، في غير ما تزمت، أو تقعر، أو انغلاق، مع مراعاة المرونة والتكيّف مع المستجدات التعبيرية، فلا تسف، ولكنها تحافظ على طبيعتها وأصالتها ونضارتها.
ثانياً : أن تفي اللغة بحاجات المجتمع، وأن ترتقي إلى المستويات الرفيعة لشتى ألوان التعبير، بحيث تكون لغة متطورة، مسايرة لعصرها، مندمجة في محيطها، معبرة عن ثقافة المجتمع ونهضته وتطوره، مواكبة لأحواله، مترجمة لأشواقه وآماله.
ثالثاً : أن يُحتفظ بمساحات معقولة بين لغة الخطاب اليومي عبر وسائل الإعلام جميعاً، وبين لغة الفكر والأدب والإبداع في مجالاتهما، بحيث يكون هناك دائماً المثل الأعلى في استعمال اللغة، يتطلع إليه المتحدثون والكتاب على اختلاف طبقاتهم، ويسعون إلى الاقتداء به ويجتهدون للارتفاع إليه، فإذا عدم هذا المثل الراقي حلَّ محله مثل أدنى قيمة وأحط درجة، لا يربي ملكة ولا يصقل موهبة ولا يحافظ على اللغة، إن لم يسيء إليها ويفسدها.
والشرط الثالث هو من الأهمية بمكان، لأن انتفاء المثل الأعلى في اللغة يؤدي إلى هبوط حادّ في مستوى التعبير الشفاهي والكتابي على السواء، ويتسبَّب في شيوع اللهجات العامية التي تنازع الفصحى السيادةَ على الفكر واللسان، لدرجة أنها تصبح مثلاً يحتذى به. وتلك هي الخطورة التي تتهدّد شخصية اللغة العربية في الصميم. وهذه هي النتيجة التي يخشى اللغويون العرب من الوصول إليها، لأنها تمثّل خطراً حقيقياً على الفصحى وعلى ما تمثله من قيم ثقافية رفيعة، هي من الخصوصيات الحضارية للأمة العربية الإسلامية.
إنّ التطوّر أصلٌ أصيلٌ في حياة اللغة بما هي كائن اجتماعي، وأساس التطور هو الوجود البسيط أولاً، ثم النماء المترقي ثانياً، وخلال هذا الانتقال يتكون الكائن مترقياً، ويتغير تغيرات مندرجة (1).
ولكننا لا نذهب إلى أبعد مدى في التسليم بهذه المقولة، أو لنقل بعبارة أدق، إننا لا نفهم التطور بمعنى القطيعة مع التراث، والاقتلاع من الجذور، وتجاوز الأصول والثوابت. ولذلك فإنَّ الرأي الذي نعتمده في هذه القضية، هو تطور اللغة في إطار خصائصها وضوابطها، وبمنهجية يضعها اللغويون.
وليس في حرصنا على الالتزام بهذه المنهجية حجرٌ على الفكر اللغوي، أو ضربٌ من التزمت والانغلاق والانكفاء على الذات، وإنما هو الانضباط الذي يقتضيه تعاملنا مع هذه القضية، والاحتياط الذي يستوجبه قيامنا بواجبنا تجاه لغتنا.
وإلى ذلك، فإن للتطور اللغوي مستويات؛ المستوى الأول، تطوير اللغة من الداخل، ونقصد به مسايرة نموّ المجتمع ومواكبة تطوره، من خلال الاشتقاق والنحت والتجوز والتوليد والتعريب، وهذا الضرب من التطوّر بطيء بطبيعته، قد لا يشعر به أهل اللغة في جيل أو عدة أجيال، لأنهم يعيشونه ويندمجون فيه، وإنما تشعر به وتلمسه الأجيال اللاحقة. أما المستوى الثاني، فهو تطوير اللغة من الخارج، ونقصد به التأثيرات الضاغطة التي تفرض التصرّف في اللغة قلباً وتحويراً، وحذفاً وإضافة، وإفساداً وتشويهاً، وخروجاً على القواعد المتبعة والأصول المعتمدة، وهذا الضرب من التطور قَسْريٌّ وقهريٌّ، لأنه مفروض بقوة الواقع، أو تحت تأثير غزو فكري يستصحب غزواً لغوياً.
كذلك هو النموّ الذي قد تعرفه لغة من اللغات، فهو لا يكون نموًّا سليماً بصورة مطردة، وإنما قد يكون نموًّا عشوائياً يفسد اللغة ويدمّر أركانها.
ولم تعرف اللغة العربية عبر تاريخها الطويل ما تعرفه اليوم من سرعة في النموّ، واندفاع في التطوّر ومسايرة المتغيرات، بحكم عوامل كثيرة ونتيجة لأسباب متعددة، لعلَّ أقواها تأثيراً، النفوذ الواسع الذي تمتلكه وتمارسه وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، والذي يبلغ الدرجة العليا من التأثير على المجتمع، في قيمه ومبادئه، وفي نظمه وسلوكياته، وفي ثقافته ولغته، وعلى النحو الذي يفقد بعض المجتمعات هويتها الحضارية، وينال من خصوصياتها الثقافية، وفي المقدمة منها الخصوصية اللغوية.
إن العلاقة بين اللغة والإعلام لا تسير دائماً في خطوط متوازية؛ فالطرفان لا يتبادلان التأثير، نظراً إلى انعدام التكافؤ بينهما، لأنّ الإعلام هو الطرف الأقوى، ولذلك يكون تأثيره في اللغة بالغاً الدرجة التي تضعف الخصائص المميزة للغة، وتُلحق بها أضراراً تصل أحياناً إلى تشوّهات تفسد جمالها.
وإذا كان لكلّ علم وفن وكلّ فرع من فروع النشاط الإنساني لغة خاصة به، بمعنى من المعاني، فإن اللغة في الإعلام تختلف، من وجوه كثيرة، عنها في تلك الحقول من التخصصات جميعاً، فهي في موقف ضعف أمام قوة الإعلام وجبروته، فقلما تفرض اللغة نفسها على الإعلام، وإنما الإعلام هو الذي يهيمن على اللغة، ويقتحم حرمها، وينال من مكوّناتها ومقوماتها، فتصبح أمام عنفوانه وطغيانه، طيّعة لينة، تسير في ركابه، وتخضع لإرادته، وتخدم أهدافه، ولا تملك إزاءه سلطة ولا نفوذاً.
ولما كانت قوة اللغة تستمدها من قوة أهلها، لأن اللغة تقوى وتزدهر وتنتشر، بقدر ما تتقوّى الأمة التي تنتسب إليها وتترقى في مدارج التقدم الثقافي والأدبي والعلمي والازدهار الاجتماعي والسياسي والحضاري، فإن الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية في هذه المرحلة من التاريخ، لا يوفر للغة العربية حظوظاً أكبر للبروز وامتلاك شروط القوة، مما يترتب عليه ضعف اللغة وعدم قدرتها على فرض الوجود والتحكم في توجّهات الإعلام، والخروج من دائرة سيطرة نفوذه، والفكاك من هيمنة وسائله، بحيث تصير اللغة تابعة للإعلام، متجاوزةً بذلك الفواصل بين الإصلاح والإفساد.
لقد كان الغيورون على لغة الضاد عند ظهور الصحافة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر، يحذرون من انحدار اللغة إلى مستويات متدنية، فتعالت صيحات الكتاب والأدباء في غير ما قطر عربي، داعية إلى الحرص على صحة اللغة وسلامتها، وظهرت عدة كتب تعنى بما اصطلح عليه بلغة الجرائد؛ تصحح الخطأ، وتقوّم المعوج من أساليب الكتابة، وتردّ الاعتبار إلى اللغة العربية. وقد أفلحت الجهود التي بذلها أساطين اللغة والرواد الأُول الحريصون على سلامة اللغة السائدة في الصحافة، أو (اللغة السيَّارة)، قياساً على قولنا (الصحف السيَّارة).
ولكن مع الانتشار الواسع للصحافة الذي تَزَامَنَ مع الازدياد في عدد المتعلمين من خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس، وما استصحب ذلك كلّه من هبوط في المستوى الدراسي بصورة عامة، نتيجة لأسباب وعوامل كثيرة، اقتصادية وسياسية وثقافية، انتهى الأمر إلى ضعف اللغة العربية وهيمنة اللهجات العامية المحلية عليها، وسريان ذلك إلى وسائل الإعلام، على نحو يكاد يكون مطرداً، بعد أن لم تعد تجدي صيحات التحذير التي يطلقها علماء اللغة والغيورون عليها، ولم تعد تنفع القرارات والتوصيات التي تصدر عن المجامع اللغوية، أو تلك التي تصدر عن الندوات والمؤتمرات المختصة.
وقد ترتَّب على هذا الوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية، أن دخلت عصر الإعلام الواسع الانتشار، وهي تعاني من ضعف المناعة، مما أدَّى إلى هجوم مكتسح وغزو جارف لما يطلق عليه (لغة الإعلام)، على اللغة الفصحى، فوقع تداخل بين اللغتين الفصيحة والعامية، تولَّدت عنه لغة ثالثة هجينة ما لبثت أن انتشرت على نطاق واسع داخل الأقطار العربية وخارجها حيث يوجد من يعرف اللغة العربية من الجاليات العربية وممن تعلَّم العربية وهي ليست لغته الأم.
واللغة الثالثة هذه، والتي صارت لغة الإعلام المعتمدة، هي منزلة بين المنزلتين، كما كان يقول أهل العدل والتوحيد في تاريخنا؛ فلا هي اللغة الفصيحة في قواعدها ومقاييسها وأبنيتها وأصولها، ولا هي لغة عامية لا تلتزم قيوداً ولا تخضع لقياس ولا تسري عليها أحكام. ولكن ميزة هذه اللغة أنها واسعة الانتشار انتقل بها الحرف العربي إلى آفاق بعيدة، ولكن الخطورة هنا، تكمن في أنها تحل محل الفصحى، وتنتشر بما هي عليه من ضعف وفساد باعتبارها اللغة العربية التي ترقى فوق الشك والريبة. وبذلك تكتسب هذه اللغة الجديدة (مشروعية الاعتماد)، ويخلو لها المجال، فتصير هي لغة الفكر والأدب والفن والإعلام والإدارة والديبلوماسية، أي لغة الحياة التي لا تزاحمها لغة أخرى من جنسها أو من غير جنسها.
وبحكم التوسّع في وسائل الإعلام وتعدّد قنواته ومنابره ووسائطه، ونظراً إلى التأثير العميق والبالغ الذي يمارسه الإعلام في اللغة، وفي الحياة والمجتمع بصورة عامة، فإن العلاقة بين اللغة العربية والإعلام أضحت تشكل ظاهرة لغوية جديرة بالتأمل، وهي ذات مظهرين اثنين :
ـ أولهما أن اللغة العربية انتشرت وتوسَّع نطاق امتدادها وإشعاعها إلى أبعد المدى، بحيث يمكن القول إن العربية لم تعرف هذا الانتشار والذيوع في أي مرحلة من التاريخ. وهذا مظهر إيجابي، باعتبار أن مكانة اللغة العربية قد تعززت كما لم يسبق من قبل، وأن الإقبال عليها زاد بدرجات فائقة، وأنها أصبحت لغة عالمية بالمعنى الواسع للكلمة.
ـ ثانيهما ويتمثَّل في شيوع الخطأ في اللغة، وفشوّ اللحن على ألسنة الناطقين بها، والتداول الواسع للأقيسة والتراكيب والصيغ والأساليب التي لا تمتّ بصلة إلى الفصحى، والتي تفرض نفسها على الحياة الثقافية والأدبية والإعلامية، فيقتدى بها ويُنسج على منوالها، على حساب الفصحى التي تتوارى وتنعزل إلاَّ في حالات استثنائية. وبذلك تصبح اللغة الهجينة هي القاعدة، واللغة الفصيحة هي الاستثناء. وهذا مظهر سلبي للظاهرة.
وإذا قمنا بالتكييف اللغوي ـ على غرار التكييف القانوني ـ لهذه الظاهرة، لا نعدو الحق إذا قلنا إن اللغة العربية تعاني في هذه المرحلة من (التلوث) الذي يُلحق أفدح الأضرار بالبيئة اللغوية، ويفسد الفكر، ويشيع ضروباً من الاضطراب والإرباك والقلق في العقول، علاوة على ما يسبّبه هذا الوضع اللغوي غير المستقر، من فساد في الحياة العقلية للأمة، تنتقل عدواه إلى فساد في معظم المجالات، فتختلط المعاني والدلالات والمفاهيم والرموز في لغة الحوار بين الطبقات المثقفة، وبين قيادات المجتمع، فيؤدي ذلك إلى الغموض والالتباس والتداخل في مدلولات الكلمات، مما ينشأ عنه حالة من (الفوضى اللغوية) التي إن عمّت وانتشرت، أفضت إلى فوضى عارمة في الحياة الفكرية والثقافية، وإلى ما هو أعظم خطراً من ذلك كله.
إن هذا التشخيص للعلاقة بين اللغة والإعلام يمكننا من أن نقف على حقيقة الوضع اللغوي للضاد(2)، في هذه المرحلة الحافلة بالمتغيرات الإقليمية والدولية الحاسمة. وليس من المبالغة في شيء، في ضوء ذلك، قولنا إن هذا الوضع خطير بالمقاييس جميعاً، وبالمعاني كلها، ومن عدة وجوه، ولكن هذه الخطورة لا تمنع من معالجة الخلل وتطهير البيئة اللغوية من التلوث، وإفساح المجال أمام تنمية لغوية يُعاد فيها الاعتبار إلى الفصحى، وتستقيم فيها حال اللغة، بحيث تقوم العلاقة بينها وبين الإعلام على أساس سليم، فيتبادلان التأثير في اعتدال وفي حدود معقولة، فلا يطغى طرف على آخر، بحيث تبقى اللغة محتفظة بشخصيتها، ويظل الإعلام يؤدي وظيفته في التنوير والتثقيف والترفيه النظيف، فيتكامل الطرفان وينسجمان، فتصبح اللغة في خدمة الإعلام، ويصبح الإعلام داعماً لمركز اللغة.
ولكننا لا نيأس من إصلاح اللغة العربية في المدى القريب، فلقد تحقق اليوم ما يعبر عنه (بالتضخم اللغوي)، أو (التوسّع اللغوي)(3)، وذلك نتيجة لاتساع رقعة الإعلام وتأثيره في المجتمعات، ولانتشار اللغة العربية بوضعها الحالي، على نطاق واسع، وهو الأمر الذي يخدم أحد أغراض التنمية اللغوية بالمعنى الشامل للتنمية المعتمد في الخطاب المعاصر. وليس في التضخم اللغوي خطر على اللغة، كما هو الشأن في الاقتصاد، لأن التضخم هنا توسيع لنطاق استخدام اللغة، وإغناء لمضامينها ومعانيها، وتلك غاية سامية من الغايات التي تهدف إليها التنمية اللغوية.
وكما أن للتنمية من حيث هي، سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية، قواعد وضوابط ومعايير وأهداف مرسومة، فكذلك هي التنمية اللغوية التي لن يتحقق الغرض منها ما لم تتوافر لها الشروط الموضوعية.
ويأتي في مقدمة هذه الشروط التي إن انتفى شرط واحد منها، فقدت التنمية اللغوية الهدف المتوخى منها، ثلاثة شروط، هي:
أولاً : أن تلتزم اللغة القواعد والأبنية والتراكيب والمقاييس المعتمدة والتي بها تكتسب الصحة والسلامة، في غير ما تزمت، أو تقعر، أو انغلاق، مع مراعاة المرونة والتكيّف مع المستجدات التعبيرية، فلا تسف، ولكنها تحافظ على طبيعتها وأصالتها ونضارتها.
ثانياً : أن تفي اللغة بحاجات المجتمع، وأن ترتقي إلى المستويات الرفيعة لشتى ألوان التعبير، بحيث تكون لغة متطورة، مسايرة لعصرها، مندمجة في محيطها، معبرة عن ثقافة المجتمع ونهضته وتطوره، مواكبة لأحواله، مترجمة لأشواقه وآماله.
ثالثاً : أن يُحتفظ بمساحات معقولة بين لغة الخطاب اليومي عبر وسائل الإعلام جميعاً، وبين لغة الفكر والأدب والإبداع في مجالاتهما، بحيث يكون هناك دائماً المثل الأعلى في استعمال اللغة، يتطلع إليه المتحدثون والكتاب على اختلاف طبقاتهم، ويسعون إلى الاقتداء به ويجتهدون للارتفاع إليه، فإذا عدم هذا المثل الراقي حلَّ محله مثل أدنى قيمة وأحط درجة، لا يربي ملكة ولا يصقل موهبة ولا يحافظ على اللغة، إن لم يسيء إليها ويفسدها.
والشرط الثالث هو من الأهمية بمكان، لأن انتفاء المثل الأعلى في اللغة يؤدي إلى هبوط حادّ في مستوى التعبير الشفاهي والكتابي على السواء، ويتسبَّب في شيوع اللهجات العامية التي تنازع الفصحى السيادةَ على الفكر واللسان، لدرجة أنها تصبح مثلاً يحتذى به. وتلك هي الخطورة التي تتهدّد شخصية اللغة العربية في الصميم. وهذه هي النتيجة التي يخشى اللغويون العرب من الوصول إليها، لأنها تمثّل خطراً حقيقياً على الفصحى وعلى ما تمثله من قيم ثقافية رفيعة، هي من الخصوصيات الحضارية للأمة العربية الإسلامية.
عدل سابقا من قبل أحمد في الجمعة أكتوبر 10, 2008 4:21 pm عدل 1 مرات