الحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين - الجزء الاول
إن العلوم والآداب في مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري تكون مترابطة ومتداخلة فيما بينها تداخلا عضويا، مثل الكائن الحي إذا بُتِر عضو منه يصبح مشوها بكامله، كما حدث عند إلغاء الفلسفة والعلوم الاجتماعية والفكر الإسلامي من الجامعة المغربية، تضرر تاريخ الأدب والنقد الأدبي وكذلك التاريخ..إلخ، فلا بد مثلا من سوسيولوجية الأدب وفلسفة النقد وفلسفة التاريخ، فالعلوم تلتقي وتفترق كالشاطئ littoral الذي هو في آن مكان الالتقاء ومكان الافتراق بين البَر والبحر.
إن الفلسفة لا تحيى داخل الكتابة الفلسفية فقط بل إنها تتأصّل في الكتابة الشّعرية والرّوائية وغيرها... فقد نجد أعمق أشكال التّعبير الفلسفي في صياغة حكاية سَرْدِيَّة صغيرة، إن الفلسفة عميقة جدّاً إلى درجة أنها تُدْرِكُ أنّ الأدب أعمق منها كما يقول ميشال سير.
Michel Serre, Eclaircissements, Ed. françois Bourin, 1992. P. 41./ 42.
لقد ميّز هيدغرM. Heidegger بين الوجود أو الكينونة L'Être وبين الموجود L'étant، مُعْتَبِراً أن تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم، هو تاريخ نسيان الوجود. هذا النّسيان يستدركه الأدب وعلى الخصوص في الكتابة الرّوائية كما يقول ميلان كونديرا Milan Kundera في كتاب فن الرّواية L'art du roman فمع سيرفاتيس Cervantès يتم اكتشاف واستثمار كل أفكار هيدغر عن الوجود، ومن ثمة تتمظهر الفلسفة في الكتابة الأدبية التي تحتضن تحاليل هيدغر في كتاب الوجود والزّمان، في الوقت الذي نجد فيه غياب ونسيان الوجود في الكتابات الفلسفية والعلمية.
أبرزت الرِّواية في أوروبا وأوضحت مسألة الوجود منذ أربعة قرون، وذلك بطريقتها الخاصّة، لقد اقتحمت أَشْكالاً وصيغاً متعدّدة للتعبير عن الوجود: فمع المُعاصرين لـ Cervantès يتم التّساؤل عن ماهية المُغامرة؛ ومع ريشاردسون Samuel Richardson يبدأ البحث عمّا "يجري في الدّاخل" أي كشف الحياة السِّرّية للأحاسيس الإنسانية؛ ومع بالزاك Balzac تتأصّل الرِّواية كاكتشاف لتجذُّر الإنسان في التّاريخ، وتجوب الرواية الفضاءات المجهولة للحياة اليومية مع Flaubert ،في الوقت الذي يكشف فيه تولستوي Tolstoï عن اللاعقلانية في القرارات والسلوكات الإنسانية، أمّا بروست Proust فيقف عند اللحظات المُتعذّرة والمنفلتة في الماضي وجيمس جويس James Joyce يبرز اللحظات المتعذّرة والمنفلتة في الحاضر، ويتساءل توماس مانThomas Mann عن دور الأساطير القديمة في حياتنا اليومية.
Milan Kundera, «L’héritage décrié de cervantès», in. L’art du roman, Paris, Gallimard, 1986, P. 15.
إنّ اكتشاف ما لا يمكن أن تكتشفه إلاّ الرّواية هو المبرّر الوحيد لوجودها كرواية.
«Découvrir ce que seul un roman peut découvrir, c’est la seule raison d’être d’un roman». Milan Kundera.
إن نسيان الوجود الذي يُلَخّص أزمة الفكر الغربي والفلسفة الغربيّة –كما يقول هيدغر- قد أزاحته الرّواية باعتناقها لموضوعات الوجود الكُبرى، وذلك من خلال معركتها طوال أربعة قرون ضد هفوات الفلسفة المتمثّلة في نسيان وإهمال الوجود. ومن ثمة صارت الرّواية "فَلْسَفَة"، باقتحامها مسألة الوجود L'Être وتشكِّل روايات كونديرا Kundera أروع مثال على ذلك باستنطاقها للقوى التي تقود الإنسان: التّقنية والسّياسة والتاّريخ.
إن نشأة الرواية بالنسبة لكونديرا تصادف بداية الأزمنة المُعاصرة: أي اختفاء الاعتقاد بوجود حقيقة واحدة مُطْلَقَة وظهور النِّسْبِيّة، الشّك والتّعدّد والاختلاف ولا محدوديَّة المعرفة البشريّة، فالحكمة عند الإنسان الأوروبي هي انفلاته من اليقين.
إن اعتبار الفلسفة أمّاً للعلوم، وأن العلوم والفنون ليست سوى تفرّعات للفلسفة هو اختزال للكتابة الفلسفية والأدبيّة على حدٍّ سواء؛ لقد كشفت الرواية اللاشعور قبل فرويد، والصِّراع الطّبقي قبل ماركس والفينومينولوجيا la phénoménologie قبل الفينومينوجيين.
Milan Kundera, «Entretien sur l'art du roman», in. L’art du roman, Paris, Gallimard, 1986, P.46.
إن وظيفة الفيلسوف والرِّوائي هي جعل الأشياء حاضرة، فَالمُؤَلَّف الرّوائي المُبْدِع يرتكز على فكرتين فلسفيّتين أو ثلاثة. فإما فكرة "الأنا" le Moi والحُرّية عند ستاندال Stendhal ، أو تَجَلٍّ لغرابة التّاريخ باعتباره معنى يَبْرُز في صدفة الأحداث عند بالزاك Balzac ، أو اعتبار الحاضر كغلاف يخفي الماضي أي أن الحاضر بالنّسبة له تجلّ للزّمن الضّائع لدى بروست Proust
Maurice Merleau-Ponty, «Le roman et la métaphysique», in. Sens et non-sens, Paris, Ed. Nagel, Sixième édition, 1966, pp. 45 – 46.
الرواية والفلسفة والموسيقى والشعر والسّياسة مجالات لا يمكن الفصل بينها، إلاّ في المؤسسات التربويّة المتخلّفة التي تؤسس وتُكَرّس القطيعة بين أشكال التعبير وبذلك تحكم على نفسها بالتّقوقع والهجانة. "خُذْ رواية مثلا، تجد فيها عناصر تاريخية، وعناصر نفسية وعناصر جغرافية، وعناصر اجتماعية، أحيانا في نفس الصفحة. فإذا بِكَ تتحول وأنت تقرأ هذه الصفحة، إلى مؤرّخ وجغرافي ومحلل نفسي أو نفساني وعاِلم اجتماع...قد يقول البعض: ما يجب أن نهتم به هو ما يسمّى بأدبية النص، الصيغة الأدبية للنص، وكفى، لكن ماذا سنفعل بالباقي؟
إن المختصَّ نفسه يتحول عندما يدرس الأدب إلى متعدد الحِرَف bricoleur"
ع.كيليطو، "مسألة القراءة"، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1993.
باختصار شديد يمكن أن نعتبر أن كلّ نصٍّ كيفما كان، ينطوي صراحة أو ضمناً على نصوص مخالفة. إن مَوْطِن الفلسفة قد يكون هو الكتابة الروائية كما أن الفلسفة تُنْتِج بدورها شخصيّات مَفْهومِيّة لا تقلّ أهمية عن الشّخصيات الروائية رغم اختلافها عنها. "فالفلسفة لا تكفّ عن إحياء شخصيات مفهومية وعن منحها الحياة".
Gilles. Deleuze, QU’EST-CE QUE LA PHILOSOPHIE?, Ed. De Minuit. 1991.
الشخصيات المفهومية، كما عند أفلاطون ونتشه أو سواهما ليست تشخيصات أسطورية، وليست أشخاصاً تاريخية وليست أبطالا أدبية أو روائية. ليس ديونيزوس نتشه هو عينه ديونيزوس الأساطير، كما أن سقراط الذي يريدُه أفلاطون ليس هو سقراط التاريخ. فالصيرورة ليست الكينونة، بل إن ديونيزوس يغدو الفيلسوف، وفي الوقت عينه يغدو نتشه هو ديونيزوس. هنا يبدأ أفلاطون كمآل لسقراط، في الوقت الذي يجعل من سقراط فيلسوفا.
إن المشترك بين الرواية والفلسفة هو أنهما معاً دفاع عن الحياة، والأدباء الكبار هم دائماً فلاسفة كبار، كما يقول جيل دولوز.
Abécédaire de Gilles Deleuze, la lettre «L» comme «littérature»)
لقد كان رونوفيي Renouvier الفيلسوف الكبير الذي سلَّط الضّوء على الحضور الفلسفي في كتابات فيكتور هوجو Victor Hugo، وفلاسفة من مختلف المشارب كلويس ديمينيي Loui Diminier ومايرسون Meyerson الذين أكّدوا الإحالات الرّفيعة في كتابات لافونتين La Fontaine للفلسفة الدّيكارتية، أمّا لانسون Gustave Lanson فقد أبرز علاقات القرابة بين الأخلاق لدى كورنيي Corneille وأفكار القرن السابع عشر. محاولات مختلفة ومتعدّدة تبين أن أفكار عصر ما تجد لها موطناً في وعي فنان وتُوَجِّهه أحياناً، فالعلاقة وطيدة بين الفلسفة والشِّعْر عند دانتي Dante، وهي العلاقة نفسها بين بالزاك والفلسفة الذي كان له وعي مستمر أو إرادة في أن يُصبح فيلسوفاً.
Ramon Fernandez, «La philosophie de Balzac», in Balzac ou l’envers de la création romanesque, Paris, Ed. Bernard Grasset, 1980.P. 47-48.
إن ما يهم في الأدب، ليس هو كون الرّواية تعكِس واقعاً اجتماعيّاً؛ إن ما يميّز العمل الأدبي، كالرِّواية على سبيل المثال، هو كونه يقوم بما يمكن أن نطلق عليه محاكاة اللّغات. مما يتولّد عنه أن الأدب، أو الرواية، عندما تُقدّم نفسها ككتابة أدبية، فهي تنسخ الكتابة الأدبية السّابقة عليها. إن الأدب لا يوجد إلاّ انطلاقاً من تَحْوِيل يُسَمّى في العادة لُغة. والمُؤَلِّف لا وجود له إلاّ لحظة الإنتاج وليس قَطّ لحظة ينتهي الإنتاج، يقول رولان بارط: "فعندما أنتهي من مُؤَلَّف ونشره، لا يكون لديّ ما أقوله عنه بعد ذلك. إِنَّني أنفصل عنه، ولا تربطني به بعد ذلك روابط التَّسْيير أو المِلْكِيَّة. إلاّ أن هذه هي اللحظة التي يختارها المجتمع ليطلب منّي الحديث عنه". R. B.
يعتقد البعض أن الأدب والفلسفة يشكلان تخصصين منفصلين، هذا الاعتقاد ينبني على أساس فهم سطحي للأدب وجهل تام بالفلسفة.
لكن كيف يمكن أن نفصل مثلا بين الفلسفة الوجودية والمسرح أو الرواية عند جان بول سارتر وألبير كامو؟ ألا يطرح النقاد الكبار في الغرب صعوبة التمييز بخصوص نصوص نتشه: هل تنتمي إلى الأدب أم إلى الفلسفة؟ من يستطيع أن يفصل بين الأدب والفلسفة في أعمال كونديرا؟ ولنرجع إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو... من يستطيع القول إن الفيلسوف الإغريقي أفلاطون لم يكن فنّانا كبيرا وأديبا عظيما أرسى دعائم نظرية في الأدب؛ كيف يمكن أن ندعي المعرفة بالأدب دون التعرف على نظرية المحاكاة الأفلاطونية؟
ثم ما معنى أن يهتم هيدغر Heideggerفيلسوف الوجود بالشاعر هولدرلين derlinHöl، ويكتب جيل دولوز عن Proust أو عن LawrenceوMelville...
وماذا نقول عندما نجد الأديب والشاعر يجعل من شعره أداة للتعبير عن مفاهيم فلسفية؟
كيف يمكن أن نتجاهل أن الفلسفة هي قبل كل شيء كتابة، أسلوب، يقول جيل دولوز، إنه لمن الغريب أن نعتبر أن الفلاسفة ليست لهم أساليب أو أن أساليبهم ركيكة، ربما نقول ذلك لأننا لا نقرأ كتاباتهم. إذا أخذنا على سبيل الحصر الفلاسفة الفرنسيين: ديكارت Descartes مالبرانش Malebranche، مين دو بيران Maine de biranبرغسون Bergson، بل حتى أوغست كونت Auguste comte، نجد أن لهم جميعا أساليب وإيقاعات رائعة. .G. D.
2- الجسد
Le corps est phénomène multiple, étant composé d’une pluralité de forces irréductibles; son unité est celles d’un phénomène multiple, «unité de domination». Dans un corps, les forces supérieures ou dominantes sont dites actives, les forces inférieures ou dominées sont dites réactives. G. D. Nietzsche et la philosophie, P. 45
لا وجود للجسد خارج اللغة التي تعبر عنه، والتي يعبر هو من خلالها وعبرها. فالجسد يسكن اللغة، وبالتالي فإن أصحاب الأنساق الفلسفية والدينية، والشعراء، والمفكرين... هم المسؤولون عن هذا المسكن.
إذا كان الجسد يسكن اللغة، ووجوده رهين بها، فإننا لايمكن أن نتحدث عنه إلا في إطار مرجعية معينة، أي داخل ثقافة ما
يقول جيل دولوز: لقد فتح سبينوزا طريقا جديدة للعلوم والفلسفة؛ وكان يقول: نحن لا نعرف حتى ما يستطيعه الجسد؛ إننا نتحدث عن الوعي، وعن الروح، ونثرثر حول كل هذا، لكننا لا نعرف ما يقدر عليه الجسد، وما هي قواه.. G. D. Nietzsche et la philosophie. P. 44.
»كنت أكتب في كل وقت بكل جسدي وكل حياتي، فما كنت أعرف أبدا ما هي المشكلات الذهنية الخالصة «.فريدريك نتشه.
»كل الحقائق بالنسبة لي هي حقائق الدم «
نتشه يقوم بتقويض التقليد الميتافيزيقي واللاهوتي الذي أسس وطور التمييز بين الجسد والروح، إننا بالنسبة لنتشه لا نفكر بعقولنا إنما:
»كل الجسد يفكر، كل التشكيلات العضوية تساهم في التفكير وفي الإحساس، وفي الإرادة، وبالتالي فإن الدماغ ليس سوى جهازا للمركزة «
Il est admi ici que tout l’organisme pense, que toute les formations organique participent au penser, au sentir, au vouloir, et en conséquence, que le cerveau et selement un enorme appareil de concentration. F. N. Fragements, P. 40.
نتشه يسمي شكل وحياة الإنسان: جسده. غير أنه لا ينظر إلى هذا الجسد من الزاوية التشريحية، ولا باعتباره جثة، إنما الجسد باعتباره مجموعة من الوظائف الحية اللاواعية التي تؤطرنا. وفي مقابل هذا الجسد فإن ما يسمى بالوعي إنما هو شيء فقير وضيق.
»كم هو ضعيف وعينا، إنه وسيلة، وفي مقابل الإنتاجات الهائلة للاوعي فهو ليس وسيلة ضرورية. والدماغ هو عضو أقل تطورا من الأعضاء الأخرى، إنه العضو الذي تَكَوَّن متأخِّرا فكل وعي ليس له إلا أهمية ثانوية«.
F. N. Inédit du temps du renversement. P.82/ 83.