والقاعدة الفقهية: "حكم شـرعـي في قـضية أغلبية يتعرف منها أحكام ما دخل تحتها" أو يقال:"هي أصل فقهي كلي يتضمن أحـكـامـاً تشريعية عامة، من أبواب متعددة في القضايا الـتـي تـدخـل تـحـت مـوضـوعــه" نحو قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، و"اليقين لا يزول بالشك"، و"الضرر يُزال"، و"العادة محكمة"، و"المشقة تجلب التيسير"، وهذه هي القواعد الفقهية الكلية الخمس الكبرى، ودونها من القواعد الفقهية كثير.
ونظراً للأهمية الكبيرة التي تمـتـاز بـهـا هـذه الـقـواعـد، فقد أحببت الوقوف مع بعضها، ممهداً لذلك بمباحث مهمة، من فوائد دراستها، وبــيـان مـصـادرهـا، ويحتوي هذا المقال عدداً من القواعد الكلية مع الإشارة إلى أصلها الذي بُنيت عليه، ثم ذِكْر بـعض فروعها، والتي هي بمثابة التمثيل لها ببعض المسائل الفقهية، وليس المقصود حـصـرهـا، ولكن ذكر القدر الذي تُفهم به القاعدة، ثم تكون الاستفادة منها بتخريج بقية المـسـائــل المـنـدرجــة تحتها عليها، وإلحاقها بها، ولكي تتحقق الفائدة من عرض هذه الـقـواعــد فـإنـي أحاول تقريب أمثلتها ـ ما أمكنني ذلك ـ لتكون ألصق بواقعنا المعيش، وهذا ضــابط في اخـتـيـاري هذه القواعد، والضابط الآخر هو التزام صحة القاعدة وثبوتها. واللهَ أسأل السداد والنفع.
فوائد دراسة القواعد الفقهية:
وتظهر أهمية دراسة القواعد الفقهية من خلال معرفة مهمتها في الفقه وفــائـدتـهـا في فهم المسائل وحفظها، ويمكن تسجيل فوائدها في الأمور الآتية.
1- إن دراســة الــقــواعــد الفـقـهـيــة وحفظها أيسر طريق لمعرفة أحكام المسائل الجزئية وتذكُّرِها؛لأن من الصعب حــفــظ حـكـم كل جزئية على حدة، بينما يسهل حفظ القواعد، وفهم كيفية التفريع عليها، ومعرفة مـسـتـثـنـيـاتها، قال القرافي:"ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات".
2- إن دراسة الجزئيات بمعزل عن القواعد الفقهية الجامعة لها قد تُوقِِعُ في بعض الخطأ والخــلـط والاضـطراب؛ لعدم الرابط الجامع، قال القرافي:"ومن جـعــلَ يُـخـرج الــفــروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت".
3- إن دراسـتـهـا تـربي الملكة الفقهية، وتنمي القدرة على إلحاق المسائل وتخريج الفروع لمعرفة أحكامها، قال الـسـيـوطـي:"اعلم أن فن الأشباه والنظائر، الذي تدخل فيه القواعد الفقهية، فن عظيم، به يطلع عـلـى حـقـائـق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والـتـخـريــج، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مر الزمان".
4 -إن دراستها مما يعين على معرفة مقاصد الشريعة، بشكل قد لا يتيسر من خلال دراسة الجزئيات؛ حيث إن دارس الفقه قد لا يتفطن لها، بـخـلاف مــا لـو درس قاعدة "المشقة تجلب التيسير"، فإنه يظهر له أن من مقاصد الـشـريـعة: التيسير على المكلفين، و كذا لو درس قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، فإنه يتبين له أن من مـقـاصــد الـشـريـعــة: دفع الضرر ورفعه... وهكذا .
5- إن دراســة الـقـواعـد الفقهية والإلمام بها تربِّي عند الباحث ملكة المقارنة بين المذاهب المختلفة، وتوضح له وجـهـاً من وجوه الاختلاف وأسبابه بين المذاهب؛ وذلك لأن القواعد الفقهية ـ في أكثرها ـ موضع اتـفـاق بين الأئمة المجتهدين، ومواضع الخلاف فيها قليلة، فتظهر الفائدة من دراسة هذا القليل وتأمله؛ حيث إنه سبب من أسباب الاختلاف.
6- إن دراستها وإبرازها "تُظهر مدى استيعاب الفقه الإسلامي للأحكام، ومراعاته للحقوق والواجبات، وتُسهِّل على غير المخـتـصـين بالفقه الاطلاع على محاسن هذا الدين، وتُبطِل دعوى من ينتقصون الفقه الإسلامي، ويتهمونه بأنه إنما يشتمل على حلول جزئية وليس قواعد كلية"
قـــال الـشـيـخ عـبد الرحمن السعدي في منظومته في القواعد مبيناً بعض فوائد دراستها:
فاحـرص على فهمك القواعد جــامـعــة المــسـائـل الشوارد
فترتقـي في العلم خير مرتـقـى وتقتفي درب الـذي قد وُفِّقَا
مصادر القواعد الفقهية:
"تعد القواعد الفقهية وليدة الأدلة الشرعية والحجج الفقهية؛ إذ هي مؤسَّسَةٌ على ثوابت، مبنية على دعائم قـويـة، وغـالـبـها مأخوذ من دلالات النصوص التشريعية العامة المعللة، ومنها ما هي ـ من حيث ذاتها ـ نـصـوص شـرعـيـة ثم جرت مجرى القواعد عند الفقهاء، مثل:"لا ضرر ولا ضرار"، و "البينة على المدعي، والـيـمـيـن عـلى من أنكر"، و"الخراج بالضمان"، و "جناية العجماء جبار".
إذن: فالقواعد الفقهية إما أن يكون مصدرها النصوص الـشـرعـية، أو يكون غير النصوص، وهو أنواع:
فـمـنـهـا: قواعد مصدرها الإجماع، كقاعدة:"لا اجتهاد مع النص"، ومنها: قواعد أوردها الـفـقـهـاء والمـجــتـهدون مستنبطين إياها من أحكام الشرع العامة، ومستدلين لها بنصوص تشملها من الكتاب والسنة والإجماع ومعقول النصوص.
"وقـريـن هـذه قـواعد أوردوهــا "في مقام الاستدلال القياسي الفقهي؛ حيث تعتبر تعليلات الأحكام الفـقـهـيـة الاجـتـهادية ومسالك الاستدلال القياسي عليها أعظم دليل لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها عند استقرار المذاهب الفقهية".
لـذا كـان مـن الأهـمـيـة بـمـكـان: مراعاة دليل القاعدة، وصحة تقعيدها. على أن القواعد الفقهية الكبرى قد جاوزت القنطرة، وكذا غالب القواعد الكلية، وإنما هناك بعض القواعد اليسيرة التي قد تبنى على عـدد مـن الـفـروع الفـقـهية في مذهب معين، وقد يكون الراجح ثبوتها أو عكسه، لكون هذا المذهب في تلك المسألة راجحاً أو مرجوحاً.
هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي؟
هذه المسألة حساسة ومهمة، وعليهـــا تنبني كثير مـن الأحكام، والراجح فيها أنه لا يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي؛ وذلك أن القاعدة مستثناة، وصفتها عدم الشمول، ونحن مطالبون بأن نستدل بدليل ثابت صفته الشمول والدقة.
"نعم! إن لبعض القواعد صفة أخرى كأن تكون معبرة عن قاعدة أصولية، أو كونها حديثاً ثابتاً؛ فهنا نستند إلى صفتها، كأن تكون دليلاً قرآنياً أو سنة نبوية أو قاعدة أصولية؛ فيكون الاستدلال في حقيقة الأمر بالآية أو الحديث أو القاعدة الأصولية الثابتة لا بالقاعدة الفقهية .
قاعدة (الخروج من الخلاف مستحب(
إنه لا إنكار في الاجتهادات، وإن الأمة يـسع بعضها بعضاً فيما يسوغ فيه الخلاف، ولكن يـجـب أن لا نـنـسـى أن الاخـتـلافـات الـعـلـمية تثير جدلاً أحياناً، وربما تؤثر في الألفة والتقارب، ولما كان قطع النزاع في الاجـتـهـادات أمراً صعباً، وكان الخلاف شراً.. جاءت هذه القاعدة لتقرر أن الخروج من الخلاف مـسـتحب ـ مع مراعاة شروطه. وهذا تأكيد على أن التقارب هو الأصل، ولذا حرص الإســــلام على تسوية الصفوف في الصلاة؛ لئلا تختلف القلوب في الباطن "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" .
ولـهذه القاعدة سندها الشرعي، فهي ضرب من الورع المشروع، والاحتياط في الدين، وترك الشبهات، ليسلم للمرء دينه وعرضه.
وقد ندب النبي-صلى الله عليه وسلم-إلى ترك الشبهات، كما في حديث النعمان بن بشير -رضـي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول:"إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبيـنهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه".
بل إن أكثر مسالك الـورع داخـلـة في هذه القاعدة. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"يا أبا هريرة: كن ورعاً تكن أعبد الناس" قال يونس بن عبيد:"الورع: الخروج من كل شبهة"، وقال بعض الصحابة:"كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام" وهو أمر ميسور لصاحب النية والهمة. قال سفيان الثوري:"ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه".
ومن الشبهات التي يحيك في النفس أمرها ما اختلف أهل العلم في حله وتحريمه من طعام كالخيل، أو شراب كبعض الأنبذة، أو لباس كجلود السباع، أو مكسب كالتورُّق، ســــواء كان سبب الاختلاف تعارض الأدلة الشرعية، أو كون المسألة من مسائل الاجتهاد لا نص صريحاً فيها، فهذه وأشباهها مما يستحب الخروج من الخلاف فيها.
ويكون الخروج من الخلاف بفعل ما اختلفوا في وجوبه، وترك ما اختلفوا في حرمته.
ضوابط الاحتياط والخروج من الخلاف:
هـذا الـباب قد يكون مزلقاً خطيراً، وباباً يولَج منه إلى الابتداع في الدين، أو التضييق على الناس، وســلـب خـاصـيـة الـتـيسير ورفع الحرج في كثير من الأحكام، خاصة في الصورة الأولى؛ لذلك فإن القول بالاحتياط والأخذ به يحتاج إلى عدة ضوابط هي:
1- أن يكون مأخذ المخالف - في المسألة التي نريد الخروج منها قوياً، فإذا كان ضعيفاً فلا يؤبه به، كقول ابن حزم بوجوب الفطر على المسافر، فلا يقال بأفضلية الفطر مطلقاً مراعاة لخلافه، بل الأفضل هو الأيسر.
2- أن الـقـول المـعـتـبر في مشروعية الخروج من الخلاف في مسألة ما هو قول العالم القادر على الموازنة بين الأقوال.
3- هـذا العالم ليس له أن يفتي الناس بالاحتياط في كل مسألة، بل الواجب عليه الفـتوى بما يدين لله به أنه الحق، وهو ما أداه إليه علمه بالدليل واجتهاده في المسائل، ولا يفـتي بالاحتياط إلا حين يتساوى القولان عنده في المسألة؛ فهناك فرق بين فتواه وعمله لـنـفسه؛ فـإن الـشـأن في عمله لنفسه أوسع؛ فله أن يحتاط لنفسه في كثير مما لا يسعه أن يفـتي به الناس.
4- أن لا تؤدي مراعاة الخروج من الخلاف إلى ترك سنة ثابتة، أو خرق إجماع، فمثلاً لو قيل ببطلان الصلاة برفع اليدين لم نعبأ بهذا الخلاف؛ لمعارضته للأحاديث الثابتة.
5- أن لا تـؤدي المراعــاة إلى المنع من الاستكثار من عبادة ثابتة، فلا ينبغي ترك الاعتمار مراعاة لكراهة المالكية تكرار العمرة في السنة الواحدة، وكراهة الحنفية اعتمار المقيم بمكة في أشهر الحج، فلا تنبغي هذه المراعاة؛ لكونها يُفَوَّت بها خير كثير ثبت فضله بلا تقييد.
6- ألا تُـوقِـعَ المـراعـاةُ في خلاف آخر، فنحتاج إلى الخروج منه، فـيـلـزم الـدوْر.
أمثلة للقاعدة:
- اسـتـحـبـاب تـبـيـيت نية صوم النفل من الليل؛ لأن التبييت واجب عند المالكية، غير واجب عند غيرهم.
- استحباب المضمـضة والاستنشاق في غسل الجنابة والوضوء، باعتبار وجوبها عند بعض العلماء.
- استحباب الدلك في الطهارة، واستيعاب الرأس بالمسح، وغسل المني بالماء، والترتيب في قضاء الصلوات، واجتناب استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة - مع وجود ساتر - كل ذلك خروجاً مِن خلاف مَنْ أوجب الجميع .
- استحباب الـشـرب جـالـســاً، خروجاً من خلاف من أوجب الجلوس، واعتبر الوقوف خاصاً بالنبي .
- ترك أكل اللحوم المستوردة حين اشتباه حالها؛ نظراً لاختلاف أهل العلم فيها.
- ترك الأخذ من الزكاة حين يشتبه حال الآخذ: هل هو من أهلها أم لا؟ كمن لديه فضل مال وعليه حاجات واختلف أهل العلم في حاله، فيكون الأفضل الترك.
- ترك الأخذ من الأوقاف الموقوفة على أصحاب أوصاف معينة كالفقهاء أو القراء؛ فهناك المتمكنون والمبتدئون، فقد يشتبه حال الرجل؛ فيختلف فيه أهل العلم بناء على اشتباه حاله.
قاعدة (إذا اجتمع الحلال والحرام غَلَب الحرامُ الحلالَ)
وأصل هذه القاعدة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "»الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات ـ أو مشبهات ـ لا يعـلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الـشـبـهات وقع في الحرام ، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه«".
كما أن حديث عدي بن حاتم يعتبر أصلاً لهذه القاعدة. قال: قلت يا رسول الله ! أُرسِلُ كلبي وأُسَمِّي، فأجد معه على الصيد كلباً آخر لم أُسَمِّ عليه، ولا أدري أيهما آخذ؟ قال: »لا تـأكـل، إنـمـا سمـيـت على كلبك، ولم تُسَمِّ على الآخر«" - فنهاه عن أكل الصيد؛ لاحتمال أن يكون الكلب الآخر ـ الذي لم يُسَمِّ عليه ـ هو الذي قتل الصيد، وهذا فيه أمر باجتناب ما اختلط فيه الحلال بالحرام.
ومن الأمثلة على القاعدة:
- إذا صُبَّ ماء نجس على ماء طاهر أكثر منه في إناء فإنه ينجس.
- إذا اشتبهت امرأته بامرأة أجنبية، حرمتا عليه حتى يميز امرأته من غيرها.
- إذا ربح مالاً من تجارة فيها ربا وغش وخديعة حرم عليه الربح كله إذا لم يمكن تمييز الحلال من الحرام.
قاعدة (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة)
وفي معنى هذه القاعدة، يقول - تعالى - ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)) [النساء:58].
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:" «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته«" ويقول صلى الله عليه وسلم :" «ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة«" .
ومن فروع هذه القاعدة :
إذا لم يوجد ولي للقــتـيـل فـالـسـلطان وليه، ولكن ليس له العفو عن القصاص مجاناً؛ لأنه خلاف المصلحة، بل إن رأى المصلحة في القصاص اقتص، أو في الدية أخذها.
قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور:
أصل هذه القاعدة قول الله - تعالى -(( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16] ومــا رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"»ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم«".
ومن فروعها:
- إذا كان مقطوع بعض الأعضاء يجب عليه غسل ما بقي جزماً.
- إذا عجز عن ستر جميع العورة فعليه ستر القدر الممكن.
- القادر على بعض الفاتحة يأتي به بلا خلاف.
- من بجسده جرح يمنعه استيعاب الماء فعليه غسل الصحيح مع المسح على المكان الذي لم يغسله، أو التيمم عليه .
قاعدة: العبادات كلها لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب، وقبل الوجوب، أو قبل شرط الوجوب :
من فروعها:
- الـطـهــارة ســبـب وجوبها: الحدث. وشــرط الوجوب: إرادة فعل العبادة المشترط لها الطهارة، فلا يجوز تـقـديـمـهـا على الـحـدث، ويجـوز تقديمها على العبادة، ولو بالزمن الطويل بعد الحدث.
- زكاة المال يجوز تقديمها من أول الحوْل بعد كــمــال الـنـصــاب، ولا تجزئ قبل كمال النصاب؛ لأنه سبب الوجوب.
- كفارة اليمين يجوز تقديمها على الحنْث - وهو فعل خلاف ما حلف عليه -، بعد عقد اليمين - وهو سبب وجوب الكفارة -، مالية كانت أو بدنية.
ويترتب على هذه القاعدة قاعدة:
إذا عجَّل عـبـادة قـبـل وقــت الوجوب، ثم تغير الحال بحيث لو فعل المعجل فـي وقــت الوجوب لم يجزئه، فهل تجزئه؟ أم لا؟ هذا على قسمين:
1 - أن يتبين الخلل في العبادة نفسها؛ بأن يظهر بأن الواجب غير المعجل، ومن صوره:
إذا كفَّـر بالصـــوم قبل الحنث ثم حنث وهــو موسر - يستطيع الإطـــعــام أو الـكـسوة أو العتق كفارة ليمينه - أو صام المتمتع، ثم قدر على الهدي، لعل الصحيح أنه يجزئه لبراءة ذمته بفعله الأول.
- وفي العبادات المالية: لو زكى قبل الحول ثم نمى المال، فإنه يجزئه ما أخرجه، ويلزمه أن يخرج عن الزيادة.
2 - أن يتبين الخلل في شرط العبادة - والصحيح أنه يجزئه - ومن صوره:
- إذا عجل الزكاة إلى فقير مسلم، ثم كفر أو استغنى قبل الحول.
- إذا جمع بين صلاتين جمع تقديم بتيمم ثم وجد الماء في وقت الثانية.
- إذا جمع مع القصر مسافراً ثم قدم في وقت الثانية.
قاعدة (إذا فعل عبادة في وقت وجوبها، يظن أنها الواجبة عليه، ثم تبين أن الواجب كان غيرها، فإنه يجزئه) ولها صور:
- إذا أناب العاجز عن نفسه من يحج عنه، ثم برئ: أجزأه.
- إذا كفَّر العاجز عن الصوم، للإياس من برئه، ثم عوفي، لم يلزمه القضاء.
- إذا صلى الظهر لعذر عن الجمعة، ثم زال العذر قبل تجميع الإمام لم تلزمه الإعادة.
ويلتحق بها ما إذا خفي الاطلاع على خلل الشرط ثم تبين، فإنه يغتفر - في الأصح - ومن ذلك:
- إذا أدى الزكاة إلى من يظنه فقيراً فبان أنه غني فإنها تسقط.
- إذا صلى المسافر بالاجتهاد إلى القبلة، ثم تبين الخطأ فإنه لا إعادة عليه.
قـاعـدة (من تلبس بعبادة ثم وجد قبل فراغها ما لو كان واجداً له قبل الشروع لكان هو الواجب دون ما تلبس به، هل يلزمه الانتقال إليه أم يمضي ويجزئه؟) هذا على ضربين:
الأول: أن يكون المتلبَّس به رخصة عامة شُرِعت تيسيراً، فلا يجب عليه الانتقال للأصل، كالمتمتع إذا شرع في الصيام، ثم وجد هدياً، لم يجب عليه الرجوع إلى الهدي.
الثاني: أن يكون المتلبَّس به إنما شُرِعَ ضرورة للعجز عن الأصل وتعذُّره بالكلية فهذا يلزمه الانتقال للأصل عند القدرة عليه، ولو في أثناء التلبس بالبدل. ومثاله: ما لو عدم الماء، فشرع في التيمم، ثم وجد الماء فإنه يجب عليه استعماله، ولا يجزئه التيمم.
وهناك أمثلة مترددة بين الضربين:
منها: من شرع في صيام كفارة ظِهار أو يمين أو غيرهما، ثم وجد الرقبة.
ومنها: المتيمم إذا شرع في الصلاة ثم وجد الماء.
هذه القواعد وغيرها متفرعة من القواعد الخمس الكبرى التي قيل : إن الفقه كله مبني عليها ، وهي :
1. الأمور بمقاصدها ، ودليلها : قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات. »
2. اليقين لا يزول بالشك ، ودليلها : حديث : « لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا » .
3. المشقة تجلب التيسير ، ودليلها : قول الله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « بعثت بالحنيفية السَّمْحَة».
4. الضرر يُزال ، ودليلها : حديث : « لا ضرر ولا ضرار » ، والضرر ما يكون بغير قصد ، والضرار ما يكون بقصد .
5. العادة مُحَكَّمة ، ودليلها : قوله صلى الله عليه وسلم : « ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن ».
قال السيوطي في ( الأشباه والنظائر ) : كل ما ورد به الشرع مطلقا بلا ضابط منه ولا من اللغة يرجع فيه إلى العرف .
وقال بعض العلماء : يرجع الفقه كله إلى قاعدة واحدة وهي :
جلب المصالح ودفع المفاسد .
وقال الشيخ تاج الدين السبكي : و أرجع العز بن عبد السلام الفقه كله إلى اعتبار المصالح والمفاسد ؛ بل قد يرجع الكل إلى اعتبار المصالح ؛ فإن درء المفاسد من جملتها .
وعلى هذا فجميع القواعد الفقهية الكلية والفرعية مبنية على رفع الحرج ، وهي تلمح إلى أن الأحكام الشرعية العملية قد روعي فيها جانب السعة والتخفيف عن العباد.
االمصدر