اللُّغة العربية هي ركنٌ أصيلٌ في دِين الله - تعالى - وأساس متين، لا نستطيع أن نفهم الدِّين إلاَّ به، ولا نستطيع أن ندركَ مُرادَ الله - تعالى - ولا مُراد رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بدونها؛ بل إنَّنا لا نفهم أحكامَ القرآن وآدابه، ولا نفرِّق بين محكمه ومتشابهه، ومجمله ومُفصَّله إلاَّ بمعرفة اللُّغة العربية معرفةً تامة.
فالأُمم تُحافظ على مجدها، وتنشر فورَ حضارتها باللُّغة التي تُتقنها؛ لأنَّ لُغتَها هي مجدُها وعزُّها وهُوِيَّتها، وبها تتميَّز حضارتها.
وباللُّغة العربية يُحافظ العرْب على مجدهم وعزِّهم وشرفهم، ويربطون ماضيَهم بحاضرهم ومستقبلهم، ولقد حَرَص الصحابة - رضوان الله عليهم - على تعلُّم اللُّغة وتعليمها لأبنائهم، فهذا عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - يَكتب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول له: "تفقَّهوا في السُّنَّة، وتفقَّهوا في العربية، وأعْرِبوا القرآن؛ فإنَّه عربي".
وكان الخلفاء والوزراء، والقضاة والأمراء يوكلون أبناءَهم إلى مُعلِّمين أكْفَاء يُعلِّمونهم اللغة العربية، ويُهذِّبون أخلاقهم، ويُحفِّظونهم كتابَ الله، وأحاديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وكان العَرَب قبلَ الإسلام أحرصَ الناس على حِفظ لُغتهم، وخيرُ شاهد على ذلك اجتماعاتُهم في منتدياتهم ونواديهم، يَقرِضون الشِّعر، ويَنثُرون الجميل من الكلام، ويَتنافسون في ذلك تنافسًا شريفًا كان له أثرُه في إثراء اللغة، والحِفاظ عليها.
سلِ العرب وأسواقهم، سلْ عكاظًا وذا المجاز ومجنَّة، سلْ أصحاب المُعلَّقات المشهورات، سلْ زُهيرًا ولبيدًا وعنترة، سلِ امرأَ القَيس والحارث والنابغة، سل حسان ومروان وابن ربيعة، سل أربابَ الكلام وأصحاب البلاغة والثقافة والذوق، سلْ كُلَّ هؤلاء، يجيبوا أنَّ الأمر جدٌّ.
وحِفظ اللغة من الدِّين؛ لأنها لغة القرآن والسُّنة، وبها فسَّر وشرح العلماء القرآن والسُّنة، ولا يحسبنَّ أحدٌ أنَّ اللغة تضيق عن وصْف أيِّ شيءٍ من اختراعات واكتشافات؛ لأنَّ لُغتنا وصَفت وتَصف، وسمَّت وتُسمِّي كلَّ ما يحتاج إليه الإنسان في حياته، فقدْ جعلها الله لغةً غنيَّة ثرية بمفرداتها، سهلةَ الكلمات، جزلةَ العبارات، جامعةً للمعاني، جمالُها من جمال القرآن الكريم الذي وسعته، وسُهولتها من سُهولة بيان سيِّد المرسلين الذي فسَّرته، ونُورها من نور الحقِّ الذي جعلها لغةَ كلامه وآياته.
إذًا؛ فما يُطنطن به بعضُ الجهلة من قصورها عن استيعاب عصرِ التقنيات العلميَّة الحديثة، وما يعترض به مِن أنَّ العصر (عصر الذرة وغزو الفضاء، عصر الكمبيوتر والإنترنت)، فهذا زعمٌ لا أساسَ له مِن الصِّحة، فهو اعتراضٌ ضخم في الظاهر، فارغ في الباطن.
وَمَا مِثْلُهُ إِلاَّ كفارغ بنديد
خَلِيٌّ مِنَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ يُفَرْقِعُ
وكفانا فخرًا أن نسمع اللُّغةَ تتحدَّث عن نفسها، ولسان حالها يقول:
وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لَفْظًا وَغَايَةً
وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ؟!
أَنَا الْبَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ
فَهَلْ سَاءَلُوا الْغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي
فإذا كانتِ اللُّغة العربية ركنًا أصيلاً في الدِّين والقرآن، وأساسًا متينًا من أسسه، واللغة العربية هي مجدنا وعزِّنا، والرابط بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، فعلينا أن نحافظَ عليها؛ بأن نقرأ القرآن ونُحفِّظه لأبنائنا، ونتلوه في مساجدنا، وأن نتكلَّم بها في محافلنا وندواتنا ومدارسنا، وقاعات التَّعليم، وفي الصُّحف والمجلاَّت، ووسائل الإعلام؛ لنربطَ هُوِيَّتنا بلُغتنا.
وإنَّ من أعداء الإسلام حاقدين على اللُّغة العربية، نَعرِف ذلك مِن قول أحدهم - وهو وليم بلجراف - في كلمته المشهورة: "متى توارى القرآنُ ومدينةُ مكَّة عن بلاد العرب يُمكننا حينئذٍ أن نرى العربيَّ يتدرَّج في سبيل الحضارة - يعني: الحضارة النصرانية - التي لم يُبعده عنها إلاَّ محمدٌ وكتابه".
فكان بيننا أنَّه لا يمكن أن يتوارى القرآن، حتى تتوارى لُغتُه، ولا زال المستشرقون يَنفثُون سمومَهم، ويَكيلون التُّهم والمطاعنَ إلى الإسلام، وإلى رسول الإسلام - صلَّى الله عليه وسلَّم - واللُّغة العربية، ويتَّهمونها بأنَّها لم تَعُدْ صالحةً للعصر الحديث، ويجب أن تُستخدمَ العاميةُ بدلاً منها في اللَّهجات المحليَّة، والحروف اللاَّتينية في الكتابة، وغير ذلك من المفتريات، ومِن أَسفٍ أنَّ العامية في رؤيتنا تغشَّت في بعض المطبوعات، وأصبح لها صُحف، وأتباعٌ يتولَّونها ويُنادون بها، وذلك بعضُ فساد الزَّمن، وانحراف العقيدة، إنَّها محاولات لمزاحمةِ الفُصحى التي تجمع بين العرب والمسلمين، على كلِّ حال لن تُجديَ تلك المحاولاتُ شيئًا؛ لأنَّ العربية هي لُغةُ القرآن، فهي محفوظةٌ بحفظه، باقية ببقائه، والفضل ما شهدتْ به الأعداء، إذ يقول أحدُ الفلاسفة الألمان - موصيًا تلاميذَه -: "إذا أردتم أن تكتبوا فِكرًا تأمنون عليه كرَّ الليالي، وتوالي الأجيال، فاكتبوه بالعربية، فإنَّ لها دون غيرها مِن اللُّغات مزية، فقالوا: وما مزيتها؟ فقال: لأنَّ في العالَم أُمَّة عظيمة العدد، ترى مِن أصول دينها تلاوةَ كتابٍ فيها يُسمَّى القرآن، ولا شكَّ في بقاء الأديان في الأُمم العظيمة الشأن، وحينئذٍ فلا ريبَ أنَّ هذا الكتاب يبقى ما بقي هذا الدِّين، وأنَّ العربية تبقى ما بَقِي هذا الكتاب".
شيء طبيعي أن يُصيبَ الضعفُ لُغتَنا العربية؛ لأنَّ هناك أسبابًا أدَّت بها إلى هذا الضعف، ومن هذه الأسباب:
1- عدمُ التزام مُدرِّسي اللُّغة العربية بالفُصحى في تدريسها، وفي مخاطبة تلاميذهم داخلَ غُرف الدِّراسة، وهو لا يغيب عنهم أنَّ اللُّغة ممارسة.
2- تقلُّص عدد الكتاتيب، والتي كانت مَعنيةً بتحفيظ القرآن، والالْتزام بتجويده، فهي معلم من معالِم المحافظة على اللُّغة العربية.
3- إهمالُ الخُطباء والوعَّاظ التحدُّثَ إلى مستمعيهم باللُّغة الفُصحى؛ بل انحدروا إلى العامية ظنًّا منهم أنَّها أقرب إلى فَهْم الغالبية.
4- انخراطُ كثيرٍ من محرِّري الصُّحف في الكتابة بالعامية، ظانِّين أنَّهم بذلك الأسلوب يَقتربون مِن القارئ.
5- اللافتات التي تعجُّ بها الشَّوارع والمَحالُّ التجارية، وعبارات الإعلانات طغَتْ عليها العامية؛ بل الأدهى والأمرُّ أنها مكتوبةٌ باللغات الأجنبية؛ مثل: "الشعار كلين"، "سوبر ماركت الحرية"، "بيتزا كنج"، "ترفل إيجيبت".
6- كثرةُ المنتجات الصناعية والغذائية التي تُسجِّل على أغلفتها عباراتٍ ومسمَّيات باللُّغة الأجنبية؛ من أجل جذْبِ المشتري بالمسميات الحديثة البرَّاقة، وقد تُبالغ بعضُ الإعلانات، حتى إنَّك لا تجد كلمةً واحدة باللُّغة العربية.
7- كثرة مدارس اللغات التي تهتمُّ كثيرًا باللُّغة الأجنبية وتدريسها، على حِساب اللُّغة العربية، وللأسف هذا يُغري كثيرًا من أولياء الأمور، فيُساهمون في تضخيم المشكلة بالحرْص على إرسال أبنائِهم إلى مدارس لُغات أجنبية، ومِن ثَمَّ يترتَّب على ذلك انزلاقُ ألسنة الطُّلاَّب في تلك المدارس إلى اللُّغة الأجنبية، دونَ حدود أو رقيب، فنسمعهم يُردِّدون "المستر"، "الدسك"، "الباص"، "البريك"، "المِس"، "الموبايل"، "الفيديو"، "هاي طنط"....إلخ.
ومِن المؤسِف - والذي ربَّما يغيب عن الكثيرين - أنَّ كل لفظ من هذه الألفاظ يَصرَع لفظًا عربيًّا أمامه، حتى يموت ويتلاشى، ويسودَ المقابل الأجنبي رغمَ معرفة علمائنا أنَّ اللُّغة كائنٌ حي يتفاعل ويحيا ويموت، وينتشر ويتلاشى، وهكذا.
8- وممَّا آلمني أني سمعْتُ أحدَ مدرِّسي اللُّغة العربية في إحدى المدارس الخاصَّة يقول لابنه: "بلغ مامي أول ما تنزل من الباص أني هتصل بها على الموبايل علشان نحدد معاد الشوبنج...باي"، وماذا بعد ذلك؟! الله أعلم.
أجلْ، إنَّ مَن أحبَّ الله، أحبَّ رسوله العربيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومَن أحبَّ رسوله العربي، أحبَّ العربَ، ومَن أحبَّ العرب، أحبَّ اللُّغة العربية، ومَن أحبَّ اللُّغة العربية عُنِي بها، وثابر عليها، وصَرَف همَّه إليها، فإنَّ العرب خيرُ الأمم، والعربية خيرُ اللُّغات والألسنة، والإقبال على تَعلُّمها من الدِّيانة؛ إذ هي أداة العلم، وواسطة التفقُّه في الدِّين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل واشتمالها على المروءة، وسائر مكارم الأخلاق، ولو لم يكنْ في الإحاطة بمعرفة مبانيها، والوقوف على حقائق معانيها وتصاريفها، والتبحُّر في حلائلها ودقائقها، ومجازاتها وحقائقها - إلاَّ قوَّةُ اليقين في معرفة إعجاز كتابِ الله، وزيادة التبصُّر في إثبات النبوَّة - لَكَفَى بها فضلاً، يَحسُن أثره، ويَطيب في الدارين ثَمرُه.
إذًا؛ فماذا علينا بعدُ؟ علينا أن نُضيِّق الشُّقَّة بين اللُّغة العامية والفصحى، وذلك بالالتفات إلى النحو العربيِّ، ومحاولة تيسير تدريسه بالقدر الذي يَعصمُ من الخطأ في ضبط أواخر الكَلِم، وأهمُّ من ذلك إشاعةُ رُوح الاعتزاز باللُّغة العربية، والتمسك باستخدامها، لا سيما في مدارسنا وجامعاتنا ومنتدياتنا، وفرْض التعليم باللُّغة العربيَّة، والشعور بصلتها المباشرة بالشَّرع، وامتلاكها حضارةً عظيمةً لا تزال مطلوبة، والإفادة مِن وسائل الاتصال والإعلام، والقنوات الفضائية في إشاعة التحدُّث بالعربية الفصحى عن طريق الوسائل التعليميَّة الحديثة، والمؤسَّسات الثقافية، والتقارير الإخباريَّة، ومِلاكُ ذلك كله الاهتمامُ بالأساليب البلاغيَّة التي تضبط معالِمَ الجمال في الأسلوب، وتُرقِّي الذوق والحِسَّ الأدبي، والذائقة النقدية، وبتحقيق ذلك تَبلغُ اللُّغة العربية درجةً من الرُّقي في معانيها ودلالاتها، ووظائفها الحيوية، وتصبح وسيلتَنا لطَرْق أبواب التقدُّم والفلاح، ونافذتَنا التي نطلُّ منها على العالَمِ شرقًا وغربًا، وستظلُّ رمزَ وحدتنا ما مرَّ الجديدان، وتعاقب المَلَوان.
وبعدُ، فندائي إلى أصحاب الأقلام والفِكر والثقافة، ورَجائي إلى أرباب اللُّغة: شُعراء وأدباء، علماء وكتَّابًا، معلمين وموجِّهين: أنْ حافظوا على عِزِّكم ومجدكم، وسبيلكم إلى ذلك الحفاظُ على لُغتكم العربية، وإن يكُ صور هذا اليوم ولَّى، فإنَّ غدًا لناظره قريب، وإنِّي أشعر أنَّ غدًا قد أشرق.
أمرنا الله وإيَّاكم بآداب لُغتنا، وتعاليم كتابنا، وسُنَّة نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/26392/#ixzz3PWpAC0A0
فالأُمم تُحافظ على مجدها، وتنشر فورَ حضارتها باللُّغة التي تُتقنها؛ لأنَّ لُغتَها هي مجدُها وعزُّها وهُوِيَّتها، وبها تتميَّز حضارتها.
وباللُّغة العربية يُحافظ العرْب على مجدهم وعزِّهم وشرفهم، ويربطون ماضيَهم بحاضرهم ومستقبلهم، ولقد حَرَص الصحابة - رضوان الله عليهم - على تعلُّم اللُّغة وتعليمها لأبنائهم، فهذا عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - يَكتب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول له: "تفقَّهوا في السُّنَّة، وتفقَّهوا في العربية، وأعْرِبوا القرآن؛ فإنَّه عربي".
وكان الخلفاء والوزراء، والقضاة والأمراء يوكلون أبناءَهم إلى مُعلِّمين أكْفَاء يُعلِّمونهم اللغة العربية، ويُهذِّبون أخلاقهم، ويُحفِّظونهم كتابَ الله، وأحاديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وكان العَرَب قبلَ الإسلام أحرصَ الناس على حِفظ لُغتهم، وخيرُ شاهد على ذلك اجتماعاتُهم في منتدياتهم ونواديهم، يَقرِضون الشِّعر، ويَنثُرون الجميل من الكلام، ويَتنافسون في ذلك تنافسًا شريفًا كان له أثرُه في إثراء اللغة، والحِفاظ عليها.
سلِ العرب وأسواقهم، سلْ عكاظًا وذا المجاز ومجنَّة، سلْ أصحاب المُعلَّقات المشهورات، سلْ زُهيرًا ولبيدًا وعنترة، سلِ امرأَ القَيس والحارث والنابغة، سل حسان ومروان وابن ربيعة، سل أربابَ الكلام وأصحاب البلاغة والثقافة والذوق، سلْ كُلَّ هؤلاء، يجيبوا أنَّ الأمر جدٌّ.
وحِفظ اللغة من الدِّين؛ لأنها لغة القرآن والسُّنة، وبها فسَّر وشرح العلماء القرآن والسُّنة، ولا يحسبنَّ أحدٌ أنَّ اللغة تضيق عن وصْف أيِّ شيءٍ من اختراعات واكتشافات؛ لأنَّ لُغتنا وصَفت وتَصف، وسمَّت وتُسمِّي كلَّ ما يحتاج إليه الإنسان في حياته، فقدْ جعلها الله لغةً غنيَّة ثرية بمفرداتها، سهلةَ الكلمات، جزلةَ العبارات، جامعةً للمعاني، جمالُها من جمال القرآن الكريم الذي وسعته، وسُهولتها من سُهولة بيان سيِّد المرسلين الذي فسَّرته، ونُورها من نور الحقِّ الذي جعلها لغةَ كلامه وآياته.
إذًا؛ فما يُطنطن به بعضُ الجهلة من قصورها عن استيعاب عصرِ التقنيات العلميَّة الحديثة، وما يعترض به مِن أنَّ العصر (عصر الذرة وغزو الفضاء، عصر الكمبيوتر والإنترنت)، فهذا زعمٌ لا أساسَ له مِن الصِّحة، فهو اعتراضٌ ضخم في الظاهر، فارغ في الباطن.
وَمَا مِثْلُهُ إِلاَّ كفارغ بنديد
خَلِيٌّ مِنَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ يُفَرْقِعُ
وكفانا فخرًا أن نسمع اللُّغةَ تتحدَّث عن نفسها، ولسان حالها يقول:
وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لَفْظًا وَغَايَةً
وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ؟!
أَنَا الْبَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ
فَهَلْ سَاءَلُوا الْغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي
فإذا كانتِ اللُّغة العربية ركنًا أصيلاً في الدِّين والقرآن، وأساسًا متينًا من أسسه، واللغة العربية هي مجدنا وعزِّنا، والرابط بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، فعلينا أن نحافظَ عليها؛ بأن نقرأ القرآن ونُحفِّظه لأبنائنا، ونتلوه في مساجدنا، وأن نتكلَّم بها في محافلنا وندواتنا ومدارسنا، وقاعات التَّعليم، وفي الصُّحف والمجلاَّت، ووسائل الإعلام؛ لنربطَ هُوِيَّتنا بلُغتنا.
وإنَّ من أعداء الإسلام حاقدين على اللُّغة العربية، نَعرِف ذلك مِن قول أحدهم - وهو وليم بلجراف - في كلمته المشهورة: "متى توارى القرآنُ ومدينةُ مكَّة عن بلاد العرب يُمكننا حينئذٍ أن نرى العربيَّ يتدرَّج في سبيل الحضارة - يعني: الحضارة النصرانية - التي لم يُبعده عنها إلاَّ محمدٌ وكتابه".
فكان بيننا أنَّه لا يمكن أن يتوارى القرآن، حتى تتوارى لُغتُه، ولا زال المستشرقون يَنفثُون سمومَهم، ويَكيلون التُّهم والمطاعنَ إلى الإسلام، وإلى رسول الإسلام - صلَّى الله عليه وسلَّم - واللُّغة العربية، ويتَّهمونها بأنَّها لم تَعُدْ صالحةً للعصر الحديث، ويجب أن تُستخدمَ العاميةُ بدلاً منها في اللَّهجات المحليَّة، والحروف اللاَّتينية في الكتابة، وغير ذلك من المفتريات، ومِن أَسفٍ أنَّ العامية في رؤيتنا تغشَّت في بعض المطبوعات، وأصبح لها صُحف، وأتباعٌ يتولَّونها ويُنادون بها، وذلك بعضُ فساد الزَّمن، وانحراف العقيدة، إنَّها محاولات لمزاحمةِ الفُصحى التي تجمع بين العرب والمسلمين، على كلِّ حال لن تُجديَ تلك المحاولاتُ شيئًا؛ لأنَّ العربية هي لُغةُ القرآن، فهي محفوظةٌ بحفظه، باقية ببقائه، والفضل ما شهدتْ به الأعداء، إذ يقول أحدُ الفلاسفة الألمان - موصيًا تلاميذَه -: "إذا أردتم أن تكتبوا فِكرًا تأمنون عليه كرَّ الليالي، وتوالي الأجيال، فاكتبوه بالعربية، فإنَّ لها دون غيرها مِن اللُّغات مزية، فقالوا: وما مزيتها؟ فقال: لأنَّ في العالَم أُمَّة عظيمة العدد، ترى مِن أصول دينها تلاوةَ كتابٍ فيها يُسمَّى القرآن، ولا شكَّ في بقاء الأديان في الأُمم العظيمة الشأن، وحينئذٍ فلا ريبَ أنَّ هذا الكتاب يبقى ما بقي هذا الدِّين، وأنَّ العربية تبقى ما بَقِي هذا الكتاب".
شيء طبيعي أن يُصيبَ الضعفُ لُغتَنا العربية؛ لأنَّ هناك أسبابًا أدَّت بها إلى هذا الضعف، ومن هذه الأسباب:
1- عدمُ التزام مُدرِّسي اللُّغة العربية بالفُصحى في تدريسها، وفي مخاطبة تلاميذهم داخلَ غُرف الدِّراسة، وهو لا يغيب عنهم أنَّ اللُّغة ممارسة.
2- تقلُّص عدد الكتاتيب، والتي كانت مَعنيةً بتحفيظ القرآن، والالْتزام بتجويده، فهي معلم من معالِم المحافظة على اللُّغة العربية.
3- إهمالُ الخُطباء والوعَّاظ التحدُّثَ إلى مستمعيهم باللُّغة الفُصحى؛ بل انحدروا إلى العامية ظنًّا منهم أنَّها أقرب إلى فَهْم الغالبية.
4- انخراطُ كثيرٍ من محرِّري الصُّحف في الكتابة بالعامية، ظانِّين أنَّهم بذلك الأسلوب يَقتربون مِن القارئ.
5- اللافتات التي تعجُّ بها الشَّوارع والمَحالُّ التجارية، وعبارات الإعلانات طغَتْ عليها العامية؛ بل الأدهى والأمرُّ أنها مكتوبةٌ باللغات الأجنبية؛ مثل: "الشعار كلين"، "سوبر ماركت الحرية"، "بيتزا كنج"، "ترفل إيجيبت".
6- كثرةُ المنتجات الصناعية والغذائية التي تُسجِّل على أغلفتها عباراتٍ ومسمَّيات باللُّغة الأجنبية؛ من أجل جذْبِ المشتري بالمسميات الحديثة البرَّاقة، وقد تُبالغ بعضُ الإعلانات، حتى إنَّك لا تجد كلمةً واحدة باللُّغة العربية.
7- كثرة مدارس اللغات التي تهتمُّ كثيرًا باللُّغة الأجنبية وتدريسها، على حِساب اللُّغة العربية، وللأسف هذا يُغري كثيرًا من أولياء الأمور، فيُساهمون في تضخيم المشكلة بالحرْص على إرسال أبنائِهم إلى مدارس لُغات أجنبية، ومِن ثَمَّ يترتَّب على ذلك انزلاقُ ألسنة الطُّلاَّب في تلك المدارس إلى اللُّغة الأجنبية، دونَ حدود أو رقيب، فنسمعهم يُردِّدون "المستر"، "الدسك"، "الباص"، "البريك"، "المِس"، "الموبايل"، "الفيديو"، "هاي طنط"....إلخ.
ومِن المؤسِف - والذي ربَّما يغيب عن الكثيرين - أنَّ كل لفظ من هذه الألفاظ يَصرَع لفظًا عربيًّا أمامه، حتى يموت ويتلاشى، ويسودَ المقابل الأجنبي رغمَ معرفة علمائنا أنَّ اللُّغة كائنٌ حي يتفاعل ويحيا ويموت، وينتشر ويتلاشى، وهكذا.
8- وممَّا آلمني أني سمعْتُ أحدَ مدرِّسي اللُّغة العربية في إحدى المدارس الخاصَّة يقول لابنه: "بلغ مامي أول ما تنزل من الباص أني هتصل بها على الموبايل علشان نحدد معاد الشوبنج...باي"، وماذا بعد ذلك؟! الله أعلم.
أجلْ، إنَّ مَن أحبَّ الله، أحبَّ رسوله العربيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومَن أحبَّ رسوله العربي، أحبَّ العربَ، ومَن أحبَّ العرب، أحبَّ اللُّغة العربية، ومَن أحبَّ اللُّغة العربية عُنِي بها، وثابر عليها، وصَرَف همَّه إليها، فإنَّ العرب خيرُ الأمم، والعربية خيرُ اللُّغات والألسنة، والإقبال على تَعلُّمها من الدِّيانة؛ إذ هي أداة العلم، وواسطة التفقُّه في الدِّين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل واشتمالها على المروءة، وسائر مكارم الأخلاق، ولو لم يكنْ في الإحاطة بمعرفة مبانيها، والوقوف على حقائق معانيها وتصاريفها، والتبحُّر في حلائلها ودقائقها، ومجازاتها وحقائقها - إلاَّ قوَّةُ اليقين في معرفة إعجاز كتابِ الله، وزيادة التبصُّر في إثبات النبوَّة - لَكَفَى بها فضلاً، يَحسُن أثره، ويَطيب في الدارين ثَمرُه.
إذًا؛ فماذا علينا بعدُ؟ علينا أن نُضيِّق الشُّقَّة بين اللُّغة العامية والفصحى، وذلك بالالتفات إلى النحو العربيِّ، ومحاولة تيسير تدريسه بالقدر الذي يَعصمُ من الخطأ في ضبط أواخر الكَلِم، وأهمُّ من ذلك إشاعةُ رُوح الاعتزاز باللُّغة العربية، والتمسك باستخدامها، لا سيما في مدارسنا وجامعاتنا ومنتدياتنا، وفرْض التعليم باللُّغة العربيَّة، والشعور بصلتها المباشرة بالشَّرع، وامتلاكها حضارةً عظيمةً لا تزال مطلوبة، والإفادة مِن وسائل الاتصال والإعلام، والقنوات الفضائية في إشاعة التحدُّث بالعربية الفصحى عن طريق الوسائل التعليميَّة الحديثة، والمؤسَّسات الثقافية، والتقارير الإخباريَّة، ومِلاكُ ذلك كله الاهتمامُ بالأساليب البلاغيَّة التي تضبط معالِمَ الجمال في الأسلوب، وتُرقِّي الذوق والحِسَّ الأدبي، والذائقة النقدية، وبتحقيق ذلك تَبلغُ اللُّغة العربية درجةً من الرُّقي في معانيها ودلالاتها، ووظائفها الحيوية، وتصبح وسيلتَنا لطَرْق أبواب التقدُّم والفلاح، ونافذتَنا التي نطلُّ منها على العالَمِ شرقًا وغربًا، وستظلُّ رمزَ وحدتنا ما مرَّ الجديدان، وتعاقب المَلَوان.
وبعدُ، فندائي إلى أصحاب الأقلام والفِكر والثقافة، ورَجائي إلى أرباب اللُّغة: شُعراء وأدباء، علماء وكتَّابًا، معلمين وموجِّهين: أنْ حافظوا على عِزِّكم ومجدكم، وسبيلكم إلى ذلك الحفاظُ على لُغتكم العربية، وإن يكُ صور هذا اليوم ولَّى، فإنَّ غدًا لناظره قريب، وإنِّي أشعر أنَّ غدًا قد أشرق.
أمرنا الله وإيَّاكم بآداب لُغتنا، وتعاليم كتابنا، وسُنَّة نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/26392/#ixzz3PWpAC0A0