القاعدة الأولى (الأمور بمقاصدها)
تقديم :
إن مقاصد العباد ونياتهم محا نظر الشرع الكريم , العالم بما يترتب على ما أمر به من عباده ؛ فقد عني القرآن بمقاصد المكلفين و نياتهم عناية فائقة تفوق الاهتمام بأي مسألة أخرى , كما عنيت بذلك سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم ؛ ذلك لأن العمال لها تأثير في القلب , فإذا أنيطت بالقصد الصحيح و النية الخالصة أحيت القلب و أيقظته , و إذا لم تقترن الأعمال بالمقاصد الصحيحة و النيات الخالصة أماتت القلب و أعمته , و عدت في ميزان الأعمال هباءاً منثوراً و سرابا خادعاً لا يظفر صاحبها بغاية و لا يروح رائحة نعيم ؛ فميزان الأعمال القصد و النية , ومن وراء ذلك العمل .
الشرح :
الأمور: جمع أمر وهو لفظ عام للأفعال والأقوال كلها , ومنه قوله تعالى: { إليه يرجع الأمر كله } (هود , الآية 123) , وقوله تعالى : { قل إن الأمر كله لله } (آل عمران , الآية 154) , وقوله تعالى : { وما لأمر فرعون برشيد }( هود , الآية 97) أي ما هو عليه من قول أو فعل.
ثم إن الكلام على تقدير : مقتضى أي أحكام الأمور بمقاصدها , لأن علم الفقه إنما يبحث عن أحكام الأشياء لا عن ذواتها ؛ ولذا فسرت المجلة القاعدة بقولها:
" يعني أن الحكم الذي يترتب على أمر يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك الأمر"
أصل القاعدة :
أصل هذه القاعدة فيما يظهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ). رواه البخاري و البيهقي و ابن ماجة و أبو داود.
وما جاء في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى مل تجعل في فم امرأتك) .
وما أخرجه أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود : ( رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته ) .
فهذه الأحاديث و غيرها تدل دلالة واضحة على أن ميزان العمال هو النيةو القصد , ومن وراء ذلك العمل .
أي أن أعمال المكلفين و تصرفاتهم من قولية أو فعلية تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية التي تترتب عليها باختلاف مقصود الشخص و غايته وهدفه من وراء هذه الأعمال و التصرفات .
جريان هذه القاعدة في كثير من أبواب الفقه :
إن هذه القاعدة تجري في كثير من الأبواب الفقهية مثل :
أولاً : المعاوضات والتمليكات المالية.
كالبيع والشراء والإجارة والصلح والهبة, فإنها كلها عند إطلاقها - أي إذا لم يقترن بها ما يقصد به إخراجها عن إفادة ما وضعت له - تفيد حكمها : وهو الأثر المترتب عليها من التمليك والتملك , لكن إذا اقترن بها ما يخرجها عن إفادة هذا الحكم وذلك: كإرادة النكاح بها وكالهزل والاستهزاء والمواضعة والتلجئة , فإنه يسلبها إفادة حكمها المذكور .
فإنه إذا أريد بها النكاح كانت نكاحاً , ولكن يشترط في الإجارة والصلح أن تكون المرأة بدلاً ليكون نكاحاً , فلو كانت في الإجارة معقوداً عليها لا تكون نكاحاً .
وفي الصلح لو كانت مصالحاً عنها : بأن ادعى عليها النكاح فأنكرت ثم صالحت المدعي على مال دفعته له ليكف صح وكان خلعاً .
وكذلك لو باع إنسان أو شرى وهو هازل فإنه لا يترتب على عقده تمليك ولا تملك.
ثانياً : الإبراء .
كما لو قال الطالب للكفيل أو قال المحال للمحتال عليه: برئت من المال الذي كفلت به أو المال الذي أحلت به عليك , أو قال : برئت إلي منه وكان الطلب أو المحال حاضراً فإنه يرجع إليه في البيان لما قصده من هذا اللفظ فإن كان قصد براءة القبض والاستيفاء منه كان للكفيل أن يرجع على المكفول عنه لو الكفالة بالأمر, وكان للمحال عليه أن يرجع على المحيل لو لم يكن للمحيل دين عليه , وإن كان قصد من ذلك براءة الإسقاط فلا رجوع لواحد منهما أما إذا كان الطالب أو المحال غير حاضر ففي ( برئت إلي ) لا نزاع في أنه يحمل على براءة الاستيفاء , وكذلك في برئت عند أبي يوسف فإنه جعله كالأول وهو المرجح .
ثالثاً : تجري في الوكالات.
فمنها : ما لو وكل إنسان غيره بشراء فرس معين أو نحوه, فاشترى الوكيل فرساً ففيه تفصيل: إن كان نوى شراءه للموكل أو أضاف العقد إلى دراهم الموكل يقع الشراء للموكل , وإن نوى الشراء لنفسه أو أضاف العقد إلى دراهم نفسه يقع الشراء لنفسه , وكذا لو أضاف العقد إلى دراهم مطلقة فإنه إذا نوى بها دراهم الموكل يقع الشراء للموكل, وإن نوى بها دراهم نفسه يقع لنفسه, وإن تكاذبا في النية يحكم النقد فيحكم بالفرس لمن وقع نقد الثمن من ماله لأن في النقد من أحد المالين دلالة ظاهرة على أنه أريد الشراء لصاحبه.
رابعاً : إحراز المباحات .
الإحرازات : هي استملاك الأشياء المباحة فإن النية والقصد شرط في إفادتها الملك, فلو وضع إنسان وعاءً في مكان فاجتمع فيه ماء المطر ينظر: فإن كان وضعه خصيصاً لجمع الماء يكون ما اجتمع فيه ملكه, وإن وضعه بغير هذا القصد فما اجتمع فيه لا يكون ملكه, ولغيره حينئذٍ أن يتملكه بالأخذ ؛ لأن الحكم لا يضاف إلى السبب الصالح إلا بالقصد.
كذلك الصيد : فلو وقع الصيد في شبكة إنسان أو حفرة من أرضه ينظر :
فإن كان نشر الشبكة أو حفر الحفرة لأجل الاصطياد بهما فإن الصيد ملكه وليس لأحد أن يأخذه , وإن كان نشر الشبكة لتجفيفها مثلاً أو حفر الحفرة لا لأجل
الاصطياد فإنه لا يملكه , ولغيره أن يستملكه بالأخذ .
خامساً : الضمانات والأمانات.
مسائلها كثيرة منها:
( أ ) اللقطة فإن التقطها ملتقط بنية حفظها لمالكها كانت أمانة لا تضمن إلا بالتعدي, وإن التقطها بنية أخذها لنفسه كان في حكم الغاصب فيضمن إذا تلفت في يده بأي صورة كان تلفها , والقول للملتقط بيمينه في النية لو اختلفا فيها وكذا لو التقطها ثم ردها لمكانها , فإن كان التقطها للتعريف لم يضمنبردها لمكانها , سواء ردها قبل أن يذهب بها أو بعده , وسواء خاف بإعادتها هلاكها
أو لا , وإن كان التقطها لنفسه لا يبرأ بإعادتها لمكانها ما لم يردها لمالكها .
( ب ) ومنها الوديعة فإن المودع إذا استعملها ثم تركها بنية العود إلى استعمالها لا يبرأ عن ضمانها ؛ لأن تعديه باقٍ , وإن كان تركها بنية عدم العود إلى استعمالها يبرأ ولكن لا يصدق في ذلك إلا ببينة ؛ لأنه أقر بموجب الضمان ثم ادعى , وهذا إذا كان تعديه عليها بغير الحجز أو المنع عن المالك , فإن كان بأحد هذين فإنه لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك , وإن أزال تعديه بالاعتراف
بها , وكذلك كل أمين من قبل المالك إذا تعدى ثم أزال التعدي بنيته أنه لا يعود إليه ؛ فإنه يبرأ عن الضمان فلو لم يكن مسلطاً من قبل المالك أصلاً أو كان مسلطاً في مدة مؤقتة وانتهت , ثم تعدى ثم أزال تعديه وعاد إلى الحفظ لا يبرأ .
( ج ) ومن قبيل فرع الوديعة المذكور :
وكيل بالبيع لو خالف بأن استعمله أو دفع الثوب إلى قصار لقصره حتى صار ضامناً , فلو عاد إلى الوفاق يبرأ كمودع والوكالة باقية في بيعه
واستثنوا من الأمناء :
( 1 ) المستعير لأجل الانتفاع .
( 2 ) والمستأجر.
( 3 ) ومثلهما الأجير لو خالف ثم عاد إلى الوفاق لا يبرأ , فإنهما إذا تعديا على العين المستعارة أو المستأجرة ثم تركا التعدي بنية عدم العود إليه لا يبرآن عن الضمان إلا بالرد على المالك .
( 4 ) أخذ لقطة ثم ضاعت منه فوجدها في يد آخر فلا خصومة بينهما بخلاف الوديعة , والفرق بينهما أن للثاني ولاية أخذ اللقطة كالأول بخلاف الوديعة , و لو تعدى ثم أزال التعدي ثم هلكت يضمن لأن يده ليست بيد مالك .
سادساً : العقوبات.
وأما العقوبات فكالقصاص فإنه يتوقف على أن يقصد القاتل قتل لكن الآلة المفرقة للأجزاء تقام مقام قصد القتل ؛ لأن هذا القصد مما لا يوقف عليه ودليل الشيء في الأمور الباطنة يقام مقامه ويتوقف على أن يقصد قتل نفس المقتول لا غيره , فلو لم يقصد القتل أصلاً أو قصد القتل ولكن أراد غير المقتول فأصاب المقتول فإنه لا يقتص منه في شيء من ذلك , بل تجب الدية سواء كان ما قصده مباحاً كما لو أراد قتل صيد أو إنسان مباح الدم فأصاب آخر محترم الدم , أو كان ما قصده محظوراً كما لو أراد قتل شخص محترم الدم فأصاب آخر مثله .
المستثنى من هذه القاعدة :
إن هذه القاعدة لا تجري بين أمرين مباحين لا تختلف بالقصد صفتهما :
كما لو وقع الخلاف في كون البيع صدر هزلاً أو مواضعة مثلاً ؛ لأن اختلاف القصد بين الهزل والمواضعة لا يترتب عليه ثمرة ؛ إذ كل منهما لا يفيد تمليكاً ولا تملكاً , بل تجري بين مباحين تختلف صفتهما بالقصد , كما لو دار الأمر بين البيع المراد حكمه , وبين بيع المواضعة ونحوه كما تقدم , وتجري بين مباح ومحظور كما في فرع اللقطة المتقدم , فإن التقاطها بنية حفظها لمالكها مباح وبنية أخذها لنفسه محظور , كما في مسألة المودع إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه فإن عدم العود إلى لبسه مطلوب , والعود إليه محظور.
=================
القواعد الفقهية الكبرى الكبرى , د/صالح غانم السدلان.
شرح القواعد الفقهية , للزرقاء.