الجدل بين اللغة والاصطلاح
الجدل كلمة سادت علوم الفلسفة والمنطق , وتضوّع اريجها في كتب اللغة والادب والنقد , ما دفع بالمؤلفين والمترجمين إلى تحديد مفهوم لهذه الكلمة يبين ابعادها , ويوضح دلالاتها , الا أن احداً لم يصل بها
إلى عتبة الوضوح , ذلك لان بعضهم عني بتعريب « ديالكتيك » كمصطلح يوناني فلسفي يرادف كلمة « الجدل » العربية , وبعضهم عني بتطبيق المنهج الجدلي على الفن بمختلف انواعه ومدارسه , معتمدين في هذا وذاك على المنطق الجدلي الذي احياه من بعد , الفيلسوف الالماني « هيجل » فنصادف من المؤلفات على سبيل المثال لا الحصر : المنهج الجدلي عند هيجل , الجدل أو الديالكتيك مادياً , قصة الديالكتيك .
جاء في لسان العرب ما ملخصه « الجدل : شدة الفتل , الجدلة : الارض لشدتها , درع جدلاء ومجدولة : محكمة النسيج , الجدل : اللدد في الخصومة والقدرة عليها , رجل جدل : إذا كان اقوى في الخصام » . ولم تخرج بقية المعاجم عما ورد انفاً في مادة « جدل » ما جعل مفهوم الكلمة يدور حول الشدة على الصعد كلها , فالجدل شدة الفتل إلى حد الاحكام , وشدة المخلوق إلى حد القوة , وشدة المصنوع إلى حد المتانة , واخيراً هو شدة المناظرة والمخاصمة إلى حد الغلبة بهدف اظهار الحق برهنة وتدليلاً .
اما الباحث محمد عنبر فقد نظر إلى الجدل من زاوية اخرى , كان فيها الحرف العربي المركز والمحور في أن معاً , عندما رأى في الجدل كائناً حياً يعيش بالفطرة مع كل مفردة عربية , هذا لان المفردة في العربية تحمل في تقليباتها الشيء وضده , ولا نقصد بذلك المفردات المستخدمة لمعنيين متعاكسين , والمنتشرة في كتب اللغة والبلاغة , كقولنا للاعمى بصيراً , وليس للتضاد علاقة بها , بل سميت بالاضداد تجوّزاً . انما حسبنا في هذه العجالة أن نقيم مصالحة في كل لفظ يحمل ضده فيه , وليس اصلح لهذه التجربة من لفظ « جدل » اذ نطبق بذلك جدل الحرف على الكلمة .
يذهب عنبر إلى أن وجهة الحرف « هي التي تحدد طبيعته الخاصة وصفاته الذاتية على مقتضى ما هي عليه , فلفظ « جدل » مثلاً , تتحدد صفاته الخاصة من تقدم حرف الجيم فالدال فاللام , والحرفان الاولان هما اللذان يحددان الوجهة , فإذا انعكسا انقلب المعنى إلى ضده .. وهكذا فجدل ضد رجل » ولو مثلنا لحركة لفظي « ج دل , د ج ل » لغوياً لوجدنا التضاد مع كل معنى ينبثق من كلا اللفظين , فالدجل ليس الا الكذب والتمويه , والدجال رجل من يهود يخرج في اخر هذه الامة , سمي بذلك لانه يدخل الحق بالباطل , اي أن التضاد حاصل في ثنائية« الحق , الباطل » .
قد يختلف مفهوم الجدل أو « الديالكتيك » بين فريق واخر من الباحثين , الا أن المفاهيم كلها تلتقي في نقطة المصالحة بين معنيين متضادين , يمكن وصف الاول منهما بالايجابي المتجلي , والثاني المضاد بالسلبي المتخفي , وكم نقترب حيال ذلك من صورة الالم في حالة الولادة , وهي تعيش في برزخ بين الموت والحياة , اذ يكون الموت اقرب اليها من الحياة مع انها حية , ويكون الجنين بين الحياة والموت , لكنه اقرب إلى الحياة منه إلى الموت مع انه اشبه بالميت , فماذا نقول والحال هذه ?!
أن كلاً من الام والجنين يمسك بطرف معنى يحيله إلى طرف معنى مضاد تماماً , ولذلك لا قول لنا بعد قوله عز من قائل : « يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي » وهذه - لعمري - هي اللحظة التي يسميها هيجل : اللحظة الجدلية .
ربما وصلت بعض البحوث إلى تعريف ما اصطلح على تسميته « ديالكتيك » المأخوذ من العبارة اليونانية « ديالوغوم » التي تعني :اتكلم , ثم اخذت تعني فن المناقشة , انها فن البرهان , وفن دحض كلام الخصم , الجدل : دفع المرء خصمه إلى افساد قوله بحجة أو شبهة أو يقصد به تصحيح كلامه , وهو الخصومة في الحقيقة .
هذا يتفق تماماً , مع ما وجدناه في المعجم الادبي جبور يعرف الديالكتيكية بأنها : فن الحوار , إذا ما اجتمع اثنان مختلفا الرأي ينشب جدل بينهما , يحاول فيه كل واحد دحض رأي خصمه , فيكون تعارض الطرائح المعروضة محركاً للنقاش , فكل مناقشة هي - من هذا الجانب - ديالكتيكية .
ولعل هذا ما وجدناه في القرآن الكريم , بدليل تسمية احدى سوره بـ « المجادلة » فقد قال تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها , وتشتكي إلى الله , والله يسمع تحاوركما , أن الله سميع بصير» فإذا وقفنا عند هذه الاية نلحظ اركان الجدل متوافرة في الحوار والتجادل والسمع والشكوى , ولذا فالمجادلة : تناظر بين اثنين أو اكثر , وتتميز بطابع التضاد , معتمدة في ذلك على تعارض المعايير القيمية ادبياً .
ونحن اذ ننحو هذا المنحى , لا نتحامل على ما وردنا من فلسفة اليونان أو علوم الغرب , ولا ننكر تأثر ادبنا ونقدنا بالمنهج الجدلي الهيجلي , انما حسبنا أن نحافظ على انفسنا من الضياع وسط دوامة المصطلحات المعربة والمترجمة , فالجدل الذي يعني الحوار والمناقشة وافحام الخصم بالحجة والبرهان موجود بوجود الانسان , وما الطبيعة الا الوعاء الاوسع الذي ما زال ينضح بما فيه « الجدل » حيث النور والظلمة , الحياة والموت , الذات والموضوع , الوجود واللا جود , تتجادل جميعها لتفضي إلى مركبات , يبحث كل مركب منها عن نقيضه في عملية لا تنتهي.
ولما كانت الحال هذه , فإننا لا نحمل القضية اكثر مما تحتمل , بل نحاول الوصول من خلالها إلى تقعيد واضح لجدل واضح , نأمل أن يخرج من اطار ما قد يوصف به « العقم » إلى حالة يسودها المنطق في الطرح والدراية بالموضوع والمعرفة بأصول الحوار , وكم نحن احوج في هذه الفترة إلى جدل قادر على افحام خصمنا , ودحض ارائه ومزاعمه !