(12) من أخلاق العلماء
لقد اختار الله -عز وجل- العلماء ليضع في أعناقهم أثقل الأمانات، فكلفهم بمهمة الأنبياء والصالحين قائلا: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (آل عمران: 79).
وقلدهم الله أخطر الأمور وجعلهم بمنزلة المجاهدين في سبيل الله؛ مصداقا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره".
ويمتحن الله -عز وجل- العلماء في علمهم وما عملوا به، وابتلاهم في شأنهم؛ هل قصدوا بعلمهم هذا وجه الله تعالى أم لا؟!!
وما يحسم إخلاص هؤلاء العلماء لخدمة الدين والبشرية والكون: هل تعلموا العلم لينالوا به شرفا في الدنيا، ومنزلة في قلوب الخلق، وجاها عند الوجهاء وحسب؟ وهل طلبوا بعلمهم الدنيا أم الآخرة؟ وهل العلم بالنسبة لهم وظيفة يتكسبون من ورائها المال، أم هو رسالة أوجب الله عليهم توصيلها لأهلها؟.
يقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: "يا قوم، أريدوا بعلمكم الله؛ فإني لم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح".
وينبغي للعالم أن يتخلق بكل خلق حسن، فيكون زاهدا في الدنيا جاعلا إياها في يده لا في قلبه ولا عقله؛ ليحافظ على هيبته ودينه ومكانته، فلا يطمع إلا فيما في يد الله، ولذلك وصى الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي طلب منه أن يدله على عمل إذا عمله أحبه الله وأحبه الناس بالزهد، فقال له: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" (حديث صححه السيوطي).
ويقول الشافعي:
أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع وكان ميتـا ففي إحيائه عرض مصون
وقار العلم
ومن أخلاق العالم أن يكون طليق الوجه، حليما صابرا، ملازما للورع والتواضع والوقار، وأن يتجنب ما يذهب المروءة ويزيل الهيبة؛ مثل كثرة الضحك والمزاح، وأن يحافظ على مظهره الخارجي، ويهتم بنظافة جسمه، ويستعمل الطيب، ويحسن من هندامه وملابسه، ويهتم بتسريح شعره، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" (أخرجه مسلم).
ويجب الابتعاد كل البعد عن الحقد والحسد والإعجاب بالنفس. ويحرم على العالم أن يغتر بثناء الناس عليه؛ وإنما يتواضع وينشغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. وهناك فارق كبير بين التواضع وبين التبذل من أجل المال؛ فالعالم عزيز النفس وإن كان ذا مال قليل، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله" (رواه أوس بن خولي).
وقال الإمام مالك -رحمه الله- لهارون الرشيد: "أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون، ومنكم خرج العلم وأنتم أولى الناس بإعظامه، ومن إعظامكم له ألا تدعوا حملته إلى أبوابكم".
ويحرص العلماء على تحصيل العلم وإن اقتضى سفرهم إلى البلدان التي فيها أهل العلوم والتخصص؛ وذلك بهدف الانشغال الدائم بالعلم النافع، واستحضاره، واستذكاره، والتعمق فيه، ومطالعة التخصصات القريبة حتى يتحقق التميز المطلوب لعز الإسلام والمسلمين.
الكبر والحياء
ولا يستنكف العلماء عن التعلم ممن هو دونهم في المنزلة أو السن أو العقل، وإنما لهم في كل شيء عظة وعبرة وفكرة.. قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: "لا يزال الرجل عالما لما تعلم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون". وقال الإمام النووي رحمه الله: " كان كثير من السلف يستفيدون من تلامذتهم ما ليس عندهم".
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- العلماء إلى التعلم ممن هو نظير، وممن ليس بنظير، وألا يمنع الكبر أو الحياء من التعلم ممن هو أقل في المنزلة، فجاء إلى أبي بن كعب -رضي الله عنه- وقال: "أمرني الله أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا" (رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي).
وليس من المعقول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ على أبيّ ليزداد حفظا وإتقانا، وإنما المقصود هو تعليم الأمة بطريق القدوة.
وما خبر سماع سليمان -عليه السلام- من الهدهد ببعيد: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} (النمل: 22). وهذا يفيد انشغال العالم الراسخ فيما ينفع نفسه وأهله ومجتمعه ووطنه، بل ما ينفع البشرية من علوم، فلا ينفك يستزيد من العلم ويتعمق فيه لتكون مساهماته أوقع وأنفع.
ومن أخلاق العلماء الراسخين: ألا يحبسوا العلم وإنما يبذلونه لأهله، ويعلمونه لمن صدقت نيته في تعلمه، ويحرصون على إحياء العلم بالعمل به، والبحث عن الأبناء الصالحين الصادقين في طلب العلم لوجه الله تعالى فيهتمون بأمر تعليمهم؛ لكي ييسروا لهم النبوغ في العلم مع العمل، ويخوفونهم من الجرأة على الفتوى؛ فإنها من علامات الجهالة والمتسرعين.
خير قدوة
وأختتم كلامي بحكاية عن عالم راسخ هو الحسن البصري رحمه الله؛ حينما جاءه الرقيق وطلبوا منه أن يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس وقتئذ يقبلون منه ما لا يقبلون من العلماء.
ولكن البصري قام في الجمعة الأولى فلم يتكلم في هذا، وفي الثانية لم يتكلم، وفي الجمعة الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب، فخرج الناس من المسجد فأعتقوا من كان عندهم من الرقيق، فجاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن ويقولون: "أبطأت علينا ثلاث جمع، فقال: لقد انتظرت حتى رزقني الله مالا، فاشتريت عبدا وأعتقته لوجه الله تعالى؛ حتى لا آمر الناس بما لم أفعل".
هنيئا لكم يا معشر العلماء الصالحين المخلصين، لأنتم حقا مصابيح الهدي وسرج النور في ظلمات الحياة الدنيا.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
لقد اختار الله -عز وجل- العلماء ليضع في أعناقهم أثقل الأمانات، فكلفهم بمهمة الأنبياء والصالحين قائلا: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (آل عمران: 79).
وقلدهم الله أخطر الأمور وجعلهم بمنزلة المجاهدين في سبيل الله؛ مصداقا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره".
ويمتحن الله -عز وجل- العلماء في علمهم وما عملوا به، وابتلاهم في شأنهم؛ هل قصدوا بعلمهم هذا وجه الله تعالى أم لا؟!!
وما يحسم إخلاص هؤلاء العلماء لخدمة الدين والبشرية والكون: هل تعلموا العلم لينالوا به شرفا في الدنيا، ومنزلة في قلوب الخلق، وجاها عند الوجهاء وحسب؟ وهل طلبوا بعلمهم الدنيا أم الآخرة؟ وهل العلم بالنسبة لهم وظيفة يتكسبون من ورائها المال، أم هو رسالة أوجب الله عليهم توصيلها لأهلها؟.
يقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: "يا قوم، أريدوا بعلمكم الله؛ فإني لم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح".
وينبغي للعالم أن يتخلق بكل خلق حسن، فيكون زاهدا في الدنيا جاعلا إياها في يده لا في قلبه ولا عقله؛ ليحافظ على هيبته ودينه ومكانته، فلا يطمع إلا فيما في يد الله، ولذلك وصى الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي طلب منه أن يدله على عمل إذا عمله أحبه الله وأحبه الناس بالزهد، فقال له: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" (حديث صححه السيوطي).
ويقول الشافعي:
أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع وكان ميتـا ففي إحيائه عرض مصون
وقار العلم
ومن أخلاق العالم أن يكون طليق الوجه، حليما صابرا، ملازما للورع والتواضع والوقار، وأن يتجنب ما يذهب المروءة ويزيل الهيبة؛ مثل كثرة الضحك والمزاح، وأن يحافظ على مظهره الخارجي، ويهتم بنظافة جسمه، ويستعمل الطيب، ويحسن من هندامه وملابسه، ويهتم بتسريح شعره، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" (أخرجه مسلم).
ويجب الابتعاد كل البعد عن الحقد والحسد والإعجاب بالنفس. ويحرم على العالم أن يغتر بثناء الناس عليه؛ وإنما يتواضع وينشغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. وهناك فارق كبير بين التواضع وبين التبذل من أجل المال؛ فالعالم عزيز النفس وإن كان ذا مال قليل، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله" (رواه أوس بن خولي).
وقال الإمام مالك -رحمه الله- لهارون الرشيد: "أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون، ومنكم خرج العلم وأنتم أولى الناس بإعظامه، ومن إعظامكم له ألا تدعوا حملته إلى أبوابكم".
ويحرص العلماء على تحصيل العلم وإن اقتضى سفرهم إلى البلدان التي فيها أهل العلوم والتخصص؛ وذلك بهدف الانشغال الدائم بالعلم النافع، واستحضاره، واستذكاره، والتعمق فيه، ومطالعة التخصصات القريبة حتى يتحقق التميز المطلوب لعز الإسلام والمسلمين.
الكبر والحياء
ولا يستنكف العلماء عن التعلم ممن هو دونهم في المنزلة أو السن أو العقل، وإنما لهم في كل شيء عظة وعبرة وفكرة.. قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: "لا يزال الرجل عالما لما تعلم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون". وقال الإمام النووي رحمه الله: " كان كثير من السلف يستفيدون من تلامذتهم ما ليس عندهم".
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- العلماء إلى التعلم ممن هو نظير، وممن ليس بنظير، وألا يمنع الكبر أو الحياء من التعلم ممن هو أقل في المنزلة، فجاء إلى أبي بن كعب -رضي الله عنه- وقال: "أمرني الله أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا" (رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي).
وليس من المعقول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ على أبيّ ليزداد حفظا وإتقانا، وإنما المقصود هو تعليم الأمة بطريق القدوة.
وما خبر سماع سليمان -عليه السلام- من الهدهد ببعيد: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} (النمل: 22). وهذا يفيد انشغال العالم الراسخ فيما ينفع نفسه وأهله ومجتمعه ووطنه، بل ما ينفع البشرية من علوم، فلا ينفك يستزيد من العلم ويتعمق فيه لتكون مساهماته أوقع وأنفع.
ومن أخلاق العلماء الراسخين: ألا يحبسوا العلم وإنما يبذلونه لأهله، ويعلمونه لمن صدقت نيته في تعلمه، ويحرصون على إحياء العلم بالعمل به، والبحث عن الأبناء الصالحين الصادقين في طلب العلم لوجه الله تعالى فيهتمون بأمر تعليمهم؛ لكي ييسروا لهم النبوغ في العلم مع العمل، ويخوفونهم من الجرأة على الفتوى؛ فإنها من علامات الجهالة والمتسرعين.
خير قدوة
وأختتم كلامي بحكاية عن عالم راسخ هو الحسن البصري رحمه الله؛ حينما جاءه الرقيق وطلبوا منه أن يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس وقتئذ يقبلون منه ما لا يقبلون من العلماء.
ولكن البصري قام في الجمعة الأولى فلم يتكلم في هذا، وفي الثانية لم يتكلم، وفي الجمعة الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب، فخرج الناس من المسجد فأعتقوا من كان عندهم من الرقيق، فجاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن ويقولون: "أبطأت علينا ثلاث جمع، فقال: لقد انتظرت حتى رزقني الله مالا، فاشتريت عبدا وأعتقته لوجه الله تعالى؛ حتى لا آمر الناس بما لم أفعل".
هنيئا لكم يا معشر العلماء الصالحين المخلصين، لأنتم حقا مصابيح الهدي وسرج النور في ظلمات الحياة الدنيا.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح