قال الشيخ أبو مالك العوضي :
إن الناظر في طريقة أهل العلم تجاه جواب سؤالك يظهر له بادئ بدء أن فيها شيئا من التناقض، فأحيانا تجد الواحد منهم يطلق القول بأن فلانا متأخر ولا يحتج به مهما كان علمه واطلاعه على كلام العرب، وأحيانا تجد بعض العلماء يحتج بكلام بعض المتأخرين الذين لا يحتج بهم بإجماع أهل اللغة.
والخلط بين الأمرين أوقع كثيرا من المعاصرين في الإشكال، حتى أوقع أصحاب المجمع اللغوي القاهري في التناقضات الواضحة التي لا تليق بأدنى طلبة العلم، فتراهم يجوزون بعض الأساليب ( لأنها وردت في كلام بعض الأدباء من القرن الثامن !!! ) ثم يمنعون من أساليب أخرى وردت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم وأقرها أهل اللغة بالإجماع !! حتى جعلوها لغة لبعض العرب وعليها من شواهد العرب الجاهلية أكثر من عشرة !!!
فأي تناقض أعظم من هذا ؟
وجواب هذه الشبهة يا أخي الكريم أن يقال:
الأصل أن كلام المتأخر لا يحتج به، وهذا الأصل متفق عليه بين علماء النحو كما ذكر السيوطي في الاقتراح وغيره، ومعنى
هذا الكلام أنه لا يصح أن تستدل على مخالفك في الرأي بقول لأحد المتأخرين إذا كان هو يذهب لخلاف قولك.
ولكن هذا لا يمنع من الاستئناس ( لاحظ الاستئناس ) بقول بعض المتأخرين ممن عرفوا بالتبحر في اللغة والبعد عن اللحن من أمثال (الجاحظ) و(المبرد) و(أبي العلاء المعري) و(الوزير المغربي) و(أبي حيان التوحيدي) و(الحريري) و(الزمخشري).
وهذا الاستئناس قد يصير قرينة قوية ( أو دليلا ) على تصويب الاستعمال في حالة واحدة وهي أن لا يعرف عن أحد من العلماء أنه خطأ هذا الاستعمال، فحينئذ يكون استعمال هذا العالم المتبحر مضافا إليه الإجماع السكوتي بين أهل العلم قرينة قوية ( أو دليلا ) على صحة هذا الاستعمال.
وهذا الكلام هو معنى قول الزمخشري عندما احتج بكلام أبي تمام وقال ( فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ).
وقد قرر هذا الأصل العلامة ابن السيد البطليوسي في شرحه على أدب الكاتب عندما احتج ببيت للمتنبي ( مع أنه متأخر لا يحتج به بالإجماع )، فقال البطليوسي: ولكن في كلامه حجة من جهة أخرى، وهي أن الناس عنوا بانتقاد شعره، فلما لم يقع منهم كلام على هذا البيت علم أنه ليس عندهم فيه أصل.
فالبطليوسي لم يحتج بكلام المتنبي منفردا، وإنما احتج به ضاما إليه الإجماع السكوتي من أهل العلم في عدم انتقاد هذا البيت، لأنه من المعروف أن المتنبي كان له نقاد كثيرون حريصون على بيان أدنى ما في كلامه من أخطاء، ولديوانه شراح كثيرون، فالناس فعلا عُنوا بانتقاد شعره، فلو كان هذا الكلام خطأ لكان بعيدا جدا في العادة أن يخفى على هؤلاء جميعا ويسكتوا عنه.
وقد احتُج بنحو هذا الاحتجاج في إثبات الصحة باستعمال للقاضي عياض في كتاب ( الشفا )، مع أنه متأخر جدا، إلا أن الناس عنوا بشرح هذا الكتاب وبيان ما فيه، فكثرت عليه الشروح جدا حتى صار يستظهره بعض أهل العلم.
فالخلاصة يا شيخنا الفاضل أن استعمال العالم بانفراده ليس بحجة لا سيما في المسائل التي اختلف فيها أهل العلم واشتهر فيها الخلاف، فحينئذ لا يصير كلامه فيها حجة على الفريق المخالف؛ لأنه قد يكون ممن يقولون بالجواز، فإذا احتججت بكلامه صرت كأنك تحتج بالشيء على نفسه، وهو باطل في المناظرة باتفاق.
ولكن هذا الاستعمال قد يكون قرينة قوية أو حجة إذا انضم إليه قرائن أخرى، ومن هذه القرائن الإجماع السكوتي من علماء اللغة على عدم تخطئة هذا الكلام، ومن هذه القرائن أيضا أن يكون هذا الاستعمال منتشرا انتشارا كبيرا عند أهل العلم حتى لو لم يكونوا من المتبحرين في اللغة.
ولهذا السبب فقد رجحتُ تصويب قولهم ( طبيعي ) مع أنه مخالف للقاعدة النحوية المعروفة في النسب، وذلك لأني لم أقف على عالم واحد فقط لا في القديم ولا في الحديث نسب إلى الطبيعة بقوله ( طَبَعي )، فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا الاستعمال لم ينكره أحد في أي عصر من العصور دل ذلك دلالة قوية على أنه استعمال صحيح، وتكون القاعدة النحوية أغلبية.
ويُنظر في هذه المسألة كتاب مفرد فيها، وهو ( بين الاستئناس والاحتجاج في الشعر العربي ) للدكتور محمد أحمد علي سحلول.
المصدر : http://majles.alukah.net/t3668/#ixzz2zuz7bQbA
إن الناظر في طريقة أهل العلم تجاه جواب سؤالك يظهر له بادئ بدء أن فيها شيئا من التناقض، فأحيانا تجد الواحد منهم يطلق القول بأن فلانا متأخر ولا يحتج به مهما كان علمه واطلاعه على كلام العرب، وأحيانا تجد بعض العلماء يحتج بكلام بعض المتأخرين الذين لا يحتج بهم بإجماع أهل اللغة.
والخلط بين الأمرين أوقع كثيرا من المعاصرين في الإشكال، حتى أوقع أصحاب المجمع اللغوي القاهري في التناقضات الواضحة التي لا تليق بأدنى طلبة العلم، فتراهم يجوزون بعض الأساليب ( لأنها وردت في كلام بعض الأدباء من القرن الثامن !!! ) ثم يمنعون من أساليب أخرى وردت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم وأقرها أهل اللغة بالإجماع !! حتى جعلوها لغة لبعض العرب وعليها من شواهد العرب الجاهلية أكثر من عشرة !!!
فأي تناقض أعظم من هذا ؟
وجواب هذه الشبهة يا أخي الكريم أن يقال:
الأصل أن كلام المتأخر لا يحتج به، وهذا الأصل متفق عليه بين علماء النحو كما ذكر السيوطي في الاقتراح وغيره، ومعنى
هذا الكلام أنه لا يصح أن تستدل على مخالفك في الرأي بقول لأحد المتأخرين إذا كان هو يذهب لخلاف قولك.
ولكن هذا لا يمنع من الاستئناس ( لاحظ الاستئناس ) بقول بعض المتأخرين ممن عرفوا بالتبحر في اللغة والبعد عن اللحن من أمثال (الجاحظ) و(المبرد) و(أبي العلاء المعري) و(الوزير المغربي) و(أبي حيان التوحيدي) و(الحريري) و(الزمخشري).
وهذا الاستئناس قد يصير قرينة قوية ( أو دليلا ) على تصويب الاستعمال في حالة واحدة وهي أن لا يعرف عن أحد من العلماء أنه خطأ هذا الاستعمال، فحينئذ يكون استعمال هذا العالم المتبحر مضافا إليه الإجماع السكوتي بين أهل العلم قرينة قوية ( أو دليلا ) على صحة هذا الاستعمال.
وهذا الكلام هو معنى قول الزمخشري عندما احتج بكلام أبي تمام وقال ( فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ).
وقد قرر هذا الأصل العلامة ابن السيد البطليوسي في شرحه على أدب الكاتب عندما احتج ببيت للمتنبي ( مع أنه متأخر لا يحتج به بالإجماع )، فقال البطليوسي: ولكن في كلامه حجة من جهة أخرى، وهي أن الناس عنوا بانتقاد شعره، فلما لم يقع منهم كلام على هذا البيت علم أنه ليس عندهم فيه أصل.
فالبطليوسي لم يحتج بكلام المتنبي منفردا، وإنما احتج به ضاما إليه الإجماع السكوتي من أهل العلم في عدم انتقاد هذا البيت، لأنه من المعروف أن المتنبي كان له نقاد كثيرون حريصون على بيان أدنى ما في كلامه من أخطاء، ولديوانه شراح كثيرون، فالناس فعلا عُنوا بانتقاد شعره، فلو كان هذا الكلام خطأ لكان بعيدا جدا في العادة أن يخفى على هؤلاء جميعا ويسكتوا عنه.
وقد احتُج بنحو هذا الاحتجاج في إثبات الصحة باستعمال للقاضي عياض في كتاب ( الشفا )، مع أنه متأخر جدا، إلا أن الناس عنوا بشرح هذا الكتاب وبيان ما فيه، فكثرت عليه الشروح جدا حتى صار يستظهره بعض أهل العلم.
فالخلاصة يا شيخنا الفاضل أن استعمال العالم بانفراده ليس بحجة لا سيما في المسائل التي اختلف فيها أهل العلم واشتهر فيها الخلاف، فحينئذ لا يصير كلامه فيها حجة على الفريق المخالف؛ لأنه قد يكون ممن يقولون بالجواز، فإذا احتججت بكلامه صرت كأنك تحتج بالشيء على نفسه، وهو باطل في المناظرة باتفاق.
ولكن هذا الاستعمال قد يكون قرينة قوية أو حجة إذا انضم إليه قرائن أخرى، ومن هذه القرائن الإجماع السكوتي من علماء اللغة على عدم تخطئة هذا الكلام، ومن هذه القرائن أيضا أن يكون هذا الاستعمال منتشرا انتشارا كبيرا عند أهل العلم حتى لو لم يكونوا من المتبحرين في اللغة.
ولهذا السبب فقد رجحتُ تصويب قولهم ( طبيعي ) مع أنه مخالف للقاعدة النحوية المعروفة في النسب، وذلك لأني لم أقف على عالم واحد فقط لا في القديم ولا في الحديث نسب إلى الطبيعة بقوله ( طَبَعي )، فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا الاستعمال لم ينكره أحد في أي عصر من العصور دل ذلك دلالة قوية على أنه استعمال صحيح، وتكون القاعدة النحوية أغلبية.
ويُنظر في هذه المسألة كتاب مفرد فيها، وهو ( بين الاستئناس والاحتجاج في الشعر العربي ) للدكتور محمد أحمد علي سحلول.
المصدر : http://majles.alukah.net/t3668/#ixzz2zuz7bQbA