أوراق ذابلة من حضارتنا
المؤلف : دكتور عبد الحليم عويس
إهداء
لا أزال أؤمن بأن ثمة دورا كبيرا ينتظر الأمة المسلمة ، ولا أزال أؤمن بأن حركة التاريخ التي هي من سنن الله سوف توقف هذه الأمة أمام قدرها المحتوم .. لتؤدي واجبها نحو البشرية التائهة ..
فإلى الذين يساعدون التاريخ ، كي تقف هذه الأمة في مكانها الصحيح .. وكي تؤدي دورها الصحيح
إليهم .. وحدهم .. أهدي هذا الكتاب
بين يدي هذه الصفحات
المكتبة الإسلامية والتاريخية حافلة بالدراسات والقصص حول الصفحات الوضيئة من تاريخنا . ولكم كتب الكاتبون حول صناع الحضارة الإسلامية ، ولكم أطنبوا في الحديث عن أبطالنا ، وعن فضلنا على أوربا. . . وغير أوربا .
ولقد ظهر تاريخنا من خلال التركيز ، وكأنه تاريخ أسطوري ، وكأن الذين عاشوه وأسهموا في صنعه ملائكة ليسوا بشرا. . . !!
ولقد كان هذا المنهج في التناول خطيرا من عدة وجوه :
• أولا : لأنه ترك مهمة التحليل العلمي لتاريخنا كتاريخ بشر لهم مزايا وغرائز - لأعداء هذا التاريخ ، فراحوا يركزون على الجوانب السلبية في هذا التاريخ ، وصادف هذا هوى من بعض العقليات التي كانت تسأم التركيز على الماضي بهذه الصورة غير الموضوعية ، وبالتالي. . . انساقت هذه العقليات وراء جماعة المستشرقين الذين يدرسون تاريخنا. . . من نقطة الانطلاق المحددة ، وهي تشويه هذا التاريخ وأصحاب هذا التاريخ !!
• ثانيا : وفي غمرة الانبهار العقلي بالمناهج الاستشراقية. . . ضاعت بحكم رد الفعل حقائق موضوعية تتصل بهذا التاريخ ، وانقسم الناس حول هذا التاريخ قسمين : قسم يرفضه بالجملة ، ويراه عقبة في طريق التقدم والمستقبل ، وقسم آخر يراه كل شيء ، ويراه من جانبه العالمي الإيجابي هو النموذج الحرفي الذي يجب إعادته وتكرار نمطه .
وبين طرفي النقيض. . . يمكن أن توجد الحقيقة ، ويمكن أيضا أن تسقط الحقيقة .!!
• ثالثا : لقد صرفنا منهج التركيز على المدح عن الاستفادة الحقيقية من تاريخنا ، ولعل بعض الناس قد وقر في أذهانهم بفعل هذا التركيز ، أن ما نعانيه في هذا القرن من مشكلات حضارية ، ومن تحديات مصيرية ، هو نموذج لم يتكرر في تاريخنا. . . وهم يشعرون - لذلك - بيأس شديد ، ولعلهم يحسون ، وإن كانوا لا يفصحون بأننا لن نعود إلى استئناف مسيرتنا - نحن المسلمين - وبأننا لم يعد لدينا ما يمكن أن نعطيه للحياة في عصر القوة النووية والمركبات الفضائية ، نحن الذين نستورد الساعات والسيارات والآلات البسيطة !! .
إن هذا الكتاب. . . يتناول " أوراقا ذابلة من حضارتنا " من خلال تركيزه على سقوط دول إسلامية بعضها كان درسا أبديا حين كانت الأمراض خبيثة وفتاكة ، وحينما ذهبنا نطلب الدواء من عدونا. . . فكانت فرصته لإعطائنا السموم القاتلة. . . ولعل هذا الدرس لم يتضح بجلاء إلا في الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط كصقلية. . .
ولعل من الملاحظات التاريخية أن القرن الذي شاهد سقوط غرناطة - آخر مصارعنا في الأندلس 1492م، كان نفسه الذي شاهد سنة 1453م - الفتح الإسلامي الخالد للقسطنطينية ، ذلك الفتح الذي كان من آثاره عند الإنصاف التاريخي حماية المسلمين لفترة تزيد على خمسة قرون. . .
لقد سقطت الأندلس. . . كعضو اجتمعت فيه كل عناصر السقوط ، وكان لا بد من بتره. . . فحقت عليه كلمة الله !!
ولقد ظهرت قوة أخرى فتية زاحفة من أواسط آسيا كي تبني للإسلام تاريخا جديدا. . . ولقد أرعبت هذه القوةُ الأحقادَ الأوربية الصليبية ثلاثة قرون على الأقل .
إن درس الأندلس لا يجوز أن يغيب عن بالنا ، ولقد كانت عناصر السقوط فيه تتشكل من عدة نقاط بارزة :
• أولا : الصراع العنصري الجنسي
• ثانيا : ارتفاع رايات متعددة بعيدة عن راية الإسلام الواحدة المتصلة بالنفوس والعقول .
• ثالثا : استعانة مسلمي الأندلس بالأعداء ضد بعضهم البعض. . .
وكل العوامل الأخرى. . . تدور حول هذه النقاط بطريقة أو بأخرى ! ! ولقد دفع مسلمو الأندلس جميعا ثمن أخطائهم : دفع الحكام الثمن حين أذلهم الله وسلبهم ممالكهم ، وهل ننسى أشعار ابن عباد البائسة ، حين أذله الله على يد المرابطين في " أغمات " بالمغرب الأقصى ؟؟ وهل ننسى قولة ابن صمادح حاكم " ألمرية " وهو يموت : " نغص علينا كل شيء حتى الموت " ؟ وهل ننسى دموع. . . أبي عبد الله - آخر ملوك غرناطة. . . حين رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود إسلامي في أوربا. . . رحلت به على أنغام الأمواج الهائجة. . . وكلمات أمه المسكينة تدوي في سمعه : " ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال " !!
ولقد دفع الشعب الإسلامي الثمن حين استسلم لأمثال هؤلاء الملوك . ولم يأخذ على أيديهم ، فأحرقت دوره ، وسلبت أمواله ، وأرغم على تبديل دينه ، بل وتغيير اسمه ، وحرمته الصليبية الآثمة أبسط حقوق الإنسان !!
على أن " الأوراق الذابلة من حضارتنا " كانت مجرد تغيير في هيئة الحكم بحثا عن طموح شخصي ، أو انطلاقا من دعوى عنصرية ، أو دفاعا عن نعرة مذهبية، أو فشلا من دولة كبيرة جامعة كالعباسيين والأمويين في السيطرة على كل ما تحت يدها. . . مما يمنح الفرصة للمطامع أن تظهر ، وللنعرات أن تحكم .
ونحن لا نستطيع القول : بأن هذه الأوراق كانت كلها خيرا أو شرا ، ولعل بعضها كان لفتة قوية للدول الكبرى كي تسير في الطريق الإسلامي الصحيح. . . كما أننا كذلك لا نميل إلى القول : بأن هذه الصفحات التي أدت إلى تغيير دولة بدولة أو حكم بحكم كانت تسير بالأمة في طريق الهاوية. . . فلا شك أن ثمة مزايا أخرى يمكن أن تكون قد تناثرت على الطريق .
إنني لا أميل إلى ما يعتقده البعض من أن التاريخ يسير في طريق عمودي. . . سواء إلى أعلى أو على أسفل. . . عن تجربة تاريخنا الإسلامي تكشف لنا أن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة - كالحضارة الإسلامية - حركة لولبية - إن صح هذا التعبير - فثمة انحناءة إلى أسفل في جانب تقابلها انحناءات إلى أعلى في جوانب أخرى ، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود. . . الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين ، والصعود بفعل الاستجابة لتحديات خارجية قوية . ومن اللافت للنظر أن مراحل الهبوط - في التجربة التاريخية لهذه الأمة - قد ارتبطت بأوضاع داخلية ، فهذه الأمة لم تضرب من خارجها بقدر ما ضربت من داخلها ، بل إن الأعداء الخارجين لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر فيها من الداخل. . . ولقد أفادنا الأعداء بتدخلهم كثيرا ، وغالبا ما كان لتدخلهم فضل إيقاظ الضمير الإسلامي ، أو إعلان الجهاد العام ، أو إظهار " صلاح دين " أو " سيف دين " مما من شأنه أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة .
لقد كانت الأمة المسلمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية ، كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات ، ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها - بحكام يشلون حركتها ، ويخنعون أمام أعدائها ، ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم. . . لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ، ولو أن هذه الأمة قد تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها التي غرسها ورعاها الإسلام. . . لو تم هذا لكان في الإمكان أن تحدث منعطفات كثيرة في تاريخ هذه الأمة . هي لصالحها. . . ولحساب رقيها وازدهارها.
لقد حاولت من خلال هذه الأوراق الذابلة أن أمد الطرف - في تاريخنا الإسلامي - إلى آفاق ثلاثة : الأندلس - أوروبا - والمشرق العربي بخلافتيه الكبيرتين - العباسية والفاطمية - والدول التي تبعتهما ، ثم المغرب العربي. . . وهي الأجنحة الثلاثة الشهيرة التي تزعمت العالم الإسلامي ، ومثلث القيادة الفكرية والسياسية بالنسبة لمسلمي العالم .
ولم تكن الأوراق التي اخترتها إلا مجرد نماذج من هذه الأجنحة . ولربما كانت هناك دول أخرى كفيلة بمدنا بشارات من شارات طريق السقوط. . . لكن الاستقصاء ، فضلا عن صعوبته ، لم يكن من أهداف هذه الصفحات .
إن هذا البحث. . . وجبة خفيفة من وجبات تاريخنا . لكنها وجبة من نوع خاص. . . ليست زاخرة بأنواع الدسم والمشهيات ، فإن جسم الحضارة كأجسام الأفراد - لا يستقيم بالدسم الدائم !!
وهذا البحث دعوة لتشريح تاريخنا من جديد. . . وبجرأة ، فلأن نشرحه نحن - بإنصاف - أولى من أن نتركه لأدعياء المنهج العلمي يشرحونه - بحقد وعنف وإجحاف. . . !!
وهو كذلك بحث للذين يقرءون تاريخنا. . . ليتعلموا ، أو ليناقشوا ، أو ليعرفوا معالم المستقبل .
وتبقى في النهاية كلمة :
لسوف تبقى هذه الأمة ، ولسوف تؤدي دورها ، لسوف تقوم من عثرتها. . . هكذا يقول لنا معلمنا العظيم. . . " تاريخنا " ذو الأربعمائة وألف سنة - أطال الله عمره!!
ولقد كبونا كثيرا. . . ثم قمنا
ولقد حاربنا العالم كله ذات يوم. . . ونجونا. . . وانتصرنا. . . فقط ثمة شرط واحد : أن نعرف من أين نبدأ ، وإلى أية غاية نريد !! ودائما يعلمنا تاريخنا أن آخر أمتنا لن يصلح إلا بما صلح به أولها
المؤلف : دكتور عبد الحليم عويس
إهداء
لا أزال أؤمن بأن ثمة دورا كبيرا ينتظر الأمة المسلمة ، ولا أزال أؤمن بأن حركة التاريخ التي هي من سنن الله سوف توقف هذه الأمة أمام قدرها المحتوم .. لتؤدي واجبها نحو البشرية التائهة ..
فإلى الذين يساعدون التاريخ ، كي تقف هذه الأمة في مكانها الصحيح .. وكي تؤدي دورها الصحيح
إليهم .. وحدهم .. أهدي هذا الكتاب
بين يدي هذه الصفحات
المكتبة الإسلامية والتاريخية حافلة بالدراسات والقصص حول الصفحات الوضيئة من تاريخنا . ولكم كتب الكاتبون حول صناع الحضارة الإسلامية ، ولكم أطنبوا في الحديث عن أبطالنا ، وعن فضلنا على أوربا. . . وغير أوربا .
ولقد ظهر تاريخنا من خلال التركيز ، وكأنه تاريخ أسطوري ، وكأن الذين عاشوه وأسهموا في صنعه ملائكة ليسوا بشرا. . . !!
ولقد كان هذا المنهج في التناول خطيرا من عدة وجوه :
• أولا : لأنه ترك مهمة التحليل العلمي لتاريخنا كتاريخ بشر لهم مزايا وغرائز - لأعداء هذا التاريخ ، فراحوا يركزون على الجوانب السلبية في هذا التاريخ ، وصادف هذا هوى من بعض العقليات التي كانت تسأم التركيز على الماضي بهذه الصورة غير الموضوعية ، وبالتالي. . . انساقت هذه العقليات وراء جماعة المستشرقين الذين يدرسون تاريخنا. . . من نقطة الانطلاق المحددة ، وهي تشويه هذا التاريخ وأصحاب هذا التاريخ !!
• ثانيا : وفي غمرة الانبهار العقلي بالمناهج الاستشراقية. . . ضاعت بحكم رد الفعل حقائق موضوعية تتصل بهذا التاريخ ، وانقسم الناس حول هذا التاريخ قسمين : قسم يرفضه بالجملة ، ويراه عقبة في طريق التقدم والمستقبل ، وقسم آخر يراه كل شيء ، ويراه من جانبه العالمي الإيجابي هو النموذج الحرفي الذي يجب إعادته وتكرار نمطه .
وبين طرفي النقيض. . . يمكن أن توجد الحقيقة ، ويمكن أيضا أن تسقط الحقيقة .!!
• ثالثا : لقد صرفنا منهج التركيز على المدح عن الاستفادة الحقيقية من تاريخنا ، ولعل بعض الناس قد وقر في أذهانهم بفعل هذا التركيز ، أن ما نعانيه في هذا القرن من مشكلات حضارية ، ومن تحديات مصيرية ، هو نموذج لم يتكرر في تاريخنا. . . وهم يشعرون - لذلك - بيأس شديد ، ولعلهم يحسون ، وإن كانوا لا يفصحون بأننا لن نعود إلى استئناف مسيرتنا - نحن المسلمين - وبأننا لم يعد لدينا ما يمكن أن نعطيه للحياة في عصر القوة النووية والمركبات الفضائية ، نحن الذين نستورد الساعات والسيارات والآلات البسيطة !! .
إن هذا الكتاب. . . يتناول " أوراقا ذابلة من حضارتنا " من خلال تركيزه على سقوط دول إسلامية بعضها كان درسا أبديا حين كانت الأمراض خبيثة وفتاكة ، وحينما ذهبنا نطلب الدواء من عدونا. . . فكانت فرصته لإعطائنا السموم القاتلة. . . ولعل هذا الدرس لم يتضح بجلاء إلا في الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط كصقلية. . .
ولعل من الملاحظات التاريخية أن القرن الذي شاهد سقوط غرناطة - آخر مصارعنا في الأندلس 1492م، كان نفسه الذي شاهد سنة 1453م - الفتح الإسلامي الخالد للقسطنطينية ، ذلك الفتح الذي كان من آثاره عند الإنصاف التاريخي حماية المسلمين لفترة تزيد على خمسة قرون. . .
لقد سقطت الأندلس. . . كعضو اجتمعت فيه كل عناصر السقوط ، وكان لا بد من بتره. . . فحقت عليه كلمة الله !!
ولقد ظهرت قوة أخرى فتية زاحفة من أواسط آسيا كي تبني للإسلام تاريخا جديدا. . . ولقد أرعبت هذه القوةُ الأحقادَ الأوربية الصليبية ثلاثة قرون على الأقل .
إن درس الأندلس لا يجوز أن يغيب عن بالنا ، ولقد كانت عناصر السقوط فيه تتشكل من عدة نقاط بارزة :
• أولا : الصراع العنصري الجنسي
• ثانيا : ارتفاع رايات متعددة بعيدة عن راية الإسلام الواحدة المتصلة بالنفوس والعقول .
• ثالثا : استعانة مسلمي الأندلس بالأعداء ضد بعضهم البعض. . .
وكل العوامل الأخرى. . . تدور حول هذه النقاط بطريقة أو بأخرى ! ! ولقد دفع مسلمو الأندلس جميعا ثمن أخطائهم : دفع الحكام الثمن حين أذلهم الله وسلبهم ممالكهم ، وهل ننسى أشعار ابن عباد البائسة ، حين أذله الله على يد المرابطين في " أغمات " بالمغرب الأقصى ؟؟ وهل ننسى قولة ابن صمادح حاكم " ألمرية " وهو يموت : " نغص علينا كل شيء حتى الموت " ؟ وهل ننسى دموع. . . أبي عبد الله - آخر ملوك غرناطة. . . حين رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود إسلامي في أوربا. . . رحلت به على أنغام الأمواج الهائجة. . . وكلمات أمه المسكينة تدوي في سمعه : " ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال " !!
ولقد دفع الشعب الإسلامي الثمن حين استسلم لأمثال هؤلاء الملوك . ولم يأخذ على أيديهم ، فأحرقت دوره ، وسلبت أمواله ، وأرغم على تبديل دينه ، بل وتغيير اسمه ، وحرمته الصليبية الآثمة أبسط حقوق الإنسان !!
على أن " الأوراق الذابلة من حضارتنا " كانت مجرد تغيير في هيئة الحكم بحثا عن طموح شخصي ، أو انطلاقا من دعوى عنصرية ، أو دفاعا عن نعرة مذهبية، أو فشلا من دولة كبيرة جامعة كالعباسيين والأمويين في السيطرة على كل ما تحت يدها. . . مما يمنح الفرصة للمطامع أن تظهر ، وللنعرات أن تحكم .
ونحن لا نستطيع القول : بأن هذه الأوراق كانت كلها خيرا أو شرا ، ولعل بعضها كان لفتة قوية للدول الكبرى كي تسير في الطريق الإسلامي الصحيح. . . كما أننا كذلك لا نميل إلى القول : بأن هذه الصفحات التي أدت إلى تغيير دولة بدولة أو حكم بحكم كانت تسير بالأمة في طريق الهاوية. . . فلا شك أن ثمة مزايا أخرى يمكن أن تكون قد تناثرت على الطريق .
إنني لا أميل إلى ما يعتقده البعض من أن التاريخ يسير في طريق عمودي. . . سواء إلى أعلى أو على أسفل. . . عن تجربة تاريخنا الإسلامي تكشف لنا أن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة - كالحضارة الإسلامية - حركة لولبية - إن صح هذا التعبير - فثمة انحناءة إلى أسفل في جانب تقابلها انحناءات إلى أعلى في جوانب أخرى ، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود. . . الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين ، والصعود بفعل الاستجابة لتحديات خارجية قوية . ومن اللافت للنظر أن مراحل الهبوط - في التجربة التاريخية لهذه الأمة - قد ارتبطت بأوضاع داخلية ، فهذه الأمة لم تضرب من خارجها بقدر ما ضربت من داخلها ، بل إن الأعداء الخارجين لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر فيها من الداخل. . . ولقد أفادنا الأعداء بتدخلهم كثيرا ، وغالبا ما كان لتدخلهم فضل إيقاظ الضمير الإسلامي ، أو إعلان الجهاد العام ، أو إظهار " صلاح دين " أو " سيف دين " مما من شأنه أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة .
لقد كانت الأمة المسلمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية ، كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات ، ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها - بحكام يشلون حركتها ، ويخنعون أمام أعدائها ، ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم. . . لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ، ولو أن هذه الأمة قد تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها التي غرسها ورعاها الإسلام. . . لو تم هذا لكان في الإمكان أن تحدث منعطفات كثيرة في تاريخ هذه الأمة . هي لصالحها. . . ولحساب رقيها وازدهارها.
لقد حاولت من خلال هذه الأوراق الذابلة أن أمد الطرف - في تاريخنا الإسلامي - إلى آفاق ثلاثة : الأندلس - أوروبا - والمشرق العربي بخلافتيه الكبيرتين - العباسية والفاطمية - والدول التي تبعتهما ، ثم المغرب العربي. . . وهي الأجنحة الثلاثة الشهيرة التي تزعمت العالم الإسلامي ، ومثلث القيادة الفكرية والسياسية بالنسبة لمسلمي العالم .
ولم تكن الأوراق التي اخترتها إلا مجرد نماذج من هذه الأجنحة . ولربما كانت هناك دول أخرى كفيلة بمدنا بشارات من شارات طريق السقوط. . . لكن الاستقصاء ، فضلا عن صعوبته ، لم يكن من أهداف هذه الصفحات .
إن هذا البحث. . . وجبة خفيفة من وجبات تاريخنا . لكنها وجبة من نوع خاص. . . ليست زاخرة بأنواع الدسم والمشهيات ، فإن جسم الحضارة كأجسام الأفراد - لا يستقيم بالدسم الدائم !!
وهذا البحث دعوة لتشريح تاريخنا من جديد. . . وبجرأة ، فلأن نشرحه نحن - بإنصاف - أولى من أن نتركه لأدعياء المنهج العلمي يشرحونه - بحقد وعنف وإجحاف. . . !!
وهو كذلك بحث للذين يقرءون تاريخنا. . . ليتعلموا ، أو ليناقشوا ، أو ليعرفوا معالم المستقبل .
وتبقى في النهاية كلمة :
لسوف تبقى هذه الأمة ، ولسوف تؤدي دورها ، لسوف تقوم من عثرتها. . . هكذا يقول لنا معلمنا العظيم. . . " تاريخنا " ذو الأربعمائة وألف سنة - أطال الله عمره!!
ولقد كبونا كثيرا. . . ثم قمنا
ولقد حاربنا العالم كله ذات يوم. . . ونجونا. . . وانتصرنا. . . فقط ثمة شرط واحد : أن نعرف من أين نبدأ ، وإلى أية غاية نريد !! ودائما يعلمنا تاريخنا أن آخر أمتنا لن يصلح إلا بما صلح به أولها