من طرف أحمد الجمعة أبريل 12, 2013 6:40 am
وفي السنة الحادية عشرة من البعثة: عرض نفسه الكريمة علىٰ القبائل في موسم الحج كعادته، فآمن به ستة من رؤساء الأنصار، ورجعوا إلىٰ المدينة ففشا فيهم الإسلام.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغل مواسم الحج وإقبال الناس وتوافدهم إلىٰ بيت الله الحرام للدعوة إلىٰ دينه ورسالته لعلَّ أحدًا أن يستجيب له فيؤويه وينصره بعدما كذبه قومه. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًىٰ يَقُولُ: «مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّىٰ أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» حَتَّىٰ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ، وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، حَتَّىٰ بَعَثَنَا الله إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّىٰ لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ([1]). وعنه أيضًا قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَىٰ النَّاسِ بالْمَوْقِفِ فيقول: «هل من رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَىٰ قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي»([2]). وعن أبي الزِّنَادِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بن عَبَّادٍ مِنْ بني الدِّئلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فأسلم، قَالَ: رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا الله تُفْلِحُوا» وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ أَحْوَلُ، ذُو غَدِيرَتَيْنِ([3]) يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ، يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَذَكَرُوا لِي نَسَبَ رَسُولِ الله r وَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أبو لَهَبٍ([4]). وكان من القبائل التي عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عليها؛ قبيلة كنْده، وبطن من بني كلب يقال لهم بنو عبد الله، وبنو حنيفة، وبنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرَّة، وسُليم، وعبس، وبنو نضر، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد. وتصدىٰ النبي صلى الله عليه وسلم لسويد بن الصامت الذي كان يسميه قومه (الكامل) لجلده، وشرفه، ونسبه، فدعاه إلىٰ الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعرضها عليَّ»، فعرضها عليه؛ فقال له: «إنَّ هذا لكلام حسن؛ والذي معي أفضل منه، قرآن أنزله الله تعالىٰ عليَّ هو هدىٰ ونور» فتلا عليه رسول الله r القرآن ودعاه إلىٰ الإسلام، فلم يبْعُد منه، وقال: إنَّ هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة علىٰ قومه، فلم يلبث أنْ قتله الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث([5]). وعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه علىٰ بني عبد الأشهل حيث قدموا يلتمسون الحلف من قريش علىٰ قومهم من الخزرج، فعرض عليهم الإسلام، وقال لهم: «هل لكم في خير مما جئتم له؟» فقالوا له: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله بعثني إلىٰ العباد، أدعوهم إلىٰ أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليَّ الكتاب» قال: ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: فقال إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثًا: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، قال: فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلىٰ المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالىٰ ويكبره ويحمده ويسبحه حتىٰ مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلمًا([6]). فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم؛ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه علىٰ القبائل كعادته فالتقىٰ برهط من الخزرج أراد الله بهم خيرًا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي يهود؟» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلىٰ، فجلسوا معه، فدعاهم إلىٰ الله تعالى، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد عزُّوهم([7]) ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتَّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلىٰ الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبيّ الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسىٰ أن يجمعهم الله تعالىٰ بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلىٰ أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلىٰ بلادهم، وقد آمنوا وصدَّقوا، وهم ستة نفر جميعهم من الخزرج: 1- أسعد بن زرارة بن عُدَي، أبو أُمامة. 2- عوف بن الحارث بن رفاعه، وهو ابن عفراء. 3- رافع بن مالك بن العجلان. 4- قطبة بن عامر بن حَديدة. 5- عقبة بن عامر بن نابي. 6- جابر بن عبد الله بن رئاب([8]). تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ الله لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا فَقَدَّمَهُ الله لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ([9]). قال ابن حجر: (كَانَ يَوْم بُعَاث) بِهِ وَقْعَة بَيْن الْأَوْس وَالْخَزْرَج, فَقُتِلَ فِيهَا كَثِير مِنْهُمْ. وَكَانَ رَئِيس الْأَوْس فِيهِ حُضَيْر وَالِد أُسَيْدِ بن حُضَيْر وَكَانَ يُقَال لَهُ حُضَيْر الْكَتَائِب وَبِهِ قُتِلَ, وَكَانَ رَئِيس الْخَزْرَج يَوْمَئِذٍ عَمْرو بن النُّعْمَان الْبَيَاضِيّ فَقُتِلَ فِيهَا أَيْضًا, وَكَانَ النَّصْر فِيهَا أَوَّلًا لِلْخَزْرَجِ ثُمَّ ثَبَّتَهُمْ حُضَيْر فَرَجَعُوا وَانْتَصَرَتْ الْأَوْس وَجُرِحَ حُضَيْر يَوْمئِذٍ فَمَاتَ فِيهَا, وَذَلِكَ قَبْل الْهِجْرَة بِخَمْسِ سِنِينَ وَقِيلَ: بِأَرْبَعٍ وَقِيلَ: بِأَكْثَر وَالْأَوَّل أَصَحّ, وَذَكَرَ أبو الْفَرَج الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَّ سَبَب ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَاعِدَتهمْ أَنَّ الْأَصِيل لَا يُقْتَل بِالْحَلِيفِ, فَقَتَلَ رَجُل مِنْ الْأَوْس حَلِيفًا لِلْخَزْرَجِ, فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيدُوهُ فَامْتَنَعُوا, فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ الْحَرْب لِأَجْلِ ذَلِكَ, فَقُتِلَ فِيهَا مِنْ أَكَابِرهمْ مَنْ كَانَ لَا يُؤْمِن, أَيْ يَتَكَبَّر وَيَأْنَف أَنْ يَدْخُل فِي الْإِسْلَام حَتَّىٰ لَا يَكُون تَحْت حُكْم غَيْره, وَقَدْ كَانَ بَقِيَ مِنْهُمْ مِنْ هَذَا النَّحْو عبد الله بن أبي بن سَلُول وَقِصَّته فِي ذَلِكَ مَشْهُورَة مَذْكُورَة فِي هَذَا الْكِتَاب وَغَيْره([10]).اهـ.
([1]) حسن: أخرجه أحمد 3/322، قال ابن حجر في «فتح الباري» 7/222: إسناده حسن.
([2]) صحيح: أخرجه أبو داود (3734)، كتاب: السنة، باب: في القرآن، الترمذي (2934) كتاب: فضائل القرآن، باب: رقم (24)، ابن ماجه (201) في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، أحمد 3/390، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي».
([3]) غديرتان: تثنية غديرة، أي ذؤابة، وهي الشعر المضفور الذي أُدخل بعضه في بعض.
([4]) حسن بمجموع الطرق: أخرجه أحمد 4/341، وله شواهد أخرجها ابن هشام في «السيرة» 2/18، الطبراني في «الكبير» (4587)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثانىٰ» (962)، البيهقي في «السنن» 9/7، و «الدلائل» 2/185.
([5]) «سيرة ابن هشام» 2/21.
([6]) «سيرة ابن هشام» 2/21.
([7]) عزوهم: غلبوهم وقهروهم.
([8]) «سيرة ابن هشام» 2/21، 23 مختصرًا.
([9]) صحيح: أخرجه البخاري (3777)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب الأنصار. سرواتهم: أشرافهم.
([10]) «فتح الباري» 7/138، 139.