حاجتنا اللغوية إلى مجمع يُوثق به
محب الدين الخطيب
------------------
الحاجة إلى مجمع لغوي ـ تاريخ فكرة المجمع اللغوي في مصر ـ صفات عضو المجمع اللغوي ـ المجمع اللغوي بين القديم والجدد ـ ما يجب ملاحظته في المجمع اللغوي المرتجى
« الحاجة إلى مجمع لغوي »
قاعدة مطّردة يجب علينا أن نراعيها في جميع ما نحن عازمون على القيام به من ضروب الإصلاح والتجديد، وقد جرَّب العمل بها ثلاث أمم عظمى في أدوار التاريخ الثلاثة، فكانت سبب عظمتهنّ وسرُّ تفوقهنّ على أمم الأرض: الرومانيون في الأزمنة القديمة، والعرب في الأزمنة المتوسطة، والإنكليز في الأزمنة الحاضرة. هذه القاعدة هي أن لا تهمل الأمة من تقاليدها إلا ما تبين ضررُه، وأن لا تأخذ من تقاليد غيرها وأوضاعهم إلا ما أوجبت الضرورة أخذه. فالمهارة في أخذ ما يجب أخذه وترك ما يجب تركه هي سرُّ عظمة هذه الأمم الثلاث واستفحال سلطانها.
واللغة أحد الأوضاع الجليلة الخطر في كل أمة، وهي كائن حيٌّ يجب أن تبقى له خصائصه وسجاياه المميزة له عن غيره، ويجب أن يتغذّى دائماً بما يكفل له البقاء والنماء، ويجعله صالحاً لأداء وظيفته في الحياة. وأيّما أمة تخطئ مناهج الصواب في تغذية لغتها ترتكب بذلك جريمة لا نجاء لها منها. واللعب في مصير اللغات أعظم خطراً من اللعب بمصير الأوطان، والخيانة في ذلك شرٌّ من الخيانة في هذا. ومن الخيانة ما يتمّ على أيدي أناس وهم في غفلة عن نتائج ما يعملون، وفي مثل هؤلاء هبط الوحي على قلب سيد المرسلين، من كلام رب العالمين، بأنهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ).
إن سلطان العربية في سجاياها الخالدة التي ما برحت مرآة كل عصر وكل جماعة وكل بيئة، رغم خلودها وثباتها ورسوخ أصولها.
أرأيت لو أني عثرت على قصيدة من قصائد بشار المفقودة، وعرضتها على أنظار قرّائي في هذه المجلة إلى جانب قصيدة للرُّبيع بن ضبع ـ دون أن أسمّي ناظميها ـ هل يشك القرّاء في أن القصيدتين من عصرين مختلفين؟ إنهم لا يشكُّون في ذلك قطّ، لأن شعر الرُّبيع مرآة صادقة لعصره وبيئته، كما أن شعر بشار مرآة صادقة لعصره وبيئته، حتى فيما حاول بشار أن ينحو فيه نحو الأعراب من شعره. مع أن سجايا اللغة في شعر الرُّبيع وبشار ما برحت محتفظة بسلطانها مستقرة في مكانتها، وكذلك الحال في شعر المتنبي ومحمود سامي البارودي وكل عبقري كانت هذه اللغة ترجمان الدقيق من خواطره والسامي من إلهاماته، فهي قد اتسعت لأغراضهم دقّة وسموّاً ـ بعد أن وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ـ فلم يخرجوا على قوانينها ولم يتمرّدوا على سجاياها.
قلت إن اللغة يجب أن تتغذّى دائماً بما يكفل لها البقاء والنماء، ويجعلها صالحة لأداء وظيفتها في الحياة. وهذا حقٌّ لا يرتاب فيه عاقل، وعليه مضى الذين سبقونا في هذه الصناعة في الدول العربيةالمتقدمة فضربوا في ذلك بسهم على قدر حاجتهم، مراعين قوانين التغذية التي لا ظغيان فيها على سجايا اللغة وخصائصها، ولا خروج فيها على أنظمتها وقوانينها. وإن الأمة التي تريد أن تجاري الأمم الراقية في أقصى ما وصلت إليه من معارف البشر لابدّ لها من أن تغذي لغتها بالألفاظ والإصطلاحات الدالة على تلك المعارف فتأخذ من ذلك على قدر الحاجة وتستعمله في مكان الحاجة، فيكون من ذلك لغة للعلم غير لغة الأدب، وأساليب للبيان يليق كل منها بما اُستُعمل له.
إن الدولة العربية في العهد العباسي لما رأت طغيان التغذية في اللغة أصبح مجلبة شرور لا يجوز الإغضاء عليها بما يرتكبه المترجمون من شحن العربية بألفاظ أعجمية قد يكون في العربية ما يغني عنها، فضلاً عن سوء ترجمتهم للإصطلاحات العلمية، وتبذّلهم في الأساليب الكتابية؛ بادر رجالُها في الحال إلى الأخذ على أيدي ضعاف المترجمين فعهدوا بمهمة تغذية اللغة من الجانب العلمي إلى علماء بُلغاء ينظرون فيما ترجمه المترجمون فيصلحون لغته، ويهذبون مصطلحاته، ويقوّمون أساليبه، احتفاظاً بخصائص العربية وسجاياها؛ ولولا ذلك وغيره من مظاهر عناية الدولة والعلماء، بل لولا كتاب الله تتلى آياته في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، لكانت العربية اليوم كاللغة المالطية انحطاطاً وفقراً وابتذالاً.
وبعد فإن اللفظة الأجنبية في الكلام العربي، كالجندي الأجنبي في الوطن العربي. وإذا كان في الأوطان العربية نفر يعرفهم الناس لا يسوءهم وجود الجندي الأجنبي يمشي بسلاحه فوق تربة الوطن المقدّس فإن جمهور الأمة يحتقر من يرضى بذلك ويسمّي عمله بالاسم اللائق به. وإذا كان من حملة الأقلام من المنتسبين إلى الآداب العربية نفر يعرفهم الناس لا يسوءهم العدوان على سجايا العربية ولا احتلال الألفاظ الأعجمية سطور كتاباتنا فإن حكم الجمهور على هؤلاء لا يقلّ عن حكمه على أولئك، لأن الأمرين يرجعان إلى معنى واحد.
نحن نحتاج إلى ألفاظ جديدة تدلّ على المعاني الجديدة، لكنا نريدها عربية يأنس بها كلامنا، ونريدها ملائمة لخصائص لغتنا وسجاياها، وغير متمردة على قوانينها وأنظمتها، سواء كان هذا التمرد منبعثاً عن نكاية أو عن غفلة.
لهذا الغرض، وبدافع من هذه الحاجة، فكّر المفكرون في تأليف مجامعنا اللغوية وحاولوا غير مرة تحقيقها.
« تاريخ فكرة المجمع العلمي » ([1])
كان السيد عبد الله نديم أول من دعا ـ بطريق النشر ـ إلى فكرة إنشاء المجمع اللغوي، فاقترح في صحيفته ( التنكيت والتبكيت ) التي كان يصدرها في الإسكندرية سنة 1289هـ / 1881م، فأخذت الفكرة في الاختمار من ذلك العهد.
وحوالي سنة 1306هـ / 1888م، تناقلت الأفواه خبر سعي جماعة من الفضلاء في تأليف مجمع لغوي برئاسة العلامة عبد الله فكري باشا.
ثم سعى السيد توفيق البكري ـ نقيب الأشراف يومئذ ـ في تأليف مجمع سنة 1309هـ / 1892م، فتم له تأليفه برئاسته ( ويرى الأستاذ توفيق أفندي حبيب «المقتطف 72: 58» أن ذلك كان على أثر دعاية ويالككس إلى الكتابة باللغة العامية). وكان من أعضاء هذا المجمع الشنقيطي الكبير والشيخ حسن الطويل والشيخ حمزة فتح الله واسماعيل صبري باشا ومحمد بك المويلحي وغيرهم من أساطين اللغة والأدب.
وكان عمر هذا المجمع قصيراً، فإنه عقد سبع جلسات أولها يوم 21 شوال سنة 1309هـ / 18 مايو 1892م، آخرها يوم آخر رجب سنة 1310هـ / 17 فبراير سنة 1893م. وفي المذكرة التي اعتمدت عليها في كتابة هذه النبذة أن من أعضاء هذا المجمع من انخرط فيه مكرهاً فلم يشهد إلا الاجتماع الأول منه ثم انقطع عن حضور الجلسات.
والألفاظ التي وضعها هذا المجمع وأقرّها عشرون لفظة:
عشر منها من وضع رئيسه توفيق البكري وهي (مَرْحَى) لكلمة بْرافو Bravo، و(بَرْحى) لكلمة fi، و( مِدْرَة) لكلمة أفوكاتو Avocato، و(المِسَرّة) لكلمة تلفون telephone، و( عم صباحاً ) لكلمة بون جور Bon jour، و( عم مساء ) لكلمة بون سار Bon soir، و( القفّاز ) لكلمة جوانتي، و( النُمرة ) لكلمة نومروnumero، و(الوشاح) لكلمة كُردون Cordon.
وعشر من وضع السيد محمد بك المويلحي وهي (الطنف) لكلمة بَلْكون Balcon، و(الحرّاقة) لسفينة التوربيد port Torpille، و( الجديلة ) لكلمة مُودة Mode، و (بطاقة الزيارة) لكلمة كارت فيزيت Carte de Visite، و(المرَب) لكلمة كْلُوب Club، و(الحذاقة) لشهادة البكالوريا، و(العاطف) و(المعطف) للبالطو أو الباردسّو pardessue، و(حصب الطريق بالحصباء) لجملة وضع المكدام في الطريق، و(الشرطي) و(الجلواز) و(التؤتور) لرجل البوليس، و(المِشجب) للشمّاعة porlemanteau.
وقد انتقد السيد عبد الله النديم هذه الكلمات في مجلته (الأستاذ) فاختار (بَخٍ) لبرافو، و(النادي) للكلوب النهاري، و(السامر) للكلوب الليلي، و(النمط) و(الطراز) للمودة. واستحسن أن يخصّ «كردون القضاة» بالقليد لأنه لا جوهر فيه، ولم يذكر للتوربيد مرادفاً، ووافق على سائرها.
وانتقدها أيضاً صاحب الهلال فاستحسن من العشر الأولى ثماني، وخالف في اثنتين: فاختار المحامي للأفوكاتو، والرقم للنومرو. واستحسن من الثانية ستاً وخالف في أربع: فاختار النادي للكلوب، والزي للمودة، والشُّرفة للبلكون([2])، ولم يذكر للتوربيد مرادفاً.
ولما أصدر الشيخ ابراهيم اليازجي مجلة ( البيان) في القاهرة استطرد في مقالة (اللغة والعصر) إلى انتقاد هذه الألفاظ، فلم يستحسن لكلمة برافو (مرحى) ولا لكلمة في (برحى) لوجود مثل ( بخ بخ) و(به به) و(لله أنت) و(لله أبوك) إلخ للاستحسان، و(سوءة لفلان) و(قبحاً له) و(تباً له) إلخ للاستهجان. كما أنه استنكر (عم صباحاً وعم مساء) لأنهما مما أُميت استعماله قديماً مع وجود ما هو أخف منهما على الألسنة من ألفاظ التحية. وانتقد (النمرة) للنومرو ولكن لم يذكر لها مرادفاً ([3]). واختار للتوربيد الرعّاد، وفضل الجناح على الطنف للبلكون، وخص المعطف بالبالطو، والدثار بالباردسّو.
ثم أنشئ في القاهرة عام 1325هـ / 1907م، نادي دار العلوم برئاسة محمد حنفي ناصيف بك العلامة الشهير، وخصّ بعض جلسائه للبحث عما يتّبَع في وضع الألفاظ، فكانت نتيجة مباحثاته أن قرّر ما يأتي:
« يُبحث في اللغة العربية عن أسماء للمسميّات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة، فإذا لم يتيسّر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية، ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلّف لهذا الغرض ».
ثم طرأ فتور على أعمال النادي، أعقبه انتخاب محمد عاطف بركات بك (باشا) ناظر مدرسة القضاء الشرعي رئيساً له، فحاول إنهاضه بعدّة وسائل، منها أنه قرّر في الجلسة المعقودة في 17 صفر سنة 1327 إنشاء مجلة شهرية فأنشئت باسم (صحيفة نادي دار العلوم) ، وصدر أوّل عدد منها في 15 ربيع الأول من تلك السنة/ 6 ابريل سنة 1909م. ثم عنّ لهم أن يستأنفوا البحث في اللغة ووضع أسماء للمسميات الحديثة، فاستحسنوا « أن ينتخب عشرة من الأسماء الأعجمية أو العامية، فيرسل إلى كل عضو من أعضائه نسخة منها ليكتب كل عضو ما يراه مناسباً لذلك الاسم من الكلمات العربية البسيطة أو المركبة، ثم تعاد هذه الإجابات إلى النادي في موعد معيّن، وحينذاك تجتمع اللجنة العلمية للنادي فتبحث هذه الإجابات وتختار من الكلمات أقربها مناسبة لمعنى الكلمة الأعجمية أو العامية ».
ثم أخذوا في نشر ما يجتمع لديهم من هذه الألفاظ وأعلنوا أنه إذا مضى على نشرها شهر كامل ولم ترد إليهم ملاحظات اعتُبرت رأياً عاماً لجميع الأعضاء، وكان عليهم أن يصقلوها بألسنتهم وأقلامهم حتى تكون لعامّة من يشتغلون باللغة العربية. ثم بدا لهم جمع ما تشتّت من تلك الألفاظ في أعداد السنة الثانية فجمعوها ونشروها بعد تعديل فيها في العدد الثاني من السنة الثالثة مرتبة على حروف المعجم، ثم تعطّلت المجلة والنادي.
وفي سنة 1917 أقام اسماعيل بك عاصم مأدبة في داره لصاحبي المقتطف حضرها بعض الفضلاء، فاقترح بعضهم السعي في تأليف مجمع لغوي، فتم تأليفه برئاسة شيخ الجامع الأزهر ، وكان من كبار أعضائه أحمد تيمور باشا وحفني بك ناصف والشيخ أحمد الإسكندري والشيخ أحمد ابراهيم وأحمد كمال باشا وأحمد زكي باشا والشيخ مصطفى النعاني والدكتور يعقوب صرّوف. وكان يوالي اجتماعاته في دار الكتب المصرية، وألف منها لجاناً تشتغل كل لجنة منها بفرع من فروع العلوم والفنون فتضع لمصطلحاته الكلمات اللائقة بها. وحال بينه وبين الاستمرار اشتغال مصر بحركتها الوطنية بعد انتهاء الحرب العظمى. فلما جُعل عبد الحميد بك أبو هيف مديراً لدار الكتب رأى أن يسعى في استئناف المجمع أعماله فدعا أعضاءه الباقين إلى الإجتماع بدار الكتب مساء الثلاثاء 13 جمادى الثانية سنة 1344/ 29 ديسمبر 1925م، فاجتمعوا برئاسة وكيل المجمع الشيخ محمد بخيت وألّفوا منهم لجنة للسعي لدى الحكومة في الإعتراف به. ثم انتقل عبد الحميد بك أبو هيف إلى رحمة الله تعالى ورضوانه فلم يجتمع المجمع بعد ذلك.
وفي 16 ربيع الأول سنة 1340اجتمع بعض أعضاء المجمع الذي تقدّم الكلام عليه، وضموا إليهم خليطاً غير متجانس من الأدباء، وأعلنوا تأسيس مجمع لغوي لتأليف معجم عصري يجمع بين مادة المعجم العربي القديم وبين ما استعمله الأدباء المحْدثون وما يضعه المجمع نفسه من الأوضاع والمصطلحات.
قلت: إن هذه الجمعية تألفت من خليط غير متجانس ، لأن فيمن انتسب إليهم ـ ولو بالإسم ـ رجالاً يعدون من كبار أهل الأدب، كما أن فيهم من لا علم له بالقواعد الأولى من علم الصرف، بل فيهم من لايحسن مراجعة لفظة في القاموس المحيط، وكانوا يحاولون أن يحصلوا من الحكومة على اعتراف رسمي يخّولهم الحرية في العمل، ويفتح لهم باب المساعدة على ما هم فيه، فلم يظفروا ببغيتهم، فكان ذلك قاضياً على مجمعهم.
.
محب الدين الخطيب
------------------
الحاجة إلى مجمع لغوي ـ تاريخ فكرة المجمع اللغوي في مصر ـ صفات عضو المجمع اللغوي ـ المجمع اللغوي بين القديم والجدد ـ ما يجب ملاحظته في المجمع اللغوي المرتجى
« الحاجة إلى مجمع لغوي »
قاعدة مطّردة يجب علينا أن نراعيها في جميع ما نحن عازمون على القيام به من ضروب الإصلاح والتجديد، وقد جرَّب العمل بها ثلاث أمم عظمى في أدوار التاريخ الثلاثة، فكانت سبب عظمتهنّ وسرُّ تفوقهنّ على أمم الأرض: الرومانيون في الأزمنة القديمة، والعرب في الأزمنة المتوسطة، والإنكليز في الأزمنة الحاضرة. هذه القاعدة هي أن لا تهمل الأمة من تقاليدها إلا ما تبين ضررُه، وأن لا تأخذ من تقاليد غيرها وأوضاعهم إلا ما أوجبت الضرورة أخذه. فالمهارة في أخذ ما يجب أخذه وترك ما يجب تركه هي سرُّ عظمة هذه الأمم الثلاث واستفحال سلطانها.
واللغة أحد الأوضاع الجليلة الخطر في كل أمة، وهي كائن حيٌّ يجب أن تبقى له خصائصه وسجاياه المميزة له عن غيره، ويجب أن يتغذّى دائماً بما يكفل له البقاء والنماء، ويجعله صالحاً لأداء وظيفته في الحياة. وأيّما أمة تخطئ مناهج الصواب في تغذية لغتها ترتكب بذلك جريمة لا نجاء لها منها. واللعب في مصير اللغات أعظم خطراً من اللعب بمصير الأوطان، والخيانة في ذلك شرٌّ من الخيانة في هذا. ومن الخيانة ما يتمّ على أيدي أناس وهم في غفلة عن نتائج ما يعملون، وفي مثل هؤلاء هبط الوحي على قلب سيد المرسلين، من كلام رب العالمين، بأنهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ).
إن سلطان العربية في سجاياها الخالدة التي ما برحت مرآة كل عصر وكل جماعة وكل بيئة، رغم خلودها وثباتها ورسوخ أصولها.
أرأيت لو أني عثرت على قصيدة من قصائد بشار المفقودة، وعرضتها على أنظار قرّائي في هذه المجلة إلى جانب قصيدة للرُّبيع بن ضبع ـ دون أن أسمّي ناظميها ـ هل يشك القرّاء في أن القصيدتين من عصرين مختلفين؟ إنهم لا يشكُّون في ذلك قطّ، لأن شعر الرُّبيع مرآة صادقة لعصره وبيئته، كما أن شعر بشار مرآة صادقة لعصره وبيئته، حتى فيما حاول بشار أن ينحو فيه نحو الأعراب من شعره. مع أن سجايا اللغة في شعر الرُّبيع وبشار ما برحت محتفظة بسلطانها مستقرة في مكانتها، وكذلك الحال في شعر المتنبي ومحمود سامي البارودي وكل عبقري كانت هذه اللغة ترجمان الدقيق من خواطره والسامي من إلهاماته، فهي قد اتسعت لأغراضهم دقّة وسموّاً ـ بعد أن وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ـ فلم يخرجوا على قوانينها ولم يتمرّدوا على سجاياها.
قلت إن اللغة يجب أن تتغذّى دائماً بما يكفل لها البقاء والنماء، ويجعلها صالحة لأداء وظيفتها في الحياة. وهذا حقٌّ لا يرتاب فيه عاقل، وعليه مضى الذين سبقونا في هذه الصناعة في الدول العربيةالمتقدمة فضربوا في ذلك بسهم على قدر حاجتهم، مراعين قوانين التغذية التي لا ظغيان فيها على سجايا اللغة وخصائصها، ولا خروج فيها على أنظمتها وقوانينها. وإن الأمة التي تريد أن تجاري الأمم الراقية في أقصى ما وصلت إليه من معارف البشر لابدّ لها من أن تغذي لغتها بالألفاظ والإصطلاحات الدالة على تلك المعارف فتأخذ من ذلك على قدر الحاجة وتستعمله في مكان الحاجة، فيكون من ذلك لغة للعلم غير لغة الأدب، وأساليب للبيان يليق كل منها بما اُستُعمل له.
إن الدولة العربية في العهد العباسي لما رأت طغيان التغذية في اللغة أصبح مجلبة شرور لا يجوز الإغضاء عليها بما يرتكبه المترجمون من شحن العربية بألفاظ أعجمية قد يكون في العربية ما يغني عنها، فضلاً عن سوء ترجمتهم للإصطلاحات العلمية، وتبذّلهم في الأساليب الكتابية؛ بادر رجالُها في الحال إلى الأخذ على أيدي ضعاف المترجمين فعهدوا بمهمة تغذية اللغة من الجانب العلمي إلى علماء بُلغاء ينظرون فيما ترجمه المترجمون فيصلحون لغته، ويهذبون مصطلحاته، ويقوّمون أساليبه، احتفاظاً بخصائص العربية وسجاياها؛ ولولا ذلك وغيره من مظاهر عناية الدولة والعلماء، بل لولا كتاب الله تتلى آياته في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، لكانت العربية اليوم كاللغة المالطية انحطاطاً وفقراً وابتذالاً.
وبعد فإن اللفظة الأجنبية في الكلام العربي، كالجندي الأجنبي في الوطن العربي. وإذا كان في الأوطان العربية نفر يعرفهم الناس لا يسوءهم وجود الجندي الأجنبي يمشي بسلاحه فوق تربة الوطن المقدّس فإن جمهور الأمة يحتقر من يرضى بذلك ويسمّي عمله بالاسم اللائق به. وإذا كان من حملة الأقلام من المنتسبين إلى الآداب العربية نفر يعرفهم الناس لا يسوءهم العدوان على سجايا العربية ولا احتلال الألفاظ الأعجمية سطور كتاباتنا فإن حكم الجمهور على هؤلاء لا يقلّ عن حكمه على أولئك، لأن الأمرين يرجعان إلى معنى واحد.
نحن نحتاج إلى ألفاظ جديدة تدلّ على المعاني الجديدة، لكنا نريدها عربية يأنس بها كلامنا، ونريدها ملائمة لخصائص لغتنا وسجاياها، وغير متمردة على قوانينها وأنظمتها، سواء كان هذا التمرد منبعثاً عن نكاية أو عن غفلة.
لهذا الغرض، وبدافع من هذه الحاجة، فكّر المفكرون في تأليف مجامعنا اللغوية وحاولوا غير مرة تحقيقها.
« تاريخ فكرة المجمع العلمي » ([1])
كان السيد عبد الله نديم أول من دعا ـ بطريق النشر ـ إلى فكرة إنشاء المجمع اللغوي، فاقترح في صحيفته ( التنكيت والتبكيت ) التي كان يصدرها في الإسكندرية سنة 1289هـ / 1881م، فأخذت الفكرة في الاختمار من ذلك العهد.
وحوالي سنة 1306هـ / 1888م، تناقلت الأفواه خبر سعي جماعة من الفضلاء في تأليف مجمع لغوي برئاسة العلامة عبد الله فكري باشا.
ثم سعى السيد توفيق البكري ـ نقيب الأشراف يومئذ ـ في تأليف مجمع سنة 1309هـ / 1892م، فتم له تأليفه برئاسته ( ويرى الأستاذ توفيق أفندي حبيب «المقتطف 72: 58» أن ذلك كان على أثر دعاية ويالككس إلى الكتابة باللغة العامية). وكان من أعضاء هذا المجمع الشنقيطي الكبير والشيخ حسن الطويل والشيخ حمزة فتح الله واسماعيل صبري باشا ومحمد بك المويلحي وغيرهم من أساطين اللغة والأدب.
وكان عمر هذا المجمع قصيراً، فإنه عقد سبع جلسات أولها يوم 21 شوال سنة 1309هـ / 18 مايو 1892م، آخرها يوم آخر رجب سنة 1310هـ / 17 فبراير سنة 1893م. وفي المذكرة التي اعتمدت عليها في كتابة هذه النبذة أن من أعضاء هذا المجمع من انخرط فيه مكرهاً فلم يشهد إلا الاجتماع الأول منه ثم انقطع عن حضور الجلسات.
والألفاظ التي وضعها هذا المجمع وأقرّها عشرون لفظة:
عشر منها من وضع رئيسه توفيق البكري وهي (مَرْحَى) لكلمة بْرافو Bravo، و(بَرْحى) لكلمة fi، و( مِدْرَة) لكلمة أفوكاتو Avocato، و(المِسَرّة) لكلمة تلفون telephone، و( عم صباحاً ) لكلمة بون جور Bon jour، و( عم مساء ) لكلمة بون سار Bon soir، و( القفّاز ) لكلمة جوانتي، و( النُمرة ) لكلمة نومروnumero، و(الوشاح) لكلمة كُردون Cordon.
وعشر من وضع السيد محمد بك المويلحي وهي (الطنف) لكلمة بَلْكون Balcon، و(الحرّاقة) لسفينة التوربيد port Torpille، و( الجديلة ) لكلمة مُودة Mode، و (بطاقة الزيارة) لكلمة كارت فيزيت Carte de Visite، و(المرَب) لكلمة كْلُوب Club، و(الحذاقة) لشهادة البكالوريا، و(العاطف) و(المعطف) للبالطو أو الباردسّو pardessue، و(حصب الطريق بالحصباء) لجملة وضع المكدام في الطريق، و(الشرطي) و(الجلواز) و(التؤتور) لرجل البوليس، و(المِشجب) للشمّاعة porlemanteau.
وقد انتقد السيد عبد الله النديم هذه الكلمات في مجلته (الأستاذ) فاختار (بَخٍ) لبرافو، و(النادي) للكلوب النهاري، و(السامر) للكلوب الليلي، و(النمط) و(الطراز) للمودة. واستحسن أن يخصّ «كردون القضاة» بالقليد لأنه لا جوهر فيه، ولم يذكر للتوربيد مرادفاً، ووافق على سائرها.
وانتقدها أيضاً صاحب الهلال فاستحسن من العشر الأولى ثماني، وخالف في اثنتين: فاختار المحامي للأفوكاتو، والرقم للنومرو. واستحسن من الثانية ستاً وخالف في أربع: فاختار النادي للكلوب، والزي للمودة، والشُّرفة للبلكون([2])، ولم يذكر للتوربيد مرادفاً.
ولما أصدر الشيخ ابراهيم اليازجي مجلة ( البيان) في القاهرة استطرد في مقالة (اللغة والعصر) إلى انتقاد هذه الألفاظ، فلم يستحسن لكلمة برافو (مرحى) ولا لكلمة في (برحى) لوجود مثل ( بخ بخ) و(به به) و(لله أنت) و(لله أبوك) إلخ للاستحسان، و(سوءة لفلان) و(قبحاً له) و(تباً له) إلخ للاستهجان. كما أنه استنكر (عم صباحاً وعم مساء) لأنهما مما أُميت استعماله قديماً مع وجود ما هو أخف منهما على الألسنة من ألفاظ التحية. وانتقد (النمرة) للنومرو ولكن لم يذكر لها مرادفاً ([3]). واختار للتوربيد الرعّاد، وفضل الجناح على الطنف للبلكون، وخص المعطف بالبالطو، والدثار بالباردسّو.
ثم أنشئ في القاهرة عام 1325هـ / 1907م، نادي دار العلوم برئاسة محمد حنفي ناصيف بك العلامة الشهير، وخصّ بعض جلسائه للبحث عما يتّبَع في وضع الألفاظ، فكانت نتيجة مباحثاته أن قرّر ما يأتي:
« يُبحث في اللغة العربية عن أسماء للمسميّات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة، فإذا لم يتيسّر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية، ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلّف لهذا الغرض ».
ثم طرأ فتور على أعمال النادي، أعقبه انتخاب محمد عاطف بركات بك (باشا) ناظر مدرسة القضاء الشرعي رئيساً له، فحاول إنهاضه بعدّة وسائل، منها أنه قرّر في الجلسة المعقودة في 17 صفر سنة 1327 إنشاء مجلة شهرية فأنشئت باسم (صحيفة نادي دار العلوم) ، وصدر أوّل عدد منها في 15 ربيع الأول من تلك السنة/ 6 ابريل سنة 1909م. ثم عنّ لهم أن يستأنفوا البحث في اللغة ووضع أسماء للمسميات الحديثة، فاستحسنوا « أن ينتخب عشرة من الأسماء الأعجمية أو العامية، فيرسل إلى كل عضو من أعضائه نسخة منها ليكتب كل عضو ما يراه مناسباً لذلك الاسم من الكلمات العربية البسيطة أو المركبة، ثم تعاد هذه الإجابات إلى النادي في موعد معيّن، وحينذاك تجتمع اللجنة العلمية للنادي فتبحث هذه الإجابات وتختار من الكلمات أقربها مناسبة لمعنى الكلمة الأعجمية أو العامية ».
ثم أخذوا في نشر ما يجتمع لديهم من هذه الألفاظ وأعلنوا أنه إذا مضى على نشرها شهر كامل ولم ترد إليهم ملاحظات اعتُبرت رأياً عاماً لجميع الأعضاء، وكان عليهم أن يصقلوها بألسنتهم وأقلامهم حتى تكون لعامّة من يشتغلون باللغة العربية. ثم بدا لهم جمع ما تشتّت من تلك الألفاظ في أعداد السنة الثانية فجمعوها ونشروها بعد تعديل فيها في العدد الثاني من السنة الثالثة مرتبة على حروف المعجم، ثم تعطّلت المجلة والنادي.
وفي سنة 1917 أقام اسماعيل بك عاصم مأدبة في داره لصاحبي المقتطف حضرها بعض الفضلاء، فاقترح بعضهم السعي في تأليف مجمع لغوي، فتم تأليفه برئاسة شيخ الجامع الأزهر ، وكان من كبار أعضائه أحمد تيمور باشا وحفني بك ناصف والشيخ أحمد الإسكندري والشيخ أحمد ابراهيم وأحمد كمال باشا وأحمد زكي باشا والشيخ مصطفى النعاني والدكتور يعقوب صرّوف. وكان يوالي اجتماعاته في دار الكتب المصرية، وألف منها لجاناً تشتغل كل لجنة منها بفرع من فروع العلوم والفنون فتضع لمصطلحاته الكلمات اللائقة بها. وحال بينه وبين الاستمرار اشتغال مصر بحركتها الوطنية بعد انتهاء الحرب العظمى. فلما جُعل عبد الحميد بك أبو هيف مديراً لدار الكتب رأى أن يسعى في استئناف المجمع أعماله فدعا أعضاءه الباقين إلى الإجتماع بدار الكتب مساء الثلاثاء 13 جمادى الثانية سنة 1344/ 29 ديسمبر 1925م، فاجتمعوا برئاسة وكيل المجمع الشيخ محمد بخيت وألّفوا منهم لجنة للسعي لدى الحكومة في الإعتراف به. ثم انتقل عبد الحميد بك أبو هيف إلى رحمة الله تعالى ورضوانه فلم يجتمع المجمع بعد ذلك.
وفي 16 ربيع الأول سنة 1340اجتمع بعض أعضاء المجمع الذي تقدّم الكلام عليه، وضموا إليهم خليطاً غير متجانس من الأدباء، وأعلنوا تأسيس مجمع لغوي لتأليف معجم عصري يجمع بين مادة المعجم العربي القديم وبين ما استعمله الأدباء المحْدثون وما يضعه المجمع نفسه من الأوضاع والمصطلحات.
قلت: إن هذه الجمعية تألفت من خليط غير متجانس ، لأن فيمن انتسب إليهم ـ ولو بالإسم ـ رجالاً يعدون من كبار أهل الأدب، كما أن فيهم من لا علم له بالقواعد الأولى من علم الصرف، بل فيهم من لايحسن مراجعة لفظة في القاموس المحيط، وكانوا يحاولون أن يحصلوا من الحكومة على اعتراف رسمي يخّولهم الحرية في العمل، ويفتح لهم باب المساعدة على ما هم فيه، فلم يظفروا ببغيتهم، فكان ذلك قاضياً على مجمعهم.
.