أحمد- إدارة ثمار الأوراق
- عدد الرسائل : 16801
الموقع : القاهرة
نقاط : 39133
تاريخ التسجيل : 17/09/2008
من طرف أحمد الإثنين يوليو 13, 2009 7:39 am
القادة
ولعل طارق بن زياد من القادة الذين تحدث عنهم المؤرخون من جانب الأدب فقط أو من جانب القيادة فقط فوقعوا في أخطاء كبيرة لأنهم لم يبحثوا عن المنطلقات العقيدية.
خطبة طارق
قالوا لا يمكن أن يقولها رجل بربري، لم يمضِ على إسلامه إلا قليلاً، ولم يخالط العرب إلا يسيراً، إذ كان مولىً لموسى بن نصير. ولنذكر الخطبة من أكثر المصادر إطناباً فيها، وأكثرها إظهاراً لبيانها، وأوسعها تبياناً لقوة معانيها، وهي مما رواه أحمد المقري التلمساني في كتابه (نفح الطيب).
(أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم -والله- إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم -ولم تُنجزوا لكم أمراً- ذهبت ريحكم، وتعوَّضت قلوبكم من رُعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم بأمر أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم دوني على خطة أرخص متاعٍ فيها النفوس. أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الأرض أصهاراً وأختاناً، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، وسماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ودون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجازكم على ما يكون لكم ذكر في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم (لذريق) فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي،فإن هلكت بعده فقد كُفيتُم أمره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، و إن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله).
قالوا إن طارقاً بربري حديث الاستعراب لا يمكنه أن يقول مثل هذه الخطبة ارتجالاً، تذكروا هذا ونسوا أن أباه هو الذي استعرب، وهو مسلم أصلاً، ونشأ طارق في وسط عربي عند موسى بن نصير. قالوا هذا، ونسوا أهم نقطة، وهي كلمة الفصل، وهي أن طارقاً قائد الجيش، وإمامهم في الصلاة، وخطيبهم في الجمعة والأعياد، وفي كل ميدانٍ يقتضي فيه الحديث والكلام، وهذا واجب على قائد الجيش، ولا تصح إمرة مَن لا تتوفر فيه هذه الصفات إذ فيها مخالفة للمنطلقات الإسلامية. ولا يمكن لموسى بن نصير أن يختاره للقيادة إذا كانت لا تتوفر فيه هذه المؤهلات، وهو أدرى الناس به.
وأغرب من هذا أن يقول أحدهم: كيف تكون هذه خطبة لقائد أكثر جيشه من البربر، وأن يرتجلها ارتجالاً. وهل خطيب الجمعة يتكلم بالعامية إن كان أكثر الحضور من العامة؟ وهل يصعب عليه أن يرتجل خطبة كهذه وهو خطيب الجمعة والأعياد وقد تمرّس على الكلام والارتجال؟
تكلم الأدباء عن بيان الخطبة وأسلوبها، والعصر الذي وُضِعت فيه، وعدم إمكانية طارق بن زياد البربري الحديث بالعربية أن يقول مثلها، وكتب المؤرخون عن شبهها بأساطير كثيرة عندما يكون النصر كبيراً، إذ لم يكن جيش المسلمين ليزيد على اثنتي عشر ألفاً، على حين كان جيش (القوط) يزيد على المائة ألف، وقالوا: إن الفرس عندما دخلوا اليمن بقيادة (وهرز) مع سيف بن ذي يزن قد نسبوا لقائدهم مثل هذه الخطبة، كما نسبوا له إحراق السفن، وأن الإسبان عندما دخلوا المكسيك مستعمرين نسبوا لقائدهم قولاً مثل كلام طارق، كما قالوا: إنه أحرق السفن. كما تكلموا عن تأخّر المؤرخين الذين نقلوها، وعدم ذكرها عند المؤرخين الأقدم زمناً، قالوا كل هذا، وناقشوا كل ذلك ولكن لم يتحدَّثوا عن أهم نقطة وهي أن طارقاً كان إمام الجند وخطيبهم، فليس غريباً أن تكون هذه الخطبة من كلام طارق بن زياد الذي مارس الإمامة والخطابة.
إحراق السفن
انطلق المسلمون إلى البلدان فاتحين. انطلقوا بروح إسلامية مجاهدين، وعلى هذا فإن ما يُنسب إلى قادتهم إنما يُنظَر إليه ويُحلل من وجهة نظر إسلامية، فإن انسجمت تصرفاتهم مع منطلقاتهم فهذا الأمر السليم، وإن اختلفت دُرِسَت حسب المنطلقات لتعرف أكان صحيحاً ما نُسب إليهم أم كذباً وافتراءً. لا شكّ قد تقع أخطاء فما من إنسان بعد الرسل بمعصوم، ولكن تُعرف مثل هذه الأخطاء وتشتهر لأن القادة يسألونهم عنها، والخلفاء يحاسبونهم عليها حتى ولو كانت تهمة أو شائعة فيبرّرون هم بأنفسهم تصرفاتهم، أو يلقون العقاب. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان تصرّفه في كلا الحالتين اجتهاداً، وهو اجتهاد في محله، وكان تصرُّف من تكلم عنه اجتهاداً، وهو في محله أيضاً، وقد سُكت عنه كذلك، وهذا شأن المسلمين.
ولنرجع إلى قضية سفن طارق، فإنه لم يقم بإحراقها أبداً، لا يمكن ذلك، ولو فعل لسُئل وحوسب وعوقب، فإن عملها يكلف الكثير من المال، ويستغرق الكثير من الوقت، ولم يُعرف عن المسلمين الأوائل إهدار المال وإضاعة ما قد أنشؤوه. وهذا الأساس بالموضوع والعلمية، ومع ذلك فلنناقش الموضوعَ منطقياً.
أ) لم يقل طارق أني أحرقت السفن أو أمرت بذلك، وإنما فهم بعض المتأخرين ذلك من خطبته (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم...) فهموا من هذا الكلام أن البحر وراءهم وليس فيه وسيلة نقل تنقلهم إلى العدوة المغربية، وهو فهم فيه شيء من السقم.
ب) لم يقل أحد من جنده أو معاصريه عن هذا شيئاً، وإنما قيلت بعده بعدة قرون.
ج) السفن ليست ملكاً له ليتصرف بها كيف يشاء، فهي إما لـ (يولْيان) الذي قدم للمسلمين عدداً منها لنقلهم إلى العدوة الأندلسية لفتحها انتقاماً لنفسه من ملك القوط، وإما للمسلمين يحاسبه على تصرف قادتهم. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، عن إعطائه المال للأشعب الكندي لما أبداه من مهارة وتضحية في حرب الروم، وكان العطاء من ماله الخاص، ويقصد السائل -وهو أمير المؤمنين- أن في ذلك العطاء تبذيراً.
د) لم يحاسب طارقاً أحدٌ من قادته سواء أكان القائد العام موسى بن نصير أم الخليفة الوليد بن عبد الملك، مع العلم أن طارقاً كان مولىً لموسى بن نصير فليس له حق التصرّف الذي قد يفعله أبناء السادة المغرورين عند غير المسلمين.
هـ) ألا يمكنه أن يأمر بالسفن فتعود إلى العدوة المغربية فيصل إلى النتيجة نفسها؟ وهذا ما تم، وذلك أفضل من أن يقوم بإحراقها ويخسرها المسلمون.
و) لا يمكن لقائد واسع النظر أمثال طارق أن لا ينظر إلى المستقبل فيترك جيشه الصغير في بلاد الأندلس الواسعة، والتي من ورائها أوربا تدعمها، وبين مخالب دولة القوط الحاقدة المتربصة بالمسلمين التي تنتظر الفرصة لتعمل مخالبها فيهم.
ز) ألا يتوقَّع طارق مدداً؟ وهذا ما حدث، فعلى أي شيء يُنقل المدد، لقد انتقل المدد على السفن نفسها.
ح) من أين جاء موسى بن نصير بالسفن التي انتقل عليها إلى الأندلس مع بقية الجيش عندما خاف على المسلمين الذين توغّلوا بعيداً داخل الأندلس؟ لقد انتقل على السفن نفسها.
ط) لم تكن عملية إحراق السفن بالطريقة التي تُلقي الحماسة في نفوس المسلمين، لقد عُرف الموضوع عندهم بالتذكير بإحدى الحسينين، فلا شيء يدفعهم مثل ذلك، فهم من أجل هذا خرجوا، ولعلنا نذكر الآن ما قاله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مؤتة عندما رأى المسلمون كثرة الروم حيث كان يزيد جمعهم على مائتي ألف ولم يكن عدد المسلمين ليصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف، فتخوَّف الناس على الجيش، وأخذوا يدرسون الموقف، وكأن شيئاً قد وقع في نفوسهم، فقال لهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: "إنّ الذي تخافون للذي خرجتم تطلبون، والله ما انتصرنا بكثرة ولا بقوة سلاح وإنما بما نحمل بين أظهرنا.." فتشجع الناس وأقبلوا.
ك) إحراق السفن لا يفيد عندما يقع الهلع في النفوس. وقد كانت العرب في الجاهلية وربما بعض الأمم الأخرى إذا خرجوا للقتال أخذوا معهم نساءهم وأبناءهم كي لا يفرّوا خوفاً على النساء والذراري من أن تقع في السبي، ولكن إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، ووقع الرعب في القلوب، فرّوا لا يلوون على شيء، وما غزوة حنين بخافية على أحد، إذ وقعت نساء وذراري هوازن في السبي حتى أخلى سبيلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن جاء أهلوهم أذلاء راجين العفو. فإذا كانت الذراري لا يلتفت إليها أهلها فهل يهم الخائف وجود سفن أو لا؟ إذ لا يفكر الخائف إلا بالنجاة من المأزق الذي هو فيه، وبعدها يبحث في طريق الوصول إلى المأمن.
إذن، لم يحرق طارق السفن، وبقيت لدى المسلمين، وانتقل المدد إلى الأندلس عليها، وانتقل قائدهم مع بقية الجيش إلى الأندلس عليها، وقضية إحراق السفن فرية وضعها بعضهم لإبراز فكرة التضحية والإقدام عند طارق، وروّجها أو أسهم في وضعها الذين لهم أهداف بعيدة في تشجيع المسلمين على مخالفة الإسلام، والقيام بمثل هذه الأعمال الانتحارية، وحرمان المسلمين من بعض وسائل الحرب لديهم بالتفريط فيها وإضاعتها.
طبخ لحوم القتلى
روى بعض المؤرخين قصة غريبة، ومنهم ابنُ القوطية في كتابه (افتتاح الأندلس)، وابنُ الكردبوس في كتابه (تاريخ الأندلس) مع أن الأول متَّهَم بالشعوبية وإعطاء صفات للقوط تفوق صفات غيرهم من الشعوب، فإن الثاني مولع بإيراد الغرائب والقصص المنسوجة من الخيال. ولْننقل ما قاله ابن الكردبوس: “ورحل لذريق قاصداً قرطبة يريد طارقاً، فلما تدانَيا، تخَيَّر لذريقُ رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها، وأمرَه أن يدخل في عسكر طارق فيرى صفاتهم وهيئاتهم، فمضى حتى دخل في محلة المسلمين، فأحس به طارق فأمر ببعض القتلى أن تقطع لحومهم وتُطبخ، فأخذ الناس القتلى فقطعوا لحومهم وطبخوها، ولم يشك رسولُ لذريق في أنهم يأكلونها. فلما جَنَّ الليلُ أمر طارق بهرق تلك اللحوم ودفنها، وذبْحِ بقرٍ وغنمٍ وجعل لحومها في تلك القدور. وأصبح الناس فنُودي فيهم بالاجتماع إلى الطعام فأكلوا عنده، ورسول لذريق يأكل معهم. فلما فرغوا انصرف الرسول إلى لذريق، وقال له: أتتك أمة تأكل لحوم الموتى من بني آدم، صفاتهم الصفات التي وجدناها في البيت المقفل، قد أحرقوا مراكبهم ووطَّنوا أنفسهم على الموت والفتح. فداخَلَ لذريق وجيشه من الجزع ما لم يظنّوا".
ومن الأمور الغريبة أن يخترع الإنسان قصة لغرض ما ولا يحبكها بشكل جيد حيث يتركها مخالفة للمنطلقات الأساسية التي قام عليها القائد إيماناً بها وإيمان أمته بها، وربما كان ذلك حكمة كي يفضح الله أمره. ومن الغريب أيضاً أن ينقل بعض الذين يدوّنون الأحداث التاريخية أمثال هذه القصص دون النظر فيها ومن غير البحث في صحتها، وإنما يكتفون بسرد الأحداث والقصة على أنها أمور مسلّم بصحتها، وأغرب من هذا وذاك أن ترد أمثال هذه القصص مباشرة دون مناقشة، ومن غير تعليق عليها، وأعتقد أنه من الأفضل ألا نورد أمثال هذه القصة ولا نناقشها إلا إذا كانت الكتب لمستويات معينة.
إن هذه القصة قد وردت إلينا عن طريق غير ثقة إذ ذكرها ابن القوطية وعنه نقلها بعض المؤرخين، وإن هذه القصة وأمثالها سواء اتُّخِذَت وسيلة للحيلة وإلقاء الرعب في نفوس الأعداء أم لغيره فإنها لا تصح، لأن تقطيع لحوم الموتى والعبث فيها إنما هو نوع من المُثْلة وهو لا يصح في ديننا إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
إن أول عمل يقوم به المسلمون بعد انتهاء المعركة وقبل غسل السيوف ومسحها إنما هو دفن الموتى، سواء أكانوا شهداءهم أم قتلى أعدائهم، ولكن القصة تروي أن الجاسوس قد جاء والجثث لا تزال ملقاة على الأرض، فهل جاء أثناء المعركة؟ هل جاء والمسلمون جالسون بين القتلى تنطلق منهم الروائح؟ أم..
ولم تحدّد القصة هوية الجاسوس زيادة في الغموض، ولكن يستبعد أن يكون من القوط لأنه لا يمكن أن يدخل إنسان عسكراً لا يعرف لغتهم، ولا يطَّلع على أوضاعهم، ويجلس ليأكل معهم في الصباح، ولم ينتبه أحد إليه، إذ لم ينتبه إلا القائد، فهل جاء يعرض نفسه على القائد، ويعرّف بنفسه؟ غير أن سرْد الرواية يدل على أنه من القوط إذ تقول: "تخير لذريق رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها" حيث يعني هذا أنه يعرفه حق المعرفة وهو من جنده وهذا يستحيل، وهذا ما يوضح كذب القصة من أساسها. والمفروض في حالة كهذه إن كانت صحيحة أن يكون رجلاً من البربر مقرّباً إلى لذريق، وهذا مالا تورده القصة لأنها غير صحيحة. فلو ذكرت ذلك لكانت أقرب إلى التصديق، ومع ذلك فهناك اعتراض قوي إذ لا يمكن لبربري غريب أن يدخل في مجموعة من البربر انتقلوا مجاهدين وكل منهم يعرف الآخر لقلة عددهم، وكل مجموعة يعرف أفرادها بعضهم بعضاً، ويمكن أن يُكشف أمره مباشرة.
كانت أخبار المسلمين تسبق جيوشهم الفاتحة، وكانت أخبار أخلاقهم وسلوكياتهم تملأ المنطقة قبل أن تطرقها أقدام الفاتحين، ويبقى المسلمون في المغرب أكثر من أربعين سنة وهم في صراع مع الروم، ومع المتعصبين من البربر، وحاكم الأندلس على مقربة منهم ولا يعرف عنهم شيئاً، ولو كانوا يأكلون لحوم الموتى ويقتاتون بجثث قتلى حروبهم لذاع هذا الخبر وانتشر ولعمّ العالم يومذاك، ولساعد هذا على الوقوف في وجههم، ولو أن القتلى لا يؤلمها تقطيع لحومها، ولكن يقفون أمامهم لهذه لوحشية. فالقصة عارية عن الصحة تماماً.
لو كانت القصة صحيحةً لكانت مخالفة واضحة من القائد طارق، ولضجّ بها الجند، ووصلت إلى القيادة بل وإلى أمير المؤمنين، ولسُئِل طارق وحوسب، ونال ما يستحق من عقوبة عل هذه المخالفة لتعاليم الإسلام -إذ ليس غريباً أن تقع مخالفة أو يرتكب قائد خطأ فهو ليس بمعصوم-، غير أنه لم تكلم أحد في هذا القصة ممن كان في جنده، أو من الثقة في ذلك العصر،ولم يُسأل طارق، ولم يحدث ما يُشير من قريب أو من بعيد عن وقوع القصة. وقد دوَّنها فقط ووصلت إلينا عن طريق غير الثقاة. فالحادثة مختَلَقَة لا صحة لها أبداً.
لقد وُضِعت هذه القصة من أناس يمتُّون إلى القوط بصلة، وقد هالهم ذلك النصر العظيم، نصر اثني عشر ألفاً على مائة ألف، فأرادوا أن يخفِّفوا من أثر ذلك النصر، ويجدوا المبررات للقوط في تلك الهزيمة المخزية بأنه قد وقع من الرعب في نفوسهم الشيء الكثير بالحيلة والخديعة التي لجأ إليها طارق، وما كانوا ليُهزَموا لولا تلك الحيلة. فنصر المسلمين كان نصر خديعة، لا نصر قوة وشجاعة وتضحية وفداء، وهزيمة القوط لم تكن هزيمة ضعف وخوار وإنما كانت هزيمة حيلة ومكر، ولم تكن تعوزهم الشجاعة ولا الدفاع المستميت عن أوطانهم.
وقد ساير بعض المسلمين رواة هذه القصة في قبولها، ونظروا إليها نظرة ثانية مخالفة لنظرة القوط ومَن دافع عنهم وشايعهم، حيث نظروا إليها من جانب ذكاء القائد المسلم ومعرفته بنفسية القوط، واللقاء بهم بعد أن زعزع الروح المعنوية عندهم بإلقاء الرعب في نفوسهم، والصدام معهم بهذه القلة التي معه مع كثرتهم إنما هي نوع من أنواع التضحية والفداء، واعتماداً على الروح المعنوية العالية عند جنده في حب الجهاد والنيل بإحدى الحسنيين، وضعف الروح المعنوية عند خصمه استطاع إحراز النصر. وهذا التحليل أو التعليل غير صحيح لأنه مخالف للمنطلقات التي لا تقبل التمثيل بالأعداء ولا بجثث الشهداء من الأصدقاء، لذا فهي مرفوضة، والقصة غير مقبولة، وهي من وضع الذين أحبّوا الدفاع عن القوط بمحاولة إيجاد مبررات لهزيمتهم النكراء.
ولقد كان انتصار المسلمين بإذن الله بما وضع في نفوسهم من روح معنوية عالية في حب الجهاد والاندفاع نحو الأعداء لتحقيق النصر أو لنيل الشهادة، فكتب لهم النصر، وأعطى رتبة الشهادة من استحقّها.
لقد كان قادة المسلمين الأوائل أئمة جندهم وخطباءهم، والمفتين لهم، والمرجع لهم في أمور الدين، لذل فقد كانوا على معرفة بكتاب الله وسنة نبيه وسلوك صحابته، وعلى علم باللغة العربية لإمكانية الاستنباط، لذا فإن القادة الأوائل كانوا جميعاً من العرب ولا يمكن أن يكونوا إلا كذلك، وما فعله الأمويون من تولية الولاة، وإعطاء القيادات للعرب لم يكن إلا بحكم الضرورة للمحافظة على المنطلقات الإسلامية، ولم يكن تعصباً للجنس العربي أبداً. ولقد كان طارق بن زياد من أوائل الذين استطاعوا تحصيل هذه المعرفة من غير العرب، فأهَّله ذلك لتسلّم القيادة وكان أهلاً لها، وقد حافظ على المستوى العام للقائد المسلم، ولم يرتكب مخالفة أبداً، لا حيلة ولا جهلاً، فلم يحرّق سفن المسلمين ويجعلهم يتكبدون خسائر كبيرة، ولم يمثِّل بالأعداء، وكان خطيباً، ووصلت إلينا خطبته، وهو أهل لقولها ولأمثالها.