بقلم د. عبد الآخر حماد
لغتنا العربية أعظم اللغات وأشرفها، كيف لا وقد خصها الله تعالى بأن جعلها لغة القرآن الحكيم، ولسان خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وهي ركن ركين من أركان ثقافتنا ومصدر لفخرنا واعتزازنا، وإن الحفاظ عليها وحمايتها والاهتمام بها هو واجبنا جميعاً، ولذا أحببت أن أخط بعض التأملات والنظرات في بعض ما يجري على الألسنة وتخطه الأقلام من ألفاظ وتراكيب ،محاولاً استجلاء وجه الصواب فيها، فأقول وبالله التوفيق:
1. البؤساء والبائسون:-
للأديب الفرنسي الشهير فيكتور هوجو رواية تُرجمت إلى اللغة العربية أكثر من مرة بعنوان: (البؤساء)، وهي قصة تتحدث عن (جين فالجان) الذي يقبض عليه بتهمة سرقة رغيف لعائلته الفقيرة، ويحكم عليه بالسجن خمس سنوات، لكن مدة سجنه تصل إلى تسعة عشر عاماً بسبب محاولاته المتكررة للهرب، وبعد خروجه يتوجه للعمل عند أصحاب الحانات لكنهم لا يقبلونه لسابق سجنه، فينام في الشوارع وعلى الأرصفة.
وتستمر مأساته إلى أن ينجح في انتحال اسم جديد يصبح بعده مالكاً لأحد المصانع ورئيساً لبلدية بلدته، ثم ينكشف أمره من قبل المفتش الذي كان يلاحقه ....إلخ
وليس من غرضي هنا الحديث عن تلك الرواية وما تحمله من معانٍ ومضامين، وإنما مقصودنا الحديث عن خطأ لغوي وقع فيه من ترجموا هذه الرواية إلى اللغة العربية وأولهم فيما أعلم الشاعر حافظ إبراهيم ؛فإنهم ترجموها كما أسلفنا بعنوان البؤساء ،وهي ترجمة غير صحيحة للعنوان الذي اختاره فيكتور هوجو لروايته وهو باللغة الفرنسية: [Les Miserables] وهي جمع كلمة : [Le Miserable] والتي تعني البائس أو التعيس أو المثير للشفقة والرثاء ،بحسب الموجود في المعاجم المشهورة.
ومضمون الرواية يدل أيضاً على أنها تتحدث عن المساكين الذين يحيون في بؤس وشقاء، فهو في تلك الرواية يتحدث عن الظلم الاجتماعي الذي كان سائداً في فرنسا بين سقوط نابليون في سنة 1815، والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب في سنة 1832.
وذلك من خلال شخصية جين فالجان وغيره من الفقراء والمساكين الذين حفلت بهم تلك الرواية ،وهو يقول في مقدمة روايته: ((تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفاً اجتماعياً هو نوع من جحيم بشري ،فطالما توجد لامبالاة وفقر على الأرض ، فإن كتباً كهذا الكتاب ستكون ضرورية دائماً)).
والذين ترجموا الرواية لم ينتبهوا للفرق بين البائس والبئيس ، فالبائس من البؤس وهو المسكين ذو الحاجة كما في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج]، وأما البئيس ،فهو الشجاع الشديد ،من البأس وهو القوة والشدة ؛كما قال أصحاب بلقيس (نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) [النمل].
وفي القرآن الحكيم أيضاً : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)..[الأعراف] أي بعذاب شديد ؛قال في مختار الصحاح: (البأس العذاب وهو أيضاً الشدة في الحرب ،تقول منه بَؤُس الرجل بالضم فهو بئيس كفعيل أي شجاع ،وعذاب بئيس أيضاً أي شديد ،وبئَِس الرجل بالكسر بُؤساً وبئيساً اشتدت حاجته فهو بائس).
إذا تبين هذا فإن جمع بائس في اللغة العربية : بائسون أو بائسين ؛لأن بائس اسم فاعل يجمع جمع مذكر سالماً بزيادة واو ونون أو ياء ونون على مفرده.
وأما جمع بئيس فهو بؤساء لأن ما كان على وزن فعيل فإنه يجمع كما يقول الصرفيون على فعلاء ككريم وكرماء ،وبخيل وبخلاء ، ولما كان عنوان الرواية بالفرنسية ومضمونها يدلان على أنها تتحدث عن قوم من أهل البؤس لا من أهل البأس ،فقد كان الصواب أن يكون عنوانها بالعربية ( البائسون ) لا (البؤساء ) .
2- والحسم:-
من المصطلحات المعروفة في عالم التجارة والمال مصطلح (الخَصْم التجاري) ويعنون به بحسب ما درسناه في مادة المحاسبة بالمرحلة الجامعية ما يتنازل عنه البائع للمشتري من الثمن المحدد للسلعة ،وحين كنت أعمل في إحدى شركات القطاع العام بمصر كنا نستعمل ذلك المصطلح بنفس المعنى الذي سبقت الإشارة إليه.
ولم أنتبه إلى أنه يمكن أن يكون غير صحيح لغوياً ،إلى أن سافرت إلى بعض البلاد العربية فرأيت بعض المحاسبين من إخواننا الشوام يستعملون كلمة (الحسم) بدلاً من كلمة (الخصم)، وقد استغربت هذا المصطلح للوهلة الأولى ،ولكن بشيء من التفكير بدا لي أن مصطلحهم هو الصحيح.
وأن كلمة (خصم) في اللغة العربية لا تدل على معنى التنزيل أو الإنقاص الذي يقصد من استعمال ذلك المصطلح ،وإنما هي من الخصومة.. كما قال تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) [ص]، وقال: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج].
وأما الحسم فهو في اللغة بمعنى القطع ولذا سمي السيف حساماً لأنه يقطع، وفي قوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة] قيل في معناها إنها أيام تحسم الخير عن أهلها أي تقطعه عنهم ،وفي مختار الصحاح : ((حسمه : قطعه من باب ضرب فانحسم.. وفي الحديث: (أنه أتي بسارق فقال اقطعوه ثم احسموه)، أي اكووه بالنار لينقطع الدم ...والحسام السيف القاطع))، ولا شك أن الإنقاص من الثمن فيه معنى القطع لأنه اقتطاع لجزء منه، فكان إطلاق الحسم على ذلك الإنقاص هو الأليق بخلاف لفظ الخصم الذي هو أبعد ما يكون عن ذلك المعنى كما أسلفنا .
3. عجوزة وعجوز:
في العامية المصرية يعبر الناس عن الشيخ المسن بأنه رجل عجوز ،وفي بعض البلاد العربية يخصون لفظ عجوز بالمرأة، وأما الرجل فهو عندهم شيخ فقط ،وقد سمعت بعضهم ينكر طريقة أهل مصر في ذلك ،ويقول إن الله تعالى يقول عن سارة رضي الله عنها لما بُشرت بإسحاق (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً) [هود]، فجعلت وصف العجوز خاصاً بها.
أما زوجها إبراهيم عليه السلام فقد وصفته بأنه شيخ فدل ذلك على أن الرجل لا يوصف بأنه عجوز، ولم يكن لدي وقتها جواب محدد إلا أني قلت لمحدثي: إنه يمكن أن يقال إن ما جاء في القرآن الكريم هو الأفصح لكن لا يعني ذلك أنه لا يصح إطلاق وصف عجوز على الرجل لأن القاعدة الصرفية أن ما كان على وزن فعول إذا قصد به معنى اسم الفاعل استوي فيه المذكر والمؤنث.. فيقال رجل صبور وامرأة صبور لأن لفظ صبور هنا بمعنى صابر ،ومثله رجل طهور وامرأة طهور، لأن طهور هنا بمعنى طاهر.
وبما أن عجوز بمعنى عاجز فإنه يصح فيما أرى أن يقال رجل عجوز وامرأة عجوز ،ثم وجدت في بعض المعاجم وكتب اللغة ما يشير إلى صحة ما ذهبت إليه فقد أورد الفيروز أبادي في القاموس المحيط سبعة وسبعين معنى لكلمة عجوز فذكر منها الشيخ والشيخة، وقال ابن منظور في لسان العرب: ((ويقال للرجل عجوز وللمرأة عجوز )) .
وفي كتاب وحي القلم للأديب العظيم مصطفى صادق الرافعي، مقال بعنوان: (العجوزان)، والرافعي في ذلك المقال يتحدث عن رجلين لا عن امرأتين ، وقد ذكر في الحاشية أن بعض أهل اللغة يجيزون وصف الرجل بأنه عجوز وإن كان جمهورهم على أن العجوز وصف خاص بالمرأة إذا شاخت وهرمت.
ثم ذكر الرافعي رحمه الله أنه مع الرأي القائل بجواز وصف الرجل بأنه عجوز، ثم قال : (( ولو لم يأت فيه نص عن العرب لابتدعناه وزدناه في اللغة ووجهه عندنا أن الرجل والمرأة إذا بلغا الهرم فقدا خصائص الذكورة والأنوثة ،فلم يعودا رجلاً وامرأة ،فاستويا في العجز ،فكان الرجل قميناً أن يشارك المرأة في وصفها ،فيقع اللفظ عليهما جميعاً )).. [وحي القلم: 3/ 65]
وأقول: إن ما ذهب إليه الرافعي رحمه الله من جواز إطلاق صفة عجوز على الرجل رأي سديد كما سبق نقله عن علماء اللغة الأقدمين ،ولكن هذا الذي قاله في تعليل ما ذهب إليه هو -فيما أرى- إلى أن يكون طرفة أدبية أقرب منه إلى التحقيق العلمي الرصين.
وذلك أنه إذا كان الباعث على تساوي الرجل والمرأة في وصف عجوز أنهما إذا بلغا الهرم فقدا خصائص الذكورة والأنوثة فاستويا ،أقول إذا كان ذلك هو الباعث فما بال العرب يطلقون وصف عروس على كل من الرجل والمرأة وغالب ما يكون العرس في سن الشباب الذي تكون فيه الاختلافات بين الرجل والمرأة أشد ما تكون ؟ ولذا لا أرى وجهاً لهذا التعليل الذي ذهب إليه الرافعي رحمه الله ،ويكفي ما ذكرناه قبل قليل من أقوال اللغويين السابقين .
بقيت نقطة أخيرة وهي المتعلقة باستعمالنا للفظ عجوزة في وصف المرأة إذا هرمت ،فقد أنكر ذلك بعض أهل اللغة ، قال صاحب القاموس : (( ولا تقل عجوزة أو هي لُغيَّة رديئة)) ، وفي اللسان عن ابن السكيت أنه قال: ((ولا تقل عجوزة ،والعامة تقوله)).
هذا مع أن صاحب اللسان كان قد قال قبل ذلك بقليل : ((والعجوز والعجوزة من النساء الشيخة الهرمة ،الأخرى قليلة))، وما دام قد نقل عن العرب ولو في لغة قليلة إطلاق العجوزة على المرأة فإن الظاهر أنه لا بأس بذلك وأنه ليس بخطأ ، ولعل محل ذلك حالة ألا يذكر الموصوف ؛فإنَّ المذكور في كتب الصرف أن صيغة فعول إذا كانت بمعنى اسم الفاعل ولم يذكر الموصوف فإنه تلحقها التاء للدلالة على التأنيث منعاً للاشتباه ،فتقول رأيت صبوراً للمذكر ،ورأيت صبورةً للمؤنث
أما إذا ذكر الموصوف فإن التاء لا تلحقها فتقول رجل صبور وامرأة صبور, فعلى ذلك تقول رأيت عجوزاً للمذكر، ورأيت عجوزة للمؤنث ؛لأنك لم تذكر الموصوف ،أما إذا ذكرت الموصوف فإنك تقول رجل عجوز وامرأة عجوز.
لغتنا العربية أعظم اللغات وأشرفها، كيف لا وقد خصها الله تعالى بأن جعلها لغة القرآن الحكيم، ولسان خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وهي ركن ركين من أركان ثقافتنا ومصدر لفخرنا واعتزازنا، وإن الحفاظ عليها وحمايتها والاهتمام بها هو واجبنا جميعاً، ولذا أحببت أن أخط بعض التأملات والنظرات في بعض ما يجري على الألسنة وتخطه الأقلام من ألفاظ وتراكيب ،محاولاً استجلاء وجه الصواب فيها، فأقول وبالله التوفيق:
1. البؤساء والبائسون:-
للأديب الفرنسي الشهير فيكتور هوجو رواية تُرجمت إلى اللغة العربية أكثر من مرة بعنوان: (البؤساء)، وهي قصة تتحدث عن (جين فالجان) الذي يقبض عليه بتهمة سرقة رغيف لعائلته الفقيرة، ويحكم عليه بالسجن خمس سنوات، لكن مدة سجنه تصل إلى تسعة عشر عاماً بسبب محاولاته المتكررة للهرب، وبعد خروجه يتوجه للعمل عند أصحاب الحانات لكنهم لا يقبلونه لسابق سجنه، فينام في الشوارع وعلى الأرصفة.
وتستمر مأساته إلى أن ينجح في انتحال اسم جديد يصبح بعده مالكاً لأحد المصانع ورئيساً لبلدية بلدته، ثم ينكشف أمره من قبل المفتش الذي كان يلاحقه ....إلخ
وليس من غرضي هنا الحديث عن تلك الرواية وما تحمله من معانٍ ومضامين، وإنما مقصودنا الحديث عن خطأ لغوي وقع فيه من ترجموا هذه الرواية إلى اللغة العربية وأولهم فيما أعلم الشاعر حافظ إبراهيم ؛فإنهم ترجموها كما أسلفنا بعنوان البؤساء ،وهي ترجمة غير صحيحة للعنوان الذي اختاره فيكتور هوجو لروايته وهو باللغة الفرنسية: [Les Miserables] وهي جمع كلمة : [Le Miserable] والتي تعني البائس أو التعيس أو المثير للشفقة والرثاء ،بحسب الموجود في المعاجم المشهورة.
ومضمون الرواية يدل أيضاً على أنها تتحدث عن المساكين الذين يحيون في بؤس وشقاء، فهو في تلك الرواية يتحدث عن الظلم الاجتماعي الذي كان سائداً في فرنسا بين سقوط نابليون في سنة 1815، والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب في سنة 1832.
وذلك من خلال شخصية جين فالجان وغيره من الفقراء والمساكين الذين حفلت بهم تلك الرواية ،وهو يقول في مقدمة روايته: ((تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفاً اجتماعياً هو نوع من جحيم بشري ،فطالما توجد لامبالاة وفقر على الأرض ، فإن كتباً كهذا الكتاب ستكون ضرورية دائماً)).
والذين ترجموا الرواية لم ينتبهوا للفرق بين البائس والبئيس ، فالبائس من البؤس وهو المسكين ذو الحاجة كما في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج]، وأما البئيس ،فهو الشجاع الشديد ،من البأس وهو القوة والشدة ؛كما قال أصحاب بلقيس (نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) [النمل].
وفي القرآن الحكيم أيضاً : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)..[الأعراف] أي بعذاب شديد ؛قال في مختار الصحاح: (البأس العذاب وهو أيضاً الشدة في الحرب ،تقول منه بَؤُس الرجل بالضم فهو بئيس كفعيل أي شجاع ،وعذاب بئيس أيضاً أي شديد ،وبئَِس الرجل بالكسر بُؤساً وبئيساً اشتدت حاجته فهو بائس).
إذا تبين هذا فإن جمع بائس في اللغة العربية : بائسون أو بائسين ؛لأن بائس اسم فاعل يجمع جمع مذكر سالماً بزيادة واو ونون أو ياء ونون على مفرده.
وأما جمع بئيس فهو بؤساء لأن ما كان على وزن فعيل فإنه يجمع كما يقول الصرفيون على فعلاء ككريم وكرماء ،وبخيل وبخلاء ، ولما كان عنوان الرواية بالفرنسية ومضمونها يدلان على أنها تتحدث عن قوم من أهل البؤس لا من أهل البأس ،فقد كان الصواب أن يكون عنوانها بالعربية ( البائسون ) لا (البؤساء ) .
2- والحسم:-
من المصطلحات المعروفة في عالم التجارة والمال مصطلح (الخَصْم التجاري) ويعنون به بحسب ما درسناه في مادة المحاسبة بالمرحلة الجامعية ما يتنازل عنه البائع للمشتري من الثمن المحدد للسلعة ،وحين كنت أعمل في إحدى شركات القطاع العام بمصر كنا نستعمل ذلك المصطلح بنفس المعنى الذي سبقت الإشارة إليه.
ولم أنتبه إلى أنه يمكن أن يكون غير صحيح لغوياً ،إلى أن سافرت إلى بعض البلاد العربية فرأيت بعض المحاسبين من إخواننا الشوام يستعملون كلمة (الحسم) بدلاً من كلمة (الخصم)، وقد استغربت هذا المصطلح للوهلة الأولى ،ولكن بشيء من التفكير بدا لي أن مصطلحهم هو الصحيح.
وأن كلمة (خصم) في اللغة العربية لا تدل على معنى التنزيل أو الإنقاص الذي يقصد من استعمال ذلك المصطلح ،وإنما هي من الخصومة.. كما قال تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) [ص]، وقال: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج].
وأما الحسم فهو في اللغة بمعنى القطع ولذا سمي السيف حساماً لأنه يقطع، وفي قوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة] قيل في معناها إنها أيام تحسم الخير عن أهلها أي تقطعه عنهم ،وفي مختار الصحاح : ((حسمه : قطعه من باب ضرب فانحسم.. وفي الحديث: (أنه أتي بسارق فقال اقطعوه ثم احسموه)، أي اكووه بالنار لينقطع الدم ...والحسام السيف القاطع))، ولا شك أن الإنقاص من الثمن فيه معنى القطع لأنه اقتطاع لجزء منه، فكان إطلاق الحسم على ذلك الإنقاص هو الأليق بخلاف لفظ الخصم الذي هو أبعد ما يكون عن ذلك المعنى كما أسلفنا .
3. عجوزة وعجوز:
في العامية المصرية يعبر الناس عن الشيخ المسن بأنه رجل عجوز ،وفي بعض البلاد العربية يخصون لفظ عجوز بالمرأة، وأما الرجل فهو عندهم شيخ فقط ،وقد سمعت بعضهم ينكر طريقة أهل مصر في ذلك ،ويقول إن الله تعالى يقول عن سارة رضي الله عنها لما بُشرت بإسحاق (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً) [هود]، فجعلت وصف العجوز خاصاً بها.
أما زوجها إبراهيم عليه السلام فقد وصفته بأنه شيخ فدل ذلك على أن الرجل لا يوصف بأنه عجوز، ولم يكن لدي وقتها جواب محدد إلا أني قلت لمحدثي: إنه يمكن أن يقال إن ما جاء في القرآن الكريم هو الأفصح لكن لا يعني ذلك أنه لا يصح إطلاق وصف عجوز على الرجل لأن القاعدة الصرفية أن ما كان على وزن فعول إذا قصد به معنى اسم الفاعل استوي فيه المذكر والمؤنث.. فيقال رجل صبور وامرأة صبور لأن لفظ صبور هنا بمعنى صابر ،ومثله رجل طهور وامرأة طهور، لأن طهور هنا بمعنى طاهر.
وبما أن عجوز بمعنى عاجز فإنه يصح فيما أرى أن يقال رجل عجوز وامرأة عجوز ،ثم وجدت في بعض المعاجم وكتب اللغة ما يشير إلى صحة ما ذهبت إليه فقد أورد الفيروز أبادي في القاموس المحيط سبعة وسبعين معنى لكلمة عجوز فذكر منها الشيخ والشيخة، وقال ابن منظور في لسان العرب: ((ويقال للرجل عجوز وللمرأة عجوز )) .
وفي كتاب وحي القلم للأديب العظيم مصطفى صادق الرافعي، مقال بعنوان: (العجوزان)، والرافعي في ذلك المقال يتحدث عن رجلين لا عن امرأتين ، وقد ذكر في الحاشية أن بعض أهل اللغة يجيزون وصف الرجل بأنه عجوز وإن كان جمهورهم على أن العجوز وصف خاص بالمرأة إذا شاخت وهرمت.
ثم ذكر الرافعي رحمه الله أنه مع الرأي القائل بجواز وصف الرجل بأنه عجوز، ثم قال : (( ولو لم يأت فيه نص عن العرب لابتدعناه وزدناه في اللغة ووجهه عندنا أن الرجل والمرأة إذا بلغا الهرم فقدا خصائص الذكورة والأنوثة ،فلم يعودا رجلاً وامرأة ،فاستويا في العجز ،فكان الرجل قميناً أن يشارك المرأة في وصفها ،فيقع اللفظ عليهما جميعاً )).. [وحي القلم: 3/ 65]
وأقول: إن ما ذهب إليه الرافعي رحمه الله من جواز إطلاق صفة عجوز على الرجل رأي سديد كما سبق نقله عن علماء اللغة الأقدمين ،ولكن هذا الذي قاله في تعليل ما ذهب إليه هو -فيما أرى- إلى أن يكون طرفة أدبية أقرب منه إلى التحقيق العلمي الرصين.
وذلك أنه إذا كان الباعث على تساوي الرجل والمرأة في وصف عجوز أنهما إذا بلغا الهرم فقدا خصائص الذكورة والأنوثة فاستويا ،أقول إذا كان ذلك هو الباعث فما بال العرب يطلقون وصف عروس على كل من الرجل والمرأة وغالب ما يكون العرس في سن الشباب الذي تكون فيه الاختلافات بين الرجل والمرأة أشد ما تكون ؟ ولذا لا أرى وجهاً لهذا التعليل الذي ذهب إليه الرافعي رحمه الله ،ويكفي ما ذكرناه قبل قليل من أقوال اللغويين السابقين .
بقيت نقطة أخيرة وهي المتعلقة باستعمالنا للفظ عجوزة في وصف المرأة إذا هرمت ،فقد أنكر ذلك بعض أهل اللغة ، قال صاحب القاموس : (( ولا تقل عجوزة أو هي لُغيَّة رديئة)) ، وفي اللسان عن ابن السكيت أنه قال: ((ولا تقل عجوزة ،والعامة تقوله)).
هذا مع أن صاحب اللسان كان قد قال قبل ذلك بقليل : ((والعجوز والعجوزة من النساء الشيخة الهرمة ،الأخرى قليلة))، وما دام قد نقل عن العرب ولو في لغة قليلة إطلاق العجوزة على المرأة فإن الظاهر أنه لا بأس بذلك وأنه ليس بخطأ ، ولعل محل ذلك حالة ألا يذكر الموصوف ؛فإنَّ المذكور في كتب الصرف أن صيغة فعول إذا كانت بمعنى اسم الفاعل ولم يذكر الموصوف فإنه تلحقها التاء للدلالة على التأنيث منعاً للاشتباه ،فتقول رأيت صبوراً للمذكر ،ورأيت صبورةً للمؤنث
أما إذا ذكر الموصوف فإن التاء لا تلحقها فتقول رجل صبور وامرأة صبور, فعلى ذلك تقول رأيت عجوزاً للمذكر، ورأيت عجوزة للمؤنث ؛لأنك لم تذكر الموصوف ،أما إذا ذكرت الموصوف فإنك تقول رجل عجوز وامرأة عجوز.