بقلم الأستاذ عمرو عبد العزيز
* تنظير .. أدب .. سينما :
هل من المعقول أن يكون الأمل في صناعة الوعي الشعبي للمسلمين مرتبطاً بمقدرتهم على فهم كتب التنظير الإسلامي المعقدة ؟
كيف نحول هذه الكتب التنظيرية الجامدة الى مفاهيم ثابتة راسخة في عقل كل شخص بسيط من الشعب المسلم ؟
لابد من تخفيفها دون تخفيف المفاهيم .. لابد من جعلها أكثر قرباً من الشعب لا من النخبة ..
هنا يجئ دور الأدب و الفن .. دوره في أن يحول هذا التنظير الجامد بفعل التأثير المباشر (كأن يكون الأديب تلميذاً للمُنظِّر أو يكون هو نفسه مُنظِّراً) أو التأثير الغير مباشر (كأن يخرج الأديب في بيئة معينة تحمل هذه المفاهيم فيحولها لأدب دون الإنشغال كثيراً بمصدرها) الى مُغلف براق لامع يسر القارئين و يخطف الأنفاس و يحقق له الشعبية ..
هذه الخطوة الثانية ما هي الا تمهيد للخطوة الثالثة الأهم على الاطلاق : تحويل الأدب الى سينما .. الى عوالم مرئية يسهل للمُشاهد التفاعل معها دون ضرورة تعلمه للقراءة و صرف أوقات طويلة لها .. ان هو إلا فيلم ساعتين يبقى في الذاكرة الى الأبد ..
يجئ دور الدولة طبعاً بعد ذلك في ترشيد عدد الأفلام المعارضة لهذا التوجه أو ذاك حسبما تنشد .. ان أرادت أفلام عن القومية العربية رعت الأدباء و صناع السينما الذين يمجدون و يعرضون هذا التوجه بطريقة جذابة .. مقابل عدم تسهيل الأمور على التوجه الآخر .. و يختلف الأسلوب هنا من نظام قمعي مباشر كالنظام السوفييتي و الناصري و البعثي و غيرهم .. و نظام ليبرالي له وسائل أخرى في القمع المهذب اللطيف الغير محسوس .. تماماً مثلما حدث مع أحد الفنانين الشيوعيين الأمريكان الموهوبين من هجمة منظمة اعتمدت على مبدأ واحد لكنه فعال كذلك : التجاهل المتعمد لكل ما يفعله و مدح أي ناقد له !
لهذا السبب كان الأمريكان و غيرهم يهتمون أثناء الحرب الباردة بصناعة النخب الأدبية و الفلسفية في كل دولة أوروبية تابعة لنطاقها .. تلك النخب التي وصفها الجنرال مارشال قائلاً "
النخبة هي تلك الجماعة محدودة العدد القادرة و صاحبة المصلحة في المناورة بالأمور المذهبية . هم رجال الأفكار الذين يجذبون الخيوط الفكرية لتشكيل أو على الأقل تهيئة التوجهات و الأراء لدى أولئك الذين يقومون بدورهم بتوجيه الرأي العام " !
و هكذا في هجوم مارشال على المؤسسة المخابراتية الأمريكية المكلفة بصناعة هذه النخب يصف وظيفتها بأنها " العمل على النخبة في كل ميدان لتوجيه أعضائها نحو الفلسفة التي يؤمن بها المخططون ، واستخدام النخبة المحلية يمكن أن يساعد في اخفاء الأصل الأمريكي لهذا الجهد لكي يبدو كأنه تطور محلي " !
إذن فالنخب التنظيرية مهمة جداً .. و مهم بالنسبة للدول المهيمنة أن تكون على وفاق فكري معها .. لأن هذه التنظيرات تصنع الأدباء .. و في النهاية تصنع السينما .. الأداة الأهم في صناعة الوعي الشعبي المعاصر ..
هذه المراحل الثلاث ان انتبهنا اليها و لضرورتها لأصبح زرع مفاهيم الإسلام و قضايا المسلمين أمراً سهلاً ميسوراً .. لا شئ يجب أن يأتي بصورة مباشرة في شكل ثنائية (أستاذ - تلميذ) مع المسلمين الحاليين .. لابد من استخدام الوسائل الغير مباشرة أكثر .. خاصة ان لم يكن المجتمع مهيئاً لها ..
فما هي دلائل ضرورة هذه المتوالية و سوابق حدوثها ..
فلنتأمل مثلاً نموذجين للأدباء المصريين : نجيب محفوظ و نبيل فاروق ..
* صناعة النخب التنظيرية مسألة معروفة تحدثنا عنها قبلاً .. تلك النخب المستنيرة التي نظرت للعلمانية و الإلحاد و تحرير المرأة من دينها .. لم تكن المدارس و المعاهد المصرية في بداية القرن الماضي جاهزة و متعلمنة بعد لذا تم تجهيزها في أوروبا بصورة مفضوحة لكن لا حيلة لهم فيها .. ثم جاءت متأثرة بالتنظيرات التي تعلموها و قاموا فقط بتعريبها و اسقاطها على مجتمعاتهم .. هذه النخبة ستصبح بعد ذلك المكون الرئيسي لهيئة التدريس في الجامعات .. و من تحت أيديهم سيتم تخرج الجيل الثاني : الأدباء ..
* المرحلة الثانية .. الأدباء :
1) التأثير المُباشر .. نجيب محفوظ مثالاً :
بلا جدال نجيب محفوظ هو أهم و أكبر الأدباء المصريين في القرن العشرين و حتى الآن .. تأثيره هائل حتى قبل فوزه بنوبل .. لديه أسلوب ظاهره حيادي في رواية الأحداث .. لن نحتاج للحديث عنه كثيراً فهو عبقري بكل المقاييس تنطق غالب أعماله بالفن و حتى أشد أعداؤه لا يملك الا الإقرار بهذه الحقيقة ..
لكن هل نقل نجيب محفوظ تنظير جامد أيديولوجي الى قالب أدبي ؟
طبعاً سيكون – مبدأياً – من المستحيل الحكم على كافة أعماله بناء على هذا .. الرجل تطور كثيراً في عمره .. و ما كان يكتبه بوضوح بدأ يختفي في المجاز أكثر في رواية أولاد حارتنا لكنه كان مجاز مفضوح جداً ثم بلغ أوج تألقه و تطوره في رواية الحرافيش .. حين أنشأ عالماً كاملاً معقداً يصعب فهم علاقته بالواقع .. عالم له واقعه الخاص المفارق للحالة المصرية و الملتحم بأجزاء من تاريخها في ذات الوقت !
لكن أعمال نجيب محفوظ الأولى كانت واضحة في تأثرها بالفرعونية مثلاً .. و هي من أهم أفكار أستاذه سلامة موسى .. ووضح بعد تتالي أعماله تأثره بالإشتراكية و الوفد و غير ذلك من رموز هذه المرحلة العلمانية .. و بكل تأكيد غلب هذا التصور عليه و على كافة مراحل تطوره ..
لكن البداية كانت أين ؟
كانت عند سلامة موسى و أحمد لطفي السيد و غيرهما من فلاسفة العلمانية الكبار .. هؤلاء كانوا هم كتاب (التنظيرات) و جاء بعد ذلك تلميذ متأثر حولها الى أدب ثم تناولت السينما هذا الأدب لتقدمه في صيغة براقة .. نفس المتتالية .. تنظير ثم أدب ثم سينما ثم وعي شعبي متأثر بهذه السينما ..
كم يبلغ عدد من قرأوا كتب لطفي السيد و سلامة موسى ؟ أربعون ألفاً ؟ كم يبلغ عدد من قرأوا روايات نجيب محفوظ ؟ أربعة ملايين؟ كم عدد من شاهد أفلام نجيب محفوظ ؟ أربعون مليوناً ؟
اذن من صاحب الدور الأكبر في صناعة الوعي الشعبي و ما مصدره ؟
و أصول المشكلة في أدب أمثال الأستاذ نجيب محفوظ و إحسان عبد القدوس و السباعي و غيرهم .. أن كل منهم تتلمذ بصورة مباشرة أو غير مباشرة على يد الواقع الفلسفي التنظيري العلماني الذي عاشته مصر وقتها على يد النخبة (المستنيرة) التي تتلمذت على يد أساتذة الغرب .. تأمل مثلاً كتاب (مقدمة السوبرمان) لسلامة موسى والتي كان متأثراً فيها بأستاذه الانجليزي حتى في النظرة العنصرية .. ثم تأمل كيف أن هذا سيصبح أستاذاً تنظيرياً هاماً لهؤلاء الأدباء الذين سينقلون مفاهيمه الى الوعي الشعبي .. ثم أخبرني ما هو المصدر الحقيقي لصناعة الوعي الشعبي طوال القرن المنصرم ؟
إنه الغرب نفسه .. لقد قام الغرب بإنشاء منظرينا الكبار و من ثم صنع نخبة عرفت كيف تصل للمجتمع بالسينما .. تماماً كما قال مارشال ..
و إن كان نجيب محفوظ أكثر حيادية من غيره .. إلا أن مفاهيم مثل الليبرالية التامة ورفض فكرة الاسلام كدين و سياسة و قبول حرية العلاقات الجنسية ظلت كما هي عنده حتى النهاية .. ظاهرة بقوة في جل أعماله .. حتى بعد أن تطور هو نفسه مع الوقت ليصبح ذا تصور مختلف بعيد عن التفسيرات المادية الماركسية ..
2) التأثير الغير مباشر .. نبيل فاروق مثالاً :
فهل قام نبيل فاروق بنقل (تنظير) إلى (أدب) ؟
ستكون الإجابة المبدأية : لا طبعاً ..
كتابات نبيل فاروق الموجهة بشكل رئيسي الى الشباب صغير السن لا تحمل صبغة أيديولوجية معينة في باطنها .. لا تحمل مثلاً العلمانية أو الإشتراكية أو الليبرالية ثم تحاول نشرها بصيغة المغامرات .. خلفية دكتور نبيل الثقافية التي بدأ منها لم تكن تحمل كبير عناية بهذه الإشكالات .. كما أنه برغم مهارته الأدبية المبكرة في صغره جاءت مسألة دخوله إلى عالم الأدب الروائي بصورة فيها مصادفة الى حد كبير .. طبيب شاب وجد مسابقة أدبية قدم فيها أعمال بوليسية بشكل مغاير للمألوف فنجح و دخل عالم الأدب بهذا الأسلوب .. و هذا يعني أنه لم يكن شاباً مؤدلجاً يريد نقل (رسالة) معينة بصورة مُبطنة بداخل القالب الروائي ..
كما أن أكثر الاعتراضات على أدبه تجئ ممن يحمل خلفية نقدية أكاديمية تحمل (مقياساً) للأدب في يدها تقيس به و الويل لمن يخالفه ! برغم أن الأدب تطور عبر عدة مراحل و له أشكال كثيرة تجعل من مسألة (بناء الشخصيات) و غيرها من المقاييس المشهورة ، أمراً فيه نظر .. كافكا مثلاً كان يجرد الشخصية عامداً من كل ما يجلب اليها الاهتمام حتى جعل اسم بطل أحد أعماله هو مجرد حرف ! رفض حتى أن يُطلعك على اسم الشخصية ! هو يريد أن يوصل اليك رسالة و مضمون معين بلا تشتت كاسراً قواعد الأدب المعتادة .. ففي النهاية هي قواعد أنشأها بشر لهم رؤيتهم الخاصة ! كما أن الأدب الأمريكي المعروف بالمدرسة (البيهافيورية) و الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى و ازدهر بقوة و الذي كان من رجاله أدباء معروفين أمثال ارنست هيمنجواي و فيتزجيرالد ، اعتمد هذا الأدب على الأساليب السينمائية في رواياته (تماماً كما يفعل نبيل فاروق) و خاصة اعتماده على روايات التجسس و السلسلة السوداء .. و كان هذا على حساب الشخصيات و المدرسة الأدبية التي ترفض عدم الغوص في كل شخصية منها .. نبيل فاروق على أسوأ المقاييس ينتمي الى هذه المدرسة الأمريكية .. و هي قد أثبتت نجاحها بالفعل ..
اذن فمسألة الحكم على نبيل فاروق أنه أديب أم لا و التي يناقشها البعض بحماسة هي محسومة ان خرجنا من نطاق الأكاديمية المتحجر : نعم هو أديب .. أنشأ عوالماً خاصة جديدة و أبطالاً تعيش فيها و حصل على شعبية كبرى وسط الشباب .. كما أن رواية مثل (أرزاق) كافية لنفي شبهة السطحية و إنعدام الواقعية .. فقد قام ببناء شخصية بطلها جيداً مبتعداً عن السطحية المعتادة في تناول مشاعر الشخصيات المختلفة الجامدة عنده و التي يندر أن تتحول من نمط الى آخر (برغم سلاسله الطويلة .. ندر تواجد الشخصية المدورة بالمصطلح الأدبي) .. وهي الشخصية التي تتغير من حال لآخر .. وقد فعل ذلك لأنه كان يتوقع لهذه الرواية أن تتحول الى عمل تلفيزيوني .. أي أنه عرف أن الشريحة التي سيتم مخاطبتها مختلفة و بالتالي زاد من عمق رواياته .. و هذه مقدرة بكل تأكيد تعني أنه كان يعي مُبكراً مسألة مخاطبته للشباب و المراهقين في أعماله العادية و عدم ملاءمة توجيه نفس نوع الخطاب لباقي الشرائح العمرية .. قد يصعب عليه ترك (المدرسة البهافيورية) لإرتباط أسلوبه منها بلا فكاك .. لكنه بالفعل يملك قدرات على تجاوزها في بعض الأحيان ..
مادام نبيل فاروق أديباً .. إذن فمن المنطقي جداً الإعتراف بأنه كان الأكثر تأثيراً بصورة مذهلة بعد عصر نجيب محفوظ ! لا الغيطاني نجح في التأثير على ربع هذه الأجيال ولا الأسواني استطاع الوصول الى كل هذه الشرائح العمرية الصغيرة بكفاءة لينشئ أجيالاً تحفظ أسماء شخصيات الروايات التي قرأتها بسهولة و سلاسة .. حتى منافس قوي جداً له كان في رواياته عمق أكبر مثل أحمد خالد توفيق لم يستطع الوصول الى كل هذه الكتلة الضخمة المتنوعة ..
فهل كان بالفعل نبيل فاروق بريئاً تماماً من مسألة الأدلجة و صناعة الوعي الشعبي ؟
لا .. بالتأكيد لا .. ليس بريئاً تماماً .. لكنه في الأغلب لم يكن متعمداً ما صنعه كذلك !
كانت فترة الثمانينات حرجة جداً بالنسبة للمؤسسة الأمنية الحاكمة و على رأسها الجيش و المخابرات .. المزاج الشعبي انتشر فيه الصحوات الإسلامية و ثورة إيران تطل كالشبح المخيف لتلقي الهلع في قلوب الأنظمة الطاغوتية العميلة بأن الفكرة الإسلامية يمكن أن تصنع معجزة كبرى بهدم الجيوش .. طبعاً بالإضافة لورطة السوفييت في أفغانستان وقتها أمام القوى التي بدأت ترفع شعار العمل الجهادي .. في مصر بالذات كان الوضع شديد التأزم بمقتل السادات رئيس جمهورية تحوي أقوى جيش عربي وسط جنوده و صواريخه و دباباته بينما طائراته تحلق فوقه في مشهد عجيب في قوة رمزيته .. قتل على يد الإسلاميين بالذات برغم أن قرار التحفظ و الإعتقال التي أصدرها بحق المعارضة حوت أسماء علمانيين و اشتراكيين و نصارى بل كان فيها رأس النصارى المصريين برغم ما كان يمثله الأنبا شنودة وقتها من عشق لأساليب الإرهاب و صنع المشاكل الداخلية و الاستقواء بالخارج .. كل تلك الطوائف لم تصل له و لم تنفذ ذلك المشهد الختامي المبهر لديكتاتوريته بينما فعلها الإسلاميون أصعب الطوائف دخولاً الى الأجهزة الأمنية !
كان على الجهاز الأمني المصري إذن أن يجهز نفسه لمعركة ضخمة بعد مقتل السادات مع (الإرهابيين) من وجهة نظره .. و في مثل تلك الحالات كان لابد من صنع (وعي شعبي) يضع ثقته كلها في يد أجهزة الأمن و المخابرات بالذات .. المسألة لم تعد فقط تخص الجيش بل تخص الجماعة المخططة لسياسات الدولة .. تخص الدولة كلها .. لهذا ظهر على السطح مسلسلات و أفلام تمجد في امكانات المخابرات العامة و بطولاتها و تزيد من شعبية الجهاز الأمني الأشرس في مصر.. لم يكن ينطلي هذا طبعاً على أوساط المثقفين لكن ربما كان علمهم بالغرض الحقيقي من هذه الحملة الكبرى لبناء الثقة ، وهو ضرب الإسلاميين بكل أريحية بل و بتشجيع شعبي بعد ذلك ، هو السبب في غض الطرف .. خاصة أن جهاز المخابرات في أغلب رواياته لم يكن يكذب .. لكنه لم يكن يظهر الجانب القذر في عمله كذلك لتثبيت عرش الحكام الظلمة الديكتاتوريين ..
في وسط هذا الجو ظهرت كتابات نبيل فاروق .. متأثرة بما حولها من أجواء .. غير مؤدلجة في إطار ضد اسلامي لكنها كذلك تبني أساطير خيالية عن عمليات استخباراتية مصرية حالية (في زمنه طبعاً) بل و مستقبلية (في زمننا نحن الذي تخيل الأديب أن تكون مصر فيه هي أقوى دولة في العالم بمخابراتها العلمية!)
إذن روايات نبيل فاروق لها مُنطلق تنظيري تحول الى شعبي هي الأخرى .. لكنه مُنطلق تم تخطيطه في جهاز مخابراتنا و التقطه الأديب الكبير مع الملتقطين و سار عليه .. طبعاً لا يمكن تبرئة جهاز المخابرات المصري من مساعدته واستخدامه خاصة أن الأستاذ قد حكى عدة مرات عن لقاءات بينهما و ملفات لعمليات قاموا بإطلاعه عليها ! جهاز المخابرات المصري كان بالفعل يدرك ما يفعله بإستخدامه الأديب الموهوب .. يبني أجيالاً تضع ثقتها في يد أجهزة الأمن و بالذات المخابرات .. أجيالاً تعتقد أن بطل المخابرات المصرية هو أدهم صبري البطل العربي المثالي الأصيل الذي يواجه كافة قوى الغرب و الشرق و إسرائيل لمنع تدخلها في قرار الحكام المصريين المخلصين .. قبل أن تفاجأ هذه الأجيال عند ثورة يناير بأن بطل المخابرات المصرية هو عمر سليمان السفاح الكبير الذى يواجه كافة قوى الخير لمنع تدخلها في سيطرة الشرق و الغرب وإسرائيل على مصر وحماية الحكام المصريين أمثال جمال مبارك و أحمد شفيق !
يبدو كذلك أن نبيل فاروق نفسه أصيب بهذه الصدمة في نهاية عهد مبارك .. فتغيرت تيمة سلاسله قليلاً عند نهايتها و أصابها الإضطراب و التشكيك في كل شئ و منها الأجهزة الأمنية خاصة في سلسلة ملف المستقبل .. لقد عبراضطراب ختام الروايات و تشكيكها في مسلمات البنية القائمة عليها السلسلة كلها عن حجم الإضطراب الذي أصاب الدكتور في هذه الفترة خاصة بعد مأساة مرضه الشخصية .. لقد استخدمه منظري (الديكتاتورية) الاستخباراتيين لنقل تنظيراتهم و تغليفها في إطار (أدبي) بوليسي محترم جذاب بصورة طاغية .. لكن إنهيار دولة مبارك فضح كل شئ لأصحاب الوعي .. هكذا حاولت المخابرات استعادة بعض البريق المفقود بعد الثورة بصنع فيلم تسجيلي دعائي عن بطولاتها لكنه مر كالسراب من الوعي الشعبي .. و يوضح لجؤها الى هذا الأسلوب الدعائي المفضوح – وهو ما حاوله المجلس العسكري الحاكم وقتها أيضاً بأفلام تسجيلية مشابهة – مدى هشاشة تلك الدولة الأمنية بعد الثورة .. و حجم جريمة من ثبت أركانها وأعاد لها العافية مرة أخرى !
* بعد الأدب .. تجئ مرحلة السينما .. و لنبدأ بنماذج من السينما المصرية و ما تحويه من دلالات :
1) فيلم الناصر صلاح الدين :
هل هناك خداع حقيقي أكبر من تحويل الصراع الصليبي ضد المسلمين الى صراع وطني لا أثر للدين في جوهره ؟
هذا هو فيلم (الناصر صلاح الدين) الشهير .. الفيلم الذي ظهر في فترة (القومية العربية) عام 1963 .. و حمل قدراً مذهلاً من الرسائل التضليلية الصارفة عن حقيقة الصراع الإسلامي - الصليبي ..
ولا رسالة أقوى من أن يُصبح القائد المقرب من صلاح الدين مسيحياً يقاتل ضد الأوروبيين !
لماذا يقاتلهم ؟ لأنه عربي يُقاتل مع العرب من أجل الدفاع عن (وطنه العربي) !
لا أثر للدين إذاً في جوهر الصراع !
بل إن الجنون يصل الى ذروته بإظهار ريتشارد قلب الأسد القائد الصليبي السفاح على أنه مُجرد (مسيحي تقي خُدع بإسم الدين) !
فكيف يصبح (صلاح الدين) مُدافعاً عن العروبة و هو كُردي غير عربي ؟ لقد تم تجاهل هذه الحقيقة الواضحة و تم تعريب الرجل عنوة في هذا الفيلم لا لشئ سوى لإخفاء الرابط الحقيقي بينه و بين العرب ألا و هو الإسلام .. و بالتالي اخفاء جوهر الصراع ..
فلا صلاح الدين كان عربي .. و لا الصراع كان يتم باسم الدين لله و الوطن للجميع .. و لا الجيش كان يضم قادة مسيحيين .. و لا كانت الحروب الصليبية من أجل أموال .. بل كان يُصرف عليها ما لا يُتخيل من تجهيزات و يكفي أن تتصور زحف عشرات الجيوش لعدة دول أوروبية كبرى عبر أوروبا أو البحر المتوسط و على رأسها خير الأمراء و العسكريين لتعرف هول المشهد و حجم التكاليف المطلوبة لحملات كهذه .. فأي كنز هذا الذي كانوا يبحثون عنه ؟! لقد كانت حرب بإسم الصليب و من أجل الصليب .. تواجهها حرب بإسم الإسلام و من أجل رفعة دين الحق على دين وثنية الصلبان ..
ما هذا الفيلم إذن إلا حلقة جديدة من حلقات تحويل (التنظير) العلماني القومي الى (سينما) براقة رائعة تتغلغل في نفوس الشعب المُراد صنع وعيه و تشكيله في قالب (علماني عروبي قومي) ..
2) فيلم رد قلبي :
تأسيس نظرية هزيمة الأرستقراطية العفنة المتكبرة الظالمة متمثلة في عهد الملك على يد الفرسان النبلاء الشعبيين أبناء الطبقات الفقيرة المتواضعة ممثلين في الضباط الأحرار .. بمعنى آخر : تحويل هذه الأسطورة النظرية الكبرى التي سيتاجر بها الجيش لبقائه في الحكم عشرات السنوات بعدها .. الى أدب جذاب مقروء .. ثم الى النهاية الحتمية في فيلم سينمائي مؤثر خلاب ..
3) فيلم الأيدي الناعمة :
عام 1963 مرة أخرى .. الأمير (البرنس) الارستقراطي من بقايا الملكية الساقطة و الذي يعيش في مجتمع (عبد الناصر) الذي صعد بالبروليتاريا و جعل المساواة بين الجميع هي الأصل .. بل إن الفارق بين ذو الأيدي الناعمة (الأمير) و بين ذو الأيدي الخشنة العامل في هيئة السكة الحديد يصب لمصلحة الأخير بكل تأكيد ..
حسناً .. معانٍ لطيفة جداً .. لكن هل كان لها أثر على أرض الواقع .. أم كان هذا هو مجرد فيلم (ايديولوجي) آخر يحول تنظيرات (حتمية انتصار ثورة 1952) و تنظيرات (انتصار البروليتاريا في عهد ناصر) الى فيلم سينمائي لطيف ذو قصة مشوقة ؟
و ماذا تبقى بعد تلك السنوات في الذاكرة مؤثراً بقوة في الوعي الشعبي .. تنظير القوميين العرب و كتبهم أم الأفكار المُقدمة في فيلم (الأيدي الناعمة) ؟
أين في المقابل الأدب الإسلامي المقابل لكل هذا ؟
نعم هو غائب .. لكن لهذا أسباب متعددة ..
فقد مر الإسلاميون بعهد طويل من الظلام و القهر ، كان فيها المُعتقل و التعذيب أو الإنغلاق المجتمعي و الملاحقة الأمنية هي مفردات المشهد ، لا أحد يبدو قادراً على تصور أدب آخر وقتها غير أدب المعتقلات و التعذيب الوحشي .. الحكومات الإسلامية كانت مُصرة على تجفيف المنابع مبكراً و القضاء على الرموز القيادية المحتملة إن كانوا من النوابغ ..
كما أن أدب المعتقلات و حجم المآسي الضخم كان يعرقل مسألة وضع أدب منتظم مجاوز لهذه المصيبة الكبرى التي يعيش فيها الفرد .. من ذا الذي سيكتب قصص عن الحب الشريف أو يصف بلابل و زهور و عوالم أخرى و هو يعيش مهدداً بالإعتقال و التعذيب طوال الوقت ؟
فبين إسلامي حركي يغلب عليه النشاط و يقل عنده التفكير الطويل ، خاصة أن التنظيمات الحركية عامة لا تحب من هو مستقل التفكير كثيراً عنها ، وبين إسلامي منغلق على عالم تم بعثه من العصور الوسطى ليعيش فيها بين طيات كتب التراث منفصلاً عن واقعه و مجتمعه ، و بين إسلامي مُفكر سلبي ذائب تماماً في مجتمعه لا يستطيع تغييره يتلقى منه منتجاته فقط ، وبين إسلامي يعيش مأساة الملاحقات الأمنية لتشبثه بفكرة الرد العسكري على الهجمة العالمية على دينه و رؤيته لعدم جدوى أي حل آخر .. كان هذا هو الغالب على الإسلاميين ..
و حتى التنظير الكثير الذي وجدوه لم يحاول الكثيرين نقله الى الخطوة الأخرى الضرورية .. نقله الى فن الأدب .. ناهيك طبعاً عن السينما .. و من حاول قام بإستدعاء حوداث و أقصوصات من عصور السلف أو الأنبياء ليقصها رافضاً أحياناً لفكرة الإبداع خارج هذا النطاق .. بل حصر الإبداع في كيفية عرض هذه الأقصوصات بطريقة مبهرة تشد الناس و تجذبهم ..
إن تضييع مزيد من الوقت في عدم تشجيع نقل هذا التنظير الذي يملكه الإسلاميون الى أدب ثم سينما هو هدر غير معقول بعد تجارب تلك السنوات الطوال .. الانتقال الى حالة (صناعة الوعي الشعبي) مفقودة بالمقاييس الحديثة .. لازال البعض يصر على أن المساجد هي الأسلوب الأفضل لكن هناك فئات كبرى تمثل غالبية شرائح المجتمع لن تقبل ذلك الأسلوب الدعائي التقليدي .. لابد من كسر قيود التقليدية و النظر الى الأدب الروائي و الفن السينمائي بصورة جادة جداً ..
كذلك لابد أن تكون هناك – في الدولة الإسلامية – رقابة مشددة على (مصادر التنظير) .. فمن غير المعقول أن يتم فتح الباب لأديب تربيته كانت حصرية على كتابات ماركس و إنجلز أو جون ستيوارت مل ومونتسكيو ! إن التحكم في مصادر التنظير و بالتالي التحكم في العملية التعليمية و تكون النخب لن يتم إلا على يد سلطة دولة .. و أي محاولة أخرى ساذجة من طراز عبث الحريات الليبرالية و ترك كل متلاعب بالشباب يأخذ فرصته كاملة ثم الإدعاء أن (فكره لن يحارب إلابفكر) أثبت التاريخ و الواقع فسادها .. يجب أن تكون هناك رقابة بالتأكيد على الأدب الذي يحوي مصادر تنظير مخالفة للشريعة ..
لكن أليس هذا ينبئ بخطر محاكم التفتيش ؟
بكل تأكيد الإفراط في هذه الرقابة مُضر .. و لا يوجد أديب سيبدع بجدية و هو شاعر بمقص الرقيب فوق رقبته !
و الحل هو التحكم مبدأياً في التنظيرات و الخلفيات الممكن السماح لها بالإنتشار .. ثم ترك كل أديب يبدع كما يشاء .. المهم أن تكون خلفيته الإسلامية قوية و إيمانه بالقضية بشكل عام على ما يرام .. دون الخوض في مسائل مذهبية و انتمائية لأي تيار أو جماعة .. المهم أن يكون من أهل السنة عامة ..
رقابة على بوابة الداخلين الى حديقة فن الأدب و السينما .. لا رقابة عليهم بداخل الحديقة تضرب على أيديهم بقوة .. فليكن هذا هو دور المجتمع و علماء الدين لتقويمه إن اشتط في خطئه .. لا مهمة الدولة ..
لكن هل معنى ذلك أن الإسلاميين يستطيعون بمجرد كتابة الأدب ، غزو عقول هذا الوعي مباشرة ؟ هل من السهل اعطاء الكثير من مفاهيم الإسلام الكبرى عبر الأدب مهما كانت صادمة لواقع الأمة حالياً ؟
لا .. لن يكون الأمر سهلاً أبداً .. و سيحتاج الاسلاميون لإحترام أحد أهم فنون تغيير الوعي الشعبي : الكوميديا ..
* الكوميديا : حصان طروادة
كيف يمكن تقديم فكرة صادمة جداً و غير معتادة للمجتمع بحيث يتقبلها مع الوقت أو على الأقل لا يثير موجة هائلة من الثورة و الرفض ؟
هل يقوم التنظير بالإختفاء في شكل أدبي درامي ؟ عاطفي ؟ أي الأشكال أفضل ؟
هناك عدة طرق طبعاً و براعة الأديب و السينمائي في اخراجها معلبة يقبلها الشعب هي الفيصل النهائي للنجاح .. لكن بكل تأكيد الكوميديا دوماً كانت الأكثر نجاحاً ..
هناك مثلاً فكرة الشذوذ الجنسي .. المزاج الشعبي الطبيعي يرفضها حتى في الولايات المتحدة نفسها الى الآن .. برغم كل نجاح السينمائيين و الأدباء في تطبيع الشذوذ بين طوائف و فئات ضخمة في الشعب الأمريك إلا أنه لازال في حالة رفض الى حد ما مع عدد لا يستهان به .. لكن برغم ذلك ما تحقق النجاح بصورة موسعة حقيقية للتطبيع إلا مع نهاية القرن الماضي .. عندما بدأت أمثال (إيلين ديجينير) الشاذة تقوم بعمل مسلسل كوميدي يُضحك الشعب و يعلقها به .. ثم مع مرور المسلسل الشهير نكتشف أنها شاذة جنسياً .. بعد ارتباط الجماهير بها و بمواقفها و مقالبها المضحكة .. من نفس هذا العالم تجئ واندا سيكس .. الكوميديانة الشاذة الشهيرة .. كلتاهما خلقا قبولاً شعبياً لتطبيع مسألة الشذوذ و قبول الشواذ حتى بين من يرفضون هذا الأمر ..
نفس الأمر يقوم به آدام ساندلر الكوميديان الأمريكي المعروف .. برغم عدم شذوذه إلا أن هناك تيمة واضحة في أغلب أفلامه لتطبيع الشذوذ بتقديمه في إطار كوميدي .. في الحين الذي خشيت فيه جودي فوستر إعلان شذوذها لوقت قريب كان هؤلاء الكوميديين يقومون بتطبيع الشذوذ الجنسي بكل قوة و ثقة و إستمرار .. الفكرة المخيفة مغلفة بقالب مضحك يصعب على النفس التجهم عند رؤيته ..
هكذا ينتقل تنظير (تطبيع الشذوذ الجنسي) من فكرة نخبوية تجريدية الى حياة في قصص و روايات ثم الى متعة مضحكة و مثيرة في السينما ..
ربما لهذا السبب بالذات كان استخدام عادل امام في منتصف التسعينيات – حين حمي وطيس المواجهة النهائية بين النظام و القوى الاسلامية بشكل عام والجهادية الداخلية بشكل خاص – ليقدم فيلماً كوميدياً يصنع جرحاً غائراً في وعي الشعب المصري .. حين لم يجروء الأغلبية على تقديم هذا المشهد الهجومي على الإسلام و مظاهره بتصويره كدين عنف و إرهاب ، وتصوير أعداءه على أنهم أهل الإعتدال .. فعلها هو بقالب كوميدي مضحك .. و استمر على خطاه لسنوات طويلة حتى لم يعد يخلوا فيلم له تقريباً من مشهد يسخر فيه بطريقة كوميدية من أحد الشعائر أو أهل الإلتزام ..
فعلها عادل إمام بكفاءة و استطاع جعل المزاج الشعبي يقبل (تطبيع) السخرية من الرموز الإسلامية .. كانت الكوميديا مرة أخرى هي حصان طروادة الذي يقتحم حصون الوعي الشعبي و تصنعه .. تحول تنظير فرج فودة الى أدب لينين الرملي و وحيد حامد ثم لشدته على الوعي الشعبي تم استخدام الحصان الخشبي الأشهر لتقديمه في السينما : الكوميديا ..
لقد قام أهل الكوميديا فعلاً بنقل وصف (الإرهابي) من النظام القمعي الى الإسلامي الذي يواجهه .. في أمريكا نقلوا وصف (الشاذ) من الرجل أو المرأة الشواذ الى (الطبيعي) الذي يحاربهما .. أصبح من يرفضهم هو (الشاذ) لأن (الطبيعي) لابد أن يقبلهما ! نجحت الكوميديا فعلاً في قلب مفاهيم كان يبدو استحالة قلبها منطقياً ..
فإن كان هؤلاء يعرفون خطورة الكوميديا .. فما بال الإسلاميون ينظرون لهذا الأمر دائماً على أنه لعب و هذر ؟ ان بعض أطروحات الإسلام الآن يعترف الجميع بأنها غير مقبولة لشعوب ما بعد الإستعمار الغارقة في علمانيتها .. لهذا يسلمون بضرورة تدرج الشريعة .. فلماذا لا يتم استخدام سلاح الكوميديا السينمائية لغزو القلوب و العقول المغلقة و لصناعة وعي شعبي حقيقي يعظم مفاهيم الإسلام ؟
* على المستوى العالمي .. هل توجد دلائل على هذه المتوالية ؟
مر الغرب بشكل عام بعدة مراحل فلسفية عاشها.. كان منها (ما بعد الحداثة) .. منذ سنوات قليلة ظهرت هناك إرهاصات على أننا نعيش مرحلة (بعد ما بعد الحداثة) كذلك !
لكن ما هي هذه الفسلفة ؟ ما هو شكل تنظيرها ؟
تقوم هذه الفلسفة على عدة مبادئ مثل تفكيك المفاهيم و الدلالات .. جعل الصيرورة هي مركز الكون .. أي أن كل شئ سيتغير .. كل كلمة دالة على معنى و مفهوم معين مصيرها التغيير فيتم تفكيك معناها و بالتالي ينفصل الدال عن المدلول .. هذه هي ما بعد الحداثة بشكل مخل جداً ..
من منا إذن يعرف جاك دريدا أحد فلاسفة التفكيك و ما بعد الحداثة ؟ كم شخص على مستوى العالم كله قرأوا كتبه و تنظيراته الجامدة ؟
و من الذي حول هذه التنظيرات الى أدب و فنون ؟ ثم من الذي حولها الى سينما ؟
إن دراسة جدية لحجم التأثير المختلف لكل من (التنظير) و (الأدب) و (السينما) يجعلك تعرف أهمية العنصر الأخير في الوعي الشعبي العالمي بأكمله ..
و لنأخذ جولة مثلاً في بعض أفلام السينما الأمريكية المابعد حداثية .. تلك الأفلام الخلابة و التي تحوي بداخلها مفاهيم ما بعد حداثية مبسطة قابلة للإبتلاع و المضغ من قبل الشعب :
1) فيلم (هاري بوتر Harry potter) :
نعم ستنفعل كثيراً جداً مع الشخوص اللطيفة التي تمثل جانب الخير في الرواية .. ستنفعل مع مأساة (هاري) الشخصية و قصة الحب الخفية بين (رون) و (هرميوني) .. قد تبدوا هنا المفاهيم واضحة في ثنائيات (خير - شر) أو (حب - كره) لكنك تنسى أن الفيلم أساساً جعلك تعتبر السحر أمر لطيف و مقبول ! عزيزي .. هنا الخير هو ساحر يستخدم تعويذات من الكتب الملعونة للقرون الوسطى ! فقط كانت البراعة أنه في وقت مبكر جداً تم فصلك عن العالم الطبيعي و اظهار قبحه الشديد في أهل (هاري) مقابل جعل العالم المرح الصاخب المُبهِر هو عالم السحر !
حتى في هذا الفيلم بأجزائه الثلاثة تم استخدام طريق ملتف جداً لـ (قبول) الآخر و(التطبيع) معه حتى لو كان ساحراً يعيش حياته لتعلم هذه التعاويذ ! و ما يزيد من قرائن نفي براءة هذا الفيلم مسألة التشويه المتعمد لعالم البشر الطبيعيين في مرحلة مُبكرة جداً .. ليغيب الحاجز بين (الطبيعي) و (الشاذ) فينفصل مدلول كلمة (ساحر) لديك عن ما تدل عليه !
2) فيلم شريك Shrek :
ما هو السئ و ما هو الجيد في فيلم (شريك Shrek) ؟
ما هو الخير و ما هو الشر ؟
كيف يصبح الإنتصار هو العودة للوجه القبيح و ترك العالم النظيف الطبيعي الى عالم المستنقع القذر ؟
كيف يصبح التجشوء و إخراج الريح و الاستحمام في القاذورات و أكل الدود و كرات العيون هما الطبيعة التي يمكن تفهمها بل و التفاعل معها و قبولها بينما الإنسان المعادي لكل ذلك هو الشر ؟
هل هناك فصل للدال و المدلول في كل مناحي الحياة أكثر من هذا ؟ هل هناك تفكيك لكافة المفاهيم أكبر من هذا ؟
القبح هو الجيد و الجمال هو السئ .. الأفعال الشاذة المذمومة هي الممدوحة المستحسنة و الأفعال الطبيعية هي المستهجنة !
هل هناك (ما بعد حداثة) أكثر من هذا ؟ هل يخلو هذا الفيلم من الأيدولوجية و زرع الأفكار و صناعة وعي شعبي معين عن طريق تغليف تنظير الفلاسفة الجامدين بغلاف القصص اللامع ثم غلاف الأفلام بالغ الروعة ؟
3) فيلم أوتيل ترانسلفانيا :
مرة أخرى مع أفلام الكارتون .. مع فيلم (أوتيل ترانسلفانيا Hotel Transylvania) .. حين يصبح دراكيولا مصاص الدماء و الزومبي و باقي الوحوش هم رموز العالم الذي يتفاعل معه المُتفرج و يحبه .. حين يصبح قبول البشر لتلك الوحوش هو الأمر المُنتظر الذي يجعل المُشاهد يشعر بالراحة و السعادة ! بل يذهب الفيلم الى ما هو أبعد بمشهد رمزي قوي حين يقوم البشر بمساندة مصاص الدماء عن طريق حجب ضوء الشمس عنه .. مسألة (قبول الآخر) مهما كان شاذاً هنا واضحة جداً .. فهل هناك شذوذ أكثر من وحش مصاص دماء و مستذئبين ؟ تيمة (ما بعد الحداثة) مرة أخرى طافحة في الفيلم .. ما هو الشر و ما هو الخير حقاً ؟ ألا يمكن أن يكون دراكيولا مصاص الدماء هو الخير بينما من يعاديه هو الشرير ؟ مزيد من الفوضى في المفاهيم و فصل مدلول كل كلمة عن ما تدل عليه ..
4) فيلم (الرجال اكس Xmen) :
هذا الفيلم بالذات رموزه قوية جداً شديدة الوضوح في ما بعد حداثيتها .. لا خير حقيقي و لا شر حقيقي .. لا شاذ و لا طبيعي .. الطبيعي هو الشاذ و الشاذ هو الطبيعي .. المطلوب هو (قبول) الآخر و (التطبيع) معه بفصل معاني كلمات كل كلمة عنها .. لماذا تعتبر ذلك الشاب ذو الأجنحة هو الشاذ بينما أنت الطبيعي ؟ لماذا لا يكون هذا الرجل الأزرق المُستذئب هو الخير بينما البشري المُتأنق الذي يرفضه هو الشر ؟
هنا يظهر في مسار الفيلم كله مفهوم (الصيرورة) كمركز للحكم على الأشياء .. كل شئ يتطور باستمرار فلا يصلح وصف هذا التطور بالشذوذ ! مرة أخرى الفلسفة المابعد حداثية و كمونها في روايات ثم أفلام شعبية تجارية تنشر هذه الفلسفة على نطاق واسع دون الأسلوب التوجيهي الممل المرفوض .. تنشرها في صورة مشاهد مُبهِرة لكباري تتراقص في الهواء و عنف يخطف الأنفاس من تلاحقه و روعة تصويره .. و عن هذه الملحوظات و غيرها كتب المفكر الفرنسي جورج كلود جيلبرت مقاله : الرجال اكس .. أبطال ما بعد الحداثة ..
* إذن فحتى بالنسبة للوسط العالمي .. المرور بهذه الخطوات هو الضروري و الأفضل لصنع الوعي الشعبي .. التنظير .. الأديب و الفنان المتأثر .. ثم أخيراً السينما .. لا غنى عن هذه الخطوات الضرورية .. مسألة الإعتماد على التلقين في العصر الحديث هذا غير مضمونة التأثير و القوة .. ان أردت نقل الفكر الى مستوى الشعوب لا مستوى النخب فلابد من اللجوء الى هذا الطريق المُلتف .. و المضمون كذلك .. بهذا يمكن صناعة الوعي الشعبي ..
* تنظير .. أدب .. سينما :
هل من المعقول أن يكون الأمل في صناعة الوعي الشعبي للمسلمين مرتبطاً بمقدرتهم على فهم كتب التنظير الإسلامي المعقدة ؟
كيف نحول هذه الكتب التنظيرية الجامدة الى مفاهيم ثابتة راسخة في عقل كل شخص بسيط من الشعب المسلم ؟
لابد من تخفيفها دون تخفيف المفاهيم .. لابد من جعلها أكثر قرباً من الشعب لا من النخبة ..
هنا يجئ دور الأدب و الفن .. دوره في أن يحول هذا التنظير الجامد بفعل التأثير المباشر (كأن يكون الأديب تلميذاً للمُنظِّر أو يكون هو نفسه مُنظِّراً) أو التأثير الغير مباشر (كأن يخرج الأديب في بيئة معينة تحمل هذه المفاهيم فيحولها لأدب دون الإنشغال كثيراً بمصدرها) الى مُغلف براق لامع يسر القارئين و يخطف الأنفاس و يحقق له الشعبية ..
هذه الخطوة الثانية ما هي الا تمهيد للخطوة الثالثة الأهم على الاطلاق : تحويل الأدب الى سينما .. الى عوالم مرئية يسهل للمُشاهد التفاعل معها دون ضرورة تعلمه للقراءة و صرف أوقات طويلة لها .. ان هو إلا فيلم ساعتين يبقى في الذاكرة الى الأبد ..
يجئ دور الدولة طبعاً بعد ذلك في ترشيد عدد الأفلام المعارضة لهذا التوجه أو ذاك حسبما تنشد .. ان أرادت أفلام عن القومية العربية رعت الأدباء و صناع السينما الذين يمجدون و يعرضون هذا التوجه بطريقة جذابة .. مقابل عدم تسهيل الأمور على التوجه الآخر .. و يختلف الأسلوب هنا من نظام قمعي مباشر كالنظام السوفييتي و الناصري و البعثي و غيرهم .. و نظام ليبرالي له وسائل أخرى في القمع المهذب اللطيف الغير محسوس .. تماماً مثلما حدث مع أحد الفنانين الشيوعيين الأمريكان الموهوبين من هجمة منظمة اعتمدت على مبدأ واحد لكنه فعال كذلك : التجاهل المتعمد لكل ما يفعله و مدح أي ناقد له !
لهذا السبب كان الأمريكان و غيرهم يهتمون أثناء الحرب الباردة بصناعة النخب الأدبية و الفلسفية في كل دولة أوروبية تابعة لنطاقها .. تلك النخب التي وصفها الجنرال مارشال قائلاً "
النخبة هي تلك الجماعة محدودة العدد القادرة و صاحبة المصلحة في المناورة بالأمور المذهبية . هم رجال الأفكار الذين يجذبون الخيوط الفكرية لتشكيل أو على الأقل تهيئة التوجهات و الأراء لدى أولئك الذين يقومون بدورهم بتوجيه الرأي العام " !
و هكذا في هجوم مارشال على المؤسسة المخابراتية الأمريكية المكلفة بصناعة هذه النخب يصف وظيفتها بأنها " العمل على النخبة في كل ميدان لتوجيه أعضائها نحو الفلسفة التي يؤمن بها المخططون ، واستخدام النخبة المحلية يمكن أن يساعد في اخفاء الأصل الأمريكي لهذا الجهد لكي يبدو كأنه تطور محلي " !
إذن فالنخب التنظيرية مهمة جداً .. و مهم بالنسبة للدول المهيمنة أن تكون على وفاق فكري معها .. لأن هذه التنظيرات تصنع الأدباء .. و في النهاية تصنع السينما .. الأداة الأهم في صناعة الوعي الشعبي المعاصر ..
هذه المراحل الثلاث ان انتبهنا اليها و لضرورتها لأصبح زرع مفاهيم الإسلام و قضايا المسلمين أمراً سهلاً ميسوراً .. لا شئ يجب أن يأتي بصورة مباشرة في شكل ثنائية (أستاذ - تلميذ) مع المسلمين الحاليين .. لابد من استخدام الوسائل الغير مباشرة أكثر .. خاصة ان لم يكن المجتمع مهيئاً لها ..
فما هي دلائل ضرورة هذه المتوالية و سوابق حدوثها ..
فلنتأمل مثلاً نموذجين للأدباء المصريين : نجيب محفوظ و نبيل فاروق ..
* صناعة النخب التنظيرية مسألة معروفة تحدثنا عنها قبلاً .. تلك النخب المستنيرة التي نظرت للعلمانية و الإلحاد و تحرير المرأة من دينها .. لم تكن المدارس و المعاهد المصرية في بداية القرن الماضي جاهزة و متعلمنة بعد لذا تم تجهيزها في أوروبا بصورة مفضوحة لكن لا حيلة لهم فيها .. ثم جاءت متأثرة بالتنظيرات التي تعلموها و قاموا فقط بتعريبها و اسقاطها على مجتمعاتهم .. هذه النخبة ستصبح بعد ذلك المكون الرئيسي لهيئة التدريس في الجامعات .. و من تحت أيديهم سيتم تخرج الجيل الثاني : الأدباء ..
* المرحلة الثانية .. الأدباء :
1) التأثير المُباشر .. نجيب محفوظ مثالاً :
بلا جدال نجيب محفوظ هو أهم و أكبر الأدباء المصريين في القرن العشرين و حتى الآن .. تأثيره هائل حتى قبل فوزه بنوبل .. لديه أسلوب ظاهره حيادي في رواية الأحداث .. لن نحتاج للحديث عنه كثيراً فهو عبقري بكل المقاييس تنطق غالب أعماله بالفن و حتى أشد أعداؤه لا يملك الا الإقرار بهذه الحقيقة ..
لكن هل نقل نجيب محفوظ تنظير جامد أيديولوجي الى قالب أدبي ؟
طبعاً سيكون – مبدأياً – من المستحيل الحكم على كافة أعماله بناء على هذا .. الرجل تطور كثيراً في عمره .. و ما كان يكتبه بوضوح بدأ يختفي في المجاز أكثر في رواية أولاد حارتنا لكنه كان مجاز مفضوح جداً ثم بلغ أوج تألقه و تطوره في رواية الحرافيش .. حين أنشأ عالماً كاملاً معقداً يصعب فهم علاقته بالواقع .. عالم له واقعه الخاص المفارق للحالة المصرية و الملتحم بأجزاء من تاريخها في ذات الوقت !
لكن أعمال نجيب محفوظ الأولى كانت واضحة في تأثرها بالفرعونية مثلاً .. و هي من أهم أفكار أستاذه سلامة موسى .. ووضح بعد تتالي أعماله تأثره بالإشتراكية و الوفد و غير ذلك من رموز هذه المرحلة العلمانية .. و بكل تأكيد غلب هذا التصور عليه و على كافة مراحل تطوره ..
لكن البداية كانت أين ؟
كانت عند سلامة موسى و أحمد لطفي السيد و غيرهما من فلاسفة العلمانية الكبار .. هؤلاء كانوا هم كتاب (التنظيرات) و جاء بعد ذلك تلميذ متأثر حولها الى أدب ثم تناولت السينما هذا الأدب لتقدمه في صيغة براقة .. نفس المتتالية .. تنظير ثم أدب ثم سينما ثم وعي شعبي متأثر بهذه السينما ..
كم يبلغ عدد من قرأوا كتب لطفي السيد و سلامة موسى ؟ أربعون ألفاً ؟ كم يبلغ عدد من قرأوا روايات نجيب محفوظ ؟ أربعة ملايين؟ كم عدد من شاهد أفلام نجيب محفوظ ؟ أربعون مليوناً ؟
اذن من صاحب الدور الأكبر في صناعة الوعي الشعبي و ما مصدره ؟
و أصول المشكلة في أدب أمثال الأستاذ نجيب محفوظ و إحسان عبد القدوس و السباعي و غيرهم .. أن كل منهم تتلمذ بصورة مباشرة أو غير مباشرة على يد الواقع الفلسفي التنظيري العلماني الذي عاشته مصر وقتها على يد النخبة (المستنيرة) التي تتلمذت على يد أساتذة الغرب .. تأمل مثلاً كتاب (مقدمة السوبرمان) لسلامة موسى والتي كان متأثراً فيها بأستاذه الانجليزي حتى في النظرة العنصرية .. ثم تأمل كيف أن هذا سيصبح أستاذاً تنظيرياً هاماً لهؤلاء الأدباء الذين سينقلون مفاهيمه الى الوعي الشعبي .. ثم أخبرني ما هو المصدر الحقيقي لصناعة الوعي الشعبي طوال القرن المنصرم ؟
إنه الغرب نفسه .. لقد قام الغرب بإنشاء منظرينا الكبار و من ثم صنع نخبة عرفت كيف تصل للمجتمع بالسينما .. تماماً كما قال مارشال ..
و إن كان نجيب محفوظ أكثر حيادية من غيره .. إلا أن مفاهيم مثل الليبرالية التامة ورفض فكرة الاسلام كدين و سياسة و قبول حرية العلاقات الجنسية ظلت كما هي عنده حتى النهاية .. ظاهرة بقوة في جل أعماله .. حتى بعد أن تطور هو نفسه مع الوقت ليصبح ذا تصور مختلف بعيد عن التفسيرات المادية الماركسية ..
2) التأثير الغير مباشر .. نبيل فاروق مثالاً :
فهل قام نبيل فاروق بنقل (تنظير) إلى (أدب) ؟
ستكون الإجابة المبدأية : لا طبعاً ..
كتابات نبيل فاروق الموجهة بشكل رئيسي الى الشباب صغير السن لا تحمل صبغة أيديولوجية معينة في باطنها .. لا تحمل مثلاً العلمانية أو الإشتراكية أو الليبرالية ثم تحاول نشرها بصيغة المغامرات .. خلفية دكتور نبيل الثقافية التي بدأ منها لم تكن تحمل كبير عناية بهذه الإشكالات .. كما أنه برغم مهارته الأدبية المبكرة في صغره جاءت مسألة دخوله إلى عالم الأدب الروائي بصورة فيها مصادفة الى حد كبير .. طبيب شاب وجد مسابقة أدبية قدم فيها أعمال بوليسية بشكل مغاير للمألوف فنجح و دخل عالم الأدب بهذا الأسلوب .. و هذا يعني أنه لم يكن شاباً مؤدلجاً يريد نقل (رسالة) معينة بصورة مُبطنة بداخل القالب الروائي ..
كما أن أكثر الاعتراضات على أدبه تجئ ممن يحمل خلفية نقدية أكاديمية تحمل (مقياساً) للأدب في يدها تقيس به و الويل لمن يخالفه ! برغم أن الأدب تطور عبر عدة مراحل و له أشكال كثيرة تجعل من مسألة (بناء الشخصيات) و غيرها من المقاييس المشهورة ، أمراً فيه نظر .. كافكا مثلاً كان يجرد الشخصية عامداً من كل ما يجلب اليها الاهتمام حتى جعل اسم بطل أحد أعماله هو مجرد حرف ! رفض حتى أن يُطلعك على اسم الشخصية ! هو يريد أن يوصل اليك رسالة و مضمون معين بلا تشتت كاسراً قواعد الأدب المعتادة .. ففي النهاية هي قواعد أنشأها بشر لهم رؤيتهم الخاصة ! كما أن الأدب الأمريكي المعروف بالمدرسة (البيهافيورية) و الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى و ازدهر بقوة و الذي كان من رجاله أدباء معروفين أمثال ارنست هيمنجواي و فيتزجيرالد ، اعتمد هذا الأدب على الأساليب السينمائية في رواياته (تماماً كما يفعل نبيل فاروق) و خاصة اعتماده على روايات التجسس و السلسلة السوداء .. و كان هذا على حساب الشخصيات و المدرسة الأدبية التي ترفض عدم الغوص في كل شخصية منها .. نبيل فاروق على أسوأ المقاييس ينتمي الى هذه المدرسة الأمريكية .. و هي قد أثبتت نجاحها بالفعل ..
اذن فمسألة الحكم على نبيل فاروق أنه أديب أم لا و التي يناقشها البعض بحماسة هي محسومة ان خرجنا من نطاق الأكاديمية المتحجر : نعم هو أديب .. أنشأ عوالماً خاصة جديدة و أبطالاً تعيش فيها و حصل على شعبية كبرى وسط الشباب .. كما أن رواية مثل (أرزاق) كافية لنفي شبهة السطحية و إنعدام الواقعية .. فقد قام ببناء شخصية بطلها جيداً مبتعداً عن السطحية المعتادة في تناول مشاعر الشخصيات المختلفة الجامدة عنده و التي يندر أن تتحول من نمط الى آخر (برغم سلاسله الطويلة .. ندر تواجد الشخصية المدورة بالمصطلح الأدبي) .. وهي الشخصية التي تتغير من حال لآخر .. وقد فعل ذلك لأنه كان يتوقع لهذه الرواية أن تتحول الى عمل تلفيزيوني .. أي أنه عرف أن الشريحة التي سيتم مخاطبتها مختلفة و بالتالي زاد من عمق رواياته .. و هذه مقدرة بكل تأكيد تعني أنه كان يعي مُبكراً مسألة مخاطبته للشباب و المراهقين في أعماله العادية و عدم ملاءمة توجيه نفس نوع الخطاب لباقي الشرائح العمرية .. قد يصعب عليه ترك (المدرسة البهافيورية) لإرتباط أسلوبه منها بلا فكاك .. لكنه بالفعل يملك قدرات على تجاوزها في بعض الأحيان ..
مادام نبيل فاروق أديباً .. إذن فمن المنطقي جداً الإعتراف بأنه كان الأكثر تأثيراً بصورة مذهلة بعد عصر نجيب محفوظ ! لا الغيطاني نجح في التأثير على ربع هذه الأجيال ولا الأسواني استطاع الوصول الى كل هذه الشرائح العمرية الصغيرة بكفاءة لينشئ أجيالاً تحفظ أسماء شخصيات الروايات التي قرأتها بسهولة و سلاسة .. حتى منافس قوي جداً له كان في رواياته عمق أكبر مثل أحمد خالد توفيق لم يستطع الوصول الى كل هذه الكتلة الضخمة المتنوعة ..
فهل كان بالفعل نبيل فاروق بريئاً تماماً من مسألة الأدلجة و صناعة الوعي الشعبي ؟
لا .. بالتأكيد لا .. ليس بريئاً تماماً .. لكنه في الأغلب لم يكن متعمداً ما صنعه كذلك !
كانت فترة الثمانينات حرجة جداً بالنسبة للمؤسسة الأمنية الحاكمة و على رأسها الجيش و المخابرات .. المزاج الشعبي انتشر فيه الصحوات الإسلامية و ثورة إيران تطل كالشبح المخيف لتلقي الهلع في قلوب الأنظمة الطاغوتية العميلة بأن الفكرة الإسلامية يمكن أن تصنع معجزة كبرى بهدم الجيوش .. طبعاً بالإضافة لورطة السوفييت في أفغانستان وقتها أمام القوى التي بدأت ترفع شعار العمل الجهادي .. في مصر بالذات كان الوضع شديد التأزم بمقتل السادات رئيس جمهورية تحوي أقوى جيش عربي وسط جنوده و صواريخه و دباباته بينما طائراته تحلق فوقه في مشهد عجيب في قوة رمزيته .. قتل على يد الإسلاميين بالذات برغم أن قرار التحفظ و الإعتقال التي أصدرها بحق المعارضة حوت أسماء علمانيين و اشتراكيين و نصارى بل كان فيها رأس النصارى المصريين برغم ما كان يمثله الأنبا شنودة وقتها من عشق لأساليب الإرهاب و صنع المشاكل الداخلية و الاستقواء بالخارج .. كل تلك الطوائف لم تصل له و لم تنفذ ذلك المشهد الختامي المبهر لديكتاتوريته بينما فعلها الإسلاميون أصعب الطوائف دخولاً الى الأجهزة الأمنية !
كان على الجهاز الأمني المصري إذن أن يجهز نفسه لمعركة ضخمة بعد مقتل السادات مع (الإرهابيين) من وجهة نظره .. و في مثل تلك الحالات كان لابد من صنع (وعي شعبي) يضع ثقته كلها في يد أجهزة الأمن و المخابرات بالذات .. المسألة لم تعد فقط تخص الجيش بل تخص الجماعة المخططة لسياسات الدولة .. تخص الدولة كلها .. لهذا ظهر على السطح مسلسلات و أفلام تمجد في امكانات المخابرات العامة و بطولاتها و تزيد من شعبية الجهاز الأمني الأشرس في مصر.. لم يكن ينطلي هذا طبعاً على أوساط المثقفين لكن ربما كان علمهم بالغرض الحقيقي من هذه الحملة الكبرى لبناء الثقة ، وهو ضرب الإسلاميين بكل أريحية بل و بتشجيع شعبي بعد ذلك ، هو السبب في غض الطرف .. خاصة أن جهاز المخابرات في أغلب رواياته لم يكن يكذب .. لكنه لم يكن يظهر الجانب القذر في عمله كذلك لتثبيت عرش الحكام الظلمة الديكتاتوريين ..
في وسط هذا الجو ظهرت كتابات نبيل فاروق .. متأثرة بما حولها من أجواء .. غير مؤدلجة في إطار ضد اسلامي لكنها كذلك تبني أساطير خيالية عن عمليات استخباراتية مصرية حالية (في زمنه طبعاً) بل و مستقبلية (في زمننا نحن الذي تخيل الأديب أن تكون مصر فيه هي أقوى دولة في العالم بمخابراتها العلمية!)
إذن روايات نبيل فاروق لها مُنطلق تنظيري تحول الى شعبي هي الأخرى .. لكنه مُنطلق تم تخطيطه في جهاز مخابراتنا و التقطه الأديب الكبير مع الملتقطين و سار عليه .. طبعاً لا يمكن تبرئة جهاز المخابرات المصري من مساعدته واستخدامه خاصة أن الأستاذ قد حكى عدة مرات عن لقاءات بينهما و ملفات لعمليات قاموا بإطلاعه عليها ! جهاز المخابرات المصري كان بالفعل يدرك ما يفعله بإستخدامه الأديب الموهوب .. يبني أجيالاً تضع ثقتها في يد أجهزة الأمن و بالذات المخابرات .. أجيالاً تعتقد أن بطل المخابرات المصرية هو أدهم صبري البطل العربي المثالي الأصيل الذي يواجه كافة قوى الغرب و الشرق و إسرائيل لمنع تدخلها في قرار الحكام المصريين المخلصين .. قبل أن تفاجأ هذه الأجيال عند ثورة يناير بأن بطل المخابرات المصرية هو عمر سليمان السفاح الكبير الذى يواجه كافة قوى الخير لمنع تدخلها في سيطرة الشرق و الغرب وإسرائيل على مصر وحماية الحكام المصريين أمثال جمال مبارك و أحمد شفيق !
يبدو كذلك أن نبيل فاروق نفسه أصيب بهذه الصدمة في نهاية عهد مبارك .. فتغيرت تيمة سلاسله قليلاً عند نهايتها و أصابها الإضطراب و التشكيك في كل شئ و منها الأجهزة الأمنية خاصة في سلسلة ملف المستقبل .. لقد عبراضطراب ختام الروايات و تشكيكها في مسلمات البنية القائمة عليها السلسلة كلها عن حجم الإضطراب الذي أصاب الدكتور في هذه الفترة خاصة بعد مأساة مرضه الشخصية .. لقد استخدمه منظري (الديكتاتورية) الاستخباراتيين لنقل تنظيراتهم و تغليفها في إطار (أدبي) بوليسي محترم جذاب بصورة طاغية .. لكن إنهيار دولة مبارك فضح كل شئ لأصحاب الوعي .. هكذا حاولت المخابرات استعادة بعض البريق المفقود بعد الثورة بصنع فيلم تسجيلي دعائي عن بطولاتها لكنه مر كالسراب من الوعي الشعبي .. و يوضح لجؤها الى هذا الأسلوب الدعائي المفضوح – وهو ما حاوله المجلس العسكري الحاكم وقتها أيضاً بأفلام تسجيلية مشابهة – مدى هشاشة تلك الدولة الأمنية بعد الثورة .. و حجم جريمة من ثبت أركانها وأعاد لها العافية مرة أخرى !
* بعد الأدب .. تجئ مرحلة السينما .. و لنبدأ بنماذج من السينما المصرية و ما تحويه من دلالات :
1) فيلم الناصر صلاح الدين :
هل هناك خداع حقيقي أكبر من تحويل الصراع الصليبي ضد المسلمين الى صراع وطني لا أثر للدين في جوهره ؟
هذا هو فيلم (الناصر صلاح الدين) الشهير .. الفيلم الذي ظهر في فترة (القومية العربية) عام 1963 .. و حمل قدراً مذهلاً من الرسائل التضليلية الصارفة عن حقيقة الصراع الإسلامي - الصليبي ..
ولا رسالة أقوى من أن يُصبح القائد المقرب من صلاح الدين مسيحياً يقاتل ضد الأوروبيين !
لماذا يقاتلهم ؟ لأنه عربي يُقاتل مع العرب من أجل الدفاع عن (وطنه العربي) !
لا أثر للدين إذاً في جوهر الصراع !
بل إن الجنون يصل الى ذروته بإظهار ريتشارد قلب الأسد القائد الصليبي السفاح على أنه مُجرد (مسيحي تقي خُدع بإسم الدين) !
فكيف يصبح (صلاح الدين) مُدافعاً عن العروبة و هو كُردي غير عربي ؟ لقد تم تجاهل هذه الحقيقة الواضحة و تم تعريب الرجل عنوة في هذا الفيلم لا لشئ سوى لإخفاء الرابط الحقيقي بينه و بين العرب ألا و هو الإسلام .. و بالتالي اخفاء جوهر الصراع ..
فلا صلاح الدين كان عربي .. و لا الصراع كان يتم باسم الدين لله و الوطن للجميع .. و لا الجيش كان يضم قادة مسيحيين .. و لا كانت الحروب الصليبية من أجل أموال .. بل كان يُصرف عليها ما لا يُتخيل من تجهيزات و يكفي أن تتصور زحف عشرات الجيوش لعدة دول أوروبية كبرى عبر أوروبا أو البحر المتوسط و على رأسها خير الأمراء و العسكريين لتعرف هول المشهد و حجم التكاليف المطلوبة لحملات كهذه .. فأي كنز هذا الذي كانوا يبحثون عنه ؟! لقد كانت حرب بإسم الصليب و من أجل الصليب .. تواجهها حرب بإسم الإسلام و من أجل رفعة دين الحق على دين وثنية الصلبان ..
ما هذا الفيلم إذن إلا حلقة جديدة من حلقات تحويل (التنظير) العلماني القومي الى (سينما) براقة رائعة تتغلغل في نفوس الشعب المُراد صنع وعيه و تشكيله في قالب (علماني عروبي قومي) ..
2) فيلم رد قلبي :
تأسيس نظرية هزيمة الأرستقراطية العفنة المتكبرة الظالمة متمثلة في عهد الملك على يد الفرسان النبلاء الشعبيين أبناء الطبقات الفقيرة المتواضعة ممثلين في الضباط الأحرار .. بمعنى آخر : تحويل هذه الأسطورة النظرية الكبرى التي سيتاجر بها الجيش لبقائه في الحكم عشرات السنوات بعدها .. الى أدب جذاب مقروء .. ثم الى النهاية الحتمية في فيلم سينمائي مؤثر خلاب ..
3) فيلم الأيدي الناعمة :
عام 1963 مرة أخرى .. الأمير (البرنس) الارستقراطي من بقايا الملكية الساقطة و الذي يعيش في مجتمع (عبد الناصر) الذي صعد بالبروليتاريا و جعل المساواة بين الجميع هي الأصل .. بل إن الفارق بين ذو الأيدي الناعمة (الأمير) و بين ذو الأيدي الخشنة العامل في هيئة السكة الحديد يصب لمصلحة الأخير بكل تأكيد ..
حسناً .. معانٍ لطيفة جداً .. لكن هل كان لها أثر على أرض الواقع .. أم كان هذا هو مجرد فيلم (ايديولوجي) آخر يحول تنظيرات (حتمية انتصار ثورة 1952) و تنظيرات (انتصار البروليتاريا في عهد ناصر) الى فيلم سينمائي لطيف ذو قصة مشوقة ؟
و ماذا تبقى بعد تلك السنوات في الذاكرة مؤثراً بقوة في الوعي الشعبي .. تنظير القوميين العرب و كتبهم أم الأفكار المُقدمة في فيلم (الأيدي الناعمة) ؟
أين في المقابل الأدب الإسلامي المقابل لكل هذا ؟
نعم هو غائب .. لكن لهذا أسباب متعددة ..
فقد مر الإسلاميون بعهد طويل من الظلام و القهر ، كان فيها المُعتقل و التعذيب أو الإنغلاق المجتمعي و الملاحقة الأمنية هي مفردات المشهد ، لا أحد يبدو قادراً على تصور أدب آخر وقتها غير أدب المعتقلات و التعذيب الوحشي .. الحكومات الإسلامية كانت مُصرة على تجفيف المنابع مبكراً و القضاء على الرموز القيادية المحتملة إن كانوا من النوابغ ..
كما أن أدب المعتقلات و حجم المآسي الضخم كان يعرقل مسألة وضع أدب منتظم مجاوز لهذه المصيبة الكبرى التي يعيش فيها الفرد .. من ذا الذي سيكتب قصص عن الحب الشريف أو يصف بلابل و زهور و عوالم أخرى و هو يعيش مهدداً بالإعتقال و التعذيب طوال الوقت ؟
فبين إسلامي حركي يغلب عليه النشاط و يقل عنده التفكير الطويل ، خاصة أن التنظيمات الحركية عامة لا تحب من هو مستقل التفكير كثيراً عنها ، وبين إسلامي منغلق على عالم تم بعثه من العصور الوسطى ليعيش فيها بين طيات كتب التراث منفصلاً عن واقعه و مجتمعه ، و بين إسلامي مُفكر سلبي ذائب تماماً في مجتمعه لا يستطيع تغييره يتلقى منه منتجاته فقط ، وبين إسلامي يعيش مأساة الملاحقات الأمنية لتشبثه بفكرة الرد العسكري على الهجمة العالمية على دينه و رؤيته لعدم جدوى أي حل آخر .. كان هذا هو الغالب على الإسلاميين ..
و حتى التنظير الكثير الذي وجدوه لم يحاول الكثيرين نقله الى الخطوة الأخرى الضرورية .. نقله الى فن الأدب .. ناهيك طبعاً عن السينما .. و من حاول قام بإستدعاء حوداث و أقصوصات من عصور السلف أو الأنبياء ليقصها رافضاً أحياناً لفكرة الإبداع خارج هذا النطاق .. بل حصر الإبداع في كيفية عرض هذه الأقصوصات بطريقة مبهرة تشد الناس و تجذبهم ..
إن تضييع مزيد من الوقت في عدم تشجيع نقل هذا التنظير الذي يملكه الإسلاميون الى أدب ثم سينما هو هدر غير معقول بعد تجارب تلك السنوات الطوال .. الانتقال الى حالة (صناعة الوعي الشعبي) مفقودة بالمقاييس الحديثة .. لازال البعض يصر على أن المساجد هي الأسلوب الأفضل لكن هناك فئات كبرى تمثل غالبية شرائح المجتمع لن تقبل ذلك الأسلوب الدعائي التقليدي .. لابد من كسر قيود التقليدية و النظر الى الأدب الروائي و الفن السينمائي بصورة جادة جداً ..
كذلك لابد أن تكون هناك – في الدولة الإسلامية – رقابة مشددة على (مصادر التنظير) .. فمن غير المعقول أن يتم فتح الباب لأديب تربيته كانت حصرية على كتابات ماركس و إنجلز أو جون ستيوارت مل ومونتسكيو ! إن التحكم في مصادر التنظير و بالتالي التحكم في العملية التعليمية و تكون النخب لن يتم إلا على يد سلطة دولة .. و أي محاولة أخرى ساذجة من طراز عبث الحريات الليبرالية و ترك كل متلاعب بالشباب يأخذ فرصته كاملة ثم الإدعاء أن (فكره لن يحارب إلابفكر) أثبت التاريخ و الواقع فسادها .. يجب أن تكون هناك رقابة بالتأكيد على الأدب الذي يحوي مصادر تنظير مخالفة للشريعة ..
لكن أليس هذا ينبئ بخطر محاكم التفتيش ؟
بكل تأكيد الإفراط في هذه الرقابة مُضر .. و لا يوجد أديب سيبدع بجدية و هو شاعر بمقص الرقيب فوق رقبته !
و الحل هو التحكم مبدأياً في التنظيرات و الخلفيات الممكن السماح لها بالإنتشار .. ثم ترك كل أديب يبدع كما يشاء .. المهم أن تكون خلفيته الإسلامية قوية و إيمانه بالقضية بشكل عام على ما يرام .. دون الخوض في مسائل مذهبية و انتمائية لأي تيار أو جماعة .. المهم أن يكون من أهل السنة عامة ..
رقابة على بوابة الداخلين الى حديقة فن الأدب و السينما .. لا رقابة عليهم بداخل الحديقة تضرب على أيديهم بقوة .. فليكن هذا هو دور المجتمع و علماء الدين لتقويمه إن اشتط في خطئه .. لا مهمة الدولة ..
لكن هل معنى ذلك أن الإسلاميين يستطيعون بمجرد كتابة الأدب ، غزو عقول هذا الوعي مباشرة ؟ هل من السهل اعطاء الكثير من مفاهيم الإسلام الكبرى عبر الأدب مهما كانت صادمة لواقع الأمة حالياً ؟
لا .. لن يكون الأمر سهلاً أبداً .. و سيحتاج الاسلاميون لإحترام أحد أهم فنون تغيير الوعي الشعبي : الكوميديا ..
* الكوميديا : حصان طروادة
كيف يمكن تقديم فكرة صادمة جداً و غير معتادة للمجتمع بحيث يتقبلها مع الوقت أو على الأقل لا يثير موجة هائلة من الثورة و الرفض ؟
هل يقوم التنظير بالإختفاء في شكل أدبي درامي ؟ عاطفي ؟ أي الأشكال أفضل ؟
هناك عدة طرق طبعاً و براعة الأديب و السينمائي في اخراجها معلبة يقبلها الشعب هي الفيصل النهائي للنجاح .. لكن بكل تأكيد الكوميديا دوماً كانت الأكثر نجاحاً ..
هناك مثلاً فكرة الشذوذ الجنسي .. المزاج الشعبي الطبيعي يرفضها حتى في الولايات المتحدة نفسها الى الآن .. برغم كل نجاح السينمائيين و الأدباء في تطبيع الشذوذ بين طوائف و فئات ضخمة في الشعب الأمريك إلا أنه لازال في حالة رفض الى حد ما مع عدد لا يستهان به .. لكن برغم ذلك ما تحقق النجاح بصورة موسعة حقيقية للتطبيع إلا مع نهاية القرن الماضي .. عندما بدأت أمثال (إيلين ديجينير) الشاذة تقوم بعمل مسلسل كوميدي يُضحك الشعب و يعلقها به .. ثم مع مرور المسلسل الشهير نكتشف أنها شاذة جنسياً .. بعد ارتباط الجماهير بها و بمواقفها و مقالبها المضحكة .. من نفس هذا العالم تجئ واندا سيكس .. الكوميديانة الشاذة الشهيرة .. كلتاهما خلقا قبولاً شعبياً لتطبيع مسألة الشذوذ و قبول الشواذ حتى بين من يرفضون هذا الأمر ..
نفس الأمر يقوم به آدام ساندلر الكوميديان الأمريكي المعروف .. برغم عدم شذوذه إلا أن هناك تيمة واضحة في أغلب أفلامه لتطبيع الشذوذ بتقديمه في إطار كوميدي .. في الحين الذي خشيت فيه جودي فوستر إعلان شذوذها لوقت قريب كان هؤلاء الكوميديين يقومون بتطبيع الشذوذ الجنسي بكل قوة و ثقة و إستمرار .. الفكرة المخيفة مغلفة بقالب مضحك يصعب على النفس التجهم عند رؤيته ..
هكذا ينتقل تنظير (تطبيع الشذوذ الجنسي) من فكرة نخبوية تجريدية الى حياة في قصص و روايات ثم الى متعة مضحكة و مثيرة في السينما ..
ربما لهذا السبب بالذات كان استخدام عادل امام في منتصف التسعينيات – حين حمي وطيس المواجهة النهائية بين النظام و القوى الاسلامية بشكل عام والجهادية الداخلية بشكل خاص – ليقدم فيلماً كوميدياً يصنع جرحاً غائراً في وعي الشعب المصري .. حين لم يجروء الأغلبية على تقديم هذا المشهد الهجومي على الإسلام و مظاهره بتصويره كدين عنف و إرهاب ، وتصوير أعداءه على أنهم أهل الإعتدال .. فعلها هو بقالب كوميدي مضحك .. و استمر على خطاه لسنوات طويلة حتى لم يعد يخلوا فيلم له تقريباً من مشهد يسخر فيه بطريقة كوميدية من أحد الشعائر أو أهل الإلتزام ..
فعلها عادل إمام بكفاءة و استطاع جعل المزاج الشعبي يقبل (تطبيع) السخرية من الرموز الإسلامية .. كانت الكوميديا مرة أخرى هي حصان طروادة الذي يقتحم حصون الوعي الشعبي و تصنعه .. تحول تنظير فرج فودة الى أدب لينين الرملي و وحيد حامد ثم لشدته على الوعي الشعبي تم استخدام الحصان الخشبي الأشهر لتقديمه في السينما : الكوميديا ..
لقد قام أهل الكوميديا فعلاً بنقل وصف (الإرهابي) من النظام القمعي الى الإسلامي الذي يواجهه .. في أمريكا نقلوا وصف (الشاذ) من الرجل أو المرأة الشواذ الى (الطبيعي) الذي يحاربهما .. أصبح من يرفضهم هو (الشاذ) لأن (الطبيعي) لابد أن يقبلهما ! نجحت الكوميديا فعلاً في قلب مفاهيم كان يبدو استحالة قلبها منطقياً ..
فإن كان هؤلاء يعرفون خطورة الكوميديا .. فما بال الإسلاميون ينظرون لهذا الأمر دائماً على أنه لعب و هذر ؟ ان بعض أطروحات الإسلام الآن يعترف الجميع بأنها غير مقبولة لشعوب ما بعد الإستعمار الغارقة في علمانيتها .. لهذا يسلمون بضرورة تدرج الشريعة .. فلماذا لا يتم استخدام سلاح الكوميديا السينمائية لغزو القلوب و العقول المغلقة و لصناعة وعي شعبي حقيقي يعظم مفاهيم الإسلام ؟
* على المستوى العالمي .. هل توجد دلائل على هذه المتوالية ؟
مر الغرب بشكل عام بعدة مراحل فلسفية عاشها.. كان منها (ما بعد الحداثة) .. منذ سنوات قليلة ظهرت هناك إرهاصات على أننا نعيش مرحلة (بعد ما بعد الحداثة) كذلك !
لكن ما هي هذه الفسلفة ؟ ما هو شكل تنظيرها ؟
تقوم هذه الفلسفة على عدة مبادئ مثل تفكيك المفاهيم و الدلالات .. جعل الصيرورة هي مركز الكون .. أي أن كل شئ سيتغير .. كل كلمة دالة على معنى و مفهوم معين مصيرها التغيير فيتم تفكيك معناها و بالتالي ينفصل الدال عن المدلول .. هذه هي ما بعد الحداثة بشكل مخل جداً ..
من منا إذن يعرف جاك دريدا أحد فلاسفة التفكيك و ما بعد الحداثة ؟ كم شخص على مستوى العالم كله قرأوا كتبه و تنظيراته الجامدة ؟
و من الذي حول هذه التنظيرات الى أدب و فنون ؟ ثم من الذي حولها الى سينما ؟
إن دراسة جدية لحجم التأثير المختلف لكل من (التنظير) و (الأدب) و (السينما) يجعلك تعرف أهمية العنصر الأخير في الوعي الشعبي العالمي بأكمله ..
و لنأخذ جولة مثلاً في بعض أفلام السينما الأمريكية المابعد حداثية .. تلك الأفلام الخلابة و التي تحوي بداخلها مفاهيم ما بعد حداثية مبسطة قابلة للإبتلاع و المضغ من قبل الشعب :
1) فيلم (هاري بوتر Harry potter) :
نعم ستنفعل كثيراً جداً مع الشخوص اللطيفة التي تمثل جانب الخير في الرواية .. ستنفعل مع مأساة (هاري) الشخصية و قصة الحب الخفية بين (رون) و (هرميوني) .. قد تبدوا هنا المفاهيم واضحة في ثنائيات (خير - شر) أو (حب - كره) لكنك تنسى أن الفيلم أساساً جعلك تعتبر السحر أمر لطيف و مقبول ! عزيزي .. هنا الخير هو ساحر يستخدم تعويذات من الكتب الملعونة للقرون الوسطى ! فقط كانت البراعة أنه في وقت مبكر جداً تم فصلك عن العالم الطبيعي و اظهار قبحه الشديد في أهل (هاري) مقابل جعل العالم المرح الصاخب المُبهِر هو عالم السحر !
حتى في هذا الفيلم بأجزائه الثلاثة تم استخدام طريق ملتف جداً لـ (قبول) الآخر و(التطبيع) معه حتى لو كان ساحراً يعيش حياته لتعلم هذه التعاويذ ! و ما يزيد من قرائن نفي براءة هذا الفيلم مسألة التشويه المتعمد لعالم البشر الطبيعيين في مرحلة مُبكرة جداً .. ليغيب الحاجز بين (الطبيعي) و (الشاذ) فينفصل مدلول كلمة (ساحر) لديك عن ما تدل عليه !
2) فيلم شريك Shrek :
ما هو السئ و ما هو الجيد في فيلم (شريك Shrek) ؟
ما هو الخير و ما هو الشر ؟
كيف يصبح الإنتصار هو العودة للوجه القبيح و ترك العالم النظيف الطبيعي الى عالم المستنقع القذر ؟
كيف يصبح التجشوء و إخراج الريح و الاستحمام في القاذورات و أكل الدود و كرات العيون هما الطبيعة التي يمكن تفهمها بل و التفاعل معها و قبولها بينما الإنسان المعادي لكل ذلك هو الشر ؟
هل هناك فصل للدال و المدلول في كل مناحي الحياة أكثر من هذا ؟ هل هناك تفكيك لكافة المفاهيم أكبر من هذا ؟
القبح هو الجيد و الجمال هو السئ .. الأفعال الشاذة المذمومة هي الممدوحة المستحسنة و الأفعال الطبيعية هي المستهجنة !
هل هناك (ما بعد حداثة) أكثر من هذا ؟ هل يخلو هذا الفيلم من الأيدولوجية و زرع الأفكار و صناعة وعي شعبي معين عن طريق تغليف تنظير الفلاسفة الجامدين بغلاف القصص اللامع ثم غلاف الأفلام بالغ الروعة ؟
3) فيلم أوتيل ترانسلفانيا :
مرة أخرى مع أفلام الكارتون .. مع فيلم (أوتيل ترانسلفانيا Hotel Transylvania) .. حين يصبح دراكيولا مصاص الدماء و الزومبي و باقي الوحوش هم رموز العالم الذي يتفاعل معه المُتفرج و يحبه .. حين يصبح قبول البشر لتلك الوحوش هو الأمر المُنتظر الذي يجعل المُشاهد يشعر بالراحة و السعادة ! بل يذهب الفيلم الى ما هو أبعد بمشهد رمزي قوي حين يقوم البشر بمساندة مصاص الدماء عن طريق حجب ضوء الشمس عنه .. مسألة (قبول الآخر) مهما كان شاذاً هنا واضحة جداً .. فهل هناك شذوذ أكثر من وحش مصاص دماء و مستذئبين ؟ تيمة (ما بعد الحداثة) مرة أخرى طافحة في الفيلم .. ما هو الشر و ما هو الخير حقاً ؟ ألا يمكن أن يكون دراكيولا مصاص الدماء هو الخير بينما من يعاديه هو الشرير ؟ مزيد من الفوضى في المفاهيم و فصل مدلول كل كلمة عن ما تدل عليه ..
4) فيلم (الرجال اكس Xmen) :
هذا الفيلم بالذات رموزه قوية جداً شديدة الوضوح في ما بعد حداثيتها .. لا خير حقيقي و لا شر حقيقي .. لا شاذ و لا طبيعي .. الطبيعي هو الشاذ و الشاذ هو الطبيعي .. المطلوب هو (قبول) الآخر و (التطبيع) معه بفصل معاني كلمات كل كلمة عنها .. لماذا تعتبر ذلك الشاب ذو الأجنحة هو الشاذ بينما أنت الطبيعي ؟ لماذا لا يكون هذا الرجل الأزرق المُستذئب هو الخير بينما البشري المُتأنق الذي يرفضه هو الشر ؟
هنا يظهر في مسار الفيلم كله مفهوم (الصيرورة) كمركز للحكم على الأشياء .. كل شئ يتطور باستمرار فلا يصلح وصف هذا التطور بالشذوذ ! مرة أخرى الفلسفة المابعد حداثية و كمونها في روايات ثم أفلام شعبية تجارية تنشر هذه الفلسفة على نطاق واسع دون الأسلوب التوجيهي الممل المرفوض .. تنشرها في صورة مشاهد مُبهِرة لكباري تتراقص في الهواء و عنف يخطف الأنفاس من تلاحقه و روعة تصويره .. و عن هذه الملحوظات و غيرها كتب المفكر الفرنسي جورج كلود جيلبرت مقاله : الرجال اكس .. أبطال ما بعد الحداثة ..
* إذن فحتى بالنسبة للوسط العالمي .. المرور بهذه الخطوات هو الضروري و الأفضل لصنع الوعي الشعبي .. التنظير .. الأديب و الفنان المتأثر .. ثم أخيراً السينما .. لا غنى عن هذه الخطوات الضرورية .. مسألة الإعتماد على التلقين في العصر الحديث هذا غير مضمونة التأثير و القوة .. ان أردت نقل الفكر الى مستوى الشعوب لا مستوى النخب فلابد من اللجوء الى هذا الطريق المُلتف .. و المضمون كذلك .. بهذا يمكن صناعة الوعي الشعبي ..