ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    السيرة النبوية د. عبد الحليم عويس

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    السيرة النبوية د. عبد الحليم عويس Empty السيرة النبوية د. عبد الحليم عويس

    مُساهمة من طرف أحمد الثلاثاء يناير 13, 2015 10:25 pm

    السيرة النبوية

    د. عبد الحليم عويس


    لم يهتمَّ المسلمون بشيءٍ بعد القرآن الكريم كاهتمامهم بسيرة نبيِّهم -صلى الله عليه وسلم- وحرصهم على معرفة تفاصيل حياته الخاصة والعامة، يدفعهم إلى ذلك عاملان رئيسيان:
    الأول: ارتباطهم العاطفي بشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومَيلهم الشديد لمعرفة تفاصيل حياته، وقد كانت هذه الرغبة تتعاظم وتشتد كلما ابتعدوا عن عصره، ونأَى بهم الزمان أو المكان عن مشاهدته والعيش معه عن قُرب، وقد زادتهم حِقبة الانقطاع عن السيرة حنينًا إليها وتعلُّقًا بأحداثها، وبمن يحدث عنها حديث المشاهدة والمعايشة.

    لوحِظ أن أكثر وأشهر كُتَّاب السِّيَر والمغازي الأوائل، كانوا من أهل المدينة، وهذا أمر طبيعي، فأكثر أحداث السيرة النبوية والمغازي، كانت في المدينة المنورة، وأن النبي كان محور كل ذلك، من هنا كان الصحابة أعرف الناس بتلك الأحداث؛ لأنهم شهودها والمشتركون فيها، وكانوا يَرْوُونها ويُحدثون بها، ويتناقلونها في فخرٍ واعتزاز.

    وقد تلقَّى التابعون منهم كل ذلك بشغفٍ كبير، حتى وصلت السيرة إلى رجال التدوين، فحفظوها بكل تفاصيلها، وسلَّموها للأجيال التالية.

    كانت السيرة في البداية جزءًا من الحديث يرويه الصحابة، كما يَروُون الحديث، وقد شغَلت السيرة النبوية حيِّزًا غير قليل من الأحاديث، كما أن الذين ألَّفوا في الأحاديث، لم تخلُ كُتبهم من ذكر ما يتعلق بحديث النبي ومغازيه وخصائصه ومناقبه.

    وقد استمر هذا المنهج حتى بعد أن انفصلت السيرة عن علوم الحديث، وأصبحت علمًا مستقلاًّ، له علماؤه ومؤلفوه، فأقدم كتاب وصل إلينا في علم الحديث هو موطأ الإمام مالك بن أنس، لم يخلُ من ذكر طائفة كبيرة من الأحاديث التي تتعلق بسيرة النبي وأوصافه وأسمائه، وذكر ما يتعلق بالجهاد.

    واستمر هذا التقليد المتَّبع أو هذا المنهج في كُتب كبار علماء الحديث، وفي مقدمتهم الإمامان البخاري ومسلم، فقد اشتمل صحيحاهما على جزء كبير من مغازي الرسول وفضائله ومناقب أصحابه، وقد شغل ذلك عُشر صحيح البخاري، وحذا حَذو البخاري ومسلم أصحابُ السُّنن والمسانيد في كُتبهم.

    وسلك المؤلفون الأوائل في كتابة السيرة والمغازي مسلك علماء الحديث من حيث العناية بالإسناد، فمثلاً لوحِظ أن ابن إسحاق والواقدي عرَضا الحادثة التاريخية في إيجاز واختصارٍ؛ تسهيلاً على القرَّاء، وهو منهج جديد عابه المحدثون عليهم، وهاجموهم من أجله.

    وإذا كان همُّ المؤرخين الأوائل -أي: جيل التابعين- هو النقل والرواية، فإن همَّ الجيل الثاني -أمثال عاصم بن عمر بن قتادة (120 هـ)، وابن شهاب الزُّهْري (124 هـ)، وابن إسحاق (152 هـ)- هو الجمع والتبويب دون نقدٍ أو تمحيصٍ، وهذا وفَّر الفرصة للروايات الموضوعة أو الضعيفة أن تجد طريقًا إلى مصنَّفاتهم؛ ومن ثَمَّ تَنتقل إلى الأجيال القادمة، حتى جاء دور الجيل الثالث الذي يقف ابن هشام في مقدمته، فانقسم إلى فريقين: فريق اشتغل بشرح كتب الأوَّلين والتعليق عليها، وفريق آخر أراد أن يعطي لنفسه صفة المؤلف المُبتدع، فحاوَل أن يخرج مما اجتمَع بيده من كتب السيرة بكتاب جديد فيه حذْف وإضافة، لم يذكر أسبابها والمبررات التي حملت عليها.

    مناهج كتابة السيرة النبوية:
    السيرة النبوية -وخاصة المغازي- دوِّنت مبكرًا جدًّا في مرحلة سابقة على الحديث، الذي كان على شكل صُحف مفردة؛ ذلك أن الصحابة اهتموا كثيرًا بمغازي رسول الله، حتى كانوا يعلِّمونها أبناءهم كما يُعلمونهم السورة من القرآن، ومِن ثَمَّ وجدنا أول من دوَّن في السيرة (المغازي) -حسب المصادر- عروة بن الزبير بن العوام (94هـ)، وأَبَان بن عثمان بن عفان (101 أو 105 هـ)، ويُروى أن كتابه كبير، وأنه يبرز فضائل الأنصار، وعامر بن شَرَاحيل الشَّعْبي (103 هـ)، وله كتاب المغازي، وعاصم بن عمر بن قَتادة (119هـ)، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزُّهْري (124هـ)، وشُرَحْبيل بن سعد المدني (123هـ)، ويزيد بن هارون الأسدي المدني (103 هـ)، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم (135 هـ)، وموسى بن عقبة (140هـ)، وهو أصحها على صِغَره -كما يقول الشافعي- وغيرهم حتى جاء ابن إسحاق (151 هـ).

    ويبدو أن كثيرًا من المصنفات قبل ابن إسحاق كانت في الغالب تقتصر على ذكر المغازي وبعض ما يتصل بها، حتى جاء ابن إسحاق فوضع كتابه على ثلاثة أقسام "المبتدأ"؛ وتناوَل فيه تاريخ الأنبياء إلى نبيِّنا، و"المبعث" وخصَّصه لحياة الرسول، و"المغازي" تعرَّض فيه لنشأة الدولة الإسلامية في المدينة وتَحَوُّل الدعوة من الدفاع إلى "الهجوم".

    منهج تدوين السيرة في الصدر الأول:
    يغلب على جميع المؤرخين حتى ابن خلدون (808هـ) منهج جَمْع الأخبار وسرْد الأسانيد دون أي تحليلٍ، وفيما يخص الترتيب فقد اعتمد وهْب بن مُنَبِّه (110هـ) وابن إسحاق (151هـ) على التأريخ من بدء الخليقة، وكان ذلك أول محاولة -فيما نعلم- للتأريخ الشامل، ثم تبِعهما في التأريخ العام للعالم الدينوري (282هـ)، واليعقوبي (284هـ)، ثم الطبري (310هـ)، الذي يُعَدُّ أبرز كتَّاب التاريخ وأهمَّهم، وقد اعتمد بشكل رئيس على الإسناد لكونه محدثًا، واعتمد مَعمَر بن راشد (153هـ) في مغازيه على ترتيب الأخبار على أساس موضوعي على نحو ما فعل في (الجامع)، الذي يعد من أوائل المجموعات الحديثية المدوَّنة في السُّنة.

    ولكن كُتب السيرة والتاريخ لم تخضَع لمنهج النقد، الذي كان معزولاً عن الرواية التاريخية، ومستثمرًا بشكل ضخم في الرواية الحديثة، فيما عدا الكتب التي أفردت بابًا خاصًّا للمغازي والسِّيَر من الكتب الستة كالبخاري، وهذا يعود لسببين: الأول: موقع كل من الروايتين وأهميتها، فالرواية الحديثية تتعلق بالحلال والحرام؛ ولذلك تساهَل فيها المحدثون أنفسهم؛ ومن ثَمَّ وجدناهم تكلموا في ابن إسحاق، ونزلوا بروايته الحديثية عمن يحتج به، فابن إسحاق ثقة حسنُ الحديث؛ ولكن ليس حجة، بينما اعتبروه إمام أهل المغازي، وقد يكون تساهله في قبول الأخبار سبب المنافرة بينه وبين الإمام مالك؛ الذي كان يشترط الصحيح ويشدِّد فيه، وكذلك الحال في الواقدي الذي كذَّبه بعضهم، واحتجَّ به آخرون في المغازي.

    والأمر الثاني: الفرق الجوهري بين المحدث والمؤرخ، الذي دُعِي باسم (الأخباري) عند المحدثين؛ فالمؤرخ إنما يعتني بتوثيق الحدث، وإيراد كل ما عنده من أخبار في ذلك، بينما يتوجه المحدث إلى تحرِّي الرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتمييز المقبول من المردود؛ لأنه يتكلم في الحلال والحرام.

    وعلى كلٍّ فقد كان العلماء في الصدر الأول (القرون الثلاثة الأولى)، يعتمدون على قاعدة مفادها (من أسند إليك، فقد حَمَّلك)؛ ومن ثَمَّ كانوا يُورِدون الأخبار بأسانيدها، والعهدة على الإسناد؛ لكون ذلك شائعًا في تلك المرحلة التاريخية.

    ولم يتمَّ توظيف منهج النقد في سياق الأخبار التاريخية، إلا في محاولات جزئية في الحوادث الخاصة بالسيرة كالمغازي وغيرها، مما يتصل اتصالاً وثيقًا بالحلال والحرام، أو بشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- كما وجدنا في بعض الكتب الستة، وبدا ذلك أيضًا عند المتأخرين كابن كثير (774هـ) في "البداية والنهاية"؛ الذي تعرَّض فيه لنظرات نقدية مبثوثة في كتابه؛ ولكنها تبقى جزئية.

    نقد المحدثين لكتب المغازي والسير:
    للمحدثين نظرات نقدية في كتب المغازي، نعرض لبعضها هنا من خلال كُتب ابن إسحاق، والواقدي، وموسى بن عقبة.

    1- ابن إسحاق:
    قال الخطيب البغدادي: "أما المغازي فمن المشتهرين بتصنيفها وصرْف العناية إليها: محمد بن إسحاق المطلبي، ومحمد بن عمر الواقدي، فأما ابن إسحاق، فقد تقدَّمت منا الحكاية عنه أنه كان يأخذ عن أهل الكتاب أخبارهم، ويُضمِّنها كُتبه، ورُوي عنه أيضًا أنه كان يدفع إلى شعراء وقته أخبارَ المغازي، ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار ليلحقها بها...".

    2- الواقدي:
    قال الخطيب: "وأما الواقدي، فسوء ثناء المحدثين عليه مستفيض، وكلام أئمَّتهم فيه طويل عريض؛ قال الشافعي: (كتب الواقدي كذب...)، فما رُوِي من هذه الأشياء عمَّن اشتَهر تصنيفه، وعُرِف بجمعه وتأليفه: هذا حُكمه، فكيف بما يُورده القُصَّاص في مجالسهم، ويستميلون به قلوب العوام من زخارفهم؟!

    إن النقل لمثل تلك العجائب من المنكرات، وذهاب الوقت في الشغل بأمثالها من أخسر التجارات".

    3- موسى بن عقبة:
    قال الشافعي: "وليس في المغازي أصحُّ من كتاب موسى بن عقبة مع صِغَره وخُلوه من أكثر ما يذكر في كُتب غيره".

    وقال الذهبي: "وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها وغالبها صحيح ومُرسل جيد؛ لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتَتمَّة".

    السيرة الصحيحة:
    ومع تطوُّر علم التاريخ واتِّساعه، ونُشوء منهج النقد التاريخي ونموِّه في الغرب - حاول بعض المعاصرين توظيف منهج النقد في السيرة، فنشأ ما سُمِّي (السيرة الصحيحة)؛ (قام بها د. أكرم ضياء الدين العمري)، وذكر هو في مقدمة (السيرة الصحيحة)، (م. س) (1/ 23) ستة عشر رسالة جامعية، وظف فيها منهج المحدثين في نقد روايات السيرة، وربما يتصل بهذا الموضوع محاولة د. أبو شهبة في (السيرة النبوية من القرآن والسنة)، وإن كنا لا نراها دقيقة، وكذلك تحليل محمد عزت دروزة للآيات القرآنية المتعلقة بالسيرة في كتابه "سيرة الرسول".

    لكن تطبيق منهج المحدثين بقواعده الصارمة، سيُفقدنا كثيرًا من الأخبار التاريخية؛ لأنها تفتقد لتلك المعايير السليمة التي توفَّرت في الحديث النبوي الشريف، الأمر الذي سيحدث فجوات تاريخية يحتاج إليها المؤرخ، وقد يكون هذا ما دفَع المحدثين إلى عدم القيام بهذه المهمة بشكل مفصَّل وشامل، واكتفوا بإبداء نظرات نقدية في كتب السيرة عامة، وعلى وجه الإجمال؛ بل إنهم تساهلوا في المؤرخين كما أشرنا إلى ذلك قبلُ، ومع أنهم ضعَّفوا الواقدي واتَّهموه بالكذب، قالوا: (لا يُستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم).

    ومن توجَّه إلى جمع "السيرة الصحيحة" من المعاصرين، لم يستطع أن يلتزم بـ"الصحيح" و"الحسن" بالاصطلاح الحديثي؛ لأن الأخبار الموجودة بهذه "الدرجة " لا تغطي جوانب السيرة الكاملة؛ كما هي في سيرة ابن هشام وغيره؛ ومن ثَمَّ كان لا غناء لكُتَّاب السيرة عن كتب المغازي، والتي فيها أخبار قد تخلو من الأسانيد أصلاً.

    أما الآيات القرآنية المتعلقة بالسيرة النبوية، فهي لا تتعدَّى بضع عشرات من الآيات، وهي في مجملها تتحدث عن المغازي (كـ بدر، وأُحد، وحُنين، والعُسرة..)، ونحو ذلك من البيعة، ونشأة الرسول وغير ذلك، وهي مع ذلك تمتاز بالإيجاز الشديد، ويعود ذلك إلى الفارق بين الصياغة الأدبية التي امتاز بها القرآن والصياغة التاريخية، إضافة إلى أن القرآن يكتفي بالقدر الذي يحقِّق العِبرة والعِظة.

    من هنا نجد أن سيرة د. محمد أبي شهبة التي عنْونها بـ"السيرة النبوية من القرآن والسنة" ليست دقيقة؛ لأنها لم تختلف كثيرًا عن كُتب السِّير المعروفة، وإن كان اعتنى بنكر الآيات، ولو طبَّق ما التزمه في العنوان، لكانت سيرته أصغر مما هي عليه الآن.

    منهج المدرسة الإصلاحية في كتابة السيرة:
    كان من نتائج احتكاك العرب بالغرب وأبحاث المستشرقين، أن حدث جدل واسعٌ أثار الكثير من الإشكاليات في حقل العلوم الإسلامية، ومنها قضايا "الوحي" و"المعجزات".. وغير ذلك، وكان أن برز الشيخ محمد عبده -رحمه الله- وحاوَل أن ينهض بالتعليم الأزهري والعلوم الإسلامية على أُسس "حديثة"، متأثرًا بالنهضة الغربية، ومحمد عبده لم يكتب في السيرة؛ لكنه تعرَّض في تفسيره وغيره لقضية "الوحي" و"المعجزات"، وهما من ركائز السيرة وأساس "النبوة"، وكان أن تأثَّر به عدد من علماء عصره ومن بعدهم؛ مثل: رشيد رضا، وأحمد أمين، ومصطفى المراغي، ومحمد حسين هيكل، ومحمد فريد وجدي، ومحمود شلتوت، ومحمد الخضري، ومحمد الغزالي.. وغيرهم، فنشأَ ما سُمِّي "المدرسة الإصلاحية".

    لكننا نجد أن روَّاد المدرسة الإصلاحية نهجوا الطريق الثاني (التأويل)، وهذا يتعارض مع منهج المدرسة الأثرية (أصحاب الحديث) الذين يقدمون النص على العقل مطلقًا.

    ومن ثم فإن قضية "المعجزات" مما يتعارض فيه العقل مع النقل وَفْق رؤية "المدرسة الإصلاحية"؛ فكان الخلاص من ذلك هو "التأويل" لدَرء ذلك التعارض.

    يقوم موقف محمد عبده على مقدمتين:
    الأولى: السُّنن الكونية ثابتة لا تتغيَّر؛ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

    الثانية: البدهيات العقلية ثابتة لا تتخلف؛ (كاستحالة اجتماع النقيضين)، وبناءً على ذلك يجب أن تكون "المعجزة" خارقة للعادة جائزة عقلاً، فالشيخ إن لم يجد للتأويل سبيلاً يؤمن بالمعجزة على ظاهرها؛ لكن هذه المعجزات انتهَت بختم النبوة، وأضحت السُّنن الكونية ثابتة لا تتغير لأيِّ بشرٍ؛ ومن ثَمَّ فهو لا يؤمن بالكرامات "الخارقة"، ذلك أن الناس دخلوا في مرحلة الرشد.

    ومن تأويلاته قوله: إن "الحجارة من سجِّيل" في حادثة الفيل هي مرض "الجدري والحصبة"، مستندًا إلى قول عكرمة ويعقوب بن عتبة إن أول ما ظهر الجدري في شبه الجزيرة ذلك العام.

    إن التأويل الذي أجراه محمد عبده في مواضع كثيرة لم يخلُ من "إسقاطات" ظاهرة في محاولة لعقْلَنة المعجزات، وإن كان بعضه محتملاً؛ كتأويله جنة آدمَ التي خرج منها بالبستان، مستدلاً بالمعنى اللغوي للجنة وبالقرينة {اهْبِطُوا}، والأصل فيها النـزول من مكان مرتفع، وليس بالضرورة أن يكون من السماء، ويشهد لذلك قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61].

    أما رشيد رضا وشيخ الأزهر الأسبق مصطفى المراغي، فينتهجان منهج الشيخ عبده، ويؤكدان على أن معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي القرآن وحده، ويستشهدون بآيات سورة الإسراء {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90-93].

    ويذهب الشيخ الخضري إلى الرأي القائل: إن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط وليس بالجسد، وهو رأي قديم.

    أما هيكل في كتابه "حياة محمد"، فهو يمثل بامتياز "المدرسة العقلية"؛ فهو منذ البداية يقول عن كتابه: "إنها دراسة علمية على الطريقة الغربية الحديثة"، يقصد وَفق التفسير المادي الوضعي؛ ومن ثَمَّ فهو يُسرف في تأويلاته، فالحجارة في حادث الفيل الحصبة والجدري، وقصة "شق الصدر" مُختلقة تبعًا لموير ودرمنجهم وغيرهما، والإسراء بالروح فقط إلى غير ذلك.

    تأثَّر هيكل بالمستشرقين ووافَقهم في بعض آرائهم؛ أمثال: موير، ولامنس، وسبق أن لامنس على الخصوص يسوعي مُفعم بالكره للإسلام ونبي الإسلام على حد قول درمنجهم!

    إن (هيكل) يركز في كتابه هذا على الجانب الإنساني "البشري" من حياة النبي، ومن هنا أتت التسمية "حياة محمد"، التي استعارها من وليم موير في كتابه "حياة محمد".

    هذه أهم المناهج التي خضعت لها السيرة النبوية، وإننا إذ نختم بحثنا، نؤكِّد على ضرورة إعادة كتابة السيرة "التطبيق العملي للإسلام"، وَفق مناهج جديدة تجمع بين دقة المنهج العلمي وصحة الأخبار من جهة، وبين عُمق الإيمان بنبوة صاحب السيرة -صلى الله عليه وسلم- من جهة أخرى.

    يجب أن ندرس السيرة النبوية من جميع جوانبها (النبوية والبشرية)، فندرس حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- بوصفه نبيًّا، وإمامًا، ومفتيًا، وقاضيًا، وإنسانًا -(زوجًا، وأبًا، وجدًّا)- كما ينبغي دراسة تفاعلات هذه النواحي فيما بينها لدراسة أثر "الوحي" و"الفكرة الدينية" في عملية بناء وتغيير المجتمعات.

    فقه السيرة:
    كتاب (فقه السيرة)؛ للشيخ محمد الغزالي - يقول عن منهجه في التأليف: عندما شرعت في التأليف عن السيرة النبوية، قمت بالمَزج بين منهج القدماء ومنهج المحدثين في كتابة السيرة النبوية، فأخذت من كليهما الأفضل؛ ومن ثَمَّ جعلت من تفاصيل السيرة موضوعًا متماسكًا، يشد أجزاؤه رُوح واحد، ثم وزعت النصوص والمرويات الأخرى، بحيث تتَّسق مع وحدة الموضوع، وتُعين على إتقان صورته وإتمام حقيقته، وقصدتُ من وراء ذلك أن تكون السيرة شيئًا ينمي الإيمان، ويُزكي الخلق، ويُلهب الكفاح، ويُغري باعتناق الحق والوفاء له، ويضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله.

    إنني أكتب في السيرة كما يكتب جندي عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولستُ -كما قلتُ- مؤرخًا محايدًا، مَبتوت الصلة بمن يكتب عنه، ثم إنني أكتب وأمام عيني مناظر قائمة من تأخُّر المسلمين العاطفي والفكري، فلا عجب إذا قصَصت وقائع السيرة بأسلوب يُومئ من قربٍ أو من بُعد إلى حاضرنا المؤسف، كلما أوردتُ قصة تَحمل في طيَّاتها شِحنة من صدق العاطفة، وسلامة الفكر، وجلال العمل[1].

    المصدر: الألوكة.



    [1] انظر: فقه السيرة للغزالي، دار القلم - دمشق، تخريج الأحاديث: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1427 هـ، ص6، 7، بتصرف.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 14, 2024 4:22 pm