الأدب ظاهرة حية في تاريخ الإنسان منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، وسيظل ممتداً على مستقبل بعيد. إنه ظاهرة مرتبطة بالإنسان لا تنفصل عنه، تنبع منه أو توهب له، فضلاً من الله ونعمة منه ما دام الأدب ثمرة خير وإيمان وتقوى.
ولعلَّ الأدب انطلق مع أول كلمة علّمها الله - سبحانه وتعالى - لآدم - عليه السلام - حين علّمه الأسماء كلها. ونفهم من قوله - سبحانه وتعالى -: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]، أنه علّمه اللفظة واستخدامها، كما توحي بذلك كلمة (الأسماء)؛ وكذلك قوله - سبحانه -: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4].
ويصبح الأدب بذلك نبعةً من نبعات الحياة، وخفقة من خفقات الإنسان، وتعبيراً عن وجوده وحياته، ونشاطه وعطائه، وعاطفته وشعوره، وفكره وتصوره. إنه يعرض ويحلل أحداثاً ووقائع، ويتناول البيئة ومكنوناتها: يابسة وأنهاراً، أشجاراً وثماراً، زهوراً ونسيماً، وأرضاً وسماءً. إنه يطوف في الكون على قدر ما يفتح الله له من أبوابه ومنافذه.
ولكن الأدب لا يقف عند العرض والوصف، ولكنه يحلّل ويستنتج، ويربط ويقوِّم؛ ليكون الأدب قوة تنضم إلى سائر القوى، وسبباً ينضمُّ إلى سائر الأسباب، لتتحصَّن به الأمة وتدافع به، وتجاهد به وتنافح. إنه يُغذّي علاقات الإنسان وروابطه من قربى ورحم، وصحبة وجوار؛ فيقرّب الإنسانَ من الإنسان، والفكرَ من الفكر، والعاطفةَ من العاطفة، إذا صدق الأدب وظلَّ طاهراً، فلا يهبط في حمأة الرذيلة والجاهلية، ودنس الفاحشة والفجور، وشرِّ الجريمة والإثم.
والأدب أشرف الفنون في حياة الإنسان وأعلاها مرتبة، وأكثرها التصاقاً به وبحياته، وأكثرها اتساعاً به ونشاطه، حتى يكاد يكون حاجة من حاجاته وضرورة من ضروراته، ماضياً معه في أعماق التاريخ وآفاق المستقبل. وهو يجمع من الفنون الأخرى ما لا تستطيع أن تجمع؛ فهو يجمع من الموسيقى أطيبها وأطهرها في نغمة الكلمة وجرسها، وإيقاع المقطع والصياغة وحلاوته، وهو يجمع من الرسم صوراً غنيّة نديّة تدفعها الحروف والكلمات، وصوراً حية نابضة، وهو يجمع عبقرية المعنى وطهر الفكر وصدق العاطفة.
والأدب يجول جولات واسعة في جميع ميادين الحياة وآفاق الكون، فتّحت كلها له ولموهبته وقدراته. فلا يوجد ميدان في حياة الإنسان إلا ويخوضه الأدب الطاهر، ينثر فيه العطر والندى، والجواهر واللآلئ والدرر، والثمار والزهور، حتى كأنه يجعل الحياة بساتين أشجار وثمار، وجنان ورود وأزهار، ونسائم تسري، وظلالاً ترفُّ بأندائها وتغني بفيئها.
وارتفعت منزلة الأدب إلى ذروة الشرف وقمّة التكريم حين حمل البيان رسالة الله إلى الناس، إلى عباده وخلقه، قرآناً معجزاً، وبياناً ميسّراً، وحْياً يتنزَّل من عند الله، ليمثل أعلى مستوى للبيان والفكر، والصورة والتعبير، ليكون آية الزمان وإعجاز العصور، وحاجة الإنسان وغناءه نوراً وهدى.
والأدب عطاء الإنسان؛ ينبع من ذاته، من داخله، من فطرته التي فطره الله عليها إن ظلت نقيّة سليمة فيكون أدب إيمان وتقوى، أو تاهت في فتن وضلال وانحرفت فيكون أدب فتنة وفساد. وهذه الفطرة التي لا نعرف عنها إلا ما علّمنا الله، نـدرك أن الله غـرس فيها نبـع الإيمان ليرويَ الإيمانُ الفـطرةَ وما فيها مـن غرائـز وقـوى ريّاً متـوازنـاً؛ لتـؤدّي كلُّ قوة المهمةَ التي خلقها الله لها، ما دامت الفطرة لم تتشوه والشعور والموهبة التي يضعها الله في من يشاء من عباده. وكأن التفكير والعاطفة قطبان تتجمّع عليهما شحنات الزاد من الواقع، من علم وتجربة ينالها الإنسان في حياته من ميادين مختلفة. وتظل هذه الشحنات تنمو وتزداد بقدر من الله - سبحانه وتعالى - وعلى سننٍ لله ثابتة، حتى تأتي اللحظة المحددة، فتأتي الموهبة فتشعل التفاعل بين هذين القطبين وما يحملانه من شحنات، فيخرج عطاء الإنسان ومضةَ إبداع أو شعلةَ خير، على نوع الموهبة والشحنات وقوة الفكر وقوة العاطفة. فإن كانت الموهبة أدبية أطلقت العطاء الأدبي شعراً أو قصة أو رواية أو خلاف ذلك. ولا يمكن أن يكون العطاء ثمرة فكر وحده، ولا ثمرة عاطفة وحدها؛ ولكنه ثمرة تفاعل بين الفكر والعاطفة وسائر القوى في داخل الإنسان في فطرته، وبذلك يستطيع الأدب أن يجول ويطوف في جميع ميادين الحياة وآفاق الكون على قدر ما وهب الله لعبده من قوة وفكر وعاطفة وموهبة.
• الأدب وفكر العقيدة:
وباستعراض تاريخ الأدب في حياة الإنسان نرى الدور الكبير له في الفكر أو في حمل الفكر وعرضه. وأعظم فكر يحمله الأدب هو فكر العقيدة التي يؤمن بها، والتي تغنى بها الفطرةُ والقوى المغروسة فيها. وإذا استعرضنا شعراء صدر الإسلام وخطباءهم لوجدنا أن شِعْرَهم حمل الفكر الذي يؤمنون به والعقيدة التي يحملونها، يخوضون بها مختلف الميادين، وكذلك في سائر العصور، ومع سائر الأمم.
ويتميز الأدب الملتزم بالإسلام من غيره بأنه يعرض الفكر الحقَّ، وينبذ الباطل ويدحضه: {قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْـحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 48 - 49]، {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْـحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
هذا هو الحق الذي يحمله الأدب فكراً وعاطفة.
يساهم الأدب في واقع الحياة الاجتماعية، فيغذّي كل آداب المجتمع وأخلاقه، وعاداته وتقاليده، ما دام المجتمع متمسكاً بدينه إيماناً وممارسةً في واقع الحياة. وجعل الإسلام للأدب دوراً عظيماً في نهجه وغايته وأسلوبه. وأول ذلك أن تكون النيَّة خالصة لله في كلمته، وثانـياً أن تـكون الكلـمة طيـبة حـقاً وصـدقـاً، لا كـذب فـيها ولا باطـل. فعـن أبي هـريـرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوبَ الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»[1]. وعنه أيضاً: «إن أخاً لكم لا يقول الرفث، وهو ابن رواحة»، ثم تلا أبو هريرة أبياتاً من شعر عبد الله بن رواحة، نجد فيها دور الأدب في الفكر والدعوة والمجتمع:
وفينا رسول الله يتلو كتابَه *** إذا انشقَّ معروفٌ من الفجر ساطعُ
أرانا الهدى بعد العَمَى فقُلُوبُنا ***به موقناتٌ أنَّ ما قال واقعُ
يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه ***إذا استثقلت بالكافرين المضاجعُ[2]
وانـظـر إلى دور الأدب فـي مـيدان الجـهاد: فعـن أنـس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي، ويقول:
خَلُّوا بني الكفَّار عن سبيلهِ *** اليوم نضربكم على تنزيلهِ
ضرباً يُزيل الهام عن مقيلهِ *** ويذهل الخليلَ عن خليلهِ
فقال عمر - رضي الله عنه -: «يا ابن رواحة! بين يديْ رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - وفـي حـرم الله تقـول الشعر؟! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلِّ عنه يا عمر! فَلَهِيَ أسرع فيهم من نضحِ النبل»[3].
وانظر إلى هذا الموقف لترى كيف يؤدي الأدب دوره في العقيدة والأخلاق والمجتمع، وكيف يُبْنى ذلك على صفاء الإيمان والتـوحيد؛ إنه مـوقـف ضـرار بـن الأزور - رضي الله عنه - عند مبايعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعد مبايعته أنشد:
تركتُ القِداح وعزفَ القيانِ *** والخمر تعللةً وانتهالا
وكرّي المجبّر في غَمْرة ***وحملي على المشركين القتالا
فيا ربِّ لا أغْبَنَنْ صفقتي *** فقد بعت مالي وأهلي ابتذالا
وهذه أبيات النابغة الجعدي التي سُرَّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ولا خير في حِلْمٍ إذا لم يكن له *** بوادر تحمي صفوَه أن يكدَّرا
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
وخبيب الأنصاري - رضي الله عنه - يقول وهو يُصلَب على الخشبة في مكة ليُقتل:
فواللهِ ما أرجو إذا متُّ مُسلِماً *** على أي جنبٍ كان في الله مضجعي
فلستُ بمبدٍ للعدوِّ تَخَشُّعاً *** ولا جَزعاً، إني إلى الله مرجعي
تلك نماذج سريعة تكشف بوضوح عن دور الأدب في الفكر والمجتمع والأخلاق.
كما أننا نلمس فيها كيف يتعهد الإيمانُ هذه القوى كلها ويمزجها بالعقيدة والإيمان والتوحيد، حتى تكون نسيجاً واحداً لا ينفصل بعضه عن بعض.
• دور الأدب في الفكر والمجتمع:
وينكشف لنا دور الأدب الملتزم بالإسلام مبدئياً من لفظة (الأدب) نفسـها، اللفـظة المتميزة بمعانيها وبدورها في ميادين الفـكر والخلق والاجتماع والجمال وغير ذلك. ففي تاج العروس: «الأدب: الذي يتأدَّب به الأديب من الناس، سُمّيَ به؛ لأنه يؤدّب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح. وأصل الأدب الدعاء»[4]. وهو مَلَكَةٌ تعصم من قامت به عمّا يشينه، وُتجمِعُ المعـاجم كلها على معانٍ متعددة، كلها تدور حول مكارم الأخلاق، وفي هذا ما أدب به الله - تعالى - نبيّه - صلى الله عليه وسلم -. وقد استخدمـت هـذه اللفـظة في علـوم اللـغة العربية كما يعرِّفها ابن خلدون في مقدمته.
وحين حمل الأدب رسالة الله إلى الناس وحياً من عند الله باللغة العربية التي اختارها الله، أصبح هذا البيان والأدب هو النموذج الأعلى، لا يبلغه أحد من البشر، ولكن يقتبسون منه ويهتدون به نوراً وهدى خالداً في إعجازه ويُسْره مع الأزمان كلها، يقدّم للبشرية كلها أسمى ما عرفت البشرية من فكر وأخلاق.
وحمل كذلك أسمى جمالٍ فنيٍّ يمتزج فيه جمال الفكر، وجمال الأخلاق، وجمال عبقرية اللغة العربية، وجمال الحياة الاجتماعية في طهرها وسموِّ علاقاتها، تتداخل كلها في نسيج عبقري واحد معجز، ومع إعجازه يسَّره الله لمن آمن وصدق وعرف العربية وأتقنها؛ فجعل الله صدق الإيمان وصفاءه وإتقان اللغة العربية مفتاحين لكتاب الله، ييسر الله بهما معاني كتابه لعباده المؤمنين.
• رسالة الأدب بما يحمله:
والأدب فنّ؛ ولكنه أشرف الفنون إذا حمل رسالة الطهر والجمال والخير والإحسان. والأدب يقدّم الجمال في الحياة في أطهر صوره وأنقى أشكاله. ويظل يسمو الجمال مع سمو الأدب حتى يبلغ أعلى مراتبه، ولا يكون ذلك إلا حين يحمل الحق في الحياة، فيكون الحق منبع الجمال فيه، ودفق الحياة، وغنى القلوب والنفوس، وهو يحمل رسالة الله ويساهم في نشرها عبقاً فوَّاحاً وعطراً غنياً وظلالاً ندية؛ فيكون جماله من جمال رسالته الإيمانية: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها»[5].
ويصوغ الأدب الجمال حين يتلقى جمال الجرس من الألفاظ والصياغة، وجمال الصورة التي يرسمها، وجمال الحركة التي يطلقها، وجمال الأسلوب الذي يجمع ذلك كله. ويرتبط هذا الجمال الفني بالحياة والكون، ليكون نبضة حياة وقبساً من نور، جمالاً أصيلاً، لا طلاءً كاذباً ولا زخرفاً خادعاً. والجمال في الأدب الملتزم بالإسلام ينبع من تفاعل الخصائص الإيمانية التي تجعله إسلامياً والخصائص الفنيَّة التي تجعله أدباً. ويساهم في صياغة الجمال الفني في الأدب عناصر ستة: الصياغة الفنية، الموضوع الفني، الشكل، الأسلوب، الإنسان، والعقيدة. وهذه كلها تتفاعل وتتأثر من ولادة النص الأدبي من داخل الإنسان وفطرته كما ذكرنا سابقاً. وللجمال الفني عاملٌ دافعٌ هو النيَّة، وعاملٌ منظم وهو الموازنة.
وبـذلك يتـمـيز الأدب الملـتزم بالإسـلام مـن غـيره من الآداب ليكون أعمق في البعد الإنساني، وأطهر في الجمال الفـني، وأوسع ساحة ومدى، فساحته ومداه الحياة كلها والكون كله.
وإذا لم يكن الأدب والفنُّ كله قوة للحق والصلاح في الأرض وعبادة الله - سبحانه وتعالى - فمن أين يأتي له الجـمـال أو يعطي الجـمال؟! ومـا حـاجـة الإنسان له عندئذٍ؟! ولا يقوم بذلك إلا الأدب الملتزم بالإسلام.
----------------------------------------
[1] أبو داود: كتاب الأدب، رقم: 4353.
[2] الترمذي: كتاب الأدب، حديث رقم: 2847.
[3] السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 176.
[4] انظر: تاج العروس للزبيدي، كلمة (أدب).
[5] أخرجه الطبراني في الأوسط.?