العرب والفلسفة / أو إشكال الإبداع الفلسفي
بقيت الفلسفة في العالم العربي مشروعا ناقصا، إذا استعرنا عنوان الدراسة الفلسفية الهامة لهبرماس الحداثة مشروع غير مكتمل وبقيت العلاقة التي ينتجها الوعي الفكري العربي وحتي المخيال الجماعي مرتبطة بالتعارض السلبي مع الفكر الديني والعقل الفقهي، وبالرغم من وجود تراث فلسفي، لنقل أننا ندين به لبعض الفلاسفة العرب في مرحلة تاريخية معينة، وكان نتاج تفاعلهم مع الفلسفة اليونانية بالخصوص، فإن هذا التراث الذي شهد مقتله، مع محنة ابن رشد الكبرى، وهزيمة العقل وانتصار الخطاب الديني في تفسيره الحرفي للنص القدسي، بقيت الفلسفة شبه غائبة، ومغيبة، لا يعول عليها بأي شكل من الأشكال، ولا بأي صورة من الصور، فلم يكن هناك تطور للفكر الفلسفي، وكانت قيمة العرب كما يذكر المؤرخون ذلك، أنهم حافظوا علي التراث الفلسفي اليوناني، ونقلوه للعربية، حتى سقوط الحضارة الإسلامية وانبعاث الفلسفة من جديد علي يد الفلاسفة الأوروبيين، الذين استعادوا علاقتهم بالتجربة الفلسفية من خلال توطيد علاقة مع تراثهم اليوناني، وكانت أسس النهضة الأوروبية مرتبطة بالتصورات النظرية والفكرية السياسية التي أنجزها فلاسفة اليونان في تاريخهم البعيد ذاك. كمفاهيم تبلورت وتأسست ونضجت وقطفت ثمارها، مثل الديمقراطية والمدينة، والنظم السياسية، والعقل، وغيرها.. فحدث توعّ ٍبالقضايا الجوهرية وانطلقت الفلسفة تؤسس لنفسها ضمن نهضتها الجديدة وعيا مختلفا ترابط مع الإشكاليات التي كان يطرحها سياق النهوض الغربي بشكل عام، فتم التأسيس للعقلانية مع ديكارت وكنط، والتاريخية مع هيغل، وروح الشرائع مع مونتيسكو والعقد الاجتماعي مع روسو.. فيما دخل العالم الإسلامي في سبات طويل، وانغلاق شديد. لتعود العلاقة مع الفلسفة من خلال ما سمي بعصر النهضة العربية، هذه التسمية التي تحتاج اليوم ربما إلي مراجعة وتمحيص، والتي تساوقت مع عودة الاستعمار أو ما عرف بغزوة نابليون لمصر، وما سمي بصدمة الحداثة فيما بعد من طرف أدونيس، فهذه الصدمة خلقت أسئلة جديدة مرتبطة بالتأخر والتقدم، وبأسباب ضعفنا وتدهور حضارتنا، ورقي حضارة الغرب، وهذا التفكير قاد إلي طلب المعرفة عند الآخر، وحتى الاستنجاد بخطابه الفكري والمعرفي، وعرفت النخبة العربية علي الأقل، أن الغرب لم يتطور بالصدفة ولكن كان وراء ذلك تراكم معرفي وفلسفي أنتج مفاهيم وقيم كثيرة ساعدته علي وعي ذاته وتطوير أدواته، وتحقيق حداثته الفعلية، ولكن اكتشاف ذلك لم يكن، نتاج ثقل سياق التخلف والانحطاط بالقادر علي بعث الفلسفة بالشكل المرغوب فيه، فالنخبة العربية عادت من جديد لعملية التثاقف المشوه الذي يعتمد علي التقليد والنقل، أكثر مما يعتمد علي التحليل والنقد، حتي لا أقول الابتكار والخلق. فصدمة الحداثة، لم تخلق فلسفة عربية جديدة ولكن محاولات للاستيراد وتقديم تلك البضائع الرمزية مبتورة عن سياق مولدها، وظروف نشأتها، وأهدافها العملية والنظرية الحقيقية.
من الصدمة إلي التبشير
بالرغم من أن الصدمة مع الغرب كانت مولدة لرغبة في النهوض، وبحث عن التفوق، أو مسايرة التحول العالمي عند النخبة المثقفة بشكل خاص، والتي يجب الاعتراف بأنها كانت قليلة نسبيا من حيث العدد، وحتى من خلال هذه الرغبات، فإنها أيضا ولدت نوعا من الاستسلام لما أنجز في الغرب، ونوعا من الاتكالية علي العقل الغربي، وبالتالي كان العمل السائد هو تقديم ما أنجزه الغرب في هذا المجال متصورين أنه عبر هذه العملية فقط قد تحدث النهضة السريعة، وردم الهوة بيننا وبينهم، بمعني أن فكرة الإبداع لم تكن لتخطر علي بال أحدهم علي الإطلاق، فهو شأن آخر، أو مشروع مؤجل، ولهذا ساد التبشير بالمفاهيم الفلسفية الغربية علي إعادة صياغتها بالتساؤلات التي كان من المفروض أن تطرح من خلال الواقع العربي، وهي الرهانات التي غابت عن عقل النهضة العربية، بسبب تخلف السياق، وتراكم ثقافة الانحطاط التي استمرت قرونا بأكملها، وأيضا السلطة الدينية التي فرضت نوعا من الوصاية، والرقابة، وورثت الأحكام السلبية التقليدية من الفلسفة والفلاسفة. لقد أدي ذلك كله إلي ظهور ناقلين ومبشرين كبار بمختلف التيارات الفلسفية الغربية بعدها، وأصبحوا يعرفون بها وعبرها عبد الرحمن بدوي ـ الوجودية ، عثمان أمين ـ الديكارتية ، الحبابي ـ الشخصانية ، زكي نجيب محمود ـ العقلانية وهؤلاء عندما أدركوا أنهم لا يبدعون ذاتهم ولكن يعيدون كتابة فلسفة غيرهم سقطوا في عملية تبيئة لهذه الفلسفة المستوردة، وبدأنا نسمع بوجودية إسلامية، وشخصانية إسلامية..أو إلي نوع من التوفيقية المزيفة بين التراث الديني، وهذه الفلسفة، وكانت صدمة الواقع العربي بالنسبة للنخبة المثقفة التي درس معظمها في الغرب، وعاد منبهرا ومتلهفا علي نشر تلك الفلسفة، هي صدمة الواقع العربي/الإسلامي المتحجر، والذي إلي جانب تخلف نظم حكمه السياسية، كان يحكمه مشايخ الدين، وفقهاء المؤسسات الدينية، وهم مستعدون لتكفير أي مشروع ينادي بموقف من الميتافيزيقا كما كتب زكي محمود، أو استخدام منهج الشك الديكارتي عند طه حسين. وهذا ما كان يجعل معركة إنوجاد الفلسفة كشكل نقدي وابتكاري أمرا بعيد المنال، فاكتفوا بالنقل والترجمة والتبشير. وإلي غاية اليوم لا يزال إشكال النقل والتبشير والتهليل لكل ما يصدر في الغرب قائما ومستمرا، نتاج الحاجة إلي ذلك طبعا، ولكن لأنه أيضا لم يتم تحقيق خطاب فلسفي قائم بذاته، خطاب له مسوغاته الداخلية الخاصة به، تتساوق مع الإشكالات التي تطرح علي بيئتنا ووعينا وتفكيرنا اليوم.
مفكرون أم فلاسفة
لا يستطيع ألمع المفكرين العرب اليوم أن يطلقوا علي أنفسهم تسمية فلاسفة، وهم في غالب الأحيان يتجنبون ذلك، بالرغم من أنهم يحاولون موضعة أنفسهم في سياق الفلسفة العربية المعاصرة، ويسعون لمماثلة مشاريعهم مع أطروحات فلاسفة غربيين كبار، فمحمد أركون مثلا في مشروعه لنقد العقل الديني، أو محمد عابد الجابري يتماثلون في عملهم مع ما قام به إيمانويل كانط في نقد العقل الخالص، وعبد الله العروي في فكره التاريخي مع ما قدمه هيغل بشكل خاص، وحسن حنفي مع فينومونولوجية هوسرل بصورة محايثة، أي أنهم يماثلون فلاسفة غربيين لكنهم لا يتجرأون علي الادعاء بأنهم فلاسفة فهم يعتبرون أنفسهم باحثين في الفلسفة، أو مفكرين كما يطلق عليهم ذلك في أدبيات الفكر العربي، وأظن أن السبب يعود بشكل خاص، إلي أن أدواتهم المنهجية والإجرائية هي أدوات الفلسفة الغربية، وأن المفاهيم التي يشتغلون عليها هي من إبداع العقل الفلسفي الغربي، وبالتالي هم أيضا يطبقون هذه المنهجيات المستوردة، من دون أن نقول إن هناك عيبا في أمر كهذا، علي مجال تفكيرهم، والذي انحصر في العقود الأخيرة، علي مسألة التراث بشكل خاص، كما لو أن الإشكال الفلسفي الأول هو التراث، والحق أن المسألة لا تعود فقط إلي كل التراث ولكن إلي النقطة الجوهرية فيه، والمتمثلة في الدين بشكل دقيق، ومحوري. هل يعني ذلك أن الدين لا يزال العقبة الأساسية أمام نشوء الفلسفة وتبلورها وتشكلها كخطاب فاعل في الثقافة العربية، أم في غياب جرأة الفكر الفلسفي العربي، وعدم قدرته علي خلق قطائع تاريخية ومعرفية، تجعله قادرا علي تحييد أي سلطة غير سلطة العقل والفكر الحر؟ إنه سؤال مشروع يمكن أن يبحث فيه أهل الفلسفة في العالم العربي، بالرغم من وجود عقبات كثيرة في مسألة القطيعة هاته التي لم تتحقق بعد، ولم تجد مناخا صحيا ملائما يساعد علي بلورتها، صحيح أن الماركسيين العرب في سياق تاريخي معين، حاولوا فعل ذلك، ولكن كان الأمر أشبه ما يكون بالعدوان الإيديولوجي السافر، غير المقنع بتاتا، وكان كل ما فعله هؤلاء أن أسسوا خطابا دعائيا ضد الدين، سيتلاشي ويندثر بسرعة، بعد زوال مسوغاته الإيديولوجية تلك، وسيزيد من تمتين شرعية الديني، وحتى من تفوقه الميداني علي أرض الواقع.
فلسفة عربية، أم فلسفة عالمية
هل تحتاج الفلسفة إلي تصنيف هويتها حتى تستطيع أن توجد؟ إنه السؤال الذي يطرح عند بعض المثقفين العرب، الذين يريدون التحرر من إضافة العربية للفلسفة، بمعني، أن علي من يشتغلون في الفلسفة والفكر أن ينخرطوا في خطاب العالمية، فالفلسفة خطاب للجميع، وليس لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، وبالتالي فهي تقتضي الخروج من الحيز الجغرافي، والدخول في المنطق العام والعالمي، وهي تريد خاصة أن تنشغل بما يقترحه الوضع الكوكبي، خاصة في ظل سياق العولمة والكونية اليوم، وسقوط الحدود الجغرافية التي لم تعد تفصلنا عن الغرب كما كانت من قبل، تبعد المسافات، وتجمرك الأفكار قبل أن تصل، فالتحول العام وتطور تكنولوجيا الإعلام، وما يعرف بالوسائط والاقتصاد الرمزي، تخلق ما يسمي بالقرية الكونية الصغيرة، ونظرة مختلفة للعالم، فلم تعد الهـوية القومية تنفع كثيرا في صناعة خطاب فلسفي جديد، وبالرغم من إغراء هذا النوع من الخطاب، الذي ربما يمثله خير تمثيل المفكر اللبناني علي حرب، إلا أنه يظل في كثير من جوانبه، ادعاء مزيفا، فانخراطنا في المشهد العالمي، دون تحقيق تراكم معرفي حقيقي، ودون أن نصل إلي ما اسماه دولوز بإنتاج المفاهيم، يظل حلما بعيد المنال، وتثبت تجربة علي حرب نفسه، والذي بالرغم من تحمسه الفكري لهذا التوجه، يبقي تفكيره محليا بالرغم من اشتغاله علي مختلف القضايا المعاصرة في كتبه الأخيرة حديث النهايات والأختام والأصول الخ، فهو عاد فجأة إلي القضايا العربية من جديد في أزمنة الحداثة الفائقة لمناقشة مسائل كالإصلاح وغيرها.. ومع ذلك ربما يكون الخيار اليوم، هو في هذا المذهب بالذات، ولا بد من الاندماج في المجري العام للفلسفة الغربية، ولكن بتنوع نقدي، وتحاور معرفي مسؤول، وانطلاقا من سياق تاريخي، تحكمه إرادة تقليدية ومحافظة، وسياسات عرجاء، ويصبح أفق الإبداع رهانا محتوما إن كانت هناك طموحات فعلية لتجاوز عدد كبير من مآزقنا الراهنة.
الفلسفة ورهاناتها
إن الخطاب الفلسفي يطمح إلي توليد فكر نقدي حر، وتوسيع مجالات اللغة كما يقول بول ريكور، وهذا يعني مناخا من الديمقراطية والمدنية التي تسمح بنشأته وتقبله، فللفلسفة علاقة جوهرية بالنقد والحرية وبسياق المدينة، ونحن في العالم العربي، ما زالت المدينة غائبة عن وجودنا ليس بالمعني المادي كحيز حضري، ولكن بالمعني الفلسفي، والسياسي، ولا يزال مناخ الاستبداد والتسلط مسلطا علي رقاب العباد والمفكرين، ولهذا تنشأ الحاجة إلي الفلسفة كخيار لإعادة النظر في الوضع الكارثي الذي نعيشه، في ربطها بالأسئلة الجوهرية التي تفكر من المعيش اليومي إلي القيم الأخلاقية والفلسفية الكبري، كالخير والشر، وحرية الإنسان. إننا بحاجة ماسة لتراكم الإنتاج الفلسفي، وإلي دمج للفلسفة في الشأن العام، ليس فقط كما قال ماركس، بإنزالها من السماء إلي الأرض، ولكن بجعلها مولدة لوعي حضري، وأخلاقي وإنساني جديد، ومن هذا المنظور، فإن الفلسفة العربية ستوجد بفعل قدرتها علي ربط خيوط الفكر من جديد بالسياق والواقع، ودفعها إلي أن تمتحن قيمتها البراغماتية في التفاعل مع الأسئلة الواقعية، وإنتاج مفاهيم مرتبطة بالتاريخ والراهن والمستقبل.