القول المأثور في إحياء الصواب المهجور (5)
يؤكد الراسخون الذابرون في العلم بأسرار العربية أن الخطأ إذا بَدَا فَشَا، وإذا شاع انتشر في جسد اللغة انتشار النار في الهشيم، Kaul_opt.jpeg لا يُبْقي لها من الصفاء والنصاعة إلا ما يبقيه الوشم في ظاهر اليد، وهي وضعية أخْلِقْ بِها إنِ استحكمت في أمة من الأمم أن تدفع بها إلى دَرَكاتِ الخمول والانطواء والتجاهل، حتى لا تجد من يتواصل معها بلغتها، لأنها تساهلت في هجر كلماتها وتمادت في إشاعة اللحن، الذي يدخل الضيم على ما تقوله تلك الألفاظ والعبارات، التي ليس للمنطق فيها ظِلٌّ ولا شخص، ولا للسلامة عِرْق نابض، لأنها هائمة في أودية من الفساد، لا يَفْتُر هديرها حتى تترك أرض اللغة بَلْقعًا، لا تنفع معها عمليات الحرث والبَذر التي تَظهر هنا وهناك. وإذا كانت العربية الفصحى في مَنْجاةٍ عن هذه الحالة التي انتهت إليها كثير من لغات الشعوب الضعيفة المغلوبة، لأن القرآن الكريم نزل بها حقًّا ليس لِأحَدٍ أن يدفعه أو ينال منه، فهو على الدوام حارسُها الأمين الذي ظل يرمي بالشُّواظ الماحق، وبالحُجَّة المُخْرسة كل محاولات الهدم والتبديل والتغيير.. فإن التساهل الملحوظ في مجتمعاتنا اللغوية العربية بالنسبة إلى الصحة اللغوية، بدأ يُلوِّث الأجواء بِرَطاناتٍ ينتشر بَوْغاؤهَا انتشار البرق، حتى اقترب أن يضع على الأعين غشاوة تجعلنا مع توالي الأجَدَّان لا نستبين حقيقة ما تقوله كلماتنا الفصيحة، التي كانت تجري رسْلاتٍ على ألسنة الأولين، الذين كانوا يربطون الرِّبْح في التجارة بالسلامة اللغوية، ولذلك رُوِي عن أبي عمرو بن العلاء أنَّه مَرَّ بِأعدالٍ مَطروحَةٍ، عليها مَكتوبٌ: (لِأبُو فُلانٍ) فقال: «يا رب يلحنون ويُرزقون !» وفي رواية أخرى: يلحنون ويربحون! وقال أبٌ يوصي أبناءه: «يا بَنِيَّ أصلحوا ألسنتكم، فإن الرجل تنوبُه النائبة، يحبُّ أن يتجمَّل فيستعير من أخيه دابَّتَه وثوبَه، ولا يجد مَنْ يُعيره لسانه»
هذا هو حال الإنسان العربي أيام جدَّةِ الفصحى، فما بال أقوام من رجال السياسة والتجارة والسياحة والإعلام، يقمشون ألفاظا شعثًا غُبْرًا، ويَعْتَلثون كلامًا بَزَل فيه الفساد حتى بلغ مبلغه، الذي أسقط عنهم الهيبة، وأنزل من قدرهم، حتى بلغوا دركات لم يعد يُسمع لهم فيها رأي، ولا تُقبل لهم نصيحة؟!
ولكي يصير أمر الفصحى إلى النَّزَعَةِ تأتي هذه الورقة اللغوية في حلقتها الخامسة، داعية إلى احترام الإرث الحضاري للأمة العربية، واعتباره بوابة ندلف منها لعشق لغتنا الجميلة، وكلماتها وما تدل عليها، لا نبتغي تبديلًا لقواعدها وقوانينها، اتباعًا لزُمْرة من المُنشئين الذين يتبجَّحون- في أثناء ترجيعاتهم-
بالقول المُنكر الكَنود الآتي: «خطأ مشهور أحسن من صواب مهجور»، متناسين أن اللغة هي عنوان الأمة، وآصرةُ الأواصر، وأن كلَّ كلمة هي بِنْتُ المجتمع الذي أوجدها وأطعمها بماء الحياة، وطبعها بطابعة الخاص، لا تبتغي عن نسائمه وأظلاله وعبقريته بديلًا، ولا ينبغي لها أن تستنجد- لتكثير نسلها-
بتوليدات مارقة، مهما تعددت البَراقِعُ التي تتستَّر بها في مجتمع العولمة، الذي أُوكِلَ إليه- في السِّر- القيام بالإطاحة بمعايير السلامة اللغوية، لصالح لغة خَداج هي شَوْبٌ من الإنجليزية والفرنسية والعربية والعاميات، رغبة في التهييء لِبِيئَة لغوية مماثلة للمظاهر الاجتماعية والعمرانية والفنية العربية المستلبة
الهجينة، كما يتوضح ذلك بِجلاءٍ في كل قرية ومدينة تُسَلَّط عليها أضواء إحدى القنوات الفضائية.
الفصحى العربية عند التحقيق لغة أوجدها العرب مفرداتٍ وعباراتٍ نافرةً وحشية غريبةً تارة، وتارة أخرى صافية سلسة سهلة، الألفاظ السَّلسةُ السهلة أبْقَى عليها المجتمع اللغوي وتناقلتها الأجيال، أما الألفاظ الوحشية الغريبة، فقد هذَّبها وأمَاتَ بعضها لانتفاء الحاجة إليها. أما القرآن الكريم فقد وظف
الكلمات والعبارات العربيةَ خالدةً، ليس لِأحَدٍ من الأولين والآخرين أن يحدث فيها تغييرًا، أو يمسَّها بِسوء.
ويعد الخط لسان اليد، كما أن قواعده هي الحافظ الأمين لما تقوله الكلمات. وقديما كتب سليمان بن وهب كتابا بالخط العربي إلى ملك الروم في عهد الخليفة المعتمد العباسي فقال ملك الروم: «ما رأيت للعرب شيئا أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي إياهم عليه. والطاغية لا يقرأ الخط
العربي، وإنما راقه باعتداله وهندسته وحسن موقعه ومراتبه» . ولذلك قيل: رداءة الخط إحدى الزمانتين، وحسنه إحدى البلاغتين. وقد كان الأوائل من الكتبة العرب في غنى عن وضع النقط للحروف، لأن الإشكال الذي يزول بالنقط، كان يزول عندهم بسرعة البديهة، بل إنهم كرهوا الشكل والنقط
إلا في الأماكن الملتبسة من كتُب السادة إلى مَن دونهم، أما إن كانت الكتب إلى السادة، فإن الإعجام يترك إجلالًا وتنزيهًا لهم عن سوء الفهم.
هذا هو حال الخط العربي أيام جدة الفصحى، وعندما انتشر التصحيف والتحريف، أمر الحجاج بن يوسف الثقفي كتَّابه أن ينقطوا الخط العربي، وأن يكملوا عمل أبي الأسود الدؤلي الذي وضع علامات الشكل، فوضع كل من نصر بن عاصم وابن سيرين النقط للمصحف الشريف، إيمانا منهم أن ترك
الألفاظ العربية هملًا، هو ترك لبنيان أمة كاملة يتهدم، ومن جملة الألفاظ القرآنية التي أتى الأوائل على ضبطها ضبطًا وافيًا يُنجيها من كل زيغ نقف على سبيل المثال لا الحصر على: * الغَداء / الغِذاء. * البَث / البَت ...
يقولون، ويوردون في أثناء عرض جدول أعمال الندوات الوطنية والدولية: الغَذاء على الساعة الثانية بعد الزوال! هكذا بالذال المعجمة وبفتح الغين.
وهي عبارة محرفة للغة القرآن من وجهين: الأول أن «الغَداء» بفتح الغين وإهمال الدال من النقطة، وهو الطعام، أما «الغِذاء» بكسر الغين وإعجام الذال فهو ما يتغذى به. أما الوجه الثاني للغلط، فإن «الغَداء» بفتح الغين وإهمال الدال من النقطة هو طعام الغدوة. ومعلوم أن الغدوة ما بين صلاة
الغداة وطلوع الشمس. قال ابن منظور: «الغَداء الطعام الذي يؤكل أول النهار، فسُمي السحور غَداءً لأنه للصائم بمنزلته للمفطر، ومنه حديث ابن عباس: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" في رمضان أي: أتسحر» وقال تعالى في (سورة الكهف: آية رقم 62): {فلما جاوزا قال
لفتاه آتنا غَداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نَصَبًا} أي آتنا طعام الغدوة ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.
إذًا ثبت الآن أن طعام نصف النهار، ليس هو طعام الغدوة، فإن تصحيح العبارة الآنفة، يوجب إحياء هذه اللفظة، ونفض غبار النسيان الذي حجبها عن الأنظار وهي لفظة: (الكرزمة) وهو طعام نصف النهار. جاء في مبادئ اللغة: «الكرزمة: طعام نصف النهار. ثم العشاء: لطعام العشاء» فما بالنا
نحن- العرب- في غطاء عن صيانة رسم كلماتنا رسما يقيها من الضبط الأشنع الذي يسقمها ويحرفها عن المعنى المراد، ولاسيما أن الأوائل كانوا حُرُصًا على تنكب سبيل اللبس والتصحيف؟ وما بالنا لا نضبط الوقت بالثواني والدقائق كما تنبئ بذلك دقات قلوبنا، حتى صار عندنا طعام الغدوة هو ذاته
طعام نصف النهار؟!
ونظير هذا التصحيف الناتج عن إهمال النقط الكلمات الآتية:
البث/ البت. من بث الخبر وأبثه أي: نشره ومن ذلك قوله تعالى من بداية سورة النساء {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء...} والبث: الحال والحزن ومنه قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله
وأعلم من الله ما لا تعلمون} (يوسف : 86).
والبت: الجزم والقطع. نقول: بتَّ الحكم أصدره بلا تردد، وبت الصيام من الليل: العزم والقطع بالنية. ونضير ذلك في العربية الفصحى عديد الرمل مثل قولهم «الذَّفَرُ» شدة ريح الشيء الطيب مثل: روض أذفر. و«الدَّفَرُ» بالدال المهملة النَّتْن خاصة، ولذلك قيل للدنيا: «أم دفْر»، كما قيل للأَمَة:
«دفار».
يؤكد الراسخون الذابرون في العلم بأسرار العربية أن الخطأ إذا بَدَا فَشَا، وإذا شاع انتشر في جسد اللغة انتشار النار في الهشيم، Kaul_opt.jpeg لا يُبْقي لها من الصفاء والنصاعة إلا ما يبقيه الوشم في ظاهر اليد، وهي وضعية أخْلِقْ بِها إنِ استحكمت في أمة من الأمم أن تدفع بها إلى دَرَكاتِ الخمول والانطواء والتجاهل، حتى لا تجد من يتواصل معها بلغتها، لأنها تساهلت في هجر كلماتها وتمادت في إشاعة اللحن، الذي يدخل الضيم على ما تقوله تلك الألفاظ والعبارات، التي ليس للمنطق فيها ظِلٌّ ولا شخص، ولا للسلامة عِرْق نابض، لأنها هائمة في أودية من الفساد، لا يَفْتُر هديرها حتى تترك أرض اللغة بَلْقعًا، لا تنفع معها عمليات الحرث والبَذر التي تَظهر هنا وهناك. وإذا كانت العربية الفصحى في مَنْجاةٍ عن هذه الحالة التي انتهت إليها كثير من لغات الشعوب الضعيفة المغلوبة، لأن القرآن الكريم نزل بها حقًّا ليس لِأحَدٍ أن يدفعه أو ينال منه، فهو على الدوام حارسُها الأمين الذي ظل يرمي بالشُّواظ الماحق، وبالحُجَّة المُخْرسة كل محاولات الهدم والتبديل والتغيير.. فإن التساهل الملحوظ في مجتمعاتنا اللغوية العربية بالنسبة إلى الصحة اللغوية، بدأ يُلوِّث الأجواء بِرَطاناتٍ ينتشر بَوْغاؤهَا انتشار البرق، حتى اقترب أن يضع على الأعين غشاوة تجعلنا مع توالي الأجَدَّان لا نستبين حقيقة ما تقوله كلماتنا الفصيحة، التي كانت تجري رسْلاتٍ على ألسنة الأولين، الذين كانوا يربطون الرِّبْح في التجارة بالسلامة اللغوية، ولذلك رُوِي عن أبي عمرو بن العلاء أنَّه مَرَّ بِأعدالٍ مَطروحَةٍ، عليها مَكتوبٌ: (لِأبُو فُلانٍ) فقال: «يا رب يلحنون ويُرزقون !» وفي رواية أخرى: يلحنون ويربحون! وقال أبٌ يوصي أبناءه: «يا بَنِيَّ أصلحوا ألسنتكم، فإن الرجل تنوبُه النائبة، يحبُّ أن يتجمَّل فيستعير من أخيه دابَّتَه وثوبَه، ولا يجد مَنْ يُعيره لسانه»
هذا هو حال الإنسان العربي أيام جدَّةِ الفصحى، فما بال أقوام من رجال السياسة والتجارة والسياحة والإعلام، يقمشون ألفاظا شعثًا غُبْرًا، ويَعْتَلثون كلامًا بَزَل فيه الفساد حتى بلغ مبلغه، الذي أسقط عنهم الهيبة، وأنزل من قدرهم، حتى بلغوا دركات لم يعد يُسمع لهم فيها رأي، ولا تُقبل لهم نصيحة؟!
ولكي يصير أمر الفصحى إلى النَّزَعَةِ تأتي هذه الورقة اللغوية في حلقتها الخامسة، داعية إلى احترام الإرث الحضاري للأمة العربية، واعتباره بوابة ندلف منها لعشق لغتنا الجميلة، وكلماتها وما تدل عليها، لا نبتغي تبديلًا لقواعدها وقوانينها، اتباعًا لزُمْرة من المُنشئين الذين يتبجَّحون- في أثناء ترجيعاتهم-
بالقول المُنكر الكَنود الآتي: «خطأ مشهور أحسن من صواب مهجور»، متناسين أن اللغة هي عنوان الأمة، وآصرةُ الأواصر، وأن كلَّ كلمة هي بِنْتُ المجتمع الذي أوجدها وأطعمها بماء الحياة، وطبعها بطابعة الخاص، لا تبتغي عن نسائمه وأظلاله وعبقريته بديلًا، ولا ينبغي لها أن تستنجد- لتكثير نسلها-
بتوليدات مارقة، مهما تعددت البَراقِعُ التي تتستَّر بها في مجتمع العولمة، الذي أُوكِلَ إليه- في السِّر- القيام بالإطاحة بمعايير السلامة اللغوية، لصالح لغة خَداج هي شَوْبٌ من الإنجليزية والفرنسية والعربية والعاميات، رغبة في التهييء لِبِيئَة لغوية مماثلة للمظاهر الاجتماعية والعمرانية والفنية العربية المستلبة
الهجينة، كما يتوضح ذلك بِجلاءٍ في كل قرية ومدينة تُسَلَّط عليها أضواء إحدى القنوات الفضائية.
الفصحى العربية عند التحقيق لغة أوجدها العرب مفرداتٍ وعباراتٍ نافرةً وحشية غريبةً تارة، وتارة أخرى صافية سلسة سهلة، الألفاظ السَّلسةُ السهلة أبْقَى عليها المجتمع اللغوي وتناقلتها الأجيال، أما الألفاظ الوحشية الغريبة، فقد هذَّبها وأمَاتَ بعضها لانتفاء الحاجة إليها. أما القرآن الكريم فقد وظف
الكلمات والعبارات العربيةَ خالدةً، ليس لِأحَدٍ من الأولين والآخرين أن يحدث فيها تغييرًا، أو يمسَّها بِسوء.
ويعد الخط لسان اليد، كما أن قواعده هي الحافظ الأمين لما تقوله الكلمات. وقديما كتب سليمان بن وهب كتابا بالخط العربي إلى ملك الروم في عهد الخليفة المعتمد العباسي فقال ملك الروم: «ما رأيت للعرب شيئا أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي إياهم عليه. والطاغية لا يقرأ الخط
العربي، وإنما راقه باعتداله وهندسته وحسن موقعه ومراتبه» . ولذلك قيل: رداءة الخط إحدى الزمانتين، وحسنه إحدى البلاغتين. وقد كان الأوائل من الكتبة العرب في غنى عن وضع النقط للحروف، لأن الإشكال الذي يزول بالنقط، كان يزول عندهم بسرعة البديهة، بل إنهم كرهوا الشكل والنقط
إلا في الأماكن الملتبسة من كتُب السادة إلى مَن دونهم، أما إن كانت الكتب إلى السادة، فإن الإعجام يترك إجلالًا وتنزيهًا لهم عن سوء الفهم.
هذا هو حال الخط العربي أيام جدة الفصحى، وعندما انتشر التصحيف والتحريف، أمر الحجاج بن يوسف الثقفي كتَّابه أن ينقطوا الخط العربي، وأن يكملوا عمل أبي الأسود الدؤلي الذي وضع علامات الشكل، فوضع كل من نصر بن عاصم وابن سيرين النقط للمصحف الشريف، إيمانا منهم أن ترك
الألفاظ العربية هملًا، هو ترك لبنيان أمة كاملة يتهدم، ومن جملة الألفاظ القرآنية التي أتى الأوائل على ضبطها ضبطًا وافيًا يُنجيها من كل زيغ نقف على سبيل المثال لا الحصر على: * الغَداء / الغِذاء. * البَث / البَت ...
يقولون، ويوردون في أثناء عرض جدول أعمال الندوات الوطنية والدولية: الغَذاء على الساعة الثانية بعد الزوال! هكذا بالذال المعجمة وبفتح الغين.
وهي عبارة محرفة للغة القرآن من وجهين: الأول أن «الغَداء» بفتح الغين وإهمال الدال من النقطة، وهو الطعام، أما «الغِذاء» بكسر الغين وإعجام الذال فهو ما يتغذى به. أما الوجه الثاني للغلط، فإن «الغَداء» بفتح الغين وإهمال الدال من النقطة هو طعام الغدوة. ومعلوم أن الغدوة ما بين صلاة
الغداة وطلوع الشمس. قال ابن منظور: «الغَداء الطعام الذي يؤكل أول النهار، فسُمي السحور غَداءً لأنه للصائم بمنزلته للمفطر، ومنه حديث ابن عباس: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" في رمضان أي: أتسحر» وقال تعالى في (سورة الكهف: آية رقم 62): {فلما جاوزا قال
لفتاه آتنا غَداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نَصَبًا} أي آتنا طعام الغدوة ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.
إذًا ثبت الآن أن طعام نصف النهار، ليس هو طعام الغدوة، فإن تصحيح العبارة الآنفة، يوجب إحياء هذه اللفظة، ونفض غبار النسيان الذي حجبها عن الأنظار وهي لفظة: (الكرزمة) وهو طعام نصف النهار. جاء في مبادئ اللغة: «الكرزمة: طعام نصف النهار. ثم العشاء: لطعام العشاء» فما بالنا
نحن- العرب- في غطاء عن صيانة رسم كلماتنا رسما يقيها من الضبط الأشنع الذي يسقمها ويحرفها عن المعنى المراد، ولاسيما أن الأوائل كانوا حُرُصًا على تنكب سبيل اللبس والتصحيف؟ وما بالنا لا نضبط الوقت بالثواني والدقائق كما تنبئ بذلك دقات قلوبنا، حتى صار عندنا طعام الغدوة هو ذاته
طعام نصف النهار؟!
ونظير هذا التصحيف الناتج عن إهمال النقط الكلمات الآتية:
البث/ البت. من بث الخبر وأبثه أي: نشره ومن ذلك قوله تعالى من بداية سورة النساء {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء...} والبث: الحال والحزن ومنه قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله
وأعلم من الله ما لا تعلمون} (يوسف : 86).
والبت: الجزم والقطع. نقول: بتَّ الحكم أصدره بلا تردد، وبت الصيام من الليل: العزم والقطع بالنية. ونضير ذلك في العربية الفصحى عديد الرمل مثل قولهم «الذَّفَرُ» شدة ريح الشيء الطيب مثل: روض أذفر. و«الدَّفَرُ» بالدال المهملة النَّتْن خاصة، ولذلك قيل للدنيا: «أم دفْر»، كما قيل للأَمَة:
«دفار».