حملة رسالة الإسلام الأولون
وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير
وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم
كتبه الأستاذ العلامة / محب الدين الخطيب
-----------------------
روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".
وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.
إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.
ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: “خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم ..”؟!
في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).
ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.
وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.
وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.
هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.
هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."
ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.
حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.
فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟
لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: “ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.
وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.
ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟
إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.
وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير
وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم
كتبه الأستاذ العلامة / محب الدين الخطيب
-----------------------
روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".
وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.
إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.
ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: “خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم ..”؟!
في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).
ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.
وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.
وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.
هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.
هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."
ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.
حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.
فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟
لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: “ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.
وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.
ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟
إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.
عدل سابقا من قبل أحمد في الإثنين يوليو 13, 2009 7:29 am عدل 1 مرات