التصور والتصديق في أسلوب الاستفهام
قصي سمير العزاوي
التصور والتصديق في أسلوب الاستفهام
دراسة بلاغية لآيات القرآن الكريم
الملخص:
يعد التصور والتصديق من المصطلحات البلاغية البحته، إذ أن علماء النحو لم يذكروا هذين المصطلحين بصورة واضحة وإنما اكتفوا بالإشارة إليهما فقط وأول من أشار إلى هذين المصطلحين عند النحاة سيبويه في باب النسبة والإفراد في الاستفهام. وجاءت التسمية على يد السكاكي في القرن السادس الهجري في كتابه مفتاح العلوم فأخذ كل علوم البلاغة الموجودة في بطون أمهات الكتب اللغوية، ففصلها وشرحها ووسعها فتكونت عنده مصطلحات جديدة فأصبح لزاما عليه أن يسمي المصطلحات حسبما يتطلب المعنى ومن هنا ظهر التصور والتصديق في علم البلاغة.
فالاستفهام التصوري هو عن التردد في تبيين أحد شيئين ، فبالاستفهام يعلم انه أحاط العلم بأحدهما لا بعينه سواء كان مسندا، أو مسندا إليهما، أو من متعلقات الإسناد. ويصلح أن يؤتى بعد التصور (أم) المتصلة المعادلة العاطفة لا المنقطعة.
أما الاستفهام التصديقي هو يكون عن نسبة تردد الذهن بين ثبوتها، وانتفائها. وحقه أن يؤتى بعده (أم) المنقطعة لا المتصلة.
ولا يكون الاستفهام لطلب التصور إلا بعد حصول التصديق بأصل النسبة ولعل التصور والتصديق له حضور واضح في القرآن الكريم لما يجسداه من عمق ذهني وإثراء لغوي إذ يهدف المصطلحان إلى تحديد دلالة الاستفهام في الخطاب القرآني فالتصوري يحتاج إلى تعيين الجواب فقط ولا يحتاج إلى إجابة بنفي أو إثبات. أما التصديقي فيتطلب أداة من أدوات الجواب سواء كانت مثبته أو منفية. وبهذا فقد قسم الاستفهام في القرآن إلى قسمين تصوري وتصديقي. وتهدف المقالة إلى إزاحة ما كان يكتنف البحوث من توزيع وتفرق لأقسام الاستفهام ومعانيه، فلمَّ شتاتهم، ونظم ما كان منه من أفكار متناثرة، ونتف مفرقة.
المقدمة:
أجمع العلماء إن أساس التصور والتصديق هو العلم أو الدراية.
والعلم هو إدراك الشيء بحقيقته عند العقل ويظهر هذا المعنى جليا في القرآن الكريم في العديد من الآيات ومن ذلك قوله تعالى {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}
[النجم 35]. وقوله عز من قائل {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمْ} [التكاثر 5-6]. ويكون العلم أما قطعيا وهو اليقين كما ذكر في الآية المباركة أو ظنيا على سبيل المجاز كقوله عز من قائل { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}[الممتحنة 10].
أي: ولو كان علمكم بمستوى الإدراك أو الظن فخذوا بإيمانهن والله أعلم.
ومن العلماء من قسمه إلى نوعين العلم الحضوري، والعلم الحصولي. فان كان تميزه ظهوره عند العقل في الخارج يسم علما حضوريا ، وان كان تميزه وحضوره وظهوره عند العقل بصورته الحاصلة له في العقل يسم علما حصوليا ، وينقسم العلم أيضا إلى قسمين : هما التصور والتصديق.
ويعد أول من طرق باب التصور والتصديق سيبويه "ولا يحق لمنصف أن يتنكر لجهوده التي قدمها لخدمة البلاغة العربية بدعوى انه لم يذكر لها مصطلحات، وإنما يحق لنا أن نقول إن سيبويه كان حجر الأساس في بناء البلاغة العربية بما ذكره من موضوعات تدخل في علم المعاني كالتقديم والتأخير والاستفهام وكما لم يفته أن يتناول أسرار التراكيب وتأليف الكلمات وصوغ العبارات وإبراز الفرق بين تعبير وآخر، وان اهتمامه لم يكن قاصرا على أواخر الكلمات ، وبيان إعرابها وبنائها ، وإنما تجاوز ذلك إلى نظم الجملة والجمل" ينظر[1].
أما إمام البلاغيين الشيخ عبد القاهر الجرجاني فقد درس التصور والتصديق على أساس أدوات الاستفهام لفهم يختلف كثيرا عن سيبويه وآراءه حتى قال فيه شوقي ضيف " ونراه يعرض أمثلة كثيرة لصياغات مختلفة مع همزة الاستفهام ، تارة يليها فيها الفعل وتارة يليها الاسم ، مبينا ما بينها من دقائق بلاغية ، ذلك انك إذا سألت شاعرا ( أأنت قلت هذا الشعر ؟) مقدما الضمير على الفعل كان الشك في قائل الشعر اهو المخاطب أم غيره . أما الشعر فلا شك فيه وإذا سألته : ( أقلت هذا الشعر ؟) كان الشك في الفعل نفسه وهل نظم الشعر حقا أو لم ينظمه.
فالتقديم والتأخير لا يأتيان للاهتمام أو العناية ، وإنما يأتيان لتحرير المعاني وضبطها ورتب على ذلك إن هذا السائل يستطيع أن يسأل صاحبه :(أقلت شعرا قط ؟) فيكون كلامه صحيحا مستقيما ، ولكن لو سأله (أأنت قلت شعرا قط؟) كان قد أخطا في سؤاله، لأنه جمع فيه بين إثبات الفعل والشك في حدوثه ، إذ السؤال مسلط على الشخص لا على فعله ، فكان ينبغي أن لا تضيف كلمة (قط) . وهذا نفسه يطبق في كل صيغة للاستفهام بالهمزة ، فدائما يليها المسؤول عنه سواء في التقرير أو غير التقرير"[2].
ويعد السكاكي أول من ذكر تسميات المصطلحات البلاغية وجعلها في أبواب مستقلة وعلوم منفردة في كتابه مفتاح العلوم الذي جعل فيه النزعة المنطقية والجدلية ذات طابع واضح في أفكاره. فقد أطلق التصور والتصديق كعنوان بلاغي في باب علم المعاني، فطبق هذين المصطلحين بصورة عملية في القرآن الحكيم. ولم يقف التصور والتصديق عند السكاكي فحسب بل تبحر المفسرون والبلاغيون في هذين المصطلحين. أمثال ابن الزملكاني أبو المكارم عبد الواحد بن عبد الكريم (ت 651 هـ) في كتابيه ( التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن) و ( البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ) ينظر[3]. ومن البلاغيين الخطيب القزويني الذي قام بدراسة كتاب السكاكي فصنفه وشرحه شرحا مفصلا مبينا الحجج والعلل في جميع الآراء البلاغية التي تناولها السكاكي.
الاستفهام التصوري عند البلاغيين في القرآن الحكيم:
تصورت الشيء : توهمت صورته فتصور لي . ولا أتصور ما تقول"[4].
" فهو إدراك الماهية" انظر[5]. من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات"[6].. وقال الغزالي في الماهية "اعلم أن قول القائل في الشيء ما هو" ينظر[7].
والتصور من الناحية البلاغية "هو إدراك المفرد كقولك (أعلي مقيم أم محمد). تعتقد إن السفر حصل في أحدهما ولكنك تطلب تعيينه ولذا يجاب بالتعيين فيقال علي مثلا"[8](5). ونعني بالإدراك هو تعيين أحد طرفين الإسناد أو احد أجزاء الجملة و"تأتي الهمزة متلوة بالمسئول عنه ويذكر له في الغالب معادل بعد (أم) المتصلة وسبب تسميتها بالمتصلة لأنها تأتي بعد همزة التصور"[9].
ومن ذلك قوله تعالى {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[البقرة 140]. وقوله جل وعلا{سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}[إبراهيم 21]. فهذه الآيتان المباركتان لا تتطلب الإجابة بهما إلا بالتعيين. ولا يحتاج إلى الإجابة بنعم أو لا أو غير ذلك من أدوات الجواب.
وقسم الشيخ المظفر التصور إلى أربعة أقسام "أولا المفرد الذي يتكون من اسم وفعل وحرف وثانيا النسبة في الخبر عند الشك أو توهمها كقولك (المريخ مسكون) وثالثا النسبة في الإنشاء من أمر ونهي وتمن واستفهام فلا تصديق ولا إذعان وأخيرا المركب الناقص كالمضاف والمضاف اليه وغيرها"[10].
والتصور من الناحية البلاغية "هو إدراك المفرد كقولك (أعلي مقيم أم محمد). تعتقد إن السفر حصل في احدهما ولكنك تطلب تعيينه ولذا يجاب بالتعيين فيقال علي مثلا[11].
وفي هذه الحالة "تأتي الهمزة متلوة بالمسؤول عنه ويذكر له في الغالب معادل بعد (أم) المتصلة وسبب تسميتها بالمتصلة لأنها تأتي بعد همزة التصور"[12].
وإن طلب التصور مرجعه إلى تفصيل المجمل أو تفصيل المفصل بالنسبة[13].
فهو إدراك أحد أجزاء الجملة المسند أو المسند إليه أو احد المتعلقات ولكنه يجهل أحد أجزاء البناء[14]. ومن ذلك قوله تعالى {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[البقرة 140]. وقوله جل وعلا{سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}[ابراهيم 21]. فهذه الآيتان المباركتان لا تتطلب الإجابة بهما إلا بالتعيين.
الاستفهام التصديقي عند البلاغيين في القرآن الحكيم:
التصديقمن "الصدق نقيض الكذب صدقه قبل قوله، وصدقه الحديث أي أنبأه بالصدق"[15]. وعند قولك رجل صديق، أي عنده مصداق ذلك وهو ما يصدقه من دليل[16]. وعرفه المناطقة بأنه "تصور ولكنه تصور يستتبع الحكم وقناعة النفس وتصديقها[17]. أشار الغزالي (ت505هـ) "بأنه بخلاف العلم والمعرفة"[18]. أما اللغويون فلم يبتعدوا عن هذا كثيرا فعبروا "بأنه نسبة الصدق في القلب أو اللسان إلى القائل. وضده الإنكار والتكذيب"[19].
والتصديق اصطلاحا عند أهل البلاغة فهو "إدراك النسبة تستفهم عن حصول الشيء من عدمه"[20]."وفي هذه الحالة يمتنع ذكر المعادل وإذا جاءت (أم) بعد همزة التصديق تكون منقطعة وتكون بمعنى بل"[21].
ويطلب التصديق "تعين الثبوت أو الانتفاء في مقام التردد"[22]. "وذلك عندما يكون السائل عالما بأجزاء الإسناد، ويجهل الحكم أو مضمون الجملة فهو يسأل ليقف على هذا الحكم، فعندما تدخل أدوات الاستفهام على الجملة الخبرية يكون الاستفهام بها عن احد الأمرين أما عن النسبة أي الإسناد أو الحكم المفاد من الجملة ويسمى تصديقا"[23].
ويكثر التصديق في الجمل الفعلية كقولك (أحضر الأمير) تستفهم عن ثبوت النسبة ونفيها وفي هذه الحالة يجاب بلفظه (نعم أو لا)[24]. ومنه قوله تعالى:{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[العلق 13]. وقوله عز من قائل {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين 8].
فالتصديق حول ثبوت النسبة أو عدمها كان قد استفهم الجمل الفعلية في(رأيت، و ليس). ويقل التصديق في الجمل الاسمية نحو (أعلي مسافر)"[25].
ومثال ذلك قوله تعالى :{ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم}[المائدة 53]. وقوله تعالى: {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}[النجم 35].
أما اللغويون فلم يبتعدوا عن هذا كثيرا فعبروا "بأنه نسبة الصدق في القلب أو اللسان إلى القائل. وضده الإنكار والتكذيب"[26].
والتصديق اصطلاحا عند أهل البلاغة فهو "إدراك النسبة تستفهم عن حصول الشيء من عدمه[27] ومما تحسن به الإشارة إن التصور والتصديق يكثر في الأسلوب الاستفهامي فيشمل جميع أدوات الاستفهام ولهذا فقد قسم علماء البلاغة أدوات الاستفهام بحسب طلب المتكلم إلى أدوات تصديقية وأدوات تصوريه وأدوات تحتمل التصور والتصديق.
أقسام أدوات الاستفهام بحسب الطلب:
فقد قسم أهل البلاغة أدوات الاستفهام بحسب الطلب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
ما يستفهم عن التصور والتصديق وهو (همزة الاستفهام) فقط[28].
"أي يستفهم عن المفرد وعن الحكم"[29].
فالمفرد هو التصور والحكم هو التصديق، ومن العلماء من قال أنها لا تتخصص لا بالتصور ولا تختص بالتصديق، والهمزة من هذا النوع[30].
إذ أنها عامة تأتي لطلب التصور وتأتي لطلب التصديق. "فيطلب بالهمزة إدراك النسبة الواقعة بين الطرفين ثبوتا أو نفيا، وذلك إذا كان المتكلم يجهل مضمون الجملة ويتردد في ثبوتها لأمر أو نفيها عن ذلك الأمر"[31].
فالهمزة تطلب احد الأمرين التصور أو التصديق سواء أكان مسندا إليه نحو (أأنت فعلت هذا أم يوسف). أم مسندا نحو (أراغب أنت عن الأمر أم راغب فيه) أم مفعولا نحو (اياي تقصد أم سعيدا) أم حالا نحو (أراكب حضرت أم ماشيا) أم ظرفا نحو (أيوم الخميس قدمت أم يوم الجمعة)"[32].
"فإذا كانت الهمزة لطلب التصديق كان جواب الاستفهام بـ(نعم) أو(لا).
ولا يذكر معها معادل ويليها غالبا الفعل إن وجد"[33] تقول في طلب التصديق بها (أحصل الانطلاق)؟ و (أزيد منطلق)؟ فأنت تطلب تفصيل المسند إليه، وهو المظروف"[34].
والمسؤول عنها بها هو ما يليها، فتقول (أضربت زيدا)؟ إذا كان الشك في الفعل نفسه، وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده، وتقول (أزيدا ضربت)؟ إذا كان الشك في المفعول (من هو)"[35].
ومن ذلك قول الشاعر:
أأترك إن قلت دراهم خالد زيارته؟ إني إذا للئيم
فالجواب هنا بالنفي أي (لا) لن اترك زيارته إن قل ماله، لأن السؤال عن التصديق، إذا المتكلم يعرف الفعل ويتصور الفاعل وهو المتكلم نفسه كما يتصور النسبة بين تلك الأجزاء، ولكنه يتساءل أتقع أم لا تقع"[36] فهو إذا "يجهل الحكم أو مضمون الجملة، فهو يسأل ليقف على هذا الحكم"[37] والتصديق بالهمزة ورد في القران الحكيم كثيرا ومنه قوله تعالى{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ}[الأنعام 46]. فتساؤل الخالق أرأيتم ما فعل الله بهم أم لا. وقوله جل وعلا {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}[الأنعام 30].فالإجابة تصديقية (نعم هذا بالحق) أو (لا ليس بالحق).
" ومن أهم الأمور التي يجب توفرها في (همزة) التصديق إنه لا يجوز ذكر المعادل بعدها ولذا ترى إن الجواب فيها بنعم أو لا "[38]. ومما تحسن الإشارة إليه إن بعض العلماء جعل الهمزة تختص بالتصديق دون التصور وهذا ما نراه جليا في الإيضاح للخطيب القزويني"[39]. وإذا كانت الهمزة للتصور "فإنها تدل على إدراك المفرد نحو أعلي مسافر أم سعيد تعتقد إن السفر من احدهما ولكن تطلب تعيينه ولذا يجاب بالتعيين، فيقال سعيد مثلا. وحكم الهمزة التي لطلب التصور، أن يليها المسؤول عنه بها "[40].
وهمزة الاستفهام عن "التصور يكون عند التردد في تعيين احد الشيئين، فبالاستفهام يعلم انه أحاط بأحدهما لا بعينه مسندين أم مسندا إليهما أم من تعلقات الإسناد ومثال ذلك (أقائم زيد أم قعد) احتمل أن يكون المعنى أي الأمرين كان منه، ويكون استفهاما واحدا لطلب التصور كقوله تعالى{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}"[ص 75][41].
وقد يأتي طلب التصور بالهمزة في طرف المسند إليه ومثال ذلك "(أدبس في الإناء أم عسل)؟ وفي طرف المسند (أفي الخابية دبسك، ام في الزق)؟ وفي الثاني تطلب تفصيل المسند وهو الظرف"[42], ومن خلال ذلك إن التصور هو "إدراك احد أجزاء الجملة عندما يكون السائل عالما بالحكم ولكنه يجهل احد أجزاء البناء، ولذلك وجب أن يليها المستفهم عنه ويذكر للمستفهم عنه غالبا أم المتصلة وقد يستغنى عن ذلك المعادل إذا وجد ما يدل عليه ولا يكون جواب الاستفهام عندئذ بنعم أو لا، وإنما يكون بتعيين المستفهم عنه، وقد يستغنى عن المعادل إذا دل عليه دليل كما في قوله تعالى { قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ }[الأنبياء 62].
فالسياق وقرائن الأحوال تدل على أن المسؤول عنه هو الفاعل، حيث أشاروا إلى الفعل (هذا) فهو معلوم لهم والمعنى (أأنت فعلت هذا أم غيرك)؟ وقد أجابهم عليه السلام معينا لهم الفاعل على سبيل التهكم{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ }"[الأنبياء 63][43].
فإذا يكون "الجواب عنها بتعيين المسؤول عنه من فعل أو فاعل أو غيره، ولا يصح أن يكون الجواب بـ(نعم) أو (لا)"[44].
ويجب أن يكون تعيين المسؤول عنه "موافق لما بعد الهمزة ومن ذلك قوله عز من قائل{ أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }[مريم 78]. وقوله{ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ}[البقرة 140].
حيث تجد إن ما بعد (أم) مماثل لما بعد الهمزة ولذا من الخطأ أن تقول (أزيد أكرمت أم أهنت) لتناقض ما بعد الهمزة مع ما بعد أم المتصلة، وهو ليس تناقض في تركيب العبارة فحسب بل تناقض واضطراب في الإدراك والوعي"[45] .
وهنالك من الأمثلة ما يصلح للتصور والتصديق معا في باب الاستفهام بالهمزة "فتقول (أمحمد جاء من السفر)؟ فتجعل ذلك تصديقا للسؤال عن الحكم فتكون الإجابة (بنعم) أو (لا) وبنفس الوقت تدل الجملة على التصور فتقول (أمحمد جاء من السفر أم خالد)؟ فدلت الجملة على التصديق تارة ولا يذكر بعدها أم المعادلة، وللتصور تارة أخرى ويجوز ذكر أم المعادلة بعدها. فالتصور والتصديق إنما ترجع إلى اعتبار المتكلم، وقصده، وغرضه من الكلام، وفهم المتكلم له، وقد يسأل عن الحكم وقد يسأل عن المفرد وقد يقصد هذا وذاك"[46] .
وبرغم اعتبارات المتكلم وقصده إلا انه "يوجد فرق واضح بين الاستفهام بالهمزة عن التصور والاستفهام بها عن التصديق من وجهين الأول لفظي: وهو إن الاستفهام عن التصور يقع بعده (أم المتصلة) وأما الاستفهام عن التصديق فلا يصلح إلا بعد (أم المنقطعة). والثاني معنوي : هو إن الاستفهام عن التصديق يكون عن نسبة تردد الذهن فيها بين ثبوتها أو نفيها، والاستفهام عن التصور يكون عند التردد في تعيين احد الشيئين"[47].
ووجد للباحث إن الهمزة ليست الحرف الوحيد الذي يدل على التصور والتصديق وإنما يتبعه في ذلك (أم) فإنها تأتي للتصور والتصديق كما الهمزة، فهي تعد من أقوى الحروف تأثيرا على الجملة الاستفهامية بعد الهمزة، وتأتي (أم) متصلة إذا جاءت بعد همزة التصور بمعنى "إن ما بعدها يكون داخلا في حيز الاستفهام السابق عليها. أما إذا جاءت بعد همزة التصديق أو بعد (هل) التصديق تكون أم في حالتين أما في حالة (همزة التصديق ، وهل). أو تقدر منقطعة تأتي بمعنى بل التي تكون للإنتقال من كلام إلى آخر لا يمتد تأثير الاستفهام السابق إليه. وبعبارة أخرى يكون الكلام الذي يلي أم المنقطعة خبرا لا إنشائيا"[48].
القسم الثاني:
ما يستفهم عن التصديق فقط وهو لفظ (هل) فلا يذكر مع المستفهم عنه بها معادل، بخلاف همزة الاستفهام، وهي حرف كالهمزة[49].
لذا يكون جوابك نعم أو لا أي بإفادتك ثبوت النسبة أو نفيها "[50].
وبما أن (هل) اختصت بالتصديق فقد ترتب عليها أحكام منها "امتناع أن يذكر بعدها المعادل بـ(أم المتصلة)"[51].
"فامتنع أن يقال (هل عندك عمرو أم بشر)؟ باتصال (أم) دون (أم عندك بشر)؟ بانقطاعها وقبح (هل زيد عرف)؟ دون هل زيدا عرفته؟ ولم يقبح (أرجل عرف؟ وازيدا عرفت). فبينه وبين هل تدافع" [52]. إضافة إلى ذلك إنه إذا ذكرت "أم يفضي إلى التناقض، فإن ذكرت فهي منقطعة" انظر[53] . وحينئذ يؤدي الجمع بين هل وأم إلى التناقض لأن هل تفيد إن السائل جاهل بالحكم لأنها لطلبه وأم المتصلة تفيد إن السائل عالم به وإنما يطلب تعيين احد الأمرين فإن جاءت أم كذلك كانت منقطعة بمعنى بل التي تفيد الإضراب نحو (هل جاء صديقك أم عدوك) وامتنع (هل زيد قام أم عمرو)؟ وقبح هل زيد ضربت؟ لما سبق إن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قدم عليه"[54].
"وإنه يقبح دخول (هل) على جملة يشعر نظمها بمعرفة الحكم، فلا يستحسن أن تقول مثلا (هل فنون البلاغة أحببت)؟ و (هل خالدا أكرمت)؟
لأن هل يستفهم بها معرفة الحكم، فإذا كان نظم الجملة يدل على أن الحكم غير مجهول قبح ذلك"[55].
"فقبح استعمال هل في كل تركيب يتقدم فيه المسند إليه على الخبر الفعلي ووجه القبح عند الجمهور إن التقديم قد يكون للاختصاص والاختصاص يقتضي وقوع النسبة والعلم بها وهل لا يؤتى بها بل هي للتصديق"[56].
وهذا ما ذكره الخطيب القزويني بقوله "وامتنع (هل زيد قام أم عمرو)؟ وقبح هل زيد ضربت؟ لما سبق إن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قدم عليه، والجواب نعم أو لا"(الخطيب القزويني، 1999، ص:244). وأما قولك (هل زيد أكرمته؟) فهو صحيح لا قبح فيه لأن الفعل هنا مشغول عن الاسم المنصوب بضميره والكلام على تقدير الفعل الناصب لزيد[57].
ومما تحسن إليه الإشارة إن "ما قبحه البلاغيون كان موجودا في كلام فحول العرب وموجودا حتى في القران الحكيم فقد ورد في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[فاطر 3]. ولهذا كان ينبغي ألا يصف البلاغيون تلك التراكيب بالقبح بل الأولى أن يقال قليلة ونادرة وتنزيه أساليب القران عن مثل هذه الأوصاف"[58].
القسم الثالث:
ما يستفهم به عن التصور فقط، وهي سائر أدوات الاستفهام وهذه جميعها أسماء"[59]. "فيسأل بها عن معناها ولهذا يكون الجواب معها بتعيين المسؤول عنه[60].
"وأسماء الاستفهام هي"(ما ومن وأي وكم وأين وكيف وأنى ومتى وأيان) فهو من نوع طلب حصول التصور"[61].
"وهذا طبيعي لأن المطلوب تعيينه أو تصوره بكل منهما يخالف المطلوب تعيينه وتصوره بأداة أخرى، ولذلك يقتضي الأمر التعرف على حقيقة المسؤول عنه والمطلوب تعيينه وتصوره بكل أداة"[62] "ويرى سيبويه أن العرب تركوا النطق بهمزة الاستفهام مع سائر أدوات الاستفهام لأنهم امنوا الالتباس، فاكتسبت هذه الأدوات معنى الاستفهام بالتداول، وقال ابن مالك في المصباح ماعدا الهمزة نائب عنها"[63].
ولذا لا يلتزم في بناء الجملة معها سوى الضبط العام في النظام الإعرابي لصياغة الجمل، مع مراعاة تصدر تلك الأدوات فليس وراء بناء الجمل مع تلك الأدوات دقائق ينبغي مراعاتها، كما هو الحال بالنسبة للهمزة وهل"[64].
فمن يذكر بعده اسم المؤول عنه كقولنا في جواب (من هذا)؟
هذا محمد أو علي مثلا كما يحصل بالصفة، أي بذكر صفة من صفات المسؤول عنه، كقولنا في جواب السؤال السابق (من هذا)؟ هذا معلم أو طبيب مثلا"[65].
"أي إن الجواب يكون أما بذكر الذات المستفهم عنها، وأما بذكر الأوصاف الخاصة بالمستفهم عنه، والمشخصة له. ومن ذلك قوله تعالى:{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه 49-50]. فقد أجاب موسى عليه السلام بيان الصفات الخاصة برب العزة المنفرد بها سبحانه وتعالى. وانظر في قوله عز وجل{ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }[الأنبياء 59-60]. وواضح في هذه الآية إن الجواب قد اشتمل على ذكر الذات المستفهم عنها"[66].
الخاتمة
نستنتج من البحث عدة أمور منها:
1- إن النحاة لم يذكروا هذين المصطلحين كـ( باب مستقل) بذاته، وإنما شاع هذا المصطلح عند البلاغيين بصورة منطقية معقدة في باديء الامر وبعدها بدت السلاسة والوضوح بارزة عليهما.
2- لا يوجد تصديق إلا وكان أوله تصورا. إذ إن الحكم لا يأتي إلا إذا توفرت صورة في الذهن.
3- إن العنصر الأساسي في مفهومي التصور والتصديق هو (الهمزة) لأنها تعد أم الباب في الاستفهام وفي الأحكام التي تتميز بها فقد ذكرها النحاة الأوائل من خلال باب التقديم، وهذا أوقد جذوة الاجتهاد عند البلاغين في التخصص بهذين المصطلحين وتطويرها كعلم منفرد.
4- قسم العلماء مفهومي التصور والتصديق في القرآن الحكيم عِدة أقسام منها ما يكون من الخالق وهذا لا يأتي إلا مجازا لغرض التوبيخ أو التقرير أو غيرها من الأغراض المجازية، فحاشا لله علام الغيوب أن يطلب تصور من بشر مخلوق. والقسم الثاني أن يكون التصور أو التصديق صادرا من الأنبياء إلى الخالق وهذا جائز أن يكون حقيقي. والقسم الثالث يصدر من المؤمنين إلى الخالق أو الأنبياء والقسم الأخير أن يصدر من الكافرين لاستهزاء أو شك ويجوز في هذا الحقيقة والمجاز.
المصادر والمراجع
1 - ابن منظور، أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي المصري. (1997) لسان العرب. اعتنى بتصحيحه أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي. الطبعة الثانية. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
2 - بسيوني عبد الفتاح فيود. (2004). علم المعاني دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني مؤسسة المختار. الطبعة الثانية. القاهرة. (دون المطبع).
3 - بكري محمد خليل.(2001). المنطق عند الغزالي. الطبعة الاولى بغداد: بيت الحكمة.
4- بن أبي بكر الكاف، عمر بن علوي. (2003). البلاغة (المعاني البيان البديع) الطبعة الثالثة. بيروت: دار المنهاج للنشر والتوزيع.
5 - التهانوي، محمد علي بن علي بن محمد الحنفي. (1998). كشاف اصطلاحات الفنون. وضع حواشيه احمد حسن بسج. الطبعة الأولى بيروت: دار الكتب العلمية.
6 - الجرجاني، السيد الشريف علي بن محمد.(2003). التعريفات. الطبعة الاولى. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
7 - الحسيني، جعفر باقر. (2007). أساليب المعاني في القرآن. الطبعة الأولى قم: مؤسسة بوستان مطبعة بوستان.
8 - الخطيب القزويني. (1984). الإيضاح في علوم البلاغة. تحقيق د. عبد المنعم الخفاجي . الطبعة الأولى. مصر : نشر المكتبة الأزهرية .
9 - الزمخشري. جار الله أبي القاسم محمود بن عمر. (1994). أساس البلاغة.بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر.
10- السبكي بهاء الدين أبو حامد بن علي بن عبد الكافي. (2002). عروس الأفراح . تحقيق الدكتور خليل ابراهيم خليل. الطبعة الأولى. بيروت : دار الكتب العلمية.
11- السكاكي، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي. (1987) . مفتاح العلوم . ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه نعيم زرزور . الطبعة الثانية . بيروت : دار الكتب العلمية.
12- شوقي ضيف.(1965). البلاغة تطور وتاريخ. الطبعة الثانية. مصر: دار المعارف.
13- عبد العزيز عتيق. (دون سنه). في البلاغة العربية علم المعاني – البيان- البديع. بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر.
14- عبد القادر حسين. (بدون سنة). اثر النحاة في البحث البلاغي. القاهرة: دار نهضة مصر (د. ت).
15- عبد القاهر الجرجاني . (1994) . دلائل الإعجاز في علم المعاني . صحح أصله محمد عبد مفتي الديار المصرية والأستاذ اللغوي محمد محمود التركزي الشنقيطي علق عليه محمد رشيد رضا . الطبعة الأولى. بيروت : دار المعرفة .
16- علي الجارم ومصطفى أمين. (1995). البلاغة الواضحة (البيان والمعاني والبديع). القاهرة: دار المعارف.
17- فاضل حسن عباس. (2000). البلاغة فنونها وأفنانها. الطبعة السابعة. عمان :دار الفرقان للطباعة والنشر.
18- المظفر، محمد رضا. (1321هـ). المنطق. الطبعة الأولى. قم: منشورات الفيروزآبادي.
19- الميداني، عبد الرحمن حسن حبنكه. (2007). البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها. الطبعة الثانية. بيروت: دار الشامية.
20- الهاشمي، احمد. (1999). جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع. ضبط وتدقيق وتوثيق د. يوسف الصميلي. الطبعة الأولى. بيروت:المكتبة العصرية صيدا.
21- هلال، ماهر مهدي. (1977). فخر الدين الرازي بلاغيا. العراق: منشورات وزارة الاعلام.
22- إسماعيل ابراهيم هويدي العاني. (2005). التصور والتصديق في العربية. رسالة ماجستير في اللغة العربية وآدابها. إشراف الدكتوره خديجة الحديثي. مجلس كلية الآداب جامعة بغداد.
يوسف أبو العدوس.(2007). مدخل الى البلاغة العربية. علم المعاني- علم البيان- علم البديع. الطبعة الأولى. عمان: دار الميسرة للنشر والتوزيع.
قصي سمير العزاوي
التصور والتصديق في أسلوب الاستفهام
دراسة بلاغية لآيات القرآن الكريم
الملخص:
يعد التصور والتصديق من المصطلحات البلاغية البحته، إذ أن علماء النحو لم يذكروا هذين المصطلحين بصورة واضحة وإنما اكتفوا بالإشارة إليهما فقط وأول من أشار إلى هذين المصطلحين عند النحاة سيبويه في باب النسبة والإفراد في الاستفهام. وجاءت التسمية على يد السكاكي في القرن السادس الهجري في كتابه مفتاح العلوم فأخذ كل علوم البلاغة الموجودة في بطون أمهات الكتب اللغوية، ففصلها وشرحها ووسعها فتكونت عنده مصطلحات جديدة فأصبح لزاما عليه أن يسمي المصطلحات حسبما يتطلب المعنى ومن هنا ظهر التصور والتصديق في علم البلاغة.
فالاستفهام التصوري هو عن التردد في تبيين أحد شيئين ، فبالاستفهام يعلم انه أحاط العلم بأحدهما لا بعينه سواء كان مسندا، أو مسندا إليهما، أو من متعلقات الإسناد. ويصلح أن يؤتى بعد التصور (أم) المتصلة المعادلة العاطفة لا المنقطعة.
أما الاستفهام التصديقي هو يكون عن نسبة تردد الذهن بين ثبوتها، وانتفائها. وحقه أن يؤتى بعده (أم) المنقطعة لا المتصلة.
ولا يكون الاستفهام لطلب التصور إلا بعد حصول التصديق بأصل النسبة ولعل التصور والتصديق له حضور واضح في القرآن الكريم لما يجسداه من عمق ذهني وإثراء لغوي إذ يهدف المصطلحان إلى تحديد دلالة الاستفهام في الخطاب القرآني فالتصوري يحتاج إلى تعيين الجواب فقط ولا يحتاج إلى إجابة بنفي أو إثبات. أما التصديقي فيتطلب أداة من أدوات الجواب سواء كانت مثبته أو منفية. وبهذا فقد قسم الاستفهام في القرآن إلى قسمين تصوري وتصديقي. وتهدف المقالة إلى إزاحة ما كان يكتنف البحوث من توزيع وتفرق لأقسام الاستفهام ومعانيه، فلمَّ شتاتهم، ونظم ما كان منه من أفكار متناثرة، ونتف مفرقة.
المقدمة:
أجمع العلماء إن أساس التصور والتصديق هو العلم أو الدراية.
والعلم هو إدراك الشيء بحقيقته عند العقل ويظهر هذا المعنى جليا في القرآن الكريم في العديد من الآيات ومن ذلك قوله تعالى {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}
[النجم 35]. وقوله عز من قائل {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمْ} [التكاثر 5-6]. ويكون العلم أما قطعيا وهو اليقين كما ذكر في الآية المباركة أو ظنيا على سبيل المجاز كقوله عز من قائل { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}[الممتحنة 10].
أي: ولو كان علمكم بمستوى الإدراك أو الظن فخذوا بإيمانهن والله أعلم.
ومن العلماء من قسمه إلى نوعين العلم الحضوري، والعلم الحصولي. فان كان تميزه ظهوره عند العقل في الخارج يسم علما حضوريا ، وان كان تميزه وحضوره وظهوره عند العقل بصورته الحاصلة له في العقل يسم علما حصوليا ، وينقسم العلم أيضا إلى قسمين : هما التصور والتصديق.
ويعد أول من طرق باب التصور والتصديق سيبويه "ولا يحق لمنصف أن يتنكر لجهوده التي قدمها لخدمة البلاغة العربية بدعوى انه لم يذكر لها مصطلحات، وإنما يحق لنا أن نقول إن سيبويه كان حجر الأساس في بناء البلاغة العربية بما ذكره من موضوعات تدخل في علم المعاني كالتقديم والتأخير والاستفهام وكما لم يفته أن يتناول أسرار التراكيب وتأليف الكلمات وصوغ العبارات وإبراز الفرق بين تعبير وآخر، وان اهتمامه لم يكن قاصرا على أواخر الكلمات ، وبيان إعرابها وبنائها ، وإنما تجاوز ذلك إلى نظم الجملة والجمل" ينظر[1].
أما إمام البلاغيين الشيخ عبد القاهر الجرجاني فقد درس التصور والتصديق على أساس أدوات الاستفهام لفهم يختلف كثيرا عن سيبويه وآراءه حتى قال فيه شوقي ضيف " ونراه يعرض أمثلة كثيرة لصياغات مختلفة مع همزة الاستفهام ، تارة يليها فيها الفعل وتارة يليها الاسم ، مبينا ما بينها من دقائق بلاغية ، ذلك انك إذا سألت شاعرا ( أأنت قلت هذا الشعر ؟) مقدما الضمير على الفعل كان الشك في قائل الشعر اهو المخاطب أم غيره . أما الشعر فلا شك فيه وإذا سألته : ( أقلت هذا الشعر ؟) كان الشك في الفعل نفسه وهل نظم الشعر حقا أو لم ينظمه.
فالتقديم والتأخير لا يأتيان للاهتمام أو العناية ، وإنما يأتيان لتحرير المعاني وضبطها ورتب على ذلك إن هذا السائل يستطيع أن يسأل صاحبه :(أقلت شعرا قط ؟) فيكون كلامه صحيحا مستقيما ، ولكن لو سأله (أأنت قلت شعرا قط؟) كان قد أخطا في سؤاله، لأنه جمع فيه بين إثبات الفعل والشك في حدوثه ، إذ السؤال مسلط على الشخص لا على فعله ، فكان ينبغي أن لا تضيف كلمة (قط) . وهذا نفسه يطبق في كل صيغة للاستفهام بالهمزة ، فدائما يليها المسؤول عنه سواء في التقرير أو غير التقرير"[2].
ويعد السكاكي أول من ذكر تسميات المصطلحات البلاغية وجعلها في أبواب مستقلة وعلوم منفردة في كتابه مفتاح العلوم الذي جعل فيه النزعة المنطقية والجدلية ذات طابع واضح في أفكاره. فقد أطلق التصور والتصديق كعنوان بلاغي في باب علم المعاني، فطبق هذين المصطلحين بصورة عملية في القرآن الحكيم. ولم يقف التصور والتصديق عند السكاكي فحسب بل تبحر المفسرون والبلاغيون في هذين المصطلحين. أمثال ابن الزملكاني أبو المكارم عبد الواحد بن عبد الكريم (ت 651 هـ) في كتابيه ( التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن) و ( البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ) ينظر[3]. ومن البلاغيين الخطيب القزويني الذي قام بدراسة كتاب السكاكي فصنفه وشرحه شرحا مفصلا مبينا الحجج والعلل في جميع الآراء البلاغية التي تناولها السكاكي.
الاستفهام التصوري عند البلاغيين في القرآن الحكيم:
تصورت الشيء : توهمت صورته فتصور لي . ولا أتصور ما تقول"[4].
" فهو إدراك الماهية" انظر[5]. من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات"[6].. وقال الغزالي في الماهية "اعلم أن قول القائل في الشيء ما هو" ينظر[7].
والتصور من الناحية البلاغية "هو إدراك المفرد كقولك (أعلي مقيم أم محمد). تعتقد إن السفر حصل في أحدهما ولكنك تطلب تعيينه ولذا يجاب بالتعيين فيقال علي مثلا"[8](5). ونعني بالإدراك هو تعيين أحد طرفين الإسناد أو احد أجزاء الجملة و"تأتي الهمزة متلوة بالمسئول عنه ويذكر له في الغالب معادل بعد (أم) المتصلة وسبب تسميتها بالمتصلة لأنها تأتي بعد همزة التصور"[9].
ومن ذلك قوله تعالى {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[البقرة 140]. وقوله جل وعلا{سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}[إبراهيم 21]. فهذه الآيتان المباركتان لا تتطلب الإجابة بهما إلا بالتعيين. ولا يحتاج إلى الإجابة بنعم أو لا أو غير ذلك من أدوات الجواب.
وقسم الشيخ المظفر التصور إلى أربعة أقسام "أولا المفرد الذي يتكون من اسم وفعل وحرف وثانيا النسبة في الخبر عند الشك أو توهمها كقولك (المريخ مسكون) وثالثا النسبة في الإنشاء من أمر ونهي وتمن واستفهام فلا تصديق ولا إذعان وأخيرا المركب الناقص كالمضاف والمضاف اليه وغيرها"[10].
والتصور من الناحية البلاغية "هو إدراك المفرد كقولك (أعلي مقيم أم محمد). تعتقد إن السفر حصل في احدهما ولكنك تطلب تعيينه ولذا يجاب بالتعيين فيقال علي مثلا[11].
وفي هذه الحالة "تأتي الهمزة متلوة بالمسؤول عنه ويذكر له في الغالب معادل بعد (أم) المتصلة وسبب تسميتها بالمتصلة لأنها تأتي بعد همزة التصور"[12].
وإن طلب التصور مرجعه إلى تفصيل المجمل أو تفصيل المفصل بالنسبة[13].
فهو إدراك أحد أجزاء الجملة المسند أو المسند إليه أو احد المتعلقات ولكنه يجهل أحد أجزاء البناء[14]. ومن ذلك قوله تعالى {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[البقرة 140]. وقوله جل وعلا{سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}[ابراهيم 21]. فهذه الآيتان المباركتان لا تتطلب الإجابة بهما إلا بالتعيين.
الاستفهام التصديقي عند البلاغيين في القرآن الحكيم:
التصديقمن "الصدق نقيض الكذب صدقه قبل قوله، وصدقه الحديث أي أنبأه بالصدق"[15]. وعند قولك رجل صديق، أي عنده مصداق ذلك وهو ما يصدقه من دليل[16]. وعرفه المناطقة بأنه "تصور ولكنه تصور يستتبع الحكم وقناعة النفس وتصديقها[17]. أشار الغزالي (ت505هـ) "بأنه بخلاف العلم والمعرفة"[18]. أما اللغويون فلم يبتعدوا عن هذا كثيرا فعبروا "بأنه نسبة الصدق في القلب أو اللسان إلى القائل. وضده الإنكار والتكذيب"[19].
والتصديق اصطلاحا عند أهل البلاغة فهو "إدراك النسبة تستفهم عن حصول الشيء من عدمه"[20]."وفي هذه الحالة يمتنع ذكر المعادل وإذا جاءت (أم) بعد همزة التصديق تكون منقطعة وتكون بمعنى بل"[21].
ويطلب التصديق "تعين الثبوت أو الانتفاء في مقام التردد"[22]. "وذلك عندما يكون السائل عالما بأجزاء الإسناد، ويجهل الحكم أو مضمون الجملة فهو يسأل ليقف على هذا الحكم، فعندما تدخل أدوات الاستفهام على الجملة الخبرية يكون الاستفهام بها عن احد الأمرين أما عن النسبة أي الإسناد أو الحكم المفاد من الجملة ويسمى تصديقا"[23].
ويكثر التصديق في الجمل الفعلية كقولك (أحضر الأمير) تستفهم عن ثبوت النسبة ونفيها وفي هذه الحالة يجاب بلفظه (نعم أو لا)[24]. ومنه قوله تعالى:{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[العلق 13]. وقوله عز من قائل {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين 8].
فالتصديق حول ثبوت النسبة أو عدمها كان قد استفهم الجمل الفعلية في(رأيت، و ليس). ويقل التصديق في الجمل الاسمية نحو (أعلي مسافر)"[25].
ومثال ذلك قوله تعالى :{ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم}[المائدة 53]. وقوله تعالى: {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}[النجم 35].
أما اللغويون فلم يبتعدوا عن هذا كثيرا فعبروا "بأنه نسبة الصدق في القلب أو اللسان إلى القائل. وضده الإنكار والتكذيب"[26].
والتصديق اصطلاحا عند أهل البلاغة فهو "إدراك النسبة تستفهم عن حصول الشيء من عدمه[27] ومما تحسن به الإشارة إن التصور والتصديق يكثر في الأسلوب الاستفهامي فيشمل جميع أدوات الاستفهام ولهذا فقد قسم علماء البلاغة أدوات الاستفهام بحسب طلب المتكلم إلى أدوات تصديقية وأدوات تصوريه وأدوات تحتمل التصور والتصديق.
أقسام أدوات الاستفهام بحسب الطلب:
فقد قسم أهل البلاغة أدوات الاستفهام بحسب الطلب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
ما يستفهم عن التصور والتصديق وهو (همزة الاستفهام) فقط[28].
"أي يستفهم عن المفرد وعن الحكم"[29].
فالمفرد هو التصور والحكم هو التصديق، ومن العلماء من قال أنها لا تتخصص لا بالتصور ولا تختص بالتصديق، والهمزة من هذا النوع[30].
إذ أنها عامة تأتي لطلب التصور وتأتي لطلب التصديق. "فيطلب بالهمزة إدراك النسبة الواقعة بين الطرفين ثبوتا أو نفيا، وذلك إذا كان المتكلم يجهل مضمون الجملة ويتردد في ثبوتها لأمر أو نفيها عن ذلك الأمر"[31].
فالهمزة تطلب احد الأمرين التصور أو التصديق سواء أكان مسندا إليه نحو (أأنت فعلت هذا أم يوسف). أم مسندا نحو (أراغب أنت عن الأمر أم راغب فيه) أم مفعولا نحو (اياي تقصد أم سعيدا) أم حالا نحو (أراكب حضرت أم ماشيا) أم ظرفا نحو (أيوم الخميس قدمت أم يوم الجمعة)"[32].
"فإذا كانت الهمزة لطلب التصديق كان جواب الاستفهام بـ(نعم) أو(لا).
ولا يذكر معها معادل ويليها غالبا الفعل إن وجد"[33] تقول في طلب التصديق بها (أحصل الانطلاق)؟ و (أزيد منطلق)؟ فأنت تطلب تفصيل المسند إليه، وهو المظروف"[34].
والمسؤول عنها بها هو ما يليها، فتقول (أضربت زيدا)؟ إذا كان الشك في الفعل نفسه، وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده، وتقول (أزيدا ضربت)؟ إذا كان الشك في المفعول (من هو)"[35].
ومن ذلك قول الشاعر:
أأترك إن قلت دراهم خالد زيارته؟ إني إذا للئيم
فالجواب هنا بالنفي أي (لا) لن اترك زيارته إن قل ماله، لأن السؤال عن التصديق، إذا المتكلم يعرف الفعل ويتصور الفاعل وهو المتكلم نفسه كما يتصور النسبة بين تلك الأجزاء، ولكنه يتساءل أتقع أم لا تقع"[36] فهو إذا "يجهل الحكم أو مضمون الجملة، فهو يسأل ليقف على هذا الحكم"[37] والتصديق بالهمزة ورد في القران الحكيم كثيرا ومنه قوله تعالى{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ}[الأنعام 46]. فتساؤل الخالق أرأيتم ما فعل الله بهم أم لا. وقوله جل وعلا {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}[الأنعام 30].فالإجابة تصديقية (نعم هذا بالحق) أو (لا ليس بالحق).
" ومن أهم الأمور التي يجب توفرها في (همزة) التصديق إنه لا يجوز ذكر المعادل بعدها ولذا ترى إن الجواب فيها بنعم أو لا "[38]. ومما تحسن الإشارة إليه إن بعض العلماء جعل الهمزة تختص بالتصديق دون التصور وهذا ما نراه جليا في الإيضاح للخطيب القزويني"[39]. وإذا كانت الهمزة للتصور "فإنها تدل على إدراك المفرد نحو أعلي مسافر أم سعيد تعتقد إن السفر من احدهما ولكن تطلب تعيينه ولذا يجاب بالتعيين، فيقال سعيد مثلا. وحكم الهمزة التي لطلب التصور، أن يليها المسؤول عنه بها "[40].
وهمزة الاستفهام عن "التصور يكون عند التردد في تعيين احد الشيئين، فبالاستفهام يعلم انه أحاط بأحدهما لا بعينه مسندين أم مسندا إليهما أم من تعلقات الإسناد ومثال ذلك (أقائم زيد أم قعد) احتمل أن يكون المعنى أي الأمرين كان منه، ويكون استفهاما واحدا لطلب التصور كقوله تعالى{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}"[ص 75][41].
وقد يأتي طلب التصور بالهمزة في طرف المسند إليه ومثال ذلك "(أدبس في الإناء أم عسل)؟ وفي طرف المسند (أفي الخابية دبسك، ام في الزق)؟ وفي الثاني تطلب تفصيل المسند وهو الظرف"[42], ومن خلال ذلك إن التصور هو "إدراك احد أجزاء الجملة عندما يكون السائل عالما بالحكم ولكنه يجهل احد أجزاء البناء، ولذلك وجب أن يليها المستفهم عنه ويذكر للمستفهم عنه غالبا أم المتصلة وقد يستغنى عن ذلك المعادل إذا وجد ما يدل عليه ولا يكون جواب الاستفهام عندئذ بنعم أو لا، وإنما يكون بتعيين المستفهم عنه، وقد يستغنى عن المعادل إذا دل عليه دليل كما في قوله تعالى { قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ }[الأنبياء 62].
فالسياق وقرائن الأحوال تدل على أن المسؤول عنه هو الفاعل، حيث أشاروا إلى الفعل (هذا) فهو معلوم لهم والمعنى (أأنت فعلت هذا أم غيرك)؟ وقد أجابهم عليه السلام معينا لهم الفاعل على سبيل التهكم{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ }"[الأنبياء 63][43].
فإذا يكون "الجواب عنها بتعيين المسؤول عنه من فعل أو فاعل أو غيره، ولا يصح أن يكون الجواب بـ(نعم) أو (لا)"[44].
ويجب أن يكون تعيين المسؤول عنه "موافق لما بعد الهمزة ومن ذلك قوله عز من قائل{ أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }[مريم 78]. وقوله{ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ}[البقرة 140].
حيث تجد إن ما بعد (أم) مماثل لما بعد الهمزة ولذا من الخطأ أن تقول (أزيد أكرمت أم أهنت) لتناقض ما بعد الهمزة مع ما بعد أم المتصلة، وهو ليس تناقض في تركيب العبارة فحسب بل تناقض واضطراب في الإدراك والوعي"[45] .
وهنالك من الأمثلة ما يصلح للتصور والتصديق معا في باب الاستفهام بالهمزة "فتقول (أمحمد جاء من السفر)؟ فتجعل ذلك تصديقا للسؤال عن الحكم فتكون الإجابة (بنعم) أو (لا) وبنفس الوقت تدل الجملة على التصور فتقول (أمحمد جاء من السفر أم خالد)؟ فدلت الجملة على التصديق تارة ولا يذكر بعدها أم المعادلة، وللتصور تارة أخرى ويجوز ذكر أم المعادلة بعدها. فالتصور والتصديق إنما ترجع إلى اعتبار المتكلم، وقصده، وغرضه من الكلام، وفهم المتكلم له، وقد يسأل عن الحكم وقد يسأل عن المفرد وقد يقصد هذا وذاك"[46] .
وبرغم اعتبارات المتكلم وقصده إلا انه "يوجد فرق واضح بين الاستفهام بالهمزة عن التصور والاستفهام بها عن التصديق من وجهين الأول لفظي: وهو إن الاستفهام عن التصور يقع بعده (أم المتصلة) وأما الاستفهام عن التصديق فلا يصلح إلا بعد (أم المنقطعة). والثاني معنوي : هو إن الاستفهام عن التصديق يكون عن نسبة تردد الذهن فيها بين ثبوتها أو نفيها، والاستفهام عن التصور يكون عند التردد في تعيين احد الشيئين"[47].
ووجد للباحث إن الهمزة ليست الحرف الوحيد الذي يدل على التصور والتصديق وإنما يتبعه في ذلك (أم) فإنها تأتي للتصور والتصديق كما الهمزة، فهي تعد من أقوى الحروف تأثيرا على الجملة الاستفهامية بعد الهمزة، وتأتي (أم) متصلة إذا جاءت بعد همزة التصور بمعنى "إن ما بعدها يكون داخلا في حيز الاستفهام السابق عليها. أما إذا جاءت بعد همزة التصديق أو بعد (هل) التصديق تكون أم في حالتين أما في حالة (همزة التصديق ، وهل). أو تقدر منقطعة تأتي بمعنى بل التي تكون للإنتقال من كلام إلى آخر لا يمتد تأثير الاستفهام السابق إليه. وبعبارة أخرى يكون الكلام الذي يلي أم المنقطعة خبرا لا إنشائيا"[48].
القسم الثاني:
ما يستفهم عن التصديق فقط وهو لفظ (هل) فلا يذكر مع المستفهم عنه بها معادل، بخلاف همزة الاستفهام، وهي حرف كالهمزة[49].
لذا يكون جوابك نعم أو لا أي بإفادتك ثبوت النسبة أو نفيها "[50].
وبما أن (هل) اختصت بالتصديق فقد ترتب عليها أحكام منها "امتناع أن يذكر بعدها المعادل بـ(أم المتصلة)"[51].
"فامتنع أن يقال (هل عندك عمرو أم بشر)؟ باتصال (أم) دون (أم عندك بشر)؟ بانقطاعها وقبح (هل زيد عرف)؟ دون هل زيدا عرفته؟ ولم يقبح (أرجل عرف؟ وازيدا عرفت). فبينه وبين هل تدافع" [52]. إضافة إلى ذلك إنه إذا ذكرت "أم يفضي إلى التناقض، فإن ذكرت فهي منقطعة" انظر[53] . وحينئذ يؤدي الجمع بين هل وأم إلى التناقض لأن هل تفيد إن السائل جاهل بالحكم لأنها لطلبه وأم المتصلة تفيد إن السائل عالم به وإنما يطلب تعيين احد الأمرين فإن جاءت أم كذلك كانت منقطعة بمعنى بل التي تفيد الإضراب نحو (هل جاء صديقك أم عدوك) وامتنع (هل زيد قام أم عمرو)؟ وقبح هل زيد ضربت؟ لما سبق إن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قدم عليه"[54].
"وإنه يقبح دخول (هل) على جملة يشعر نظمها بمعرفة الحكم، فلا يستحسن أن تقول مثلا (هل فنون البلاغة أحببت)؟ و (هل خالدا أكرمت)؟
لأن هل يستفهم بها معرفة الحكم، فإذا كان نظم الجملة يدل على أن الحكم غير مجهول قبح ذلك"[55].
"فقبح استعمال هل في كل تركيب يتقدم فيه المسند إليه على الخبر الفعلي ووجه القبح عند الجمهور إن التقديم قد يكون للاختصاص والاختصاص يقتضي وقوع النسبة والعلم بها وهل لا يؤتى بها بل هي للتصديق"[56].
وهذا ما ذكره الخطيب القزويني بقوله "وامتنع (هل زيد قام أم عمرو)؟ وقبح هل زيد ضربت؟ لما سبق إن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قدم عليه، والجواب نعم أو لا"(الخطيب القزويني، 1999، ص:244). وأما قولك (هل زيد أكرمته؟) فهو صحيح لا قبح فيه لأن الفعل هنا مشغول عن الاسم المنصوب بضميره والكلام على تقدير الفعل الناصب لزيد[57].
ومما تحسن إليه الإشارة إن "ما قبحه البلاغيون كان موجودا في كلام فحول العرب وموجودا حتى في القران الحكيم فقد ورد في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[فاطر 3]. ولهذا كان ينبغي ألا يصف البلاغيون تلك التراكيب بالقبح بل الأولى أن يقال قليلة ونادرة وتنزيه أساليب القران عن مثل هذه الأوصاف"[58].
القسم الثالث:
ما يستفهم به عن التصور فقط، وهي سائر أدوات الاستفهام وهذه جميعها أسماء"[59]. "فيسأل بها عن معناها ولهذا يكون الجواب معها بتعيين المسؤول عنه[60].
"وأسماء الاستفهام هي"(ما ومن وأي وكم وأين وكيف وأنى ومتى وأيان) فهو من نوع طلب حصول التصور"[61].
"وهذا طبيعي لأن المطلوب تعيينه أو تصوره بكل منهما يخالف المطلوب تعيينه وتصوره بأداة أخرى، ولذلك يقتضي الأمر التعرف على حقيقة المسؤول عنه والمطلوب تعيينه وتصوره بكل أداة"[62] "ويرى سيبويه أن العرب تركوا النطق بهمزة الاستفهام مع سائر أدوات الاستفهام لأنهم امنوا الالتباس، فاكتسبت هذه الأدوات معنى الاستفهام بالتداول، وقال ابن مالك في المصباح ماعدا الهمزة نائب عنها"[63].
ولذا لا يلتزم في بناء الجملة معها سوى الضبط العام في النظام الإعرابي لصياغة الجمل، مع مراعاة تصدر تلك الأدوات فليس وراء بناء الجمل مع تلك الأدوات دقائق ينبغي مراعاتها، كما هو الحال بالنسبة للهمزة وهل"[64].
فمن يذكر بعده اسم المؤول عنه كقولنا في جواب (من هذا)؟
هذا محمد أو علي مثلا كما يحصل بالصفة، أي بذكر صفة من صفات المسؤول عنه، كقولنا في جواب السؤال السابق (من هذا)؟ هذا معلم أو طبيب مثلا"[65].
"أي إن الجواب يكون أما بذكر الذات المستفهم عنها، وأما بذكر الأوصاف الخاصة بالمستفهم عنه، والمشخصة له. ومن ذلك قوله تعالى:{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه 49-50]. فقد أجاب موسى عليه السلام بيان الصفات الخاصة برب العزة المنفرد بها سبحانه وتعالى. وانظر في قوله عز وجل{ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }[الأنبياء 59-60]. وواضح في هذه الآية إن الجواب قد اشتمل على ذكر الذات المستفهم عنها"[66].
الخاتمة
نستنتج من البحث عدة أمور منها:
1- إن النحاة لم يذكروا هذين المصطلحين كـ( باب مستقل) بذاته، وإنما شاع هذا المصطلح عند البلاغيين بصورة منطقية معقدة في باديء الامر وبعدها بدت السلاسة والوضوح بارزة عليهما.
2- لا يوجد تصديق إلا وكان أوله تصورا. إذ إن الحكم لا يأتي إلا إذا توفرت صورة في الذهن.
3- إن العنصر الأساسي في مفهومي التصور والتصديق هو (الهمزة) لأنها تعد أم الباب في الاستفهام وفي الأحكام التي تتميز بها فقد ذكرها النحاة الأوائل من خلال باب التقديم، وهذا أوقد جذوة الاجتهاد عند البلاغين في التخصص بهذين المصطلحين وتطويرها كعلم منفرد.
4- قسم العلماء مفهومي التصور والتصديق في القرآن الحكيم عِدة أقسام منها ما يكون من الخالق وهذا لا يأتي إلا مجازا لغرض التوبيخ أو التقرير أو غيرها من الأغراض المجازية، فحاشا لله علام الغيوب أن يطلب تصور من بشر مخلوق. والقسم الثاني أن يكون التصور أو التصديق صادرا من الأنبياء إلى الخالق وهذا جائز أن يكون حقيقي. والقسم الثالث يصدر من المؤمنين إلى الخالق أو الأنبياء والقسم الأخير أن يصدر من الكافرين لاستهزاء أو شك ويجوز في هذا الحقيقة والمجاز.
المصادر والمراجع
1 - ابن منظور، أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي المصري. (1997) لسان العرب. اعتنى بتصحيحه أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي. الطبعة الثانية. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
2 - بسيوني عبد الفتاح فيود. (2004). علم المعاني دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني مؤسسة المختار. الطبعة الثانية. القاهرة. (دون المطبع).
3 - بكري محمد خليل.(2001). المنطق عند الغزالي. الطبعة الاولى بغداد: بيت الحكمة.
4- بن أبي بكر الكاف، عمر بن علوي. (2003). البلاغة (المعاني البيان البديع) الطبعة الثالثة. بيروت: دار المنهاج للنشر والتوزيع.
5 - التهانوي، محمد علي بن علي بن محمد الحنفي. (1998). كشاف اصطلاحات الفنون. وضع حواشيه احمد حسن بسج. الطبعة الأولى بيروت: دار الكتب العلمية.
6 - الجرجاني، السيد الشريف علي بن محمد.(2003). التعريفات. الطبعة الاولى. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
7 - الحسيني، جعفر باقر. (2007). أساليب المعاني في القرآن. الطبعة الأولى قم: مؤسسة بوستان مطبعة بوستان.
8 - الخطيب القزويني. (1984). الإيضاح في علوم البلاغة. تحقيق د. عبد المنعم الخفاجي . الطبعة الأولى. مصر : نشر المكتبة الأزهرية .
9 - الزمخشري. جار الله أبي القاسم محمود بن عمر. (1994). أساس البلاغة.بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر.
10- السبكي بهاء الدين أبو حامد بن علي بن عبد الكافي. (2002). عروس الأفراح . تحقيق الدكتور خليل ابراهيم خليل. الطبعة الأولى. بيروت : دار الكتب العلمية.
11- السكاكي، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي. (1987) . مفتاح العلوم . ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه نعيم زرزور . الطبعة الثانية . بيروت : دار الكتب العلمية.
12- شوقي ضيف.(1965). البلاغة تطور وتاريخ. الطبعة الثانية. مصر: دار المعارف.
13- عبد العزيز عتيق. (دون سنه). في البلاغة العربية علم المعاني – البيان- البديع. بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر.
14- عبد القادر حسين. (بدون سنة). اثر النحاة في البحث البلاغي. القاهرة: دار نهضة مصر (د. ت).
15- عبد القاهر الجرجاني . (1994) . دلائل الإعجاز في علم المعاني . صحح أصله محمد عبد مفتي الديار المصرية والأستاذ اللغوي محمد محمود التركزي الشنقيطي علق عليه محمد رشيد رضا . الطبعة الأولى. بيروت : دار المعرفة .
16- علي الجارم ومصطفى أمين. (1995). البلاغة الواضحة (البيان والمعاني والبديع). القاهرة: دار المعارف.
17- فاضل حسن عباس. (2000). البلاغة فنونها وأفنانها. الطبعة السابعة. عمان :دار الفرقان للطباعة والنشر.
18- المظفر، محمد رضا. (1321هـ). المنطق. الطبعة الأولى. قم: منشورات الفيروزآبادي.
19- الميداني، عبد الرحمن حسن حبنكه. (2007). البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها. الطبعة الثانية. بيروت: دار الشامية.
20- الهاشمي، احمد. (1999). جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع. ضبط وتدقيق وتوثيق د. يوسف الصميلي. الطبعة الأولى. بيروت:المكتبة العصرية صيدا.
21- هلال، ماهر مهدي. (1977). فخر الدين الرازي بلاغيا. العراق: منشورات وزارة الاعلام.
22- إسماعيل ابراهيم هويدي العاني. (2005). التصور والتصديق في العربية. رسالة ماجستير في اللغة العربية وآدابها. إشراف الدكتوره خديجة الحديثي. مجلس كلية الآداب جامعة بغداد.
يوسف أبو العدوس.(2007). مدخل الى البلاغة العربية. علم المعاني- علم البيان- علم البديع. الطبعة الأولى. عمان: دار الميسرة للنشر والتوزيع.