مشكلات تدريس النحو العربي وعلاجها
يَهدف هذا البحث المُجمل إلى إيجاد وسائل وأدوات حديثة، تساعد في التغلُّب على الصعوبات الحائلة بين الطالب وبين إتقان الدرس النحوي العربي؛ انطلاقًا من الإحساس بوجود فجوات عميقة يتخلَّلها الدرس التقليدي للنحو العربي، تعود جذورُها إلى تاريخ هذا العلم وتطوُّره عبر العصور.
والنظرة إلى درس النحو في هذا البحث، تَتَّجه نحو وضْعه الوظيفي السوي، ووضعُه الوظيفي السوي هو دراسة ما يمكِّن الطالبَ من فَهْم النصوص العربية، ومن تقويم لسانه وقلمه حين يريدُ إنشاء النصوص تحدُّثًا وكتابةً، بعكس ما هو سائد - إلى حدٍّ ما - من التركيز الكبير على إتقان "الإعراب" كما وصل إلينا في شكله الأخير، المليء بالتعقيدات، وما يمكن التنازل عنه في طريقنا نحو فَهم النصوص أو تقويم اللسان والقلم.
إن هناك مشكلة كبيرة في الدرس النحوي، لعل أبرز نتائجها وأهمها: هي الحالة العامة عند غالبية الطلاب، المتمثِّلة في أن الطالب قد يَحفظ من قواعد النحو قدرًا لا بأس به، وقد يُتقن "إعراب" الجمل بشكل ممتاز، ولكن رغم ذلك يواجه ضَعفًا شديدًا في التمكُّن من "إنشاء" التعبير العربي السليم نحويًّا، حين يُطلَب منه ذلك نُطقًا أو كتابة؛ إذ يَعجِز عن تجاوز الأخطاء النحوية الكثيرة في تعبيره، وهنا يظهر لنا الخَلل الأساسي في طُرق تدريس هذا العلم وأدوات ذلك.
وكما أن أصل الخَلل راجع إلى تاريخ هذا العلم وتطوُّره عبر العصور، فكذلك الحلول التي نَطرحها في هذا البحث، تعود جذورها إلى التراث العربي الإسلامي، وسنُعرِّج على نُقولٍ لعَلَمٍ من أعلام المسلمين، ممن اهتمُّوا بهذه القضية إلى حدٍّ ما، تكون بمثابة "المعالم" التي تُرشدنا إلى الطريق الأنجع في التغلُّب على مشكلات هذا الدرس النحوي، وعلى ضوئها سنَعرض لبعض الوسائل والأدوات العملية التي تُسهم - في نظرنا - في رفع مستوى نجاعة الدرس النحوي، بناءً على الأهداف المُرتجاة منه، والتي حدَّدناها في بداية هذا التقديم.
مفهوم النحو العربي:
عرَّف ابن جنِّي النحو على أنه: "انتحاءُ سَمْتِ كلام العرب في تصرُّفه من إعرابٍ وغيره؛ كالتثنية والجمع، والتحقير والتكسير، والإضافة والنسب والتركيب، وغير ذلك؛ ليَلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فيَنطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذَّ بعضهم عنها، رُدَّ به إليها"[1].
وظاهرٌ من التعريف أن علم النحو لم يُوضع أساسًا للعرب، ولكن ذلك لا يعني شيئًا بالنسبة لواقع ألْسِنتنا، فقد غدت هي الأخرى ليست عربية، وهو تعريف يعاصر وظيفة النحو؛ إذ هو "معيار" يُرجَع إليه في تقويم ألْسِنتنا وأقلامنا إن شذَّت عنه، والذي نَستنتجه من هذا التعريف، أن النحو وسيلة للتعبير الصحيح والنطق السليم، وليس غاية في ذاته، وهذا ما يسمى بالعلم "الوظيفي".
ويحدِّثنا ابن خلدون في مقدمته عن نشأة هذا العلم، فيقول:
"فلما جاء الإسلام، وفارَقوا الحجاز لطلب المُلك الذي كان في أيدي الأُمم والدول، وخالَطوا العجم - تغيَّرت تلك المَلَكة بما ألقى إليها السمعُ من المخالفات التي للمُتعرِّبين من العجم، والسمعُ أبو المَلكات اللسانيَّة، ففسَدت بما أُلقي إليها مما يُغايرها؛ لجنوحِها إليه باعتياد السمع، وخشِي أهل العلوم منهم أن تَفسُد تلك الملكة رأسًا، ويطول العهد بها، فيَنغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستَنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملَكة مُطردة، شبه الكليَّات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويُلحقون الأشباه (منها) بالأشباه؛ مثل: أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغيُّر الدلالة بتغيُّر حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعرابًا، وتسمية الموجب لذلك التغيُّرِ عاملاً، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيَّدوها بالكتاب، وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو"[2].
هذا التلخيص الجيِّد لابن خلدون، يؤكِّد ما بدأناه من أن علم النحو علم "وظيفي"، وليس أمرًا مطلوبًا لذاته، وانطلاقًا من هذه الطبيعة لعلم النحو، النابعة أساسًا من سبب نشأته لحفْظ علوم الدين - نحاول أن ندفع بدَفَّة الدراسة النحوية نحو واقعها "التطبيقي"، لا مجرد الواقع "النظري" الذي يكتفي باستظهار القواعد وإتقان الإعراب.
وقد عدَّدت د. ظبية سعيد السليطي في بحثها عن "تدريس النحو العربي في ضوء الاتجاهات الحديثة" بعض وظائف النحو، منها:
• يكفل سلامة التعبير وصحة أدائه، وفَهم معناه وإدراكه في غير لبسٍ أو غموض.
• يساعد على جمال الأسلوب وجودته ودِقَّته، وتنمية مهارات التفكير العلمي؛ مثل: دقَّة التفكير.
• يُعين على استعمال الألفاظ والجُمَل والعبارات استعمالاً صحيحًا، فتكون عند الدارسين عادات لغوية سليمة.
وغيرها من الوظائف[3].
وهذا يقودنا إلى ما يسمَّى بالنحو الوظيفي، الذي هو "مجموعة القواعد التي تؤدي إلى الوظيفة الأساسية للنحو، وهي ضبْط الكلمات ونظام تأليف الجمل؛ ليَسلَم اللسان من اللحن أثناء النطق، ويَسلم القلم من الخطأ عند الكتابة، والنحو الوظيفي: هو إكساب التلاميذ مهارات القواعد التي تساعد على إتقان المهارات الأربع: الاستماع، والمحادثة، والقراءة، والكتابة، أما النحو التخصُّصي، فهو ما يتجاوز ذلك من الوسائل المتشعِّبة، والبحوث الدقيقة التي حفَلتْ بها الكتب الواسعة.
"وفي ضوء هذا المفهوم، يُمكننا القول: إن النحو الوظيفي هو الموضوعات النحوية المستعملة في لغة التلاميذ تحدُّثًا وكتابةً، بحيث تُستخدم استخدامًا سليمًا في الإعراب والتركيب والربط؛ ليَبرز المعنى واضحًا ومفهومًا.
وذلك من خلال:
1 - أن نَنطلق في تدريسنا من خبرة متَّصلة بغرضٍ من أغراض المتعلمين، أو لسدِّ حاجة لديهم.
2 - أن تكون الاستجابة المرادُ من التلاميذ القيامُ بها في أثناء الخبرة في نطاق استعداداتهم.
3 - التركيز على ممارسة السلوك المراد تعلُّمه من الطلاب.
4 - عرْض مواقف لُغوية لاستعمال القاعدة والتدريب عليها.
5 - تدريس النحو في ظلِّ الأساليب؛ أي: باختيار قطعة مشتملة على أمثلة القاعدة النحوية.
6 - علاج المشكلات إثر تشخيص جوانب الضَّعف.
7 - التخفيف من النحو غير الوظيفي؛ أي: النحو الذي لا يُستفاد منه إلا في حالات نادرة في ضبط الكلمات"[4].
فإذا كانت تلك هي طبيعةَ النحو العربي ونشأته ووظيفته، فكيف نشأتْ تلك الفجوة بين "دراسة" هذا العلم وبين "إتقانه" نطقًا وكتابة عند الطلاب؟!
مشكلات النحو:
هناك مشكلات كثيرة تَحُول بين دراسة النحو وبين إتقانه، منها ما هو متعلق بالضَّعف العام في اللغة العربية في المجتمع العربي؛ بسبب اختلاف اللغة المنطوقة في حياة الناس العادية عن اللغة المكتوبة، واعتيادهم على اللغة المنطوقة، فيَنشأ "اللحن" في اللغة حين يريدون التحدث أو الكتابة بالعربية الفصيحة، ومنها ضَعف مُدرِّسي اللغة العربية، وعدم تمكُّنهم من النحو العربي، ومن تمرير هذا العلم بالشكل الفعَّال إلى تلاميذهم، وذلك يَنتج أحيانًا من ممارسة وظيفة معلم اللغة العربية بهدف طلب الرزق، أكثر مما هو إرادة ومحبَّة في رفْع مستوى هذه اللغة في واقع المجتمع العربي.
ونحن سنركِّز على مشكلة رئيسية، نعتقد أنه إن تمَّت معالجتها بالشكل المطلوب، فسوف تظهر نتائجُ طيِّبة على مستوى إتقان النحو العربي نُطقًا وكتابة عند الطلاب، وسوف نتتبَّع "جذور" تلك المشكلة تاريخيًّا؛ كي نحاول تقديم العلاج المناسب لها - إن شاء الله.
المشكلة الرئيسية تكمُن في طريقة تدريس النحو العربي في المدارس، والتي تركِّز أساسًا على إتقان الإعراب، واستظهار القواعد النحوية وحفظها غيبًا، وفي العودة إلى جذور المشكلة نجد أنفسنا أمام كمٍّ من الصعوبات المتعلقة بمادة النحو؛ من حيث هي إرث وصَلنا منذ القِدم.
"وتتمثَّل مظاهر تلك الصعوبة في الجوانب التالية:
أ- اعتماد النحاة في وضْعهم لعلم النحو على منطق العقل (المعيارية)، دون الاهتمام بمنطق اللغة وطبيعتها (الوصفية)، وقد برَز ذلك في طريقة التناول والتعبير في كثيرٍ من كتب النحو والصرف والبلاغة، ويُستثنى منها كتب قلة ظهَرت في أول عهد العرب بهذه الدراسات؛ حيث قامت على الوصف في كثير من أبوابها، ولم تقع في المعيارية إلا من قبيل التوسُّع في التعبير؛ أمثال: كتاب سيبويه "الكتاب"، وكتابَي عبدالقاهر الجرجاني "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، وبعد أن انتهى عصر الاستشهاد، استمرَّ اللغويون في دراسة اللغة عن طريق ما وضَعه السلف من قواعد اللغة، لا عن مادة اللغة، من هنا بدأ فرْض القواعد على الأمثلة، وبدَأ القول بالوجوب والإيجاز.
أدَّى كل ذلك إلى ظهور كثيرٍ من الحدود والقيود والافتراضات، التي تتنافى أحيانًا مع الواقع اللغوي؛ لذا فإن الاتجاه الحديث في تدريس اللغة، يقوم أولاً على الوصف؛ وصف اللغة المستعملة للتلاميذ، وهذا ما تدعو إليه كثير من المؤتمرات والندوات والدراسات العلمية في ذلك المجال.
ب- تأثُّر واضعي علم النحو بعلماء الكلام في أن كلَّ أثرٍ لا بدَّ له من مؤثِّر، والإمعان في ذلك إمعانًا انتهى إلى نظرية العامل، وإلى الحديث عن العِلل وعِلل العِلل.
ج- كثرة ما في القواعد من أقوال ومماحكات، واختلاف مسائلها، واعتمادها على التحليل المنطقي، الذي يستدعي حصْر الفكر لاستنباط الأحكام العامة من أمثلة كثيرة متنوعة؛ مما دعا علماء التربية أن ينادوا بتأخير دراسة القواعد إلى سنِّ المراهقة.
د- جفاف النحو وصعوبته، وتأكيده على مماحكات عقلية مجرَّدة بعيدة عن واقع الحياة العملية التي يعيشها التلاميذ، وهمُّه التدقيق في الجمل والتراكيب اللغوية؛ لمعرفة موقع الكلمة من الإعراب وضبْط الحركات، وقد أشار إلى هذه الصعوبة أمين الخولي بقوله: إن هذه الفصحى لا يَسهل ضبْط قاعدتها، بل يَسودها الاستثناء، فتتعدَّد القواعد وتتضارَب.
هـ- كثرة العوامل النحْوية، وتشعُّب التفاصيل التي تَندرج تحت هذه القواعد، وتُزاحمها بصورة لا تُساعد على تثبيت المفاهيم في أذهان التلاميذ، بل إلى تشتيتها ونسيانها؛ وذلك لتجرُّدها وبُعدها عن واقع الحياة التي يَحياها التلاميذ"[5].
ويُطلعنا المؤرخ ابن خلدون على بعض الأسباب التي أدَّت بالنحو العربي للوصول إلى عدم الفاعلية والتأثير الكبير في تحصيل "ملَكة" إتقان العربية، وعلى مظاهر ذلك في عصره، فملكة اللسان العربي أصبحت شيئًا غير صناعة العربية، (وهي علم النحو والصرف والبلاغة)! "والسبب في ذلك أن صناعة العربية، إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفيَّة، لا نفس كيفيَّة، فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة مَن يَعرف صناعة من الصنائع علمًا، ولا يُحكِمها عملاً، مثل أن يقول بصير بالخياطة غير مُحكِم لمَلَكتها - في التعبير عن بعض أنواعها -: الخياطة هي أن تُدخل الخيط في خَرْت الإبرة، ثم تَغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، وتُخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم تردَّها إلى حيث ابتدأت، وتخرجها قدَّام مَنفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأوَّلين، ثم يتمادى على وصْفه إلى آخر العمل، ويعطي صورة الحبْك والتنبيت والتفتيح، وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو إذا طُولِب أن يعمل ذلك بيده، لا يُحكِم منه شيئًا"[6].
وهذا مشابه لِما يَحدث للطالب العربي حين يَستظهر القواعد النحوية ويُتقن الإعراب جيدًا، ثم إذا هو أراد إنشاء تعبير باللغة العربية الفصيحة (نطقًا أو كتابةً)، وقَع في أفحش الأخطاء!
ويستمر ابن خلدون:
"وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه المَلكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفيَّة العمل، وليس هو نفس العمل، وكذلك تجد كثيرًا من جهابذة النحاة والمَهَرة في صناعة العربية، المحيطين علمًا بتلك القوانين، إذا سُئِل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مَودته، أو شكوى ظُلامة، أو قصدٍ من قصوده، أخطأ فيها الصوابَ، وأكثَرَ من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي، وكذا نجد كثيرًا ممن يُحسن هذه المَلَكة، ويُجيد الفنَّين من المنظوم والمنثور، وهو لا يُحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئًا من قوانين صناعة العربية"[7].
وفي تلخيصٍ للصعوبات في هذا الجانب (المتعلق بمادة النحو) وسببها، يقول العلاَّمة ابن خلدون: "وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، ولكنهم أجْروها على غير ما قُصِد بها، وأصاروها علمًا بحتًا، وبَعدوا عن ثمرتها"[8].
تلك هي الصعوبات وجذورها التاريخية وأسبابها، فما هو "المنهج" الذي نرتضيه في هذا البحث للتطبيق في المدارس العربية؟
المنهج:
قلنا في بداية هذا البحث: إن الحلول التي نطرحها عائدةٌ جذورُها إلى التراث العربي الإسلامي، ونستمر في رصْد الخط العريض للمنهج عند ابن خلدون؛ إذ يقول: "وتعلم مما قرَّرناه في هذا الباب، أن حصول مَلكة اللسان العربي، إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يَرتسم في خياله المنوال الذي نسَجوا عليه تراكيبهم، فيَنسج هو عليه، ويَتنزَّل بذلك منزلة من نشَأ معهم وخالَط عباراتهم في كلامهم، حتى حصَلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم، والله مقدِّر الأمور"[9].
ويقول قبل ذلك في فصلٍ بعنوان "في تعلُّم اللسان المُضَري":
"ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويَروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المُولَّدين أيضًا في سائر فنونهم، حتى يتنزَّل - لكثرة حِفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور - منزلةَ من نشَأ بينهم، ولَقِن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرَّف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحَفِظه من أساليبهم، وترتيب ألفاظهم، فتحصُل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويَزداد بكثرتها رسوخًا وقوة، ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهُّم الحسَن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب، ومراعاة التطبيق بينها وبين مُقتضيات الأحوال، والذوق يَشهد بذلك، وهو ينشأ ما بين هذه المَلكة والطبع السليم فيهما كما نذكر بعدُ.
وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال، تكون جودة المقول (المؤلف) نظمًا ونثرًا، ومن حصَل على هذه المَلكات، فقد حصل على لغة مُضَر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلُّمها، والله يهدي من يشاء"[10].
فابن خلدون في مقدمته يُفرِّق بين "صناعة اللسان" وبين "تحصيل الملكة"؛ أي: بين "قواعد اللغة"، وبين إتقان العربية نطقًا وكتابة، ومن هنا فهو مُهتم بالمنهج الذي يحقِّق الهدف الأسمى، وهو إتقان العربية نطقًا وكتابة، ونضيف إلى ذلك و"فَهمًا"، (رغم أن إتقان إنشاء العربية السليمة يبين عن تحصيل مَلكة الفَهم).
وخلاصة منهجه:
الارتكاز على "معايشة" النصوص العربية السليمة، وحِفظها وممارسة قراءتها، وسماعها وكتابتها؛ كطريقة مُثلى في إتقان إنشائها (نطقًا وكتابة)، انطلاقًا من أن الممارسة التطبيقية والحفظ لهذه النصوص، يُزوِّد طالب العلم برصيدٍ من أساليب هذه اللغة، يُمكِّنه من التعبير السليم على منوالها.
ونحن - بطبيعة الحال - لن نأخذ طريقة ابن خلدون بحذافيرها، فهو أولاً لم يفصل أساليب ذلك، ثم هو يتحدث عن إتقان بمستوى عالٍ للغة، مما يتطلَّبه طلبة العلم الشرعي خاصة، وأرباب الأدب، وليس هذا مقصودنا في التعليم المدرسي، إنما مقصودنا إتقان التعبير السليم بأكبر قدرٍ ممكن.
وفي المنهج الذي نقترحه للدرس النحوي، نَعرض بعض الأساليب والوسائل:
1 - إلغاء كل ما ليس من شأنه إحداث التغييرات في طريقة كتابة أو لفظ التعبير، أو فَهمه؛ لتوفير الجُهد على الطالب، وتركيزه في حفظ وإدراك القواعد التي تؤثِّر في طريقة لفظ الكلمات والجمل وكتابتها[11].
2 - استحضار اللفتات النحوية في باقي الدروس العربية (الأدب، الإنشاء، التعبير)؛ حتى يُمارس الطالب تطبيق تلك القواعد التي تعلَّمها أثناء معايشة النصوص العربية.
3 - إعطاء الطلاب فُرَصًا أكبر للتحدُّث باللغة العربية وتصويبهم إن أخطؤوا، والإشارة إلى القواعد أثناء التحدث، ورَبْطها بتقويم اللسان؛ لأن التصويب أثناء الممارسة من أنجع الطرق التربوية التي تَزرع القواعد - أيًّا كانت - في سلوك الطالب.
4 - إعطاء الطلاب فرصة أكبرَ لكتابة نصوص عربية ذاتية، وتصويبهم وإرشادهم إلى مواطن الخطأ؛ ليكون ذلك خيرَ مُعينٍ على تجنُّب تلك الأخطاء في نصوص قادمة.
5 - ربْط القواعد والنصوص المصاحبة لها بالواقع الحياتي للطالب؛ حتى تظلَّ حاضرة في ذهنه، وتَظهر عليها صفة "الواقعية" لا "النظرية" المجردة، والتي أثبتَت التجربة أنها سرعان ما تتبخَّر إن لم يكن لها واقعٌ مَعيش.
6 - أن يكون معلِّم اللغة العربية قدوة حسنة في التزامه بالنطق العربي الفصيح؛ لتعويد الطلاب على سماع الأساليب النحوية العربية، وقد أثبتت علوم التربية الحديثة أن الاستماع - ومِن ثَمَّ المحاكاة - من أفضل أساليب ترسيخ إتقان اللغة إنشاءً.
7 - التركيز على "الاستقراء"، والبُعد قدر الإمكان عن النهج الفلسفي والمنطقي في تدريس القواعد النحوية؛ لأنها تَفتقر إلى تمرُّس الطالب بالملاحظة العامة (كما في الاستقراء)، فيفقده ذلك إحدى أهمِّ الوسائل المساعدة على فَهْم القاعدة، ومِن ثَمَّ تطبيقها.
8 - تناول نصوص مألوفة في تعبير الطلاب وحياتهم اليومية والعلمية، والابتعاد عن النصوص الصعبة والمليئة بالألفاظ الغريبة.
9 - ربْط القواعد النحوية بإفادتها في مجال المعنى، وبيان أثر التغيُّر النحوي على تغيُّر المعاني المتضمنة.
10 - أن تركِّز الاختبارات والامتحانات النهائية على قياس مدى تحقُّق "الأهداف" التي حدَّدناها للنحو، وهي إتقان التعبير العربي السليم نطقًا وكتابة: (كتابة في الامتحانات)، وعليها يكون الثِّقل الأساسي في العلامات، لا على استظهار القواعد، أو إتقان الإعراب، وهذا أمر - لو تَمَّ - سيؤدي إلى اهتمام أكبر - (من قِبَل الطلاب والمعلِّمين) - بتعلُّم ما يساعدهم على إتقان التعبير العربي، والاندفاع نحو التمرُّس بأساليب التعبير السليم، عن طريق قراءة النصوص وممارسة الكتابة بشكل أكبرَ، وهذا كله يصبُّ في صالح الأهداف الأساسية من تعلُّم النحو.
المراجع:
• ابن خلدون، عبدالرحمن؛ مقدمة ابن خلدون، القاهرة: دار الفجر، 2004.
• السليطي، ظبية سعيد؛ تدريس النحو العربي في ضوء الاتجاهات الحديثة، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2002.
• عاشور، راتب قاسم؛ أساليب تدريس اللغة العربية: بين النظرية والتطبيق، عمان: دار المسيرة، 2003.
[1] ظبية سعيد السليطي؛ تدريس النحو العربي، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2002، 25.
[2] عبدالرحمن بن خلدون؛ مقدمة ابن خلدون، القاهرة: دار الفجر، 2004، 701.
[3] السليطي؛ تدريس النحو العربي، 27 - 28.
[4] راتب قاسم عاشور؛ أساليب تدريس اللغة العربية، عمان: دار المسيرة، 2003، 107.
[5] السليطي؛ تدريس النحو العربي، 36 - 37.
[6] ابن خلدون؛ مقدمة ابن خلدون، 717.
[7] ن.م، 717.
[8] ن.م، 718.
[9] ن.م، 718.
[10] ن.م.، 716.
[11] يراجع كتاب: "الرد على النحاة"؛ لابن مضاء القرطبي؛ بتحقيق الدكتور شوقي ضيف.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/46327/#ixzz3PXanphfq