الثراء الفني لأسلوب الاستفهام - د. عبدالعزيز فتح الله عبدالباري
الاستفهام مصدر الفعل "استفهم"، "واستفهمه: سأله أن يفهمه، وقد استفهمني الشيءَ فأفهمتُه وفهَّمته تَفهيمًا"[1]، فسؤال الفهم طلب السائل أن يخبره المسؤول عمَّا يسأل، ولذلك ساوى ابن فارس بين معنى الاستفهام والاستخبار فقال: "الاستخبار: طلب خُبْر ما ليس عند المستخبِر، وهو الاستفهام"[2].
هذه الدلالة اللغوية انطلق منها بلاغيُّونا القدامى في تقسيم الاستفهام إلى حقيقي ومجازي أو بلاغي؛ والحقيقي: ما طلب به السائل أن يعلم ما ليس عنده علم به، والمجازي: ما انحرف عن هذه الدلالة إلى دلالات أُخَر أو معانٍ أُخَر حسب الموقف والسياق وقرائن الأحوال، وأخذ بلاغيونا - رغبة في التقنين والتقعيد - يحددون هذه المعاني، ويمثِّلون لها بشواهد من الشعر والقرآن والحديث.
وهي رغبة جمحت بالبلاغة العربية عمومًا نحو الجمود؛ فهم مثلاً لا يكتفون بأن يجعلوا الإنكار معنًى من المعاني التي يخرج إليها أسلوب الاستفهام - أو ينحرف إليه، بتعبير الأسلوبيين المحْدثين - بل يقسِّمون الإنكار إلى وجهين: إنكار للتوبيخ، وإنكار للتكذيب.
ويقسمون الأول إلي: توبيخ على فعل قد وقع، بمعنى: "ما كان ينبغي أن يكون ذلك الأمر"، وتوبيخ على فعل واقع في الحال، أو يُخشى وقوعه في المستقبل، بمعنى: "لا ينبغي أن يكون هذا"، ثم يقسمون الثاني؛ أي: إنكار التكذيب بنفس الطريقة إلى تكذيب في الماضي بمعنى: "لم يكن"، أو للتكذيب في الحال أو المستقبل بمعنى: "لا يكون".
وهذا تقعيد يؤدِّي إلى تعقيد البلاغة وإثقال كاهلها وتكبيلها، ولا نرى له من الناحية الفنية كبير فائدة؛ فهذا التقسيم قائم على أساس الزمن الواقع فيه التوبيخ أو التكذيب، وهو أمر بدهي يُستَشفُّ من الأسلوب نفسه، ولا يحتاج الأمر إلى هذا التقعيد والتقنين.
على أن من الإنصاف أن نذكر أن بعض بلاغيِّينا قد يخرج عن أسْر هذه الرغبة أحيانًا بدرجة ما، فيتحدث عن الإنكار فحسب دون ذكْر هذه التقسيمات؛ استنادًا إلى ذوق القارئ وبلاغته؛ كما فعل الهاشمي[3].
تلك ملاحظة أولى على تناول بلاغيينا القدماء والمُحدَثين للاستفهام أسلوبًا فنيًّا، وإذا أردنا أن نُدلِّل على قصورها فإننا سنمثِّل بمثال مشهور في كتب البلاغة: قوله - تعالى -: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40][4].
فهم يجعلون الاستفهام في الآية الكريمة للتكذيب في الماضي؛ بمعني: "لم يكن"؛ "أي: أخصَّكم ربكم بالذكور وخصَّ نفسه بالبنات؟ أي: إنه لم يفعل هذا؛ لتعاليه عن الولد مطلقًا"[5]، فهل يبتغي الاستفهام هنا مجرد تكذيبهم؟
إن نظرةً لأسلوب الاستفهام هذا في سياقه تقول غير هذا، فلنضعه في سياقه: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 40- 43].
إن الأسلوب وارد في سياق بيان وحدانية الله - تعالى - ونفي تعدُّد الآلهة في إطارٍ من التهديد والوعيد في الآية السابقة له: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39]، ومن النكير الشديد عليهم والتقريع والتوبيخ لافترائهم هذه الفِرْية على الله - تعالى - ولذلك عقَّب على هذا الاستفهام بقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40]، فهذا استعظام للقول الباطل الذي قالوه بنسبتهم البنات لله - تعالى - دون علم أو حُجَّة، ثم عادت الآيات بعد هذا الاستفهام لتؤكِّد على بطلان تعدد الآلهة بسوقها هذه الحجة البالغة: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء: 42].
إنه يستوي في الإثم مَن يجعل مع الله إلهًا آخر، أو يقول بتعدد الآلهة، أو يدَّعي نسبة البنات إلى الله، إذًا يستوي الجميع في التهديد والوعيد، وهذا الوعيد إنما هو لافترائهم على الله هذا القول العظيم، ووعيد الله لهم جميعًا ناتج عن افترائهم على الله ما يدَّعون، سواء عن نسبة البنات أو ادعاء وجود آلهة مع الله - تعالى - ولولا أنهم قالوا ذلك لم يكن الله - تعالى - ليتهدَّدهم ويتوعَّدهم بالإلقاء في جهنم ملومين مدحورين، وإذا كانوا قد قالوا ذلك بلا علم أو برهان، فهم أهلٌ لأن يُوبَّخوا ويعنَّفوا؛ لافترائهم على الله ما ليس لهم به علم.
فإن مجرد التكذيب كغرضٍ للاستفهام في هذه الآية الكريمة ليس له كبير قيمة؛ لأن التكذيب - وإن فُهِم من السياق - ليس مقصودًا في ذاته؛ إذ هم يعتقدون هذا القول، فوجب أن يقترن بالتكذيب التهديد والوعيد والتوبيخ، فإن مَن يفتري مثل هذه الفرية لا يردعه مجرَّد تكذيبه، والمرء حين يخطئ ثم يصرُّ على خطئه ويدافع عنه من دون علم، فهو أهلٌ للتوبيخ على موقفه هذا؛ لأنه استمساك بخطأ جسيم دون استناد إلى علم أو دليل.
إذا كان هذا دليلاً منطقيًّا، فإن في السياق ما يؤيد هذه المعاني الأخرى؛ كإلقائهم في جهنم، ولم يكتفِ بالإلقاء؛ بل هو إلقاء الملومين المدحورين، وكتأكيد قولهم هذا القول العظيم: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40] بـ"إن واللام".
وبعض البلاغيين قد يخرج أحيانًا عن أَسْر هذه الرغبة في التقنين، فيتحدث عن الإنكار فحسب دون ذكر هذه التقسيمات؛ استنادًا إلى ذوق القارئ وبلاغته؛ كما فعل صاحب "جواهر البلاغة"[6].
غير أن شارح الكتاب ومحقِّقه تستهويه هذه الرغبة، فيقول معقِّبًا ومستدركًا على الهاشمي هذه التقسيمات يقول: "اعلم أن الإنكار إذا وقع في الإثبات يجعله نفيًا؛ كقوله - تعالى -: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]؛ أي: لا شك فيه، وإذا وقع في النفي يجعله إثباتًا؛ نحو قوله - تعالى -: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]؛ أي: قد وجدناك، وبيان ذلك أن إنكار الإثبات والنفي نفي لها، ونفي الإثبات نفي، ونفي النفي إثبات، ثم الإنكار قد يكون للتكذيب؛ نحو: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقد يكون للتوبيخ واللَّوم على ما وقع نحو: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]، وهذه الآية من كلام إبراهيم - عليه السلام - لقومه حين رآهم يعبدون الأصنام من الحجارة"[7].
والاستفهام في قوله - تعالى - على لسان إبراهيم - عليه السلام - يتضمَّن معاني أُخَر؛ فهذه الآية من كلام إبراهيم - عليه السلام - في محاجَّتهم له وسؤالهم إيَّاه عن كسر الأصنام، فقد كسر عقولهم بهذا السؤال، والآية في سياقها: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 91- 96].
فإفادة الاستفهام معنى التوبيخ واللوم إنما هي مستفادة من ربْط هذه الآية بالتي تليها: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فهنا محطُّ التوبيخ واللَّوم؛ أنهم يعبدون أصنامًا ينحتونها بأيديهم، ويتركون خالقهم وخالق ما ينحتون.
لكننا إذا تدبَّرنا هذا الاستفهام في سياق الآيات ككلٍّ، بعد هذا التعجب والدهشة والضجَر والضيق من هذه الآلهة المزعومة؛ {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 91- 93]، إذا تدبرناه في هذا السياق وجدناه يحمل معاني أُخَر، ولا سيما إذا أدركنا أنه أتى في سياق الحوار حول أصنامهم وعدم أحقيتها بالعبادة، وفي سياق التدليل على هوانها وحقارتها وعجزها؛ بل حتى لبيان انحطاطها عن بلوغ مرتبة الحيوان أو الإنسان؛ {أَلاَ تَأْكُلُونَ}، و{مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ}، أهمّ هذه المعاني: تنبيههم على خطأ ما هم عليه، وحثُّهم على الرجوع إلى عقولهم لإعمالها؛ إذ كيف يعبد ما يُصْنَع بالأيدي؟!
والاستفهام بهذا يستثير فيهم آلة التفكير ليتدبروا بها أمرَهم، فأمَّا وقد أعرضوا وتمادوا في غَيِّهم بعد أن ذكروا بما لا يقرُّه العقل السليم، فهم حينئذ أهلٌ للتوبيخ واللوم.
هذه المعاني أَوْلَى أن تُفهَم وتُسْتَشفَّ من هذا الاستفهام أولاً قبل التوبيخ واللوم؛ فالرسل إنما بعثوا ليأخذوا بأيدي الضالين إلى الهداية برفق ولين ابتداءً؛ كما قال الحق لموسى وأخيه هارون - عليهما السلام -: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43- 44]، فاستثارة عقولهم لتنبِّههم على ما هم عليه من خطأ أولى في خطابهم ابتداء من توبيخهم؛ إذ غالبًا لا يحقِّق التوبيخ هدفه إذا كان المُوبَّخ بمثل ما كان عليه قوم إبراهيم - عليه السلام - من الجهل والعناد والمكابرة.
هذه المعاني أو الدلالات الثريَّة التي يؤديها أسلوب الاستفهام تدحض ما درَج عليه كثير من البلاغيين؛ حيث يذكرون لكلِّ استفهام معنًى واحدًا، يذكرون المعنى والشاهد عليه أو العكس، وهذا يأخذ بنا إلى التساؤل التالي:
هل لأسلوب الاستفهام معنًى واحدٌ أو أكثر من معنًي؟
لقد كان صاحب كتاب "المعاني الثانية في الأسلوب القرآني" مصيبًا؛ إذ تحدث عن معانٍ للاستفهام في بعض استفهامات الكتاب العزيز، فبعض البلاغين - على سبيل المثال - يقولون في قوله - تعالى -: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6- 8]، يقولون: الاستفهام فيه للتقرير؛ "أي: قد وجدناك"[8]، لكنه - أي: صاحب كتاب "المعاني الثانية في الأسلوب القرآني" - يرى فيه معنى التذكير أيضًا، يقول: "ومعنى الاستفهام: اذكر يُتْمَك، واذكر ضلالك؛ فقد كنت يتيمًا وضالاًّ وعائلاً، فآواك الله وهداك وأغناك، فمهما يكن من شيء على ما خيلت، فلا تنسَ نعمة الله عليك في هذه الثلاث واقتدِ بكلام الله، فاعطف على اليتيم؛ فقد ذقتَ اليُتْمَ وهوانه، ورأيت كيف فعل الله بك، وتَرَحَّمْ على السائل، وتفقَّدْه بمعروفك، ولا تزجره عن بابك، كما رحمك ربك؛ فأغناك بعد الفقر، وحَدِّثْ بنعمة الله كلها."
ويدخل تحته: هدايته الضالَّ، وتعليمه الشرائعَ والقرآن، مقتديًا به".
ويقول أيضًا: "وفيه من المعاني الأخرى أيضًا: أنه يقتدي بربه، وأن أمته تقتدي به في مسالك الخير؛ لتصل إلى النموذج الذي خلقه الله فيه، أو ما يشارفه ويقرب منه، وتعْداد هذه النِّعَم يتطلَّب الشكر عليها؛ لأن جحود النِّعَم نكران سخيف في عالم الإنسان"[9].
ويرى الباحث فيه معاني أُخَر؛ إذ يحمل الاستفهام معنى التكريم والتشريف والامتنان من الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ القصد ليس مجرد التقرير فيما أرى، بل هو التنبيه على أن هذا الرسول تربية الرحمن الرحيم وصنعته، فهو الذي آواه وهداه وأغناه، فأسند الفعل إلى ضمير الغيبة في الآية العائد على "ربك" في قوله - تعالى -: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
وإسناد الفعل إلى الله - عز وجل - تشريف وتكريم للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ امتنانه - عز وجل - بهذه النعم الثلاث على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو تكريم له وتشريف وإعلاء شأن.
وسياق الآيات الكريمة يوحي بهذا، بل يصرح به؛ إذ أتى الاستفهام تعقيبًا تاليًا على المنزلة الرفيعة التي بُشِّر بها - صلى الله عليه وسلم - أي: منزلة الشفاعة العظمي؛ نعني قوله - تعالى -: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
فكأن القصد: أنك يا محمد - صلى الله عليه وسلم - موضع عنايتنا ورعايتنا وتكريمنا وتشريفنا في الآخرة، كما كنت محطَّ عنايتنا وتكريمنا وتشريفنا؛ إذ مننَّا عليك فآويناك يتيمًا، وهديناك إذ كنت ضالاًّ، وأغنيناك بعد فقر.
إن البلاغيين دأَبوا على أن يجعلوا للاستفهام معنًى واحدًا، وهذا ما تجده واضحًا حينما تطالع المعاني أو الأغراض التي جعلوها للاستفهام، فلكل استفهام غرض واحد، ويكفي أن تطالع مثلاً كتاب "جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع" تحت هذا العنوان[10]، وهذا ناتج عن اعتماد البلاغة العربية على طريقة المثل والشاهد الذي يُبْتَر من سياقه أو من قصيدته.
فمعنى التكثير للاستفهام مثلاً قال به بعض البلاغيين، وأغلبهم ينقلون للتمثيل له، بعضهم عن بعض، قول أبي العلاء المعري[11]:
صَاحِ، هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْ بَ فَأَيْنَ القُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟ أكلُّ ما يحمله الاستفهام هنا من دلالات أو معانٍ التكثير؟ إن التكثير مستفاد أصلاً من صدر البيت قبل عجزه، هذا في قوله: "هذي قبورنا تملأ الرحب"، فإذا لم يُفِد الاستفهام سوى الكثرة، فسيصبح حينئذ تكرارًا للمعنى السابق، وإذا صار كذلك صار لغوًا، إن هذا معنًى ثانوي.
إن الاستفهام يحمل دلالات أعمق من هذا، إن الشاعر يستهدف من وراء تساؤله توجيه نظر صاحبه المُتَخَيَّل، وربما يعني نفسه إلى حقيقة أن الأرض على اتساعها إنما هي قبور السابقين، وأن أديمها إنما هو بقايا رُفات أصحاب هذه القبور.
وعليه؛ فالتساؤل يستثير في المتلقِّي النهاية الحتمية لحياة كل إنسان، وهي الموت والفناء، فهو نهاية كل البشر: أن يموتوا ويُدْفَنوا في الأرض، ثم التفكير في حقيقة الآخرة من طرف خفي، فأين صارت أجساد السابقين المدفونة في قبورهم؟ فإذا استثار السؤال ذلك في الإنسان أو المتلقي، بعثه على التفكير في حقارة هذه الحياة، وأنه لا قرار له فيها ولا استقرار، وأنه راحل منها لا محالة، وصائر إلى قبور هذه الأرض كالسابقين، فينبغي عليه إذًا أن يفكِّر في العاقبة، وفيما بعد الموت من حساب تكون نتيجته إما جنة وإما سعيرًا، فإذا فكر الإنسان في هذه المعاني تيقَّن أنه مخلوق حقير، أصلة من تراب ونهايته إليه، فلا ينبغي له أن يتكبر أو يعاند هذه الحقيقة.
ويزعم الباحث أن الشاعر ما دار بخلَده أن يدل تساؤله هذا على التكثير الذي وضعه البلاغيون غرضًا لاستفهامه هذا؛ بل لم يهدف الشاعر من وراء تساؤله إلى أن يستثير تلك المعاني التي أشرنا إليها، وأهمها معنى التفكُّر في الموت الذي يحصد الناس من عهد آدم - عليه السلام - بكل ما يستتبعه التفكير في حقيقة الموت من تفكير في الدنيا وحقارتها وغايتها، وما ينبغي أن يتَّصف به المؤمن بهذه الحقيقة من سلوكيات.
ومما يؤيد هذا الفهم: أن نعيد قراءة البيت في إطار سياقه الشعري، يقول أبو العلاء المعري[12]:
غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي نَوْحُ بَاكٍ وَلاَ تَرَنُّمُ شَادِ
وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِي سَ بِصَوْتِ البَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أَمْ غَنْ نَتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِها المَيَّادِ
صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلأُ الرُّحْ بَ فَأَيْنَ القُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ
خَفِّفِ الوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ أَرْضِ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَجْسَادِ
وَقَبِيحٌ بِنَا وَإِنْ قَدُمَ العَهْ دُ هَوَانُ الآبَاءِ وَالأَجْدَادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الهَوَاءِ رُوَيَدًا لاَ اخْتِيَالاً عَلَى رُفَاتِ العِبَادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأَضْدَادِ
تَعَبٌ كُلُّهَا الحَيَاةُ فَمَا أَعْ جَبُ إِلاَّ مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ
إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ المَوْتِ أَضْعَا فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ المِيلاَدِ واضح أن التساؤل استثار الشاعر نفسه فجاشت نفسُه بكل تلك المعاني؛ ولذلك اتجه في البيت التالي إلى مخاطبه أو صاحبه ناصحًا إياه أن يسير على الأرض بتواضع، فأديم الأرض هو من هذه الأجساد، بل تداعت المعاني عنده متأثرًا بهذا الاستفهام لتشمل الحياة كلها وفائدتها، ومقارنة ما يعانيه المرء فيها أو عند موته بسروره عند ولادته.
ولذلك؛ يؤكد الباحث على ضرورة فهْم أسلوب الاستفهام من خلال السياق الوارد فيه، وأعني بالسياق الكلي: النص، وليس الآية أو البيت الشعري المفرد، فلا ينبغي في فهْم الأسلوب أن نتوقَّف عند الجملة فحسب[13]، كما ينبغي التنبيه إلى ما يمكن تسميته باستنطاق النص أو إعادة قراءته، فكما أن للصياغة دورها في أسلوب الاستفهام، فكذلك لطريقة إلقائه وتنغيمه دور مهم في تحديد معاني الاستفهام البلاغية.
فإذا استعدنا تلاوة الآية الكريمة: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] في سياقها، تبدَّت لنا معاني أُخَر سوى ما يقول به البلاغيون في هذا الاستفهام من التنبيه على الضلال[14]، أو التنبيه على ضلال المخاطب[15]، أو التنبيه على ضلال الطريق[16]؛ يقول - تعالى -: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 15- 28].
وهذا السياق يسبقه مباشرة مشهد بدء القيامة: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ * فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 11- 15].
إنه مشهد تكوير الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وحشر الوحوش، وتسجير البحار، وهي كلها من مشاهد بدء القيامة، ثم عُقِّبت ببيان نتيجة طريقين: طريق ينتهي بتسعير جهنم للسائرين فيه، وطريق ينتهي بدخول الجنة للسالكين فيه.
بهذه الأحوال افتُتحت السورة، وبهذه النتيجة تنتهي هذه الأهوال، وعُقِّبت بهذا القسَم: "أن محمدًا الذي صاحَبَكم مُدَّة طويلة، وعرفتم خُلقه، ليس مجنونًا كما يفتري بعضكم، وأنه يعرف جبريل حقَّ المعرفة، فهو واثق بما يلقيه إليه، ولقد رآه في صور مختلفة، حتى صورته الحقيقية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس حريصًا على ما عنده من الغيب بخلاً به، فيستحيل عليه أن يكتم عنكم شيئًا طمعًا في أخذ أجر منكم كما يفعل الكهَّان، وليس الذي جاء به رسولنا قول شيطان كما يقول بعضكم، وإذا كان الأمر كما ذكر، فأي طريق تسلكونه بعد ما أحاط بكم البرهان من جميع جهاتكم؟ فأين تذهبون في القول: إنه إفك، وإنه أساطير الأولين؟ لا شك أنكم ذاهبون إلى ضلال"[17].
أقول: إذا كانت هذه هي المقدمات: الابتداء بمشاهدة القيامة المروِّعة المفزعة، ثم القسَم على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقامة الحجة عليهم من معرفتهم به - صلى الله عليه وسلم... إذا كانت هذه هي المقدمات أو القرائن، ثم تبعها أسلوب الاستفهام هذا، أفيكون المغزى منه فحسب تنبيهَ المشركين على ضلالهم؟ كلا، إنه يستتبع معاني أُخَر؛ أهمها: "تصوير حال الكفار، وإثارة مشاعرهم، ولفْت انتباههم، ودعوتهم إلى النظر إلى ما هم فيه من ضلال؛ لعلهم يقلعون عنه"[18].
فكأن القرآن بهذه الدعوة لهم إلى التدبُّر والنظر إلى عاقبة مسلكهم ونهاية طريقهم - يقول لهم: اختاروا أحد طريقين، قد وصفت لكم: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 12- 13]، فإن سلكتم الطريق الأول، فانتظروا هذه الأهوال، ومشاهد القيامة التي وُصِفت لكم من قبل، فالاستفهام إذًا يحمل كذلك معنى التحذير والتهديد والوعيد بهذه النهاية التي ستترتب على مسلككم أي طريق منهما.
هذا الثراء الفني في دلالات أسلوب الاستفهام لست أول الملتفتين له، وإن يكن للباحث من فضْل، فتأكيده على وجوب التعامل مع أسلوب الاستفهام فنيًّا على أساس هذا الثراء الذي يمكن أن يحمله أسلوب الاستفهام، فيؤدي معاني كثيرة وليس معنى واحدًا، كما عوَّدتنا كثير من كتب البلاغة العربية.
وليت الأمر يقتصر على تضييق دلالة الاستفهام في معنًى واحد، بل ربما كان المعنى المشار إليه غير دقيق.
فمثلاً - ومع إكبار الباحث واعترافه بفضل صاحب "جواهر البلاغة"، ورسوخ قدمه في علوم البلاغة - تجده يمثل هذا التيار، فيرصد لك أغراض الاستفهام أو المعاني التي يخرج إليها، ومنها مثلاً: الاستئناس[19]، ويمثل بقوله - تعالى -: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، وهذا غير دقيق؛ فالاستئناس استفعال؛ أي: طلب الأُنس، وأحد معاني "استفعل": الطلب، حقيقة أو مجازًا[20]، وليس هذا بمراد هنا؛ فالسائل هو الحق - عز وجل - ولا يجوز أن يطلب من موسى الأُنس؛ لانتفاء الاحتياج في حق الله - تعالى - ولا يمكن أن يكون الاستفهام حقيقيًّا؛ لاستحالة عدم علم الله بما في يد موسى، فهذا مما لا يجوز في حق الله - تعالى.
ولذا؛ لا ينبغي أن يقال: إن قصد السؤال هنا الاستئناس، بل الإيناس؛ فالفاعل له هو الله - عز وجل - والمستأنِس بالسؤال هو موسى - عليه السلام – فالمعنى: آنس الله موسى بهذا السؤال، على فهْم البلاغيين، وهذه إحدى دلالات أو معاني صيغة أفعَل - أي: آنس هنا - أي: التعدية، وهي تصيير الفاعل بالهمزة مفعولاً[21]، هذا ما أدركه جيدًا صاحب كتاب "المعاني الثانية لأسلوب القرآن"، فجعل الإيناس وليس الاستئناس هنا من معاني هذا الاستفهام، يقول: "والإيناس نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، وقال ابن فارس: المراد به الإفهام، فإن الله - تعالى - قد علم أن لها أمرًا قد خفي على موسى - عليه السلام - فأعلم من حالها ما لم يعلَم، وقيل: هو للتقرير، فيعرف ما في يده حتى لا ينفر إذا انقلبت حية"[22]، فأضاف معنيين للاستفهام هنا سوى الإيناس؛ أولهما: صرَّح بنسبته إلى ابن فارس وهو الإفهام، والثاني: أعرَض عن ذكر صاحبه وهو التقرير، وهي معاني مختلفة لهذا السؤال استُشِفَّت منه، بحسب ذوق كل ناظر فيه، وهذا ما قصده الباحث بثراء هذا الأسلوب وغناه الفني.
والاستفهام يحتمل معاني أُخَر، بل يزعم الباحث أن القول: إن غاية الاستفهام هنا الإيناس قولٌ غير دقيق وكذلك التقرير؛ ذلك أنهم نظروا إلى الآية موضع الاستفهام دون نظر إلى السياق الذي وردت فيه.
والآية في سياقها: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 17- 23].
إن الآيات كلها تتمَحْوَر حول هذا السؤال عن العصا، وذلك للأمر الجَلَل المعجِز الذي ستقوم به هذه العصا في دعوة موسى فرعون، إنها ستصير آية؛ كإخراج يد موسى بيضاء من غير سوء بعد ضمِّها إلى جناحه، ولنلحظ قوله - تعالى -: {آيَةً أُخْرَى} [طه: 22].
إن ما سيصير بعد طرْح السؤال على موسى - عليه السلام - يكشف لنا عن القصد من ورائه، إن الله يعلم أن ما بيَدِ موسى هي عصاه، وموسى نفسه يعلم هذا، لكن موسى لا يعلم أو لم يكن يعلم حتى هذه اللحظة القوة الكامنة التي أَوْدعها أو سيُودعها الله في عصاه، فليس القصد إذًا أن يأنس موسى بالسؤال أو يثبت له أن ما بيده عصاه، فهو يعلم هذا يقينًا، ولو اقتصر الأمر في الآيات على السؤال والجواب لكان جائزًا أن يقال: إن المعنى الدقيق للاستفهام هنا الإيناس أو التقرير، لكن السياق لم يقتصر على هذا، بل بعد ما أجاب موسى طلب إليه أن يلقي عصاه، فإذا بها تتحول إلى حية تسعى حقيقة، ثم أمر موسى بأخْذها وعدم الخوف منها؛ لأن الله سيعيدها إلى حقيقتها الأولى (أنها عصا).
وهذا ما كان يرمي إليه السؤال، أن يلتفت موسى وينتبه إلى هذا المشهد التدريبي له - والذي سيمر به فيما بعد - فينتبه إلى حقيقة أن ما بيده ليست إلا عصا، أو هذه حقيقة يعلمها؛ لأنها ستصبح لها حقيقة أخرى في إعجاز إلهي، ففي السؤال تهيئة وتنبيه وتدريب لذهن موسى - عليه السلام - إلى ما هو كائن في هذه العصا من قدرة إلهية أودعها الله فيها، فيتهيَّأ ذهن موسى إلى حدوث المعجِزة الدالَّة على قدرة الله - تعالى - كي يستقرَّ في نفسه أنها من قدرة الله - تعالى - وليست من قبيل السحر أو التخييل، ولا سيما أنه سيتعرض لهذا الموقف فيما بعد.
وفي السؤال كذلك الارتقاء بموسى عن مرتبة الخوف، ودفع لما قد يعتري موسى من خوف فيما بعد، ولنلحظ قوله - تعالى -: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} [طه: 21]، ثم قوله - تعالى - في السورة بعد ذلك بعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيَّهم فخيل إليه من سحرهم أنها حيات حقيقية: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].
فهذا السؤال عن العصا إنما كان تهيئة لموسى بلفْت نظره وتنبيهه إلى القدرة الإلهية التي سيمنحه الله - تعالى - إياها في تلك العصا؛ ليستطيع مجابهة السحرة ومواجهتهم، وليقتلع هذا الخوف من نفس موسى - عليه السلام.
فهذه - فيما يرى الباحث - قيمة الاستفهام الحقيقة هنا وبلاغته، ولنلحظ تأكيدًا لهذا الفهم قوله - تعالى - في الآية التالية للآية السابقة: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 68- 69]، إنه حتى في موقف التحدي قد أخذه شيء من الذهول والخوف، واعتراه ما يعتري البشر، فقد خُيِّل إليه أن حبال السحرة وعصيهم قد صارت حيات، فلهذا الذهول وتلك الدهشة والخوف الذي اعترى موسى - عليه السلام - لم يلقِ العصا مع تنبيه الله له بما أودعه فيها من إعجاز؛ ولذا عبر القرآن بقوله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69].
إن هذا السؤال كان يستهدف بناء شخصية موسى - عليه السلام - وتربيتها وتهيئتها إلى ما ستواجهه من مواقف صعبة، لينتزع هذا الخوف من فرعون: {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45- 46]، أو من السحرة وما أوتوا من سحر عظيم: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].
ولعل ابن فارس كاد يلمح أو يومئ إلى هذا الذي نرى في قوله السابق أن المراد من الاستفهام: "الإفهام، فإن الله قد علم أن لها أمرًا قد خفي على موسى، فأعلم من حالها ما لم يعلم"، فلعله كان يعني إفهام موسى - عليه السلام - حقيقة العصا وحقيقة ما استودعه فيها من قوة كامنة، فنبَّهه ولفت نظره وهيَّأه إلى ما اختصَّها الله به من قوة معجزة؛ ليتهيَّأ إلى ما سيحدث بينه وبين فرعون وسحرته.
وقولنا: إن الأولى أن يكون مغزى هذا الاستفهام الدلالة على لفْت نظر موسى، وتنبيهه إلى حقيقة العصا، وإلى ما سيودعها الله فيها من قوة إعجاز وإفحام للمعاندين المستكبرين من فرعون وقومه، لا الإيناس أو التقرير؛ إنما نعني به أنه الأوضح والأظهر والأنسب للسياق الوارد فيه الاستفهام، لا أن هذا صواب وذاك خطأ.
ونظير هذا قول صاحب كتاب "المعاني الثانية للأسلوب القرآني"؛ إذ ذكر أن قصد الاستفهام في قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] التنبيه[23]، ثم أعرض عنه فقال: "الأوضح في المعنى الثاني وراء الاستفهام التعجيب من حال نمروذ اللعين، الذي تسوِّل له نفسه أن يقف أمام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - موقف المحاجَّة والمخاصمة، معتقدًا أن ما يملك من سلطان وجاه سوف يكون سببًا لإفحام نبيِّ الله، وهذه المحاجَّة تكشف عن غروره وغباوته وإعجابه بقدرته"[24].
ثم يأخذ في تفسيركيف كان غبيًّا مغترًّا معجبًا بقدرته، حائرًا مبهوتًا مستدلاًّ على وضوح التعجيب وأولويته كمعنًى ثانٍ لهذا الاستفهام، يقول: "وهذا الموقف يقتضي التعجيب من حال بشر يعتقد في نفسه الألوهية، ويذهب مذهب المحاجَّة والمجادلة، ثم تدركه الحيرة، فلم يُحِر من جواب، ثم لا يؤمن بعد ذلك، ويطفئ شمعة التفكير الحر بين جنبيه؛ ليعيش في ظلام الكفر الدائم، ولو أنه فكَّر بعد هذا الحوار، وبعد أن فهم كلام إبراهيم - عليه السلام - لو أنه فكر قليلاً، واستمد قوته من نور العقل الذي يسير به المرء في طريق الدين، لما كان هناك مصدر التعجيب"[25].
وهذا ما قال به من قبله كلٌّ من الزمخشري وأبي حيان الأندلسي؛ حيث قال الزمخشري: "{أَلَمْ تَرَ} تعجيب من محاجَّة نمروذ في الله وكفره به"[26]، وقال أبو حيان - وقد أحال الكلام إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ...} [البقرة: 243]"[27]، قال مضيفًا إلى التعجيب معنى التنبيه والتقرير -: "وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي، فصار الكلام تقريرًا، فيمكن أن يكون المخاطب عَلِم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلا من هذه الآية؛ ومعناه: التنبيه والتعجيب من حال هؤلاء، والرؤية هنا علمية، وضُمِّنت معنى ما يُتَعدَّى بـ"إلى"، فلذلك لم يتعدَّ إلى مفعوليه، وكأنه قيل: ألم ينتهِ علمك إلى كذا، وقال الراغب: (رأيت) يتعدي بنفسه دون الجار، ولكن لما استعير قولهم: "ألم ترَ" لمعنى: ألم تنظر، عُدِّي تعديته، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقرير، ما يقال: رأيت إلى كذا، انتهي.
وألم ترَ، جرى مجرى التعجب في لسانهم"[28].
أبو حيان يرى التعجب هنا معنًى من معاني الاستفهام إلى جانب التقرير والتنبيه، وجميعهم - أي: أبو حيان والزمخشري وفتحي فريد - يرون أن التعجب معنًى من معاني الاستفهام - على اختلافٍ بينهم - فالزمخشري لم يُشِر إلى غيره، وأبو حيان يراه إلى جِوار التقرير والتنبيه الذي يوافقه عليه د. فتحي فريد.
يقول فتحي فريد: "وفيه مع ذلك تنبيه وتحذير؛ تنبيه للغافلين عن نور العقيدة أن يتيقَّظوا، وتحذير للضالين المضلِّين ألا تكون نهايتهم كنهاية نمروذ وغيره ممن حادت بهم الطريق إلى هاوية الجحيم"[29].
فهو يري فيه تنبيهًا، ويزيد عليه معنى التحذير، فاجتمع لهذا الاستفهام من المعاني البلاغية أربعة؛ هي: التعجيب والتقرير، والتنبيه والتحذير، بل يزيد الباحث عليها معنى الدعوة إلى الاعتبار بحال كلٍّ من إبراهيم والنمروذ، والتدبُّر في عاقبتها كأنموذجين؛ للموحِّد، والكافر.
ولنعد قراءة الاستفهام في سياقه الكلي: يقول - تعالى -: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا...} [البقرة: 256- 259].
إن الاستفهام وارد في سياق بيان مَن يستمسكون بالعروة الوثقى، المؤمنين الموحِّدين بالله، الكافرين بالطاغوت، الذين هم أولياء الله، فيخرجهم من الظلمات إلى النور؛ نور اليقين والحجة والبرهان الساطع، ويمثلهم إبراهيم - عليه السلام - ومَن يكفرون بالله ويؤمنون بالطاغوت؛ فيضلهم ويخرجهم من نور الحقيقة إلى ظلام الجهل والعناد، والمكابرة والعناء والحماقة، وهؤلاء يمثِّلهم النمروذ المتكبِّر المتألِّه.
كما أن السياق معنِيٌّ ببيان عاقبة كلٍّ منهما تصريحًا وتضمينًا؛ فقد صرح بعاقبة الكافرين أنهم أصحاب النار خالدون فيها، وعلى النقيض تضمينًا يكون جزاء الموحدين، فهم أصحاب الجنة، هم فيها خالدون.
فإذا جاء الاستفهام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ...} [البقرة: 258] في هذا السياق، فهو يحمل دلالة عميقة هي دعوته إلى الاعتبار: دعوة المشركين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاعتبار بحال كلٍّ من إبراهيم والنمروذ اللعين؛ إذ هما أنموذجان للموحِّد والكافر، للداعي إلى الخير والحق والهداية، والمدعوِّ المُعْرِض المتكبِّر المعانِد، بل فيه تعريضٌ بغباوة المشركين المعاندين دعوة الرسول إليهم إلى الإيمان؛ إذ هذا الملك كان أقوى منهم وأعتى، فماذا كان مصيره وعاقبته؟
فإن الخطاب يجوز: "أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يكون لكل سامع"[30]، بل هم أَوْلَى بهذا الخطاب؛ فالقرآن ما نزل إلا لهدايتهم وأمثالهم في كل زمان ومكان، فهم أول معْنِيٍّ بالقرآن وما يُضْرَب فيه من أمثلة ونماذج تمسُّ وتر عنادهم واستكبارهم، ورفضهم ومكابرتهم وإصرارهم على الشرك.
ولعل أبا حيان الأندلسي كان هذا المعنى يحوم في ذهنه، وهو يحاول تبيان مناسبة الاستفهام لما قبله، يقول: "{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه - تعالى -: لما أخبر أنه وليُّ الذين آمنوا، وأخبر أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجَّه، وأنه ناظَر ذلك الكافر فغلبه وقطعه؛ إذ كان الله وليَّه، وانقطع ذلك الكافر وبُهِت؛ إذ كان وليه هو الطاغوت: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، فصارت هذه مثلاً للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما"[31].
وإذا كان الأمر كذلك، ففي هذا الاستفهام أيضًا تثبيت وترسيخ لعقيدة الموحدين أنهم على الحق، وأنهم هم الفائزون المنتصرون في النهاية، مهما كان عدوهم متجبرًا مستكبرًا في الأرض، بقيد أن يكونوا على تلك العقيدة الراسخة كما كانت عند إبراهيم - عليه السلام.
والذي يؤكد ما نذهب إليه من هذه المعاني الثرية لهذا الاستفهام: إصرار النص القرآني على تثبيت هذه المعاني في نفوس سامعيه المؤمنين؛ فقد عطف الآية التالية لهذا الاستفهام عليه، نعني قوله - تعالى -: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا...} [البقرة: 259] "فجمهور المفسرين على أنه معطوف على قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258]، على المعنى؛ إذ معنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي}: أرأيت كالذي حاج؟ فعطف قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} على هذا المعنى، والعطف على المعنى موجود في لسان العرب"[32]، وقال الزمخشري: {أَوْ كَالَّذِي}؛ معناه: أو أرأيت مثل الذي مر، فحذف لدلالة {أَلَمْ تَرَ} عليه؛ لأن كلتيهما كلمة تعجيب"[33].
وعلى هذا؛ فقد حُذِفت همزة الاستفهام والفعل الذي دخلت عليه، وهو تخريج حسن، كما قال أبو حيان الأندلسي: "لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى، وقد جوَّز الزمخشري الوجه الأول"[34]، وكذلك في قوله: "ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل: أرأيت كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مرَّ على قرية؟"[35].
كلتا الآيتين؛ بل كلا الاستفهامين يستهدفان - من ضمن ما يستهدفان - بناءَ عقيدة المؤمنين وتثبيتها وترسيخها، بإثبات قدرته على البعث والجزاء، وهذا ما وضح جليًّا في الآية الثانية بعد هذا الاستفهام في قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]؛ إذ هذا ارتقاء في العقيدة من علم اليقين إلى عين اليقين.
يقول أبو حيان: "وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء؛ ليشاهد عيانًا ما كان يعلمه بالقلب، وأخبر به نمروذ"[36].
كيف نتناول أسلوب الاستفهام؟
مما قدمنا من نماذج تدلل علي الثراء الفني لأسلوب الاستفهام، فنري لفهْم أسلوب الاستفهام فهمًا جيدًا واعيًا، يستنبط دلالاته الثرية: أنه ينبغي مراعاة ما يلي في التناول البلاغي لأسلوب الاستفهام:
أولاً: معرفة النظْم أو الصياغة التي صيغ بها أسلوب الاستفهام.
ثانيًا: الإدراك الواعي والتام للسياق الكلي الوارد فيه الاستفهام، ونعني به السياق الكلي للنص، وليس سياق البيت أو سياق الجملة فحسب.
ثالثًا: التنبه لطريقة إلقاء الاستفهام؛ فللتنغيم دوره المهم في تذوق الاستفهام ومعرفة مراده، باستنطاق النص ومحاولة تنغيمه.
رابعًا: معرفة السائل والمسؤول، بل أحيانًا معرفة مكانته وقدره.
خامسًا: معرفة مكانة النص من حيث إنه نص إلهي أو نص بشري، فتعاملنا مع نص شعري يختلف تمامًا عن تعاملنا مع نص قرآني، أو نصوص الحديث الشريف الصحيحة؛ وذلك لتجنُّب الوقوع في المزالق؛ فليس كل ما يصلح لأن نتعامل به من مناهج نقدية تطبَّق على الشعر أو النثر بأنواعه - يصلح للتعامل مع القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف الصحيح.
وهذا أمر جدير ضروري؛ فعلى سبيل المثال يجب أن نتعامل مع الاستفهام القرآني على هذا الأساس، وهو ما قرره بعض علمائنا مثل السيوطي حين قال: "قال بعض الأئمة: وما جاء في القرآن على لفظ الاستفهام، فإنما يقع في خطاب الله على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل"[37]، "فالإثبات كقوله - تعالى -: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، والنفي كقوله - تعالى -: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]، وكقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [هود: 14].
ومعنى ذلك: أنه قد حصل لكم العلم بذلك تجدونه عندكم إذا استفهمتم أنفسَكم عنه، فإن الرب - تعالى - لا يستفهم خلقَه عن شيء، وإنما يستفهمهم ليقررهم ويذكِّرهم أنهم قد علموا حقَّ ذلك الشيء، وهو أسلوب بديع انفرد به خطاب القرآن"[38].
كذلك فإن علينا أن نلتفت إلى السائل أو المستفهِم، فهل يصح أن نطبِّق ما قال به الإمام عبدالقاهر الجرجاني حين قال: "ومن أبين شيء في ذلك - أي: في التفريق بين تقديم ما قُدِّم وتأخير ما أُخِّر -: الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: "أفعلت؟" فبدأت بالفعل، كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده، وإذا قلت: "أأنت فعلت؟" فبدأت بالاسم، كان الشك في الفاعل، مَن هو؟ وكان التردد فيه"[39].
أقول: هل يصحُّ أن نطبِّق هذه القاعدة على قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فهل يجوز أن يكون هناك شكٌّ من جانب الله - عز وجل - في أن عيسى - عليه السلام - قد يكون قال هذا الكلام؟! إنه لا يعقل أن يكون الاستفهام حقيقيًّا بداية، ثم إن هذا - على اعتبار الاستفهام بلاغيًّا - يستحيل في حق الله - عز وجل - ويتنافى مع قول الأئمة السالف الذكر.
ولذلك؛ لم يَسُق هذه الآية شاهدًا على كلامه، بل ساق قوله - تعالى - حكاية على لسان قوم إبراهيم، وهم بشر يجري عليهم الشك والخلط والوهم: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62]، بالرغم من أن الصياغة واحدة في آيتي المائدة والأنبياء؛ أي: بتقديم الاسم - الفاعل في المعني - والفعل ماضٍ، قائلاً: "لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له - عليه السلام - وهم يريدون أن يقرَّ لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقرَّ بأنه منه كان، وكيف وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: أأنت فعلت هذا؟ وقال هو - عليه السلام - في الجواب: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، ولو كان التقرير بالفعل، لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل"[40].
والذين تجاهلوا هذه الحقيقة، وتجاهلوا ما أشرنا إليه من ضرورة الالتفات إلى السائل والمسؤول، ومعرفة مكانة كل منهما، بل تجاهلوا إشارة الإمام عبدالقاهر نفسه، ولم يفطنوا إلى إلحاحه على توجيه خطابه إلى مخاطَب - أي: إلى بشر - في قوله: "فإذا قلت"، "فإنك إذا قلت" - وقعوا في خطأ عظيم.
فهذه إحدى الباحثات - والله يغفر لها – تقول - بعد أن عرَّفت معنى التقرير بأنه حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمرٍ قد استقرَّ عنده ثبوته أو نفيه، وحددت أماكنه بأنه قد يكون تقريرًا بالفعل؛ نحو: أضربت عمرًا؟ أو بالفاعل نحو: أأنت ضربت عمرًا؟ أو بالمفعول نحو: "أعمرًا ضربت؟"[41] - تقول: "والاستفهام: هو أن الاستفهام ممن لا يعلم لِمَن يعلم، أو يتوهم من العلم ليعلم؛ كقوله - تعالى -: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي}، أما التقرير ممن يعلم ليثبته على فعله، فيكون جزاء، أو يتحقق أنه فعله عن قصد؛ كقوله - تعالى -: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا...} [الشعراء: 18]"[42]؛ انتهي كلامها.
إن الباحثة جعلت الاستفهام في قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116- 118].
إن الباحثة جعلته نظيرًا للاستفهام الذي ذكرته من قبل في التقرير بالفاعل: "أأنت ضربت عمرًا؟"، ولعلها لم ترَ فيه سوي تطابق الصياغة! ولعلها لم تفطن إلى الفارق الجوهري بين الاستفهام: وهو في السائل والمسؤول، وفي مكانة كل منهما، وفي الموقف والسياق، وفيما ينبغي أن يربَّى عليه كل مسلم من معرفة ما يجب في حق الله، وما لا يجب، ولعلها أخذت أنموذج الإمام عبدالقاهر، ولم تفطن إلى إشارته، وإلى استدلاله بغير هذه الآية، أو بغير هذا الاستفهام.
إن الباحثة جعلت الاستفهام حقيقيًّا، فقد جعلته مقابلاً للتقرير، وعلى هذا فالله يطلب العلم من عيسى، يسأله ليعرف، وليزيل شكَّه - تنزه الله عن ذلك وتعالى علوًّا كبيرًا؛ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].
إن عيسى - عليه السلام - فَهِم السؤال على معناه الذي ينبغي أن يُفْهم به، وهو أنه وارد علي سبيل استنطاق عيسى نفسه بما يعلم من ادعاء النصارى هذا الكذب عليه تكذيبًا لهم، وتبكيتًا على ما ادعوه، وردًّا على افترائهم هذا في حق الله، وفي حق عيسى - عليه السلام - ولذلك كان عيسى - عليه السلام - فَطِنًا في جوابه؛ إذ أسند العلم المطلق لله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
فالاستفهام إذًا "للتقرير بما يعرفه عيسى - عليه السلام - من هذا الحكم، وهو أنه لم يصدر منه هذا القول، وليس المراد التقرير بالفاعل فاعل لهذا القول؛ لأن ذلك مستحيل على عيسى - عليه السلام"[43].
فإذا كان الله عالم
الاستفهام مصدر الفعل "استفهم"، "واستفهمه: سأله أن يفهمه، وقد استفهمني الشيءَ فأفهمتُه وفهَّمته تَفهيمًا"[1]، فسؤال الفهم طلب السائل أن يخبره المسؤول عمَّا يسأل، ولذلك ساوى ابن فارس بين معنى الاستفهام والاستخبار فقال: "الاستخبار: طلب خُبْر ما ليس عند المستخبِر، وهو الاستفهام"[2].
هذه الدلالة اللغوية انطلق منها بلاغيُّونا القدامى في تقسيم الاستفهام إلى حقيقي ومجازي أو بلاغي؛ والحقيقي: ما طلب به السائل أن يعلم ما ليس عنده علم به، والمجازي: ما انحرف عن هذه الدلالة إلى دلالات أُخَر أو معانٍ أُخَر حسب الموقف والسياق وقرائن الأحوال، وأخذ بلاغيونا - رغبة في التقنين والتقعيد - يحددون هذه المعاني، ويمثِّلون لها بشواهد من الشعر والقرآن والحديث.
وهي رغبة جمحت بالبلاغة العربية عمومًا نحو الجمود؛ فهم مثلاً لا يكتفون بأن يجعلوا الإنكار معنًى من المعاني التي يخرج إليها أسلوب الاستفهام - أو ينحرف إليه، بتعبير الأسلوبيين المحْدثين - بل يقسِّمون الإنكار إلى وجهين: إنكار للتوبيخ، وإنكار للتكذيب.
ويقسمون الأول إلي: توبيخ على فعل قد وقع، بمعنى: "ما كان ينبغي أن يكون ذلك الأمر"، وتوبيخ على فعل واقع في الحال، أو يُخشى وقوعه في المستقبل، بمعنى: "لا ينبغي أن يكون هذا"، ثم يقسمون الثاني؛ أي: إنكار التكذيب بنفس الطريقة إلى تكذيب في الماضي بمعنى: "لم يكن"، أو للتكذيب في الحال أو المستقبل بمعنى: "لا يكون".
وهذا تقعيد يؤدِّي إلى تعقيد البلاغة وإثقال كاهلها وتكبيلها، ولا نرى له من الناحية الفنية كبير فائدة؛ فهذا التقسيم قائم على أساس الزمن الواقع فيه التوبيخ أو التكذيب، وهو أمر بدهي يُستَشفُّ من الأسلوب نفسه، ولا يحتاج الأمر إلى هذا التقعيد والتقنين.
على أن من الإنصاف أن نذكر أن بعض بلاغيِّينا قد يخرج عن أسْر هذه الرغبة أحيانًا بدرجة ما، فيتحدث عن الإنكار فحسب دون ذكْر هذه التقسيمات؛ استنادًا إلى ذوق القارئ وبلاغته؛ كما فعل الهاشمي[3].
تلك ملاحظة أولى على تناول بلاغيينا القدماء والمُحدَثين للاستفهام أسلوبًا فنيًّا، وإذا أردنا أن نُدلِّل على قصورها فإننا سنمثِّل بمثال مشهور في كتب البلاغة: قوله - تعالى -: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40][4].
فهم يجعلون الاستفهام في الآية الكريمة للتكذيب في الماضي؛ بمعني: "لم يكن"؛ "أي: أخصَّكم ربكم بالذكور وخصَّ نفسه بالبنات؟ أي: إنه لم يفعل هذا؛ لتعاليه عن الولد مطلقًا"[5]، فهل يبتغي الاستفهام هنا مجرد تكذيبهم؟
إن نظرةً لأسلوب الاستفهام هذا في سياقه تقول غير هذا، فلنضعه في سياقه: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 40- 43].
إن الأسلوب وارد في سياق بيان وحدانية الله - تعالى - ونفي تعدُّد الآلهة في إطارٍ من التهديد والوعيد في الآية السابقة له: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39]، ومن النكير الشديد عليهم والتقريع والتوبيخ لافترائهم هذه الفِرْية على الله - تعالى - ولذلك عقَّب على هذا الاستفهام بقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40]، فهذا استعظام للقول الباطل الذي قالوه بنسبتهم البنات لله - تعالى - دون علم أو حُجَّة، ثم عادت الآيات بعد هذا الاستفهام لتؤكِّد على بطلان تعدد الآلهة بسوقها هذه الحجة البالغة: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء: 42].
إنه يستوي في الإثم مَن يجعل مع الله إلهًا آخر، أو يقول بتعدد الآلهة، أو يدَّعي نسبة البنات إلى الله، إذًا يستوي الجميع في التهديد والوعيد، وهذا الوعيد إنما هو لافترائهم على الله هذا القول العظيم، ووعيد الله لهم جميعًا ناتج عن افترائهم على الله ما يدَّعون، سواء عن نسبة البنات أو ادعاء وجود آلهة مع الله - تعالى - ولولا أنهم قالوا ذلك لم يكن الله - تعالى - ليتهدَّدهم ويتوعَّدهم بالإلقاء في جهنم ملومين مدحورين، وإذا كانوا قد قالوا ذلك بلا علم أو برهان، فهم أهلٌ لأن يُوبَّخوا ويعنَّفوا؛ لافترائهم على الله ما ليس لهم به علم.
فإن مجرد التكذيب كغرضٍ للاستفهام في هذه الآية الكريمة ليس له كبير قيمة؛ لأن التكذيب - وإن فُهِم من السياق - ليس مقصودًا في ذاته؛ إذ هم يعتقدون هذا القول، فوجب أن يقترن بالتكذيب التهديد والوعيد والتوبيخ، فإن مَن يفتري مثل هذه الفرية لا يردعه مجرَّد تكذيبه، والمرء حين يخطئ ثم يصرُّ على خطئه ويدافع عنه من دون علم، فهو أهلٌ للتوبيخ على موقفه هذا؛ لأنه استمساك بخطأ جسيم دون استناد إلى علم أو دليل.
إذا كان هذا دليلاً منطقيًّا، فإن في السياق ما يؤيد هذه المعاني الأخرى؛ كإلقائهم في جهنم، ولم يكتفِ بالإلقاء؛ بل هو إلقاء الملومين المدحورين، وكتأكيد قولهم هذا القول العظيم: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40] بـ"إن واللام".
وبعض البلاغيين قد يخرج أحيانًا عن أَسْر هذه الرغبة في التقنين، فيتحدث عن الإنكار فحسب دون ذكر هذه التقسيمات؛ استنادًا إلى ذوق القارئ وبلاغته؛ كما فعل صاحب "جواهر البلاغة"[6].
غير أن شارح الكتاب ومحقِّقه تستهويه هذه الرغبة، فيقول معقِّبًا ومستدركًا على الهاشمي هذه التقسيمات يقول: "اعلم أن الإنكار إذا وقع في الإثبات يجعله نفيًا؛ كقوله - تعالى -: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]؛ أي: لا شك فيه، وإذا وقع في النفي يجعله إثباتًا؛ نحو قوله - تعالى -: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]؛ أي: قد وجدناك، وبيان ذلك أن إنكار الإثبات والنفي نفي لها، ونفي الإثبات نفي، ونفي النفي إثبات، ثم الإنكار قد يكون للتكذيب؛ نحو: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقد يكون للتوبيخ واللَّوم على ما وقع نحو: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]، وهذه الآية من كلام إبراهيم - عليه السلام - لقومه حين رآهم يعبدون الأصنام من الحجارة"[7].
والاستفهام في قوله - تعالى - على لسان إبراهيم - عليه السلام - يتضمَّن معاني أُخَر؛ فهذه الآية من كلام إبراهيم - عليه السلام - في محاجَّتهم له وسؤالهم إيَّاه عن كسر الأصنام، فقد كسر عقولهم بهذا السؤال، والآية في سياقها: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 91- 96].
فإفادة الاستفهام معنى التوبيخ واللوم إنما هي مستفادة من ربْط هذه الآية بالتي تليها: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فهنا محطُّ التوبيخ واللَّوم؛ أنهم يعبدون أصنامًا ينحتونها بأيديهم، ويتركون خالقهم وخالق ما ينحتون.
لكننا إذا تدبَّرنا هذا الاستفهام في سياق الآيات ككلٍّ، بعد هذا التعجب والدهشة والضجَر والضيق من هذه الآلهة المزعومة؛ {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 91- 93]، إذا تدبرناه في هذا السياق وجدناه يحمل معاني أُخَر، ولا سيما إذا أدركنا أنه أتى في سياق الحوار حول أصنامهم وعدم أحقيتها بالعبادة، وفي سياق التدليل على هوانها وحقارتها وعجزها؛ بل حتى لبيان انحطاطها عن بلوغ مرتبة الحيوان أو الإنسان؛ {أَلاَ تَأْكُلُونَ}، و{مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ}، أهمّ هذه المعاني: تنبيههم على خطأ ما هم عليه، وحثُّهم على الرجوع إلى عقولهم لإعمالها؛ إذ كيف يعبد ما يُصْنَع بالأيدي؟!
والاستفهام بهذا يستثير فيهم آلة التفكير ليتدبروا بها أمرَهم، فأمَّا وقد أعرضوا وتمادوا في غَيِّهم بعد أن ذكروا بما لا يقرُّه العقل السليم، فهم حينئذ أهلٌ للتوبيخ واللوم.
هذه المعاني أَوْلَى أن تُفهَم وتُسْتَشفَّ من هذا الاستفهام أولاً قبل التوبيخ واللوم؛ فالرسل إنما بعثوا ليأخذوا بأيدي الضالين إلى الهداية برفق ولين ابتداءً؛ كما قال الحق لموسى وأخيه هارون - عليهما السلام -: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43- 44]، فاستثارة عقولهم لتنبِّههم على ما هم عليه من خطأ أولى في خطابهم ابتداء من توبيخهم؛ إذ غالبًا لا يحقِّق التوبيخ هدفه إذا كان المُوبَّخ بمثل ما كان عليه قوم إبراهيم - عليه السلام - من الجهل والعناد والمكابرة.
هذه المعاني أو الدلالات الثريَّة التي يؤديها أسلوب الاستفهام تدحض ما درَج عليه كثير من البلاغيين؛ حيث يذكرون لكلِّ استفهام معنًى واحدًا، يذكرون المعنى والشاهد عليه أو العكس، وهذا يأخذ بنا إلى التساؤل التالي:
هل لأسلوب الاستفهام معنًى واحدٌ أو أكثر من معنًي؟
لقد كان صاحب كتاب "المعاني الثانية في الأسلوب القرآني" مصيبًا؛ إذ تحدث عن معانٍ للاستفهام في بعض استفهامات الكتاب العزيز، فبعض البلاغين - على سبيل المثال - يقولون في قوله - تعالى -: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6- 8]، يقولون: الاستفهام فيه للتقرير؛ "أي: قد وجدناك"[8]، لكنه - أي: صاحب كتاب "المعاني الثانية في الأسلوب القرآني" - يرى فيه معنى التذكير أيضًا، يقول: "ومعنى الاستفهام: اذكر يُتْمَك، واذكر ضلالك؛ فقد كنت يتيمًا وضالاًّ وعائلاً، فآواك الله وهداك وأغناك، فمهما يكن من شيء على ما خيلت، فلا تنسَ نعمة الله عليك في هذه الثلاث واقتدِ بكلام الله، فاعطف على اليتيم؛ فقد ذقتَ اليُتْمَ وهوانه، ورأيت كيف فعل الله بك، وتَرَحَّمْ على السائل، وتفقَّدْه بمعروفك، ولا تزجره عن بابك، كما رحمك ربك؛ فأغناك بعد الفقر، وحَدِّثْ بنعمة الله كلها."
ويدخل تحته: هدايته الضالَّ، وتعليمه الشرائعَ والقرآن، مقتديًا به".
ويقول أيضًا: "وفيه من المعاني الأخرى أيضًا: أنه يقتدي بربه، وأن أمته تقتدي به في مسالك الخير؛ لتصل إلى النموذج الذي خلقه الله فيه، أو ما يشارفه ويقرب منه، وتعْداد هذه النِّعَم يتطلَّب الشكر عليها؛ لأن جحود النِّعَم نكران سخيف في عالم الإنسان"[9].
ويرى الباحث فيه معاني أُخَر؛ إذ يحمل الاستفهام معنى التكريم والتشريف والامتنان من الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ القصد ليس مجرد التقرير فيما أرى، بل هو التنبيه على أن هذا الرسول تربية الرحمن الرحيم وصنعته، فهو الذي آواه وهداه وأغناه، فأسند الفعل إلى ضمير الغيبة في الآية العائد على "ربك" في قوله - تعالى -: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
وإسناد الفعل إلى الله - عز وجل - تشريف وتكريم للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ امتنانه - عز وجل - بهذه النعم الثلاث على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو تكريم له وتشريف وإعلاء شأن.
وسياق الآيات الكريمة يوحي بهذا، بل يصرح به؛ إذ أتى الاستفهام تعقيبًا تاليًا على المنزلة الرفيعة التي بُشِّر بها - صلى الله عليه وسلم - أي: منزلة الشفاعة العظمي؛ نعني قوله - تعالى -: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
فكأن القصد: أنك يا محمد - صلى الله عليه وسلم - موضع عنايتنا ورعايتنا وتكريمنا وتشريفنا في الآخرة، كما كنت محطَّ عنايتنا وتكريمنا وتشريفنا؛ إذ مننَّا عليك فآويناك يتيمًا، وهديناك إذ كنت ضالاًّ، وأغنيناك بعد فقر.
إن البلاغيين دأَبوا على أن يجعلوا للاستفهام معنًى واحدًا، وهذا ما تجده واضحًا حينما تطالع المعاني أو الأغراض التي جعلوها للاستفهام، فلكل استفهام غرض واحد، ويكفي أن تطالع مثلاً كتاب "جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع" تحت هذا العنوان[10]، وهذا ناتج عن اعتماد البلاغة العربية على طريقة المثل والشاهد الذي يُبْتَر من سياقه أو من قصيدته.
فمعنى التكثير للاستفهام مثلاً قال به بعض البلاغيين، وأغلبهم ينقلون للتمثيل له، بعضهم عن بعض، قول أبي العلاء المعري[11]:
صَاحِ، هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْ بَ فَأَيْنَ القُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟ أكلُّ ما يحمله الاستفهام هنا من دلالات أو معانٍ التكثير؟ إن التكثير مستفاد أصلاً من صدر البيت قبل عجزه، هذا في قوله: "هذي قبورنا تملأ الرحب"، فإذا لم يُفِد الاستفهام سوى الكثرة، فسيصبح حينئذ تكرارًا للمعنى السابق، وإذا صار كذلك صار لغوًا، إن هذا معنًى ثانوي.
إن الاستفهام يحمل دلالات أعمق من هذا، إن الشاعر يستهدف من وراء تساؤله توجيه نظر صاحبه المُتَخَيَّل، وربما يعني نفسه إلى حقيقة أن الأرض على اتساعها إنما هي قبور السابقين، وأن أديمها إنما هو بقايا رُفات أصحاب هذه القبور.
وعليه؛ فالتساؤل يستثير في المتلقِّي النهاية الحتمية لحياة كل إنسان، وهي الموت والفناء، فهو نهاية كل البشر: أن يموتوا ويُدْفَنوا في الأرض، ثم التفكير في حقيقة الآخرة من طرف خفي، فأين صارت أجساد السابقين المدفونة في قبورهم؟ فإذا استثار السؤال ذلك في الإنسان أو المتلقي، بعثه على التفكير في حقارة هذه الحياة، وأنه لا قرار له فيها ولا استقرار، وأنه راحل منها لا محالة، وصائر إلى قبور هذه الأرض كالسابقين، فينبغي عليه إذًا أن يفكِّر في العاقبة، وفيما بعد الموت من حساب تكون نتيجته إما جنة وإما سعيرًا، فإذا فكر الإنسان في هذه المعاني تيقَّن أنه مخلوق حقير، أصلة من تراب ونهايته إليه، فلا ينبغي له أن يتكبر أو يعاند هذه الحقيقة.
ويزعم الباحث أن الشاعر ما دار بخلَده أن يدل تساؤله هذا على التكثير الذي وضعه البلاغيون غرضًا لاستفهامه هذا؛ بل لم يهدف الشاعر من وراء تساؤله إلى أن يستثير تلك المعاني التي أشرنا إليها، وأهمها معنى التفكُّر في الموت الذي يحصد الناس من عهد آدم - عليه السلام - بكل ما يستتبعه التفكير في حقيقة الموت من تفكير في الدنيا وحقارتها وغايتها، وما ينبغي أن يتَّصف به المؤمن بهذه الحقيقة من سلوكيات.
ومما يؤيد هذا الفهم: أن نعيد قراءة البيت في إطار سياقه الشعري، يقول أبو العلاء المعري[12]:
غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي نَوْحُ بَاكٍ وَلاَ تَرَنُّمُ شَادِ
وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِي سَ بِصَوْتِ البَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أَمْ غَنْ نَتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِها المَيَّادِ
صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلأُ الرُّحْ بَ فَأَيْنَ القُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ
خَفِّفِ الوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ أَرْضِ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَجْسَادِ
وَقَبِيحٌ بِنَا وَإِنْ قَدُمَ العَهْ دُ هَوَانُ الآبَاءِ وَالأَجْدَادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الهَوَاءِ رُوَيَدًا لاَ اخْتِيَالاً عَلَى رُفَاتِ العِبَادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأَضْدَادِ
تَعَبٌ كُلُّهَا الحَيَاةُ فَمَا أَعْ جَبُ إِلاَّ مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ
إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ المَوْتِ أَضْعَا فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ المِيلاَدِ واضح أن التساؤل استثار الشاعر نفسه فجاشت نفسُه بكل تلك المعاني؛ ولذلك اتجه في البيت التالي إلى مخاطبه أو صاحبه ناصحًا إياه أن يسير على الأرض بتواضع، فأديم الأرض هو من هذه الأجساد، بل تداعت المعاني عنده متأثرًا بهذا الاستفهام لتشمل الحياة كلها وفائدتها، ومقارنة ما يعانيه المرء فيها أو عند موته بسروره عند ولادته.
ولذلك؛ يؤكد الباحث على ضرورة فهْم أسلوب الاستفهام من خلال السياق الوارد فيه، وأعني بالسياق الكلي: النص، وليس الآية أو البيت الشعري المفرد، فلا ينبغي في فهْم الأسلوب أن نتوقَّف عند الجملة فحسب[13]، كما ينبغي التنبيه إلى ما يمكن تسميته باستنطاق النص أو إعادة قراءته، فكما أن للصياغة دورها في أسلوب الاستفهام، فكذلك لطريقة إلقائه وتنغيمه دور مهم في تحديد معاني الاستفهام البلاغية.
فإذا استعدنا تلاوة الآية الكريمة: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] في سياقها، تبدَّت لنا معاني أُخَر سوى ما يقول به البلاغيون في هذا الاستفهام من التنبيه على الضلال[14]، أو التنبيه على ضلال المخاطب[15]، أو التنبيه على ضلال الطريق[16]؛ يقول - تعالى -: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 15- 28].
وهذا السياق يسبقه مباشرة مشهد بدء القيامة: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ * فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 11- 15].
إنه مشهد تكوير الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وحشر الوحوش، وتسجير البحار، وهي كلها من مشاهد بدء القيامة، ثم عُقِّبت ببيان نتيجة طريقين: طريق ينتهي بتسعير جهنم للسائرين فيه، وطريق ينتهي بدخول الجنة للسالكين فيه.
بهذه الأحوال افتُتحت السورة، وبهذه النتيجة تنتهي هذه الأهوال، وعُقِّبت بهذا القسَم: "أن محمدًا الذي صاحَبَكم مُدَّة طويلة، وعرفتم خُلقه، ليس مجنونًا كما يفتري بعضكم، وأنه يعرف جبريل حقَّ المعرفة، فهو واثق بما يلقيه إليه، ولقد رآه في صور مختلفة، حتى صورته الحقيقية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس حريصًا على ما عنده من الغيب بخلاً به، فيستحيل عليه أن يكتم عنكم شيئًا طمعًا في أخذ أجر منكم كما يفعل الكهَّان، وليس الذي جاء به رسولنا قول شيطان كما يقول بعضكم، وإذا كان الأمر كما ذكر، فأي طريق تسلكونه بعد ما أحاط بكم البرهان من جميع جهاتكم؟ فأين تذهبون في القول: إنه إفك، وإنه أساطير الأولين؟ لا شك أنكم ذاهبون إلى ضلال"[17].
أقول: إذا كانت هذه هي المقدمات: الابتداء بمشاهدة القيامة المروِّعة المفزعة، ثم القسَم على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقامة الحجة عليهم من معرفتهم به - صلى الله عليه وسلم... إذا كانت هذه هي المقدمات أو القرائن، ثم تبعها أسلوب الاستفهام هذا، أفيكون المغزى منه فحسب تنبيهَ المشركين على ضلالهم؟ كلا، إنه يستتبع معاني أُخَر؛ أهمها: "تصوير حال الكفار، وإثارة مشاعرهم، ولفْت انتباههم، ودعوتهم إلى النظر إلى ما هم فيه من ضلال؛ لعلهم يقلعون عنه"[18].
فكأن القرآن بهذه الدعوة لهم إلى التدبُّر والنظر إلى عاقبة مسلكهم ونهاية طريقهم - يقول لهم: اختاروا أحد طريقين، قد وصفت لكم: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 12- 13]، فإن سلكتم الطريق الأول، فانتظروا هذه الأهوال، ومشاهد القيامة التي وُصِفت لكم من قبل، فالاستفهام إذًا يحمل كذلك معنى التحذير والتهديد والوعيد بهذه النهاية التي ستترتب على مسلككم أي طريق منهما.
هذا الثراء الفني في دلالات أسلوب الاستفهام لست أول الملتفتين له، وإن يكن للباحث من فضْل، فتأكيده على وجوب التعامل مع أسلوب الاستفهام فنيًّا على أساس هذا الثراء الذي يمكن أن يحمله أسلوب الاستفهام، فيؤدي معاني كثيرة وليس معنى واحدًا، كما عوَّدتنا كثير من كتب البلاغة العربية.
وليت الأمر يقتصر على تضييق دلالة الاستفهام في معنًى واحد، بل ربما كان المعنى المشار إليه غير دقيق.
فمثلاً - ومع إكبار الباحث واعترافه بفضل صاحب "جواهر البلاغة"، ورسوخ قدمه في علوم البلاغة - تجده يمثل هذا التيار، فيرصد لك أغراض الاستفهام أو المعاني التي يخرج إليها، ومنها مثلاً: الاستئناس[19]، ويمثل بقوله - تعالى -: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، وهذا غير دقيق؛ فالاستئناس استفعال؛ أي: طلب الأُنس، وأحد معاني "استفعل": الطلب، حقيقة أو مجازًا[20]، وليس هذا بمراد هنا؛ فالسائل هو الحق - عز وجل - ولا يجوز أن يطلب من موسى الأُنس؛ لانتفاء الاحتياج في حق الله - تعالى - ولا يمكن أن يكون الاستفهام حقيقيًّا؛ لاستحالة عدم علم الله بما في يد موسى، فهذا مما لا يجوز في حق الله - تعالى.
ولذا؛ لا ينبغي أن يقال: إن قصد السؤال هنا الاستئناس، بل الإيناس؛ فالفاعل له هو الله - عز وجل - والمستأنِس بالسؤال هو موسى - عليه السلام – فالمعنى: آنس الله موسى بهذا السؤال، على فهْم البلاغيين، وهذه إحدى دلالات أو معاني صيغة أفعَل - أي: آنس هنا - أي: التعدية، وهي تصيير الفاعل بالهمزة مفعولاً[21]، هذا ما أدركه جيدًا صاحب كتاب "المعاني الثانية لأسلوب القرآن"، فجعل الإيناس وليس الاستئناس هنا من معاني هذا الاستفهام، يقول: "والإيناس نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، وقال ابن فارس: المراد به الإفهام، فإن الله - تعالى - قد علم أن لها أمرًا قد خفي على موسى - عليه السلام - فأعلم من حالها ما لم يعلَم، وقيل: هو للتقرير، فيعرف ما في يده حتى لا ينفر إذا انقلبت حية"[22]، فأضاف معنيين للاستفهام هنا سوى الإيناس؛ أولهما: صرَّح بنسبته إلى ابن فارس وهو الإفهام، والثاني: أعرَض عن ذكر صاحبه وهو التقرير، وهي معاني مختلفة لهذا السؤال استُشِفَّت منه، بحسب ذوق كل ناظر فيه، وهذا ما قصده الباحث بثراء هذا الأسلوب وغناه الفني.
والاستفهام يحتمل معاني أُخَر، بل يزعم الباحث أن القول: إن غاية الاستفهام هنا الإيناس قولٌ غير دقيق وكذلك التقرير؛ ذلك أنهم نظروا إلى الآية موضع الاستفهام دون نظر إلى السياق الذي وردت فيه.
والآية في سياقها: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 17- 23].
إن الآيات كلها تتمَحْوَر حول هذا السؤال عن العصا، وذلك للأمر الجَلَل المعجِز الذي ستقوم به هذه العصا في دعوة موسى فرعون، إنها ستصير آية؛ كإخراج يد موسى بيضاء من غير سوء بعد ضمِّها إلى جناحه، ولنلحظ قوله - تعالى -: {آيَةً أُخْرَى} [طه: 22].
إن ما سيصير بعد طرْح السؤال على موسى - عليه السلام - يكشف لنا عن القصد من ورائه، إن الله يعلم أن ما بيَدِ موسى هي عصاه، وموسى نفسه يعلم هذا، لكن موسى لا يعلم أو لم يكن يعلم حتى هذه اللحظة القوة الكامنة التي أَوْدعها أو سيُودعها الله في عصاه، فليس القصد إذًا أن يأنس موسى بالسؤال أو يثبت له أن ما بيده عصاه، فهو يعلم هذا يقينًا، ولو اقتصر الأمر في الآيات على السؤال والجواب لكان جائزًا أن يقال: إن المعنى الدقيق للاستفهام هنا الإيناس أو التقرير، لكن السياق لم يقتصر على هذا، بل بعد ما أجاب موسى طلب إليه أن يلقي عصاه، فإذا بها تتحول إلى حية تسعى حقيقة، ثم أمر موسى بأخْذها وعدم الخوف منها؛ لأن الله سيعيدها إلى حقيقتها الأولى (أنها عصا).
وهذا ما كان يرمي إليه السؤال، أن يلتفت موسى وينتبه إلى هذا المشهد التدريبي له - والذي سيمر به فيما بعد - فينتبه إلى حقيقة أن ما بيده ليست إلا عصا، أو هذه حقيقة يعلمها؛ لأنها ستصبح لها حقيقة أخرى في إعجاز إلهي، ففي السؤال تهيئة وتنبيه وتدريب لذهن موسى - عليه السلام - إلى ما هو كائن في هذه العصا من قدرة إلهية أودعها الله فيها، فيتهيَّأ ذهن موسى إلى حدوث المعجِزة الدالَّة على قدرة الله - تعالى - كي يستقرَّ في نفسه أنها من قدرة الله - تعالى - وليست من قبيل السحر أو التخييل، ولا سيما أنه سيتعرض لهذا الموقف فيما بعد.
وفي السؤال كذلك الارتقاء بموسى عن مرتبة الخوف، ودفع لما قد يعتري موسى من خوف فيما بعد، ولنلحظ قوله - تعالى -: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} [طه: 21]، ثم قوله - تعالى - في السورة بعد ذلك بعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيَّهم فخيل إليه من سحرهم أنها حيات حقيقية: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].
فهذا السؤال عن العصا إنما كان تهيئة لموسى بلفْت نظره وتنبيهه إلى القدرة الإلهية التي سيمنحه الله - تعالى - إياها في تلك العصا؛ ليستطيع مجابهة السحرة ومواجهتهم، وليقتلع هذا الخوف من نفس موسى - عليه السلام.
فهذه - فيما يرى الباحث - قيمة الاستفهام الحقيقة هنا وبلاغته، ولنلحظ تأكيدًا لهذا الفهم قوله - تعالى - في الآية التالية للآية السابقة: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 68- 69]، إنه حتى في موقف التحدي قد أخذه شيء من الذهول والخوف، واعتراه ما يعتري البشر، فقد خُيِّل إليه أن حبال السحرة وعصيهم قد صارت حيات، فلهذا الذهول وتلك الدهشة والخوف الذي اعترى موسى - عليه السلام - لم يلقِ العصا مع تنبيه الله له بما أودعه فيها من إعجاز؛ ولذا عبر القرآن بقوله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69].
إن هذا السؤال كان يستهدف بناء شخصية موسى - عليه السلام - وتربيتها وتهيئتها إلى ما ستواجهه من مواقف صعبة، لينتزع هذا الخوف من فرعون: {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45- 46]، أو من السحرة وما أوتوا من سحر عظيم: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].
ولعل ابن فارس كاد يلمح أو يومئ إلى هذا الذي نرى في قوله السابق أن المراد من الاستفهام: "الإفهام، فإن الله قد علم أن لها أمرًا قد خفي على موسى، فأعلم من حالها ما لم يعلم"، فلعله كان يعني إفهام موسى - عليه السلام - حقيقة العصا وحقيقة ما استودعه فيها من قوة كامنة، فنبَّهه ولفت نظره وهيَّأه إلى ما اختصَّها الله به من قوة معجزة؛ ليتهيَّأ إلى ما سيحدث بينه وبين فرعون وسحرته.
وقولنا: إن الأولى أن يكون مغزى هذا الاستفهام الدلالة على لفْت نظر موسى، وتنبيهه إلى حقيقة العصا، وإلى ما سيودعها الله فيها من قوة إعجاز وإفحام للمعاندين المستكبرين من فرعون وقومه، لا الإيناس أو التقرير؛ إنما نعني به أنه الأوضح والأظهر والأنسب للسياق الوارد فيه الاستفهام، لا أن هذا صواب وذاك خطأ.
ونظير هذا قول صاحب كتاب "المعاني الثانية للأسلوب القرآني"؛ إذ ذكر أن قصد الاستفهام في قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] التنبيه[23]، ثم أعرض عنه فقال: "الأوضح في المعنى الثاني وراء الاستفهام التعجيب من حال نمروذ اللعين، الذي تسوِّل له نفسه أن يقف أمام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - موقف المحاجَّة والمخاصمة، معتقدًا أن ما يملك من سلطان وجاه سوف يكون سببًا لإفحام نبيِّ الله، وهذه المحاجَّة تكشف عن غروره وغباوته وإعجابه بقدرته"[24].
ثم يأخذ في تفسيركيف كان غبيًّا مغترًّا معجبًا بقدرته، حائرًا مبهوتًا مستدلاًّ على وضوح التعجيب وأولويته كمعنًى ثانٍ لهذا الاستفهام، يقول: "وهذا الموقف يقتضي التعجيب من حال بشر يعتقد في نفسه الألوهية، ويذهب مذهب المحاجَّة والمجادلة، ثم تدركه الحيرة، فلم يُحِر من جواب، ثم لا يؤمن بعد ذلك، ويطفئ شمعة التفكير الحر بين جنبيه؛ ليعيش في ظلام الكفر الدائم، ولو أنه فكَّر بعد هذا الحوار، وبعد أن فهم كلام إبراهيم - عليه السلام - لو أنه فكر قليلاً، واستمد قوته من نور العقل الذي يسير به المرء في طريق الدين، لما كان هناك مصدر التعجيب"[25].
وهذا ما قال به من قبله كلٌّ من الزمخشري وأبي حيان الأندلسي؛ حيث قال الزمخشري: "{أَلَمْ تَرَ} تعجيب من محاجَّة نمروذ في الله وكفره به"[26]، وقال أبو حيان - وقد أحال الكلام إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ...} [البقرة: 243]"[27]، قال مضيفًا إلى التعجيب معنى التنبيه والتقرير -: "وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي، فصار الكلام تقريرًا، فيمكن أن يكون المخاطب عَلِم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلا من هذه الآية؛ ومعناه: التنبيه والتعجيب من حال هؤلاء، والرؤية هنا علمية، وضُمِّنت معنى ما يُتَعدَّى بـ"إلى"، فلذلك لم يتعدَّ إلى مفعوليه، وكأنه قيل: ألم ينتهِ علمك إلى كذا، وقال الراغب: (رأيت) يتعدي بنفسه دون الجار، ولكن لما استعير قولهم: "ألم ترَ" لمعنى: ألم تنظر، عُدِّي تعديته، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقرير، ما يقال: رأيت إلى كذا، انتهي.
وألم ترَ، جرى مجرى التعجب في لسانهم"[28].
أبو حيان يرى التعجب هنا معنًى من معاني الاستفهام إلى جانب التقرير والتنبيه، وجميعهم - أي: أبو حيان والزمخشري وفتحي فريد - يرون أن التعجب معنًى من معاني الاستفهام - على اختلافٍ بينهم - فالزمخشري لم يُشِر إلى غيره، وأبو حيان يراه إلى جِوار التقرير والتنبيه الذي يوافقه عليه د. فتحي فريد.
يقول فتحي فريد: "وفيه مع ذلك تنبيه وتحذير؛ تنبيه للغافلين عن نور العقيدة أن يتيقَّظوا، وتحذير للضالين المضلِّين ألا تكون نهايتهم كنهاية نمروذ وغيره ممن حادت بهم الطريق إلى هاوية الجحيم"[29].
فهو يري فيه تنبيهًا، ويزيد عليه معنى التحذير، فاجتمع لهذا الاستفهام من المعاني البلاغية أربعة؛ هي: التعجيب والتقرير، والتنبيه والتحذير، بل يزيد الباحث عليها معنى الدعوة إلى الاعتبار بحال كلٍّ من إبراهيم والنمروذ، والتدبُّر في عاقبتها كأنموذجين؛ للموحِّد، والكافر.
ولنعد قراءة الاستفهام في سياقه الكلي: يقول - تعالى -: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا...} [البقرة: 256- 259].
إن الاستفهام وارد في سياق بيان مَن يستمسكون بالعروة الوثقى، المؤمنين الموحِّدين بالله، الكافرين بالطاغوت، الذين هم أولياء الله، فيخرجهم من الظلمات إلى النور؛ نور اليقين والحجة والبرهان الساطع، ويمثلهم إبراهيم - عليه السلام - ومَن يكفرون بالله ويؤمنون بالطاغوت؛ فيضلهم ويخرجهم من نور الحقيقة إلى ظلام الجهل والعناد، والمكابرة والعناء والحماقة، وهؤلاء يمثِّلهم النمروذ المتكبِّر المتألِّه.
كما أن السياق معنِيٌّ ببيان عاقبة كلٍّ منهما تصريحًا وتضمينًا؛ فقد صرح بعاقبة الكافرين أنهم أصحاب النار خالدون فيها، وعلى النقيض تضمينًا يكون جزاء الموحدين، فهم أصحاب الجنة، هم فيها خالدون.
فإذا جاء الاستفهام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ...} [البقرة: 258] في هذا السياق، فهو يحمل دلالة عميقة هي دعوته إلى الاعتبار: دعوة المشركين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاعتبار بحال كلٍّ من إبراهيم والنمروذ اللعين؛ إذ هما أنموذجان للموحِّد والكافر، للداعي إلى الخير والحق والهداية، والمدعوِّ المُعْرِض المتكبِّر المعانِد، بل فيه تعريضٌ بغباوة المشركين المعاندين دعوة الرسول إليهم إلى الإيمان؛ إذ هذا الملك كان أقوى منهم وأعتى، فماذا كان مصيره وعاقبته؟
فإن الخطاب يجوز: "أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يكون لكل سامع"[30]، بل هم أَوْلَى بهذا الخطاب؛ فالقرآن ما نزل إلا لهدايتهم وأمثالهم في كل زمان ومكان، فهم أول معْنِيٍّ بالقرآن وما يُضْرَب فيه من أمثلة ونماذج تمسُّ وتر عنادهم واستكبارهم، ورفضهم ومكابرتهم وإصرارهم على الشرك.
ولعل أبا حيان الأندلسي كان هذا المعنى يحوم في ذهنه، وهو يحاول تبيان مناسبة الاستفهام لما قبله، يقول: "{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه - تعالى -: لما أخبر أنه وليُّ الذين آمنوا، وأخبر أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجَّه، وأنه ناظَر ذلك الكافر فغلبه وقطعه؛ إذ كان الله وليَّه، وانقطع ذلك الكافر وبُهِت؛ إذ كان وليه هو الطاغوت: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، فصارت هذه مثلاً للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما"[31].
وإذا كان الأمر كذلك، ففي هذا الاستفهام أيضًا تثبيت وترسيخ لعقيدة الموحدين أنهم على الحق، وأنهم هم الفائزون المنتصرون في النهاية، مهما كان عدوهم متجبرًا مستكبرًا في الأرض، بقيد أن يكونوا على تلك العقيدة الراسخة كما كانت عند إبراهيم - عليه السلام.
والذي يؤكد ما نذهب إليه من هذه المعاني الثرية لهذا الاستفهام: إصرار النص القرآني على تثبيت هذه المعاني في نفوس سامعيه المؤمنين؛ فقد عطف الآية التالية لهذا الاستفهام عليه، نعني قوله - تعالى -: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا...} [البقرة: 259] "فجمهور المفسرين على أنه معطوف على قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258]، على المعنى؛ إذ معنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي}: أرأيت كالذي حاج؟ فعطف قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} على هذا المعنى، والعطف على المعنى موجود في لسان العرب"[32]، وقال الزمخشري: {أَوْ كَالَّذِي}؛ معناه: أو أرأيت مثل الذي مر، فحذف لدلالة {أَلَمْ تَرَ} عليه؛ لأن كلتيهما كلمة تعجيب"[33].
وعلى هذا؛ فقد حُذِفت همزة الاستفهام والفعل الذي دخلت عليه، وهو تخريج حسن، كما قال أبو حيان الأندلسي: "لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى، وقد جوَّز الزمخشري الوجه الأول"[34]، وكذلك في قوله: "ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل: أرأيت كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مرَّ على قرية؟"[35].
كلتا الآيتين؛ بل كلا الاستفهامين يستهدفان - من ضمن ما يستهدفان - بناءَ عقيدة المؤمنين وتثبيتها وترسيخها، بإثبات قدرته على البعث والجزاء، وهذا ما وضح جليًّا في الآية الثانية بعد هذا الاستفهام في قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]؛ إذ هذا ارتقاء في العقيدة من علم اليقين إلى عين اليقين.
يقول أبو حيان: "وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء؛ ليشاهد عيانًا ما كان يعلمه بالقلب، وأخبر به نمروذ"[36].
كيف نتناول أسلوب الاستفهام؟
مما قدمنا من نماذج تدلل علي الثراء الفني لأسلوب الاستفهام، فنري لفهْم أسلوب الاستفهام فهمًا جيدًا واعيًا، يستنبط دلالاته الثرية: أنه ينبغي مراعاة ما يلي في التناول البلاغي لأسلوب الاستفهام:
أولاً: معرفة النظْم أو الصياغة التي صيغ بها أسلوب الاستفهام.
ثانيًا: الإدراك الواعي والتام للسياق الكلي الوارد فيه الاستفهام، ونعني به السياق الكلي للنص، وليس سياق البيت أو سياق الجملة فحسب.
ثالثًا: التنبه لطريقة إلقاء الاستفهام؛ فللتنغيم دوره المهم في تذوق الاستفهام ومعرفة مراده، باستنطاق النص ومحاولة تنغيمه.
رابعًا: معرفة السائل والمسؤول، بل أحيانًا معرفة مكانته وقدره.
خامسًا: معرفة مكانة النص من حيث إنه نص إلهي أو نص بشري، فتعاملنا مع نص شعري يختلف تمامًا عن تعاملنا مع نص قرآني، أو نصوص الحديث الشريف الصحيحة؛ وذلك لتجنُّب الوقوع في المزالق؛ فليس كل ما يصلح لأن نتعامل به من مناهج نقدية تطبَّق على الشعر أو النثر بأنواعه - يصلح للتعامل مع القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف الصحيح.
وهذا أمر جدير ضروري؛ فعلى سبيل المثال يجب أن نتعامل مع الاستفهام القرآني على هذا الأساس، وهو ما قرره بعض علمائنا مثل السيوطي حين قال: "قال بعض الأئمة: وما جاء في القرآن على لفظ الاستفهام، فإنما يقع في خطاب الله على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل"[37]، "فالإثبات كقوله - تعالى -: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، والنفي كقوله - تعالى -: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]، وكقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [هود: 14].
ومعنى ذلك: أنه قد حصل لكم العلم بذلك تجدونه عندكم إذا استفهمتم أنفسَكم عنه، فإن الرب - تعالى - لا يستفهم خلقَه عن شيء، وإنما يستفهمهم ليقررهم ويذكِّرهم أنهم قد علموا حقَّ ذلك الشيء، وهو أسلوب بديع انفرد به خطاب القرآن"[38].
كذلك فإن علينا أن نلتفت إلى السائل أو المستفهِم، فهل يصح أن نطبِّق ما قال به الإمام عبدالقاهر الجرجاني حين قال: "ومن أبين شيء في ذلك - أي: في التفريق بين تقديم ما قُدِّم وتأخير ما أُخِّر -: الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: "أفعلت؟" فبدأت بالفعل، كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده، وإذا قلت: "أأنت فعلت؟" فبدأت بالاسم، كان الشك في الفاعل، مَن هو؟ وكان التردد فيه"[39].
أقول: هل يصحُّ أن نطبِّق هذه القاعدة على قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فهل يجوز أن يكون هناك شكٌّ من جانب الله - عز وجل - في أن عيسى - عليه السلام - قد يكون قال هذا الكلام؟! إنه لا يعقل أن يكون الاستفهام حقيقيًّا بداية، ثم إن هذا - على اعتبار الاستفهام بلاغيًّا - يستحيل في حق الله - عز وجل - ويتنافى مع قول الأئمة السالف الذكر.
ولذلك؛ لم يَسُق هذه الآية شاهدًا على كلامه، بل ساق قوله - تعالى - حكاية على لسان قوم إبراهيم، وهم بشر يجري عليهم الشك والخلط والوهم: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62]، بالرغم من أن الصياغة واحدة في آيتي المائدة والأنبياء؛ أي: بتقديم الاسم - الفاعل في المعني - والفعل ماضٍ، قائلاً: "لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له - عليه السلام - وهم يريدون أن يقرَّ لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقرَّ بأنه منه كان، وكيف وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: أأنت فعلت هذا؟ وقال هو - عليه السلام - في الجواب: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، ولو كان التقرير بالفعل، لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل"[40].
والذين تجاهلوا هذه الحقيقة، وتجاهلوا ما أشرنا إليه من ضرورة الالتفات إلى السائل والمسؤول، ومعرفة مكانة كل منهما، بل تجاهلوا إشارة الإمام عبدالقاهر نفسه، ولم يفطنوا إلى إلحاحه على توجيه خطابه إلى مخاطَب - أي: إلى بشر - في قوله: "فإذا قلت"، "فإنك إذا قلت" - وقعوا في خطأ عظيم.
فهذه إحدى الباحثات - والله يغفر لها – تقول - بعد أن عرَّفت معنى التقرير بأنه حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمرٍ قد استقرَّ عنده ثبوته أو نفيه، وحددت أماكنه بأنه قد يكون تقريرًا بالفعل؛ نحو: أضربت عمرًا؟ أو بالفاعل نحو: أأنت ضربت عمرًا؟ أو بالمفعول نحو: "أعمرًا ضربت؟"[41] - تقول: "والاستفهام: هو أن الاستفهام ممن لا يعلم لِمَن يعلم، أو يتوهم من العلم ليعلم؛ كقوله - تعالى -: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي}، أما التقرير ممن يعلم ليثبته على فعله، فيكون جزاء، أو يتحقق أنه فعله عن قصد؛ كقوله - تعالى -: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا...} [الشعراء: 18]"[42]؛ انتهي كلامها.
إن الباحثة جعلت الاستفهام في قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116- 118].
إن الباحثة جعلته نظيرًا للاستفهام الذي ذكرته من قبل في التقرير بالفاعل: "أأنت ضربت عمرًا؟"، ولعلها لم ترَ فيه سوي تطابق الصياغة! ولعلها لم تفطن إلى الفارق الجوهري بين الاستفهام: وهو في السائل والمسؤول، وفي مكانة كل منهما، وفي الموقف والسياق، وفيما ينبغي أن يربَّى عليه كل مسلم من معرفة ما يجب في حق الله، وما لا يجب، ولعلها أخذت أنموذج الإمام عبدالقاهر، ولم تفطن إلى إشارته، وإلى استدلاله بغير هذه الآية، أو بغير هذا الاستفهام.
إن الباحثة جعلت الاستفهام حقيقيًّا، فقد جعلته مقابلاً للتقرير، وعلى هذا فالله يطلب العلم من عيسى، يسأله ليعرف، وليزيل شكَّه - تنزه الله عن ذلك وتعالى علوًّا كبيرًا؛ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].
إن عيسى - عليه السلام - فَهِم السؤال على معناه الذي ينبغي أن يُفْهم به، وهو أنه وارد علي سبيل استنطاق عيسى نفسه بما يعلم من ادعاء النصارى هذا الكذب عليه تكذيبًا لهم، وتبكيتًا على ما ادعوه، وردًّا على افترائهم هذا في حق الله، وفي حق عيسى - عليه السلام - ولذلك كان عيسى - عليه السلام - فَطِنًا في جوابه؛ إذ أسند العلم المطلق لله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
فالاستفهام إذًا "للتقرير بما يعرفه عيسى - عليه السلام - من هذا الحكم، وهو أنه لم يصدر منه هذا القول، وليس المراد التقرير بالفاعل فاعل لهذا القول؛ لأن ذلك مستحيل على عيسى - عليه السلام"[43].
فإذا كان الله عالم