ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين

    تاج العروبة (الفوهرر)
    تاج العروبة (الفوهرر)
    فيلسوف ثمار الأوراق
    فيلسوف ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 598
    العمر : 40
    الموقع : العراق
    العمل/الترفيه : خريج كليه الاداب - قسم الفلسفة
    المزاج : الارادة مفتاح النصر
    نقاط : 104
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين Empty الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين

    مُساهمة من طرف تاج العروبة (الفوهرر) الخميس أكتوبر 23, 2008 7:24 am

    الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين - الجزء الاول


    إن العلوم والآداب في مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري تكون مترابطة ومتداخلة فيما بينها تداخلا عضويا، مثل الكائن الحي إذا بُتِر عضو منه يصبح مشوها بكامله، كما حدث عند إلغاء الفلسفة والعلوم الاجتماعية والفكر الإسلامي من الجامعة المغربية، تضرر تاريخ الأدب والنقد الأدبي وكذلك التاريخ..إلخ، فلا بد مثلا من سوسيولوجية الأدب وفلسفة النقد وفلسفة التاريخ، فالعلوم تلتقي وتفترق كالشاطئ littoral الذي هو في آن مكان الالتقاء ومكان الافتراق بين البَر والبحر.

    إن الفلسفة لا تحيى داخل الكتابة الفلسفية فقط بل إنها تتأصّل في الكتابة الشّعرية والرّوائية وغيرها... فقد نجد أعمق أشكال التّعبير الفلسفي في صياغة حكاية سَرْدِيَّة صغيرة، إن الفلسفة عميقة جدّاً إلى درجة أنها تُدْرِكُ أنّ الأدب أعمق منها كما يقول ميشال سير.

    Michel Serre, Eclaircissements, Ed. françois Bourin, 1992. P. 41./ 42.

    لقد ميّز هيدغرM. Heidegger بين الوجود أو الكينونة L'Être وبين الموجود L'étant، مُعْتَبِراً أن تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم، هو تاريخ نسيان الوجود. هذا النّسيان يستدركه الأدب وعلى الخصوص في الكتابة الرّوائية كما يقول ميلان كونديرا Milan Kundera في كتاب فن الرّواية L'art du roman فمع سيرفاتيس Cervantès يتم اكتشاف واستثمار كل أفكار هيدغر عن الوجود، ومن ثمة تتمظهر الفلسفة في الكتابة الأدبية التي تحتضن تحاليل هيدغر في كتاب الوجود والزّمان، في الوقت الذي نجد فيه غياب ونسيان الوجود في الكتابات الفلسفية والعلمية.

    أبرزت الرِّواية في أوروبا وأوضحت مسألة الوجود منذ أربعة قرون، وذلك بطريقتها الخاصّة، لقد اقتحمت أَشْكالاً وصيغاً متعدّدة للتعبير عن الوجود: فمع المُعاصرين لـ Cervantès يتم التّساؤل عن ماهية المُغامرة؛ ومع ريشاردسون Samuel Richardson يبدأ البحث عمّا "يجري في الدّاخل" أي كشف الحياة السِّرّية للأحاسيس الإنسانية؛ ومع بالزاك Balzac تتأصّل الرِّواية كاكتشاف لتجذُّر الإنسان في التّاريخ، وتجوب الرواية الفضاءات المجهولة للحياة اليومية مع Flaubert ،في الوقت الذي يكشف فيه تولستوي Tolstoï عن اللاعقلانية في القرارات والسلوكات الإنسانية، أمّا بروست Proust فيقف عند اللحظات المُتعذّرة والمنفلتة في الماضي وجيمس جويس James Joyce يبرز اللحظات المتعذّرة والمنفلتة في الحاضر، ويتساءل توماس مانThomas Mann عن دور الأساطير القديمة في حياتنا اليومية.

    Milan Kundera, «L’héritage décrié de cervantès», in. L’art du roman, Paris, Gallimard, 1986, P. 15.

    إنّ اكتشاف ما لا يمكن أن تكتشفه إلاّ الرّواية هو المبرّر الوحيد لوجودها كرواية.

    «Découvrir ce que seul un roman peut découvrir, c’est la seule raison d’être d’un roman». Milan Kundera.

    إن نسيان الوجود الذي يُلَخّص أزمة الفكر الغربي والفلسفة الغربيّة –كما يقول هيدغر- قد أزاحته الرّواية باعتناقها لموضوعات الوجود الكُبرى، وذلك من خلال معركتها طوال أربعة قرون ضد هفوات الفلسفة المتمثّلة في نسيان وإهمال الوجود. ومن ثمة صارت الرّواية "فَلْسَفَة"، باقتحامها مسألة الوجود L'Être وتشكِّل روايات كونديرا Kundera أروع مثال على ذلك باستنطاقها للقوى التي تقود الإنسان: التّقنية والسّياسة والتاّريخ.

    إن نشأة الرواية بالنسبة لكونديرا تصادف بداية الأزمنة المُعاصرة: أي اختفاء الاعتقاد بوجود حقيقة واحدة مُطْلَقَة وظهور النِّسْبِيّة، الشّك والتّعدّد والاختلاف ولا محدوديَّة المعرفة البشريّة، فالحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين.

    إن اعتبار الفلسفة أمّاً للعلوم، وأن العلوم والفنون ليست سوى تفرّعات للفلسفة هو اختزال للكتابة الفلسفية والأدبيّة على حدٍّ سواء؛ لقد كشفت الرواية اللاشعور قبل فرويد، والصِّراع الطّبقي قبل ماركس والفينومينولوجيا la phénoménologie قبل الفينومينوجيين.

    Milan Kundera, «Entretien sur l'art du roman», in. L’art du roman, Paris, Gallimard, 1986, P.46.

    إن وظيفة الفيلسوف والرِّوائي هي جعل الأشياء حاضرة، فَالمُؤَلَّف الرّوائي المُبْدِع يرتكز على فكرتين فلسفيّتين أو ثلاثة. فإما فكرة "الأنا" le Moi والحُرّية عند ستاندال Stendhal ، أو تَجَلٍّ لغرابة التّاريخ باعتباره معنى يَبْرُز في صدفة الأحداث عند بالزاك Balzac ، أو اعتبار الحاضر كغلاف يخفي الماضي أي أن الحاضر بالنّسبة له تجلّ للزّمن الضّائع لدى بروست Proust

    Maurice Merleau-Ponty, «Le roman et la métaphysique», in. Sens et non-sens, Paris, Ed. Nagel, Sixième édition, 1966, pp. 45 – 46.

    الرواية والفلسفة والموسيقى والشعر والسّياسة مجالات لا يمكن الفصل بينها، إلاّ في المؤسسات التربويّة المتخلّفة التي تؤسس وتُكَرّس القطيعة بين أشكال التعبير وبذلك تحكم على نفسها بالتّقوقع والهجانة. "خُذْ رواية مثلا، تجد فيها عناصر تاريخية، وعناصر نفسية وعناصر جغرافية، وعناصر اجتماعية، أحيانا في نفس الصفحة. فإذا بِكَ تتحول وأنت تقرأ هذه الصفحة، إلى مؤرّخ وجغرافي ومحلل نفسي أو نفساني وعاِلم اجتماع...قد يقول البعض: ما يجب أن نهتم به هو ما يسمّى بأدبية النص، الصيغة الأدبية للنص، وكفى، لكن ماذا سنفعل بالباقي؟

    إن المختصَّ نفسه يتحول عندما يدرس الأدب إلى متعدد الحِرَف bricoleur"

    ع.كيليطو، "مسألة القراءة"، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1993.

    باختصار شديد يمكن أن نعتبر أن كلّ نصٍّ كيفما كان، ينطوي صراحة أو ضمناً على نصوص مخالفة. إن مَوْطِن الفلسفة قد يكون هو الكتابة الروائية كما أن الفلسفة تُنْتِج بدورها شخصيّات مَفْهومِيّة لا تقلّ أهمية عن الشّخصيات الروائية رغم اختلافها عنها. "فالفلسفة لا تكفّ عن إحياء شخصيات مفهومية وعن منحها الحياة".

    Gilles. Deleuze, QU’EST-CE QUE LA PHILOSOPHIE?, Ed. De Minuit. 1991.

    الشخصيات المفهومية، كما عند أفلاطون ونتشه أو سواهما ليست تشخيصات أسطورية، وليست أشخاصاً تاريخية وليست أبطالا أدبية أو روائية. ليس ديونيزوس نتشه هو عينه ديونيزوس الأساطير، كما أن سقراط الذي يريدُه أفلاطون ليس هو سقراط التاريخ. فالصيرورة ليست الكينونة، بل إن ديونيزوس يغدو الفيلسوف، وفي الوقت عينه يغدو نتشه هو ديونيزوس. هنا يبدأ أفلاطون كمآل لسقراط، في الوقت الذي يجعل من سقراط فيلسوفا.

    إن المشترك بين الرواية والفلسفة هو أنهما معاً دفاع عن الحياة، والأدباء الكبار هم دائماً فلاسفة كبار، كما يقول جيل دولوز.

    Abécédaire de Gilles Deleuze, la lettre «L» comme «littérature»)

    لقد كان رونوفيي Renouvier الفيلسوف الكبير الذي سلَّط الضّوء على الحضور الفلسفي في كتابات فيكتور هوجو Victor Hugo، وفلاسفة من مختلف المشارب كلويس ديمينيي Loui Diminier ومايرسون Meyerson الذين أكّدوا الإحالات الرّفيعة في كتابات لافونتين La Fontaine للفلسفة الدّيكارتية، أمّا لانسون Gustave Lanson فقد أبرز علاقات القرابة بين الأخلاق لدى كورنيي Corneille وأفكار القرن السابع عشر. محاولات مختلفة ومتعدّدة تبين أن أفكار عصر ما تجد لها موطناً في وعي فنان وتُوَجِّهه أحياناً، فالعلاقة وطيدة بين الفلسفة والشِّعْر عند دانتي Dante، وهي العلاقة نفسها بين بالزاك والفلسفة الذي كان له وعي مستمر أو إرادة في أن يُصبح فيلسوفاً.

    Ramon Fernandez, «La philosophie de Balzac», in Balzac ou l’envers de la création romanesque, Paris, Ed. Bernard Grasset, 1980.P. 47-48.

    إن ما يهم في الأدب، ليس هو كون الرّواية تعكِس واقعاً اجتماعيّاً؛ إن ما يميّز العمل الأدبي، كالرِّواية على سبيل المثال، هو كونه يقوم بما يمكن أن نطلق عليه محاكاة اللّغات. مما يتولّد عنه أن الأدب، أو الرواية، عندما تُقدّم نفسها ككتابة أدبية، فهي تنسخ الكتابة الأدبية السّابقة عليها. إن الأدب لا يوجد إلاّ انطلاقاً من تَحْوِيل يُسَمّى في العادة لُغة. والمُؤَلِّف لا وجود له إلاّ لحظة الإنتاج وليس قَطّ لحظة ينتهي الإنتاج، يقول رولان بارط: "فعندما أنتهي من مُؤَلَّف ونشره، لا يكون لديّ ما أقوله عنه بعد ذلك. إِنَّني أنفصل عنه، ولا تربطني به بعد ذلك روابط التَّسْيير أو المِلْكِيَّة. إلاّ أن هذه هي اللحظة التي يختارها المجتمع ليطلب منّي الحديث عنه". R. B.

    يعتقد البعض أن الأدب والفلسفة يشكلان تخصصين منفصلين، هذا الاعتقاد ينبني على أساس فهم سطحي للأدب وجهل تام بالفلسفة.

    لكن كيف يمكن أن نفصل مثلا بين الفلسفة الوجودية والمسرح أو الرواية عند جان بول سارتر وألبير كامو؟ ألا يطرح النقاد الكبار في الغرب صعوبة التمييز بخصوص نصوص نتشه: هل تنتمي إلى الأدب أم إلى الفلسفة؟ من يستطيع أن يفصل بين الأدب والفلسفة في أعمال كونديرا؟ ولنرجع إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو... من يستطيع القول إن الفيلسوف الإغريقي أفلاطون لم يكن فنّانا كبيرا وأديبا عظيما أرسى دعائم نظرية في الأدب؛ كيف يمكن أن ندعي المعرفة بالأدب دون التعرف على نظرية المحاكاة الأفلاطونية؟

    ثم ما معنى أن يهتم هيدغر Heideggerفيلسوف الوجود بالشاعر هولدرلين derlinHöl، ويكتب جيل دولوز عن Proust أو عن LawrenceوMelville...

    وماذا نقول عندما نجد الأديب والشاعر يجعل من شعره أداة للتعبير عن مفاهيم فلسفية؟

    كيف يمكن أن نتجاهل أن الفلسفة هي قبل كل شيء كتابة، أسلوب، يقول جيل دولوز، إنه لمن الغريب أن نعتبر أن الفلاسفة ليست لهم أساليب أو أن أساليبهم ركيكة، ربما نقول ذلك لأننا لا نقرأ كتاباتهم. إذا أخذنا على سبيل الحصر الفلاسفة الفرنسيين: ديكارت Descartes مالبرانش Malebranche، مين دو بيران Maine de biranبرغسون Bergson، بل حتى أوغست كونت Auguste comte، نجد أن لهم جميعا أساليب وإيقاعات رائعة. .G. D.

    2- الجسد

    Le corps est phénomène multiple, étant composé d’une pluralité de forces irréductibles; son unité est celles d’un phénomène multiple, «unité de domination». Dans un corps, les forces supérieures ou dominantes sont dites actives, les forces inférieures ou dominées sont dites réactives. G. D. Nietzsche et la philosophie, P. 45

    لا وجود للجسد خارج اللغة التي تعبر عنه، والتي يعبر هو من خلالها وعبرها. فالجسد يسكن اللغة، وبالتالي فإن أصحاب الأنساق الفلسفية والدينية، والشعراء، والمفكرين... هم المسؤولون عن هذا المسكن.

    إذا كان الجسد يسكن اللغة، ووجوده رهين بها، فإننا لايمكن أن نتحدث عنه إلا في إطار مرجعية معينة، أي داخل ثقافة ما

    يقول جيل دولوز: لقد فتح سبينوزا طريقا جديدة للعلوم والفلسفة؛ وكان يقول: نحن لا نعرف حتى ما يستطيعه الجسد؛ إننا نتحدث عن الوعي، وعن الروح، ونثرثر حول كل هذا، لكننا لا نعرف ما يقدر عليه الجسد، وما هي قواه.. G. D. Nietzsche et la philosophie. P. 44.

    »كنت أكتب في كل وقت بكل جسدي وكل حياتي، فما كنت أعرف أبدا ما هي المشكلات الذهنية الخالصة «.فريدريك نتشه.

    »كل الحقائق بالنسبة لي هي حقائق الدم «

    نتشه يقوم بتقويض التقليد الميتافيزيقي واللاهوتي الذي أسس وطور التمييز بين الجسد والروح، إننا بالنسبة لنتشه لا نفكر بعقولنا إنما:

    »كل الجسد يفكر، كل التشكيلات العضوية تساهم في التفكير وفي الإحساس، وفي الإرادة، وبالتالي فإن الدماغ ليس سوى جهازا للمركزة «

    Il est admi ici que tout l’organisme pense, que toute les formations organique participent au penser, au sentir, au vouloir, et en conséquence, que le cerveau et selement un enorme appareil de concentration. F. N. Fragements, P. 40.

    نتشه يسمي شكل وحياة الإنسان: جسده. غير أنه لا ينظر إلى هذا الجسد من الزاوية التشريحية، ولا باعتباره جثة، إنما الجسد باعتباره مجموعة من الوظائف الحية اللاواعية التي تؤطرنا. وفي مقابل هذا الجسد فإن ما يسمى بالوعي إنما هو شيء فقير وضيق.

    »كم هو ضعيف وعينا، إنه وسيلة، وفي مقابل الإنتاجات الهائلة للاوعي فهو ليس وسيلة ضرورية. والدماغ هو عضو أقل تطورا من الأعضاء الأخرى، إنه العضو الذي تَكَوَّن متأخِّرا فكل وعي ليس له إلا أهمية ثانوية«.

    F. N. Inédit du temps du renversement. P.82/ 83.
    تاج العروبة (الفوهرر)
    تاج العروبة (الفوهرر)
    فيلسوف ثمار الأوراق
    فيلسوف ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 598
    العمر : 40
    الموقع : العراق
    العمل/الترفيه : خريج كليه الاداب - قسم الفلسفة
    المزاج : الارادة مفتاح النصر
    نقاط : 104
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين Empty الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين - الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف تاج العروبة (الفوهرر) الخميس أكتوبر 23, 2008 7:28 am

    الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين - الجزء الثاني



    فالوعي بالنسبة لنتشه ثانوي وليس له أهمية، إنه مثل فرويد يؤكِّد على اللاوعي. إلاّ أن الفرق بينهما هو أن نتشه يعتبر أن فضاء اللاوعي هو الجسد الذي يحمل معتقدات وأفكار وتصورات، ويعتبر نتشه أن: »الاعتقاد بالجسد أقوى بكثير من الاعتقاد بالذهن. «

    La croyance dans le corps est à bon droit une croyance plus forte que la croyance dans l’esprit.

    F.N. Ecco Homo, P. 44.

    إذا كان الجسد يحمل معتقدات وتصورات ومفاهيم، فإنه كما يقول نتشه (عقل)، «عقل عظيم» أمام ما سماه الفلاسفة عقلا، إنه ليس سوى وسيلة للجسد:

    »الجسد "عقل عظيم" حيث العقل ليس سوى وسيلة له «

    Le corps est la «GRANDE RAISON» dont la petite raison est seulement l’instrument. Ainsi parlait Zarathoustra, P. 46.

    إذا كان الوعي متخلفا وضعيفا وضيقا، أي أنه مجرد وسيلة يستعملها الجسد للوصول إلى أهدافه، فإننا تبعا لذلك إذا أردنا أن ندرس شعبا ما أو ننظر في وضع الإنسانية قاطبة، يلزم أن نبدأ البحث عن الثقافة من المنطلق الصحيح، من المكان المناسب: أي الجسد.

    Ce qui décide du sort des peuples et de l’humanité est de commencer la culture à l’endroit juste... sur le corps. Les attitudes, le régime physique, la physiologie le reste en découle.

    F. N. Le cas Wagner, 1888, P. 161.

    إن الإنسان إذن ليس عقلا يتحكم في جسم، بل هو جسم يستعمل العقل كأداة طيعة للوصول إلى أهدافه الغريزية. إذا كان الجسم سليما متصالحا مع الحياة، فإن «العقل» يشتغل في اتجاه طبيعي ويكون إنتاج العقل مطابقا لأهداف الحياة. وإذا كان الجسم سقيما فإن العقل يشتغل في اتجاه مضاد للطبيعة، وينتج إنتاجا زائفا. إن الثقافة الحقيقية هي التي تخضع للحياة، وتخدم الجسد، أما ما يسمىَّ بالثقافة منذ ألفي سنة فهي فاسدة خادعة لأنها لم تفتأ تتنكر لقانون الحياة، للجسد ومتطلباته.

    La tâche de la philosophie moderne a été définie: renversement du platonisme.

    Gilles Deleuze, Différence et répétition, ed. P. U. F. 1981. P. 82.

    تقوم الفلسفة الأفلاطونية على التمييز بين الجوهر والمظهر، المعقول والمحسوس، الفكرة والصورة، الأصل والنسخة النموذج والتقليد simulacre، أي الـمُثُل والمحاكاة.

    G.D. LOGIQUE DU SENS, Ed. de Minuit, 1969. P. 292.



    3- لقد وجه نتشه معاوله النقدية للثقافة الغربية مبرزا أن أهم مميزاتها هي العدمية، أي أنها تعدم، وتحتقر الجسد والحياة، وتمجد الروح والعقل و»القيم السامية».وقد اعتبر أن المسؤول على هذه العدمية هو سقراط وأفلاطون. هذان المؤسسان للفلسفة انشغالا باللوغوس (العقل) وتحديد مجاله، وإبراز خصائصه ومميزاته، ثم دوره ووظيفته...الخ واعتبرا أن تطوير اللوغوس يفترض التخلص من الجسد وشهواته ورغباته. كما لاحظ نتشه أن الفلسفة قبل السقراطية لم تكن تعرف هذا التمييز بين الجسد والعقل، وأنها كانت تُمَجِّدُ الحياة لذلك كان نتشه يريد أن تعود هذه الفلسفة:

    «أريد أن تعود الفلسفة، كما كانت من قبل في المرحلة قبل السقراطية». هذا الحلم - أنظر:

    SARAH KOFMAN, Nietzsche et la scène philosophique, ed.10/18, Paris 1979, p. 23

    الأمر الذي لم يتعب نتشه من ترديده: عودة حضارة مماثلة للحضارة التي أنتجت الفلسفة قبل سقراط. هنا يتعلق بإرادة VLONTE إرادة عودة هؤلاء الفلاسفة العِظام: طاليس وهرقليطس وديموقريط وغيرهم. إن عودتهم الأَبَدِيَّة هي الخلاص من عالمنا المريض، هي المنقذ من الهذيان المرضي الذي تضج به حضارتنا(نفس المرجع): ص. 26/25.

    يربط نتشه عودة الفلاسفة قبل السقراطيين، بعودة حضارتهم، فالفلسفة ينبغي أن تبدأ في وقت محدد: أي عندما يتم التصالح بين الفكر والجسد، وينبغي أن تتوقف عندما يبدأ الحقد على الحياة وازدرائها:

    «ليس من المفروض أن نبدأ (بالتفلسف) حين نكون تعساء، (...) بل بالعكس، يجب أن نتفلسف حين نكون سعداء، في مقتبل العمر... إن هذه اللحظة بالذات هي التي بدأ معها الإغريق بالتفلسف، تعلمنا ما هي الفلسفة وما يجب أن تكون، بقدر ما تعلمنا حول الإغريق أنفسهم. وعلينا أن نَحْذُو حذوهم (أي الإغريق) في التَّعَلُّم من جيراننا واضعين المعرفة المكتسبة في خدمة الحياة، وليس في خدمة المعرفة الموسوعية التي ننطلق منها دائما للتَّعالي عن الجار»

    فريدرك نتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة، د.سهيل القش، المؤسسة الجامعية و النشر والتوزيع، ط. الأولى، 1981، ص.39..



    «يبدو لي أن هؤلاء الحكماء القدامى، من طاليس إلى سقراط، قد قالوا خلال هذا الحوار كل ما يحدد في أعيننا سجية الإغريق، حتى ولو عبروا عن ذلك بكثير من العمومية» ص..42.

    «إن لدى الشعب الإغريقي حكماء، في حين أن لدى شعوب أخرى قديسين» نفس الصفحة.

    «إن الحضارة الإغريقية هي وحدها القادرة على أن تمنح الفلسفة بشكل عام شرعيتها...إن الإغريق يمنحون وجود الفيلسوف شرعيته، لأنهم الوحيدون الذين لا يكون الفيلسوف في نظرهم مُذْنِبا«

    يحق لنا الآن أن نتساءل عن السر الذي جعل نتشه يريد عودة الفلسفة قبل السقراطية، مؤكدا بذلك أهميتها، بل ضرورتها لانقاد الحضارة الأوروبية «المريضة» والخلاص من الهذيان المرضي الذي تتخبط فيه.

    بل يحق لنا أن نعترض عليه، بدعوى أن هذه الفلسفة لم تجلب من الحقائق ما جلبته الفلسفة بعد سقراط، وأكثر من ذلك أن هذه لم يبق منها غير شذرات قليلة.. لماذا إذن هذا التعلق بالفلسفة قبل السقراطية؟

    على خلاف هيغل الذي يرى أن أهم ما ينبغي الاحتفاظ به من تاريخ الفلسفة هو حقائقها، يرى نتشه بأنه عندما تفقد الأنساق الفلسفية قيمتها العلمية، وتتلاشى حقائقها أمام الاكتشافات الجديدة، فإن ما يبقى هو جَمَالُ هذه الأنساق وَرَوْعَتها. ينبغي أن نقرأ الفلسفة كما نقرأ إبداعا فنيا وليس بما تحتويه من معارف ومعلومات كما يذهب إلى ذلك هيغل.

    أين يكمن إذن جمال وروعة الفلسفة قبل السقراطية؟ يجيب نتشه بأن جمال الفلسفة قبل السقراطية، يكمن في أن الفلاسفة اليونان قد أتاحوا للحياة آفاقا واسعة، كان زواج الفلسفة والحياة عُرسا رائعا.

    الفلاسفة قبل السقراطيين أعطوا قيمة للحياة، كان بالنسبة لهم الفكر في خدمة الحياة، فكرهم توجًه نحو اكتشاف إمكانات جديدة وخصبة للحياة، والحياة كانت بالنسبة لهم تُدعم الفكر وتمنحه المصداقية والشرعية.

    الفكر والحياة (بالنسبة للفلاسفة قبل السقراطيين) يخدم الواحد منهما الآخر. ولهذا ينبغي أن نتخذ هؤلاء الفلاسفة أساتذة لنا، ينبغي أن نحبهم، ينبغي أن نريد نرغب في مرة أُخرى:

    Gilles Deleuze, Nietzsche, ed. P.U.F, p. 20.

    يأتي سقراط وأفلاطون، ليحققا انقلابا على هذه المرحلة، فالمرحلة السقراطية-الأفلاطونية، هي بداية عهد العدمية، أي إعدام الحياة وازدراء الجسد باسم القيم السامية، الإلهية، الخالصة.

    إن تقهقر الفلسفة-كما يذهب نتشه إلى ذلك-يظهر بوضوح مع سقراط، فإذا عرَّفنا الميتافيزيقا بأنها التمييز بين عالمين، وبالتعارض بين الجسد والروح، بين الحقيقة والخطأ، بين الجوهر والمظهر، بين المحسوس والمعقول... فينبغي القول إن سقراط هو مؤسس الميتافيزيقا. إنه يجعل من الحياة شيئا ينبغي محاكمته، وقياسه، ووضع حد له، ويجعل من الفكر أداة للقياس، ولوضع حد: مع سقراط يظهر نمط الفيلسوف الخاضع إراديا.

    ولننظر إلى تاريخ الفلسفة من سقراط إلى كنط، هيغل وماركس... نجد أنه تاريخ للميتافيزيقا: تاريخ احتقار الجسد وتمجيد الروح، تاريخ صنع المثُل والخضوع لها.

    إن ربط الفكر بالحياة، وجعله عُرسا واحتفالا بها، هو ما دفع نتشه لاعتبار أنه لا يمكن تعلم الفلسفة حيث يكون التفكير منحطا، أي غير قادر على رؤية الجمال والفتنة.

    «Il est impossible d’enseigner la vérité là où la manière de penser est basse»

    K. Jaspers. Nietzsche introduction à sa philosophie, ed. Gallimard, 1950. P. 28.

    إن نتشه يعتبر أن قراءة كتاباته هي امتياز يجب استحقاقُه، لذلك فهو يضع سياجا حول أفكاره التي يعتبرها حديقة غناء، حتى لا يرفسها الخنازير والمسعورين. (نفس المرجع السابق).

    إنه يخشى من القراء المعجبين الكسالى. فليس لكل من هب ودب الحق في قراءة مؤلفاته؛ خاصة الذين يقرءون الكتب كما يقرءون الجرائد، فالكتابة النتشوية ليست عقيدة، أو مذهبا فكريا يمكن أن ندرجه في تاريخ الأنساق والمذاهب، إنه من خلال كتاباته يُعلن تأويلا لحياته الخاصة وتجاربه الفردية، ولذلك فهو لا يريد أتباعا ولا تلاميذ. بل ينصح قارئه المعجب بلغته وأسلوبه، والذي يريد أن يتبعه خطوة خطوة.. بأن لا يفعل ذلك، حتى يكون مخلصا لحياته الخاصة، وتجاربه الفردية وهكذا فقط يمكنه أن يسير على مهل حثتا على خطى نتشه.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 14, 2024 9:55 pm