العلاقة بين الإبداع الأدبي والدين.. بحث قصير للدكتورة /زينب بيره جكلي(دكتورة النقد الأدبي)
___________________________
حين نقرأ قصصا لبعض الحداثيين المتغربين نرى فيها هجوما على الدين وتحللا من الأخلاق، ويدافع أصحابها عما اقترفوه بمقولة الفن للفن وأنه لا علاقة للإبداع بالدين والخلق، فهل هذه المقولة صحيحة أم أنها مهرب ووسيلة إسكات للطرف الآخر؟
إن كلمة أدب تعني الدعوة، وقد انتقل مفهومها من الدعوة المادية إلى الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ثم صارت تشير إلى التعبير عن تجربة شعورية تعبيرا تشترك فيه اللغة مع الصورة والموسيقى للدلالة عن المعنى المراد.
أما الدين فهو الطاعة والعادة والشعور، والإسلام.
والعلاقة بين هذا الطرف وذاك هي علاقة مبنية على طاعة الأديب لمن يدين له، وعلى محاسبة نفسه حسب شريعته، واتباعها في سلوكياته القولية والعملية، ولهذا فإن الدين الإسلامي يطالب الأديب أن يلتزم الحسن من القول ليقدم ثمرة طيبة للمجتمع بل للإنسانية جمعاء، وقد حدد الله - سبحانه - في سورة الشعراء ما يجب على الأديب أن يلتزمه، وطبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فلما قال النابغة الجعدي:
علونا السماء عفة وتكرما * * * وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
غضب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال له: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة بك يا رسول الله، فهدأت نفسه وقال: أجل إن شاء الله، كما توعد الهجائين بقوله: (من قال في الإسلام هجاء مقذعا فلسانه هدر)، وندد بمن دعا إلى عصبية وجعل ميتته جاهلية، ونفى طويسا لأنه وصف امرأة لخاطب لها وصفا دقيقا، وبهذا يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول من حدد العلاقة بين الدين والأدب بوصفه كلمة طيبة أو خبيثة كأي كلام يفوه به صاحبه.
وقد استوعب هذا الصحابة -رضوان الله عليهم- فأشاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحكم زهير بن أبي سلمى، وسجن الحطيئة لهجائه الزبرقان، ثم نفذ الخلفاء أو كثير منهم هذا فقتل وضاح اليمن لفجوره في أدبه، وبشار بن برد لزندقته فيه، ورد ابن وكيع التنيسي من شعر أبي الطيب المتنبي قوله في فخره:
أي محل أرتقي * * * وأي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق * * * الله وما لم يخلق
محتقر في همتي * * * كشعرة في مفرقي
وقال: (هذه أبيات فيها قلة ورع وهذا ما لا أحب إثباته في ديوانه لخروجه عن حد الكبر إلى حد الكفر)
وقد وجد المسلمون في أفياء الدين متسعا من القول فوصفوا ومدحوا ورثوا، ودعوا إلى تعليم أولادهم الشعر، يقول عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده (علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا)، ولكن بعض الأدباء والنقاد تجاوزوا الحد وعدوا الأدب إقامة للوزن، وتخيراً للفظ وسهولة في المخرج، وقال الجرجاني في شعر أبي نواس (فلو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر) فرد عليه الشيباني: (لولا أن أبا نواس أفسد شعره بهذه الأقذار يعني الخمور لاحتججنا بشعره).
وفي العصر الحديث دعا د. رجب بيومي إلى حذف كل ما يخالف الدين من فكر أو فجر كالذي في كتاب ألف ليلة وليلة ولكن طه حسين عارضه في ذلك، وكان اختلاط أبنائنا في العصر الحديث بالغرب وتأثرهم بمفاهيمه النقدية بل لنقل بسمومه الفكرية أثر في تحول الفكر ووقوع الشباب في حيرة من أمره بعد أن زين له المنكر من القول والفعل، ومجدت له مدارس أدبية هي في واقعها مخالفة لديننا، فالرومانسية تشكك المرء، وتهون الرذيلة ويكفي للدلالة على ذلك أن نقرأ أسماء دواوين شعرائها من مثل (البغي الفاضلة، واللص الشريف والمومس الطاهرة!!...)ويتغنى أصحابها بسوداوية الحياة ويعبرون عما يسمونه ظلم القدر، ويقدسون المرأة ويجعلونها معبودتهم والعياذ بالله، وطلاسم إيليا أبي ماضي وغزل أبي شادي شاهد على ذلك.
والواقعية والحداثية تحاربان الدين علانية ويعدانه أفيون الشعوب، وتحاربان الثوابت ويعدونها رجعية ويطلب أدباؤهما أن تزول الرقابة عن الأدب ويوردون في آدابهم من مثل: (يا قاهرة، يا مئذنات ملحدة، يا كافرة)، ويعلن بعضهم (موت الله، أو تشرده) لعنهم الله، ويقولون: (الإنسان مصدر التشريع لا الله) ويقول أدونيس: (دربي أنا من دروب الإله والشيطان)، و(أمحو لغة الخطيئة)، وقصص بعضهم تمثل الضياع والثورة على الدين ويسمونه تقاليد، ونشرا للرذيلة، وفعلا كانت مقولة بعضهم (سقط الفن) كلمة صحيحة فقد سقط فنيا مضمونا وشكلا حين هوجمت اللغة العربية ودعي إلى أن تكون بلا قواعد أو ضوابط، أو دعي إلى تسكينها، أو أن يلجأ إلى الغموض باسم الإيحاء بل قال محمود درويش: (طوبى لشيء غامض، طوبى لشيء لم يصل) وسموا (جثة بالية) لأنها مكبلة بفكر معين ونظام معين، كما هاجموا التاريخ بكلام لا يليق بأديب أن يفوه به.
إن الكلام أداة توصيل للأفكار والمشاعر، وهو يخاطب شغاف القلوب، وكل إناء بما فيه ينضح، وفكرة الفن للفن لا تبرر الفجور والكفر بأي حال من الأحوال، ومن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، وتصوير الأدب للانحرافات وللشر والرذيلة يجب أن يتوقف، وإن واقع العرب والمسلمين اليوم بحاجة إلى تصحيح للأوضاع، ليعيشوا في عز بعد ذل، والأدب يشارك في مهمة الدعوة إلى الخير، ولئن حصل انفصام بين الأدب والدين والأخلاق فإن على الأدباء رسالة هامة ألا وهي إيقاظ العقول والقلوب، (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة).
___________________________
حين نقرأ قصصا لبعض الحداثيين المتغربين نرى فيها هجوما على الدين وتحللا من الأخلاق، ويدافع أصحابها عما اقترفوه بمقولة الفن للفن وأنه لا علاقة للإبداع بالدين والخلق، فهل هذه المقولة صحيحة أم أنها مهرب ووسيلة إسكات للطرف الآخر؟
إن كلمة أدب تعني الدعوة، وقد انتقل مفهومها من الدعوة المادية إلى الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ثم صارت تشير إلى التعبير عن تجربة شعورية تعبيرا تشترك فيه اللغة مع الصورة والموسيقى للدلالة عن المعنى المراد.
أما الدين فهو الطاعة والعادة والشعور، والإسلام.
والعلاقة بين هذا الطرف وذاك هي علاقة مبنية على طاعة الأديب لمن يدين له، وعلى محاسبة نفسه حسب شريعته، واتباعها في سلوكياته القولية والعملية، ولهذا فإن الدين الإسلامي يطالب الأديب أن يلتزم الحسن من القول ليقدم ثمرة طيبة للمجتمع بل للإنسانية جمعاء، وقد حدد الله - سبحانه - في سورة الشعراء ما يجب على الأديب أن يلتزمه، وطبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فلما قال النابغة الجعدي:
علونا السماء عفة وتكرما * * * وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
غضب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال له: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة بك يا رسول الله، فهدأت نفسه وقال: أجل إن شاء الله، كما توعد الهجائين بقوله: (من قال في الإسلام هجاء مقذعا فلسانه هدر)، وندد بمن دعا إلى عصبية وجعل ميتته جاهلية، ونفى طويسا لأنه وصف امرأة لخاطب لها وصفا دقيقا، وبهذا يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول من حدد العلاقة بين الدين والأدب بوصفه كلمة طيبة أو خبيثة كأي كلام يفوه به صاحبه.
وقد استوعب هذا الصحابة -رضوان الله عليهم- فأشاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحكم زهير بن أبي سلمى، وسجن الحطيئة لهجائه الزبرقان، ثم نفذ الخلفاء أو كثير منهم هذا فقتل وضاح اليمن لفجوره في أدبه، وبشار بن برد لزندقته فيه، ورد ابن وكيع التنيسي من شعر أبي الطيب المتنبي قوله في فخره:
أي محل أرتقي * * * وأي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق * * * الله وما لم يخلق
محتقر في همتي * * * كشعرة في مفرقي
وقال: (هذه أبيات فيها قلة ورع وهذا ما لا أحب إثباته في ديوانه لخروجه عن حد الكبر إلى حد الكفر)
وقد وجد المسلمون في أفياء الدين متسعا من القول فوصفوا ومدحوا ورثوا، ودعوا إلى تعليم أولادهم الشعر، يقول عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده (علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا)، ولكن بعض الأدباء والنقاد تجاوزوا الحد وعدوا الأدب إقامة للوزن، وتخيراً للفظ وسهولة في المخرج، وقال الجرجاني في شعر أبي نواس (فلو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر) فرد عليه الشيباني: (لولا أن أبا نواس أفسد شعره بهذه الأقذار يعني الخمور لاحتججنا بشعره).
وفي العصر الحديث دعا د. رجب بيومي إلى حذف كل ما يخالف الدين من فكر أو فجر كالذي في كتاب ألف ليلة وليلة ولكن طه حسين عارضه في ذلك، وكان اختلاط أبنائنا في العصر الحديث بالغرب وتأثرهم بمفاهيمه النقدية بل لنقل بسمومه الفكرية أثر في تحول الفكر ووقوع الشباب في حيرة من أمره بعد أن زين له المنكر من القول والفعل، ومجدت له مدارس أدبية هي في واقعها مخالفة لديننا، فالرومانسية تشكك المرء، وتهون الرذيلة ويكفي للدلالة على ذلك أن نقرأ أسماء دواوين شعرائها من مثل (البغي الفاضلة، واللص الشريف والمومس الطاهرة!!...)ويتغنى أصحابها بسوداوية الحياة ويعبرون عما يسمونه ظلم القدر، ويقدسون المرأة ويجعلونها معبودتهم والعياذ بالله، وطلاسم إيليا أبي ماضي وغزل أبي شادي شاهد على ذلك.
والواقعية والحداثية تحاربان الدين علانية ويعدانه أفيون الشعوب، وتحاربان الثوابت ويعدونها رجعية ويطلب أدباؤهما أن تزول الرقابة عن الأدب ويوردون في آدابهم من مثل: (يا قاهرة، يا مئذنات ملحدة، يا كافرة)، ويعلن بعضهم (موت الله، أو تشرده) لعنهم الله، ويقولون: (الإنسان مصدر التشريع لا الله) ويقول أدونيس: (دربي أنا من دروب الإله والشيطان)، و(أمحو لغة الخطيئة)، وقصص بعضهم تمثل الضياع والثورة على الدين ويسمونه تقاليد، ونشرا للرذيلة، وفعلا كانت مقولة بعضهم (سقط الفن) كلمة صحيحة فقد سقط فنيا مضمونا وشكلا حين هوجمت اللغة العربية ودعي إلى أن تكون بلا قواعد أو ضوابط، أو دعي إلى تسكينها، أو أن يلجأ إلى الغموض باسم الإيحاء بل قال محمود درويش: (طوبى لشيء غامض، طوبى لشيء لم يصل) وسموا (جثة بالية) لأنها مكبلة بفكر معين ونظام معين، كما هاجموا التاريخ بكلام لا يليق بأديب أن يفوه به.
إن الكلام أداة توصيل للأفكار والمشاعر، وهو يخاطب شغاف القلوب، وكل إناء بما فيه ينضح، وفكرة الفن للفن لا تبرر الفجور والكفر بأي حال من الأحوال، ومن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، وتصوير الأدب للانحرافات وللشر والرذيلة يجب أن يتوقف، وإن واقع العرب والمسلمين اليوم بحاجة إلى تصحيح للأوضاع، ليعيشوا في عز بعد ذل، والأدب يشارك في مهمة الدعوة إلى الخير، ولئن حصل انفصام بين الأدب والدين والأخلاق فإن على الأدباء رسالة هامة ألا وهي إيقاظ العقول والقلوب، (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة).