قال رحمه الله: النكرة في سياق النفي تعم، مستفاد من قوله تعالى: { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وفي الاستفهام من قوله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وفي الشرط من قوله: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا } { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } وفي النهي من قوله تعالى: { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ }وفي سياق الإثبات، بعموم العلة والمقتضى كقوله: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ }
وإذا أضيف إليها "كل" نحو { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ومن عمومها بعموم المقتضى { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } فصل
ويستفاد عموم المفرد المحلى باللام من قوله: { إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } وقوله: { وَيَقُولُ الْكَافِرُ } وعموم المفرد المضاف من قوله: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } (وكتابه) (2) .
وقوله: { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم، وعموم الجمع المحلى باللام من قوله: { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ } وقوله تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } إلى آخرها. والمضاف من قوله: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }
وعموم أدوات الشرط من قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } وقوله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [ وقال] { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } وقوله { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } وقوله: { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقوله: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } وقوله: { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } هذا إذا كان الجواب طلبا مثل هاتين الآيتين.
فإن كان خبرا ماضيا، لم يلزم العموم، كقوله: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }.
وإن كان مستقبلا فالتزموا رد العموم، كقوله تعالى: { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }.
وقوله: { وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }.
وقد لا يعم، كقوله تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ }.
فصل
ويستفاد كون الأمر المطلق للوجوب، من ذمه لمن خالفه، وتسميته إياه عاصيا، وترتيبه عليه العقاب بالعاجل أو الآجل.
ويستفاد كون النهي للتحريم، من ذمه لمن ارتكبه، وتسميته عاصيا، وترتيبه العقاب على فعله.
ويستفاد الوجوب بالأمر تارة، وبالتصريح بالإيجاب والفرض والكتب، ولفظة "على"، ولفظة: حق على العباد وعلى المؤمنين.
ويستفاد التحريم من النهي، والتصريح بالتحريم والحظر، والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، وإيجاب الكفارة بالفعل.
وقوله: "لا ينبغي " فإنها في لغة القرآن والرسول للممتنع عقلا وشرعا.
ولفظة "ما كان لهم كذا وكذا" و "لم يكن لهم"، وترتيب الحد على الفعل، ولفظة "لا يحل" و "لا يصلح"، ووصف الفعل بأنه فساد، وأنه من تزيين الشيطان وعمله، وأن الله تعالى لا يحبه ولا يرضاه لعباده، ولا يزكي فاعله ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك.
وتستفاد الإباحة من الإذن والتخيير، والأمر بعد الحظر، ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة، والإخبار بأنه يعفو عنه، والإقرار على فعله في زمن الوحي، وبالإنكار على من حرم الشيء، والإخبار بأنه خلق لنا كذا وجعله لنا، وامتنانه علينا به، وإخباره عن فعل من قبلنا، غير ذام لهم عليه.
فإن اقترن بإخباره مدح، دل على رجحانه استحبابا أو وجوبا. فصل
وكل فعل عظمه الله ورسوله، أو مدحه، أو مدح فاعله لأجله، أو فرح به، أو أحبه، أو أحب فاعله، أو رضي به، أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالطيب، أو البركة، أو الحسن، أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل (1) أو نصبه سببا لذكره لعبده، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو وصف فاعله (2) بالطيب، أو وصف الفعل بأنه معروف، أو نفى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسل بحصوله، أو وصفه بكونه قربة، أو أقسم به أو بفاعله، كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها (3) أو ضحك الرب جل جلاله من فاعله، أو عجبه به، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب. فصل
وكل فعل طلب الشارع تركه، أو ذم فاعله، أو عيب عليه، أو مقت فاعله، أو لعنه، أو نفى محبته إياه، أو محبة فاعله، أو نفى الرضا به، أو الرضا عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم أو الشياطين، أو جعله مانعا من الهدى، أو وصفه بسوء أو كراهة، أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جعل سببا لنفي الفلاح، أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم، أو ضلالة أو معصية، أو وصفه بخبث (4) أو رجس، أو نجس، أو بكونه فسقا أو إثما، أو سببا لإثم أو رجس، أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حد من الحدود، أو قسوة، أو خزي، أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله أو محاربته، أو الاستهزاء به وسخريته، أو جعله سببا لنسيانه لفاعله، أو وصف نفسه بالصبر عليه، أو الصفح أو الحلم عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلى الشيطان وتزيينه، أو تولي الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم، مثل كونه ظلما أو بغيا، أو عدوانا أو إثما، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا أو رتب عليه حرمان الجنة، أو وصف فاعله بأنه عدو لله أو الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمل فاعله إثم غيره، أو قيل فيه "لا ينبغي هذا" أو "لا يصلح" أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل يضاده، أو هجر فاعله، أو تلاعن فاعلوه في الآخرة، أو تبرأ بعضهم من بعض، أو وصف فاعله بالضلالة، أو أنه "ليس من الله في شيء" أو أنه ليس من الرسول وأصحابه، أو قرن بمحرم ظاهر التحريم في الحكم والخبر عنهما (1) بخبر واحد، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعل سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل لفاعله "هل أنت منته" أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعاد، أو طرد، أو لفظة "قتل من فعله"، أو "قاتل الله من فعله"، أو أخبر أن فاعله "لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه"، أو أن الله لا يصلح عمله، ولا يهدي كيده، أو أن فاعله لا يفلح، ولا يكون يوم القيامة من الشهداء ولا من الشفعاء، أو أن الله يغار من فعله، أو نبه على وجه المفسدة فيه، أو أخبر أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا أو أخبر أن من فعله قيض له الشيطان فهو له قرين، أو جعل الفعل سببا لإزاغة الله قلب فاعله، أو صرفه عن آياته وفهم آلائه، أو سؤال الله سبحانه عن علة الفعل "لم فعل" نحو: { لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ } { لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ } { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ما لم يقترن به جواب من المسئول (2) فإذا قرن به جواب، كان بحسب جوابه.
فهذا ونحوه، يدل على المنع من الفعل، ودلالته على التحريم أطرد من دلالته على مجرد الكراهة. وأما لفظة يكرهه الله ورسوله، أو مكروه، فأكثر ما يستعمل في المحرم، وقد يستعمل في كراهة التنزيه.
وأما لفظة "وأما أنا فلا أفعل" فالمتحقق (3) منه الكراهة كقوله: "أما أنا فلا آكل متكئا".
وأما لفظة "ما يكون لك" و "ما يكون لنا" فاطرد استعمالها في المحرم، نحو { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } { مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا } { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }. فصل
وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال، ورفع الجناح، والإذن، والعفو، و "إن شئت فافعل" و "إن شئت فلا تفعل"، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، وما يتعلق بها من الأفعال، نحو: { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } ونحو { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }.
ومن السكوت عن التحريم، ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي. فائدة
التعجب كما يدل على محبة الله تعالى للفعل نحو "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" ونحوه، قد يدل على بغض الفعل كقوله: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } وقوله: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ }.
وقوله: { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }.
وقد يدل على امتناع الحكم، وعدم حسنه، كقوله: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ }.
ويدل على حسن المنع منه قدرا، وأنه لا يليق به فعله، كقوله تعالى: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ }.
فائدة
نفي التساوي في كتاب الله، قد يأتي بين الفعلين، كقوله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية.
وقد يأتي بين الفاعلين كقوله: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }.
وقد يأتي بين الجزائين كقوله { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ }.
وقد جمع الله بين الثلاثة في آية واحدة، وهي قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ } الآيات. فائدة
في ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور:
التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل، كنسبة المحسوس إلى الحس.
وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر، وإبطال أمر. فائدة
السياق يرشد إلى بيان المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم (1) احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير. فائدة
إخبار الرب عن المحسوس الواقع له عدة فوائد:
منها: أن يكون توطئة وتقدمة لإبطال ما بعده.
ومنها: أن يكون موعظة وتذكرة.
ومنها: أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده، وصدق رسوله، وإحياء الموتى.
ومنها: أن يذكر في معرض الامتنان.
ومنها: أن يذكر في معرض اللوم والتوبيخ.
ومنها: أن يذكر في معرض المدح والذم.
ومنها: أن يذكر في معرض الإخبار عن اطلاع الرب عليه. وغير ذلك من الفوائد.
انتهى كلامه رحمه الله.، وهو في غاية النفاسة، والاشتمال على كثير من القواعد والضوابط المتعلقة بتفسير القرآن، فجزاه الله خيرا.
قلت: وقد اشتمل القرآن على عدة علوم قد ثنيت فيه وأعيدت:
فمنها: ضرب الأمثال، وقد ذكر ابن القيم فيما تقدم فوائدها.
ومنها ذكر صفات أهل السعادة والشقاوة، وفي ذلك فوائد عديدة:
منها: أن الأوصاف التي يوصف بها أهل الخير، تدل على محبة الله ورضاه وأنها محمودة، والصفات التي يوصف بها أهل الشر، تدل على بغض الله لها وأنها مذمومة.
ومنها: ما يكرم الله به أولياءه من الثناء الحسن بين عباده، فهو ثواب معجل، ويهين به أعداءه من الأوصاف القبيحة، فيكون عقابا معجلا.
ومنها: أن فيه حثا للنفوس على الاقتداء بأهل الخير ومنافستهم، وتنشيط العمال على الأعمال ببيان من عملها من أولياء الله.
وفيه الترهيب من أفعال أهل الشر، وتبغيض المعاصي التي أثرت مع عامليها ما أثرت.
ومنها: الاعتبار بصفات أهل الخير والشر، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم.
وقد حث تعالى على الاعتبار، في غير موضع من كتابه. وحقيقته: العبور من شيء إلى شيء، وقياس الشيء على نظيره.
ومنها: أن العبد إذا رأى (1) أعمال أهل الخير وعجزه عن القيام بها، أوجب له ذلك الإزراء على نفسه واحتقارها، وهذا هو عين صلاحه، كما أن رؤيته نفسه بعين الإعجاب والتكبر هو عين فساده، إلى غير ذلك من الفوائد.
ومنها: ذكر صفات الله وأسمائه وأفعاله، وتقديسه عن النقائص، وفي ذلك فوائد عظيمة:
منها: أن هذا العلم -وهو العلم المتعلق بالله تعالى- أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق.
فالاشتغال بفهمه والبحث التام عنه، اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب.
ومنها: أن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته، وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله، إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها.
وقد اشتمل القرآن من ذلك على ما لم يشتمل عليه غيره، من تفاصيل ذلك وتوضيحها، والتعرف بها إلى عباده، وتعريفهم لنفسه كي يعرفوه.
ومنها: أن الله خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه، فهذا هو الغاية المطلوبة منهم، فالاشتغال بذلك اشتغال بما خلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له. وقبيح بعبد، لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه، أن يكون جاهلا بربه معرضا عن معرفته.
ومنها: أن أحد أركان الإيمان، بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله، وليس الإيمان بمجرد قوله: "آمنت بالله" من غير معرفة بربه.
بل حقيقة الإيمان، أن يعرف الرب الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه وكلما نقص، نقص.
وأقرب طريق يوصله إلى ذلك، تدبر صفاته وأسمائه من القرآن.
والطريق في ذلك، إذا مر به اسم من أسماء الله، أثبت (2) له ذلك المعنى وكماله وعمومه، ونزهه (3) عما يضاد ذلك.
ومنها: أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة، يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة منها: أن من تمام الإيمان بهم معرفتهم بصفاتهم وسيرهم وأحوالهم. وكلما كان المؤمن بذلك أعرف، كان أعظم إيمانا بهم، ومحبة لهم، وتعظيما لهم، وتعزيزا وتوقيرا.
ومنها: أن من بعض حقوقهم علينا -خصوصا النبي محمد صلى الله عليه وسلم- معرفتهم ومحبتهم محبة صادقة، ولا سبيل لذلك إلا بمعرفة أحوالهم.
ومنها: أن معرفة الأنبياء موجبة لشكر الله تعالى على ما من به على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا منهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، بعد أن كانوا في ضلال مبين.
ومنها: أن الرسل هم المربون للمؤمنين، الذين ما نال المؤمنون (1) مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على أيديهم وبسببهم.
فقبيح بالمؤمن أن يجهل حالة مربيه ومزكيه ومعلمه.
وإذا كان من المستنكر جهل الإنسان بحال أبويه ومباعدته لذلك، فكيف بحالة الرسول، الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أبوهم الحقيقي، الذي حقه مقدم على سائر الحقوق بعد حق الله تعالى؟!!
ومنها: أن في معرفة ما جرى لهم وجرى عليهم، تحصل للمؤمن (2) الأسوة والقدوة، وتخف عنه كثير من المقلقات والمزعجات، لأنها مهما بلغت من الثقل والشدة، فلا تصل إلى بعض ما جرى على الأنبياء. قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }
ومن أعظم الاقتداء بهم، الاقتداء بتعليماتهم، وكيفية إلقاء العلم على حسب مراتب الخلق، والصبر على التعليم، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبهذا وأمثاله كان العلماء ورثة الأنبياء.
وإذا أضيف إليها "كل" نحو { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ومن عمومها بعموم المقتضى { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } فصل
ويستفاد عموم المفرد المحلى باللام من قوله: { إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } وقوله: { وَيَقُولُ الْكَافِرُ } وعموم المفرد المضاف من قوله: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } (وكتابه) (2) .
وقوله: { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم، وعموم الجمع المحلى باللام من قوله: { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ } وقوله تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } إلى آخرها. والمضاف من قوله: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }
وعموم أدوات الشرط من قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } وقوله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [ وقال] { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } وقوله { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } وقوله: { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقوله: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } وقوله: { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } هذا إذا كان الجواب طلبا مثل هاتين الآيتين.
فإن كان خبرا ماضيا، لم يلزم العموم، كقوله: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }.
وإن كان مستقبلا فالتزموا رد العموم، كقوله تعالى: { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }.
وقوله: { وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }.
وقد لا يعم، كقوله تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ }.
فصل
ويستفاد كون الأمر المطلق للوجوب، من ذمه لمن خالفه، وتسميته إياه عاصيا، وترتيبه عليه العقاب بالعاجل أو الآجل.
ويستفاد كون النهي للتحريم، من ذمه لمن ارتكبه، وتسميته عاصيا، وترتيبه العقاب على فعله.
ويستفاد الوجوب بالأمر تارة، وبالتصريح بالإيجاب والفرض والكتب، ولفظة "على"، ولفظة: حق على العباد وعلى المؤمنين.
ويستفاد التحريم من النهي، والتصريح بالتحريم والحظر، والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، وإيجاب الكفارة بالفعل.
وقوله: "لا ينبغي " فإنها في لغة القرآن والرسول للممتنع عقلا وشرعا.
ولفظة "ما كان لهم كذا وكذا" و "لم يكن لهم"، وترتيب الحد على الفعل، ولفظة "لا يحل" و "لا يصلح"، ووصف الفعل بأنه فساد، وأنه من تزيين الشيطان وعمله، وأن الله تعالى لا يحبه ولا يرضاه لعباده، ولا يزكي فاعله ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك.
وتستفاد الإباحة من الإذن والتخيير، والأمر بعد الحظر، ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة، والإخبار بأنه يعفو عنه، والإقرار على فعله في زمن الوحي، وبالإنكار على من حرم الشيء، والإخبار بأنه خلق لنا كذا وجعله لنا، وامتنانه علينا به، وإخباره عن فعل من قبلنا، غير ذام لهم عليه.
فإن اقترن بإخباره مدح، دل على رجحانه استحبابا أو وجوبا. فصل
وكل فعل عظمه الله ورسوله، أو مدحه، أو مدح فاعله لأجله، أو فرح به، أو أحبه، أو أحب فاعله، أو رضي به، أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالطيب، أو البركة، أو الحسن، أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل (1) أو نصبه سببا لذكره لعبده، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو وصف فاعله (2) بالطيب، أو وصف الفعل بأنه معروف، أو نفى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسل بحصوله، أو وصفه بكونه قربة، أو أقسم به أو بفاعله، كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها (3) أو ضحك الرب جل جلاله من فاعله، أو عجبه به، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب. فصل
وكل فعل طلب الشارع تركه، أو ذم فاعله، أو عيب عليه، أو مقت فاعله، أو لعنه، أو نفى محبته إياه، أو محبة فاعله، أو نفى الرضا به، أو الرضا عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم أو الشياطين، أو جعله مانعا من الهدى، أو وصفه بسوء أو كراهة، أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جعل سببا لنفي الفلاح، أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم، أو ضلالة أو معصية، أو وصفه بخبث (4) أو رجس، أو نجس، أو بكونه فسقا أو إثما، أو سببا لإثم أو رجس، أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حد من الحدود، أو قسوة، أو خزي، أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله أو محاربته، أو الاستهزاء به وسخريته، أو جعله سببا لنسيانه لفاعله، أو وصف نفسه بالصبر عليه، أو الصفح أو الحلم عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلى الشيطان وتزيينه، أو تولي الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم، مثل كونه ظلما أو بغيا، أو عدوانا أو إثما، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا أو رتب عليه حرمان الجنة، أو وصف فاعله بأنه عدو لله أو الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمل فاعله إثم غيره، أو قيل فيه "لا ينبغي هذا" أو "لا يصلح" أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل يضاده، أو هجر فاعله، أو تلاعن فاعلوه في الآخرة، أو تبرأ بعضهم من بعض، أو وصف فاعله بالضلالة، أو أنه "ليس من الله في شيء" أو أنه ليس من الرسول وأصحابه، أو قرن بمحرم ظاهر التحريم في الحكم والخبر عنهما (1) بخبر واحد، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعل سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل لفاعله "هل أنت منته" أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعاد، أو طرد، أو لفظة "قتل من فعله"، أو "قاتل الله من فعله"، أو أخبر أن فاعله "لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه"، أو أن الله لا يصلح عمله، ولا يهدي كيده، أو أن فاعله لا يفلح، ولا يكون يوم القيامة من الشهداء ولا من الشفعاء، أو أن الله يغار من فعله، أو نبه على وجه المفسدة فيه، أو أخبر أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا أو أخبر أن من فعله قيض له الشيطان فهو له قرين، أو جعل الفعل سببا لإزاغة الله قلب فاعله، أو صرفه عن آياته وفهم آلائه، أو سؤال الله سبحانه عن علة الفعل "لم فعل" نحو: { لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ } { لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ } { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ما لم يقترن به جواب من المسئول (2) فإذا قرن به جواب، كان بحسب جوابه.
فهذا ونحوه، يدل على المنع من الفعل، ودلالته على التحريم أطرد من دلالته على مجرد الكراهة. وأما لفظة يكرهه الله ورسوله، أو مكروه، فأكثر ما يستعمل في المحرم، وقد يستعمل في كراهة التنزيه.
وأما لفظة "وأما أنا فلا أفعل" فالمتحقق (3) منه الكراهة كقوله: "أما أنا فلا آكل متكئا".
وأما لفظة "ما يكون لك" و "ما يكون لنا" فاطرد استعمالها في المحرم، نحو { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } { مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا } { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }. فصل
وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال، ورفع الجناح، والإذن، والعفو، و "إن شئت فافعل" و "إن شئت فلا تفعل"، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، وما يتعلق بها من الأفعال، نحو: { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } ونحو { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }.
ومن السكوت عن التحريم، ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي. فائدة
التعجب كما يدل على محبة الله تعالى للفعل نحو "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" ونحوه، قد يدل على بغض الفعل كقوله: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } وقوله: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ }.
وقوله: { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }.
وقد يدل على امتناع الحكم، وعدم حسنه، كقوله: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ }.
ويدل على حسن المنع منه قدرا، وأنه لا يليق به فعله، كقوله تعالى: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ }.
فائدة
نفي التساوي في كتاب الله، قد يأتي بين الفعلين، كقوله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية.
وقد يأتي بين الفاعلين كقوله: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }.
وقد يأتي بين الجزائين كقوله { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ }.
وقد جمع الله بين الثلاثة في آية واحدة، وهي قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ } الآيات. فائدة
في ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور:
التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل، كنسبة المحسوس إلى الحس.
وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر، وإبطال أمر. فائدة
السياق يرشد إلى بيان المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم (1) احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير. فائدة
إخبار الرب عن المحسوس الواقع له عدة فوائد:
منها: أن يكون توطئة وتقدمة لإبطال ما بعده.
ومنها: أن يكون موعظة وتذكرة.
ومنها: أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده، وصدق رسوله، وإحياء الموتى.
ومنها: أن يذكر في معرض الامتنان.
ومنها: أن يذكر في معرض اللوم والتوبيخ.
ومنها: أن يذكر في معرض المدح والذم.
ومنها: أن يذكر في معرض الإخبار عن اطلاع الرب عليه. وغير ذلك من الفوائد.
انتهى كلامه رحمه الله.، وهو في غاية النفاسة، والاشتمال على كثير من القواعد والضوابط المتعلقة بتفسير القرآن، فجزاه الله خيرا.
قلت: وقد اشتمل القرآن على عدة علوم قد ثنيت فيه وأعيدت:
فمنها: ضرب الأمثال، وقد ذكر ابن القيم فيما تقدم فوائدها.
ومنها ذكر صفات أهل السعادة والشقاوة، وفي ذلك فوائد عديدة:
منها: أن الأوصاف التي يوصف بها أهل الخير، تدل على محبة الله ورضاه وأنها محمودة، والصفات التي يوصف بها أهل الشر، تدل على بغض الله لها وأنها مذمومة.
ومنها: ما يكرم الله به أولياءه من الثناء الحسن بين عباده، فهو ثواب معجل، ويهين به أعداءه من الأوصاف القبيحة، فيكون عقابا معجلا.
ومنها: أن فيه حثا للنفوس على الاقتداء بأهل الخير ومنافستهم، وتنشيط العمال على الأعمال ببيان من عملها من أولياء الله.
وفيه الترهيب من أفعال أهل الشر، وتبغيض المعاصي التي أثرت مع عامليها ما أثرت.
ومنها: الاعتبار بصفات أهل الخير والشر، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم.
وقد حث تعالى على الاعتبار، في غير موضع من كتابه. وحقيقته: العبور من شيء إلى شيء، وقياس الشيء على نظيره.
ومنها: أن العبد إذا رأى (1) أعمال أهل الخير وعجزه عن القيام بها، أوجب له ذلك الإزراء على نفسه واحتقارها، وهذا هو عين صلاحه، كما أن رؤيته نفسه بعين الإعجاب والتكبر هو عين فساده، إلى غير ذلك من الفوائد.
ومنها: ذكر صفات الله وأسمائه وأفعاله، وتقديسه عن النقائص، وفي ذلك فوائد عظيمة:
منها: أن هذا العلم -وهو العلم المتعلق بالله تعالى- أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق.
فالاشتغال بفهمه والبحث التام عنه، اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب.
ومنها: أن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته، وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله، إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها.
وقد اشتمل القرآن من ذلك على ما لم يشتمل عليه غيره، من تفاصيل ذلك وتوضيحها، والتعرف بها إلى عباده، وتعريفهم لنفسه كي يعرفوه.
ومنها: أن الله خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه، فهذا هو الغاية المطلوبة منهم، فالاشتغال بذلك اشتغال بما خلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له. وقبيح بعبد، لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه، أن يكون جاهلا بربه معرضا عن معرفته.
ومنها: أن أحد أركان الإيمان، بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله، وليس الإيمان بمجرد قوله: "آمنت بالله" من غير معرفة بربه.
بل حقيقة الإيمان، أن يعرف الرب الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه وكلما نقص، نقص.
وأقرب طريق يوصله إلى ذلك، تدبر صفاته وأسمائه من القرآن.
والطريق في ذلك، إذا مر به اسم من أسماء الله، أثبت (2) له ذلك المعنى وكماله وعمومه، ونزهه (3) عما يضاد ذلك.
ومنها: أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة، يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة منها: أن من تمام الإيمان بهم معرفتهم بصفاتهم وسيرهم وأحوالهم. وكلما كان المؤمن بذلك أعرف، كان أعظم إيمانا بهم، ومحبة لهم، وتعظيما لهم، وتعزيزا وتوقيرا.
ومنها: أن من بعض حقوقهم علينا -خصوصا النبي محمد صلى الله عليه وسلم- معرفتهم ومحبتهم محبة صادقة، ولا سبيل لذلك إلا بمعرفة أحوالهم.
ومنها: أن معرفة الأنبياء موجبة لشكر الله تعالى على ما من به على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا منهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، بعد أن كانوا في ضلال مبين.
ومنها: أن الرسل هم المربون للمؤمنين، الذين ما نال المؤمنون (1) مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على أيديهم وبسببهم.
فقبيح بالمؤمن أن يجهل حالة مربيه ومزكيه ومعلمه.
وإذا كان من المستنكر جهل الإنسان بحال أبويه ومباعدته لذلك، فكيف بحالة الرسول، الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أبوهم الحقيقي، الذي حقه مقدم على سائر الحقوق بعد حق الله تعالى؟!!
ومنها: أن في معرفة ما جرى لهم وجرى عليهم، تحصل للمؤمن (2) الأسوة والقدوة، وتخف عنه كثير من المقلقات والمزعجات، لأنها مهما بلغت من الثقل والشدة، فلا تصل إلى بعض ما جرى على الأنبياء. قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }
ومن أعظم الاقتداء بهم، الاقتداء بتعليماتهم، وكيفية إلقاء العلم على حسب مراتب الخلق، والصبر على التعليم، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبهذا وأمثاله كان العلماء ورثة الأنبياء.