من آداب المعلمين والمتعلمين ...
للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي
إخلاص النية :
يتعين على أهل العلم من المتعلمين والمعلمين أن يجعلوا أساس أمرهم الذي يبنون عليه حركاتهم وسكناتهم الإخلاص الكامل والتقرب إلى الله تعالي بهذه العبادة التى هي أجل العبادات وأكملها وأنفعها وأعمها نفعاً ويتفقدوا هذا الأصل النافع في كل دقيقٍ من أمورهم وجليل ، فإن درسوا ، أو بحثوا أو ناظروا أو سمعوا أو استمعوا ، أو كتبوا أو حفظوا ، أو كرروا دروسهم الخاصة ، أو راجعوا عليها أو على غيرها الكتب الأخرى ، أو جلسوا مجلس علم ، أو نقلوا أقدامهم لمجالس العلم ، أو اشتروا كتاباً ، أو ما يعين على العلم ، كان الإخلاص لله ، واحتساب أجره وثوابه ملازماً لهم ، ليصير اشتغالهم كله قوة وطاعة ، وسيراً إلى الله وإلى كرامته ، وليتحققوا بقوله ص : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة )) أخرجه مسلم ( 4/2074 ) عن أبي هريرة .
فكل طريق حسي أو معنوي يسلكه أهل العلم يعين على العلم أو يحصله ، فإنه داخل في هذا .
طريقة الطلب :
ثم بعد هذا يتعين البداءة بالأهم فالأهم من العلوم الشرعية ، وما يعين عليها من علوم العربية . وتفصيل هذه الجملة كثير معروف يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص .
وينبغي أن يسلك أقرب طريق يوصل إلى المقصود الذي يطلبه .
وأن ينتقي من مصنفات الفن الذي يشتغل فيه أحسنها وأوضحها ، وأكثرها فائدة ، ويجعل جل همه واشتغاله بذلك الكتاب حفاظاً عند الإمكان أو دراسة تكرير بحيث تصير معانيه معقولة في ذهنه محفوظة ، ثم لا يزال يكرر ما مر عليه ويعيده .
ما ينبغي علي العالم لتلميذه :
وعلي المعلم أن ينظر إلى ذهب المتعلم ، وقوة استعداده أو ضعفه ، فلا يدعه يشتغل بكتاب لا يناسب حاله ، فإن هذا من عدم النصح ، فإن القليل الذي يفهمه ويعقله خير من الكثير الذي هو عرضة لعدم الفهم وللنسيان .
وكذلك يلقي عليه من التوضيح والتقرير لدرسه بقدر ما يتسع فهمه لإدراكه ، ولا يخلط المسائل بعضها ببعض .
وينبغي أن لا ينتقل من نوع من أنواع المسائل إلى نوع أخر حتى يتصور ، ويحقق السابق ، فإنه درك للسابق وبه يتوفر الفهم على اللاحق .
فأما إذا أدخل المسائل والأنواع بعضها ببعض قبل فهم المتعلم ، فإنه سبب لإضاعة الأول ، وعدم فهم اللاحق ، ثم تتزاحم المسائل التي لم يحققها على ذهنه فيملها ، ويضيق عطنه عن العود إليها ، فلا ينبغي أن يهمل هذا الأمر .
وعلي المعلم النصح للمتعلم بكل ما يقدر عليه من التعليم ، والصبر على عدم إدراكه ، وعلى عدم أدبه ، وجفائه ، مع شدة حرصه وملاحظته لكل ما يقومه ويهذبه ويحسن أدبه .
لأن المتعلم له حق علي المعلم ، حيث أقبل على الاشتغال بالعلم الذي ينفعه وينفع الناس ، وحيث توجه للمعلم دون غيره ، وحيث ما كان يحمله من العلم عن المعلم هو عين بضاعة المعلم ، فيحفظها وينميها ، ويتطلب بها المكاسب الرابحة ، فهو الولد الحقيقي للمعلم الوارث له ، قال تعالى :
( فهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5)رِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(مريم: الآية6)
والمراد : وراثة العلم والحكمة .
فالمعلم مأجور على نفس تعليمه ، سواء أفهم المتعلم أو لم يفهم ، فإذا فهم ما علمه ، وانتفع به بنفسه ، ونفع غيره ، كان أجراً جارياً للمعلم ما دام ذلك النفع متسلسلاً متصلاً . وهذه تجارة بمثلها يتنافس المتنافسون .
فعلى المعلم أن يسعى سعياً شديداً في إيجاد هذه التجارة وتنميتها ، فهي من عمله ، وآثار عمله .
قال تعالى :
( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)(يّـس: من الآية12)
فما قدموا : ما باشروا عمله ، وآثارهم : ما ترتب على أعمالهم من المصالح والمنافع ، أو ضدها في حياتهم وبعد مماتهم .
وينبغي أن يرغب المتعلم بكل طريق ، وينشطه ولا يمله بإشغاله بما يعسر على فهمه من أنواع العلم ومفرداته .
آداب الطالب :
وعلى المعلم أن يوقر معلمه ، ويتأدب معه غاية ما يقدر عليه ، لما له من الحق العام والخاص .
حق العالم العام :
أما العام : فإن معلم الخير قد استعد لنفع الخلق بتعليمه وفتواه ، فحقه على الناس حق المحسنين ، ولا إحسان أعظم وأنفع من إحسان من يرشد الناس لأمر دينهم ويعلمهم ما جهلوا ، وينبههم لما عنه غفلوا ، ويحصل من الخير وانقماع الشر ، ونشر الدين والمعارف النافعة ما هو من أنفع شيء للموحدين ، ولمن أتى من بعدهم من ذريتهم وغيرهم ، فلولا العلم كان الناس كالبهائم في ظلمة يتخبطون فهو النور الذي يهتدي به في الظلمات ، والحياة للقلوب والأرواح والدين والدنيا ، والبلد الذي ليس فيه ما يبين للناس أمور دينهم ويرشدهم لما ينتابهم مما هم في غاية الضرورة إليه ، فقد أهله من ضروراتهم ومصالحهم ما يضر فقده بدينهم ودنياهم .
فمن كان هذا إحسانه ، وأثره علي الخلق كيف لا يجب على كل مسلم محبته وتوقيره ، والقيام بحقوقه ؟ !
حق العالم الخاص :
أما حقه الخاص على المتعلم ، فلما بذله من تعليمه ، الحرص علي ما يرشده ويوصله إلى أعلى الدرجات ، فليس نفع الآباء والأمهات نظيراً لنفع المعلمين المربيين للناس بصغار العلم قبل كباره ، الباذلين نفائس أوقاتهم ، وصفوة أفكارهم في تفهيم المسترشدين بكل طريق ووسيلة يقدرون عليها .
وإذا كان من أحسن إلي الإنسان بهديةٍ مالية ينتفع بها ثم تزول وتذهب له حق كبير على المحسن إليه ، فما الظن بهدايا العلم النافع الكثيرة المتنوعة الباقي نفعها ما دام حياً وبعد مماته ، المتسلسل بحسب حال تلك الهدايا ، فحينئذ يعرف أن له ممن الحق والتوقير وحسن الأدب والوقوف مع إشارته ، وعدم الخروج عما أشار إليه مما ينفعه من الأمور التي قد جربها وهو أعرف بها منه من كيفيات التعليم ونحوها ما ليس لغيره .
احترام العالم :
وليجلس بين يديه متأدباً ، ويظهر غاية حاجته إلى علمه ،ويدعوا له حاضراً وغائباً ، وإذا أتحفه بفائدة أو توضيح لمشكل ، فلا يظهر أنه قد عرفه قبله ، وإن كان عارفاً له ، بل يصغي غليه إصغاء المتطلب المتطلب بشدة إلى الفائدة . هذا فيما يعرفه ، فكيف بما لم يعرفه ، ولهذا كان هذا الأدب مستحسناً مع كل أحد في العلوم والمخاطبات في الأمور الدينية والدنيوية .
العمل إذا أخطأ المعلم :
وإذا أخطأ المعلم في شيء فلينبهه برفق ولطف بحسب المقام ، ولا يقول له : أخطأت ، أو ليس الأمر كما تقول ، بل يأتي بعبارة لطيفة يدرك بها المعلم خطأه من دون أن يتشوش قلبه ، فإن هذا من الحقوق اللازمة وهو أدعى إلى الوصول إلى الصواب ، فإن الرد الذي يصحبه سوء الأدب وإزعاج القلب يمنع من تصور الصواب ومن قصده .
الرجوع عن الخطأ :
وكما أن هذا لازم على المتعلم ، فعلي المعلم إذا أخطأ أن يرجع إلى الحق ، ولا يمنعه قول قاله ثم رأى الصواب في خلافه من مراجعة الحق والرجوع إليه ، فإن هذا علامة الإنصاف والتواضع للحق فالواجب اتباع الصواب ، سواء جاء علي يد الصغير أو الكبير .
ومن نعمة الله علي المعلم أن يجد من تلاميذه من ينبهه على خطئه ، ويرشده إلى الصواب ، ليزول استمراره على جهله فهذا يحتاج إلى شكر الله تعالى ، ثم على شكر من أجري الله الهدى على يديه متعلماً كان أو غيره .
قول العالم : الله أعلم فيما لا يعلم :
ومن أعظم ما يجب علي المعلمين أن يقولوا لما لا يعلمونه : الله أعلم ، وليس هذا بناقص لأقدارهم ، بل هذا مما يزيد قدرهم ، ويستدل به على كمال دينهم ،وتحريهم للصواب .
فوائد التوقف عما لا يعلم :
وفي توقفه عما لا يعلم فوائد كثيرة .
منها : أن هذا هو الواجب عليه .
ومنها أنها إذا توقف وقال : الله أعلم فما أسرع ما يأتيه علم ذلك من مراجعته غيره فإن المتعلم إذا رأي معلمه قد توقف جد واجتهد في تحصيل علمها ، والتحاف المعلم بها ، فما أحسن هذا الأثر .
ومنها أنه إذا توقف فيما لا يعرف ، كان دليلاً على ثقته وأمانته وإتقانه فيما يجزم به المسائل ، كما أن من عرف منه الإقدام على الكلام فيما لا يعلم كان ذلك داعياً للريب في كل ما يتكلم به ، حتى في الأمر الواضحة .
ومنها : أن المعلم إذا رأي منه المتعلمون التوقف فيما لا يعلم كان ذلك تعليماً لهم وإرشاداً لهذه الطريقة الحسنة ، والإقتداء بالأحوال والأعمال ابلغ من الإقتداء بالأقوال .
المناظرة بين المتعلمين :
ومما يعين على هذا المطلوب أنه يفتح المعلم للمتعلمين باب المناظرة في المسائل والاحتجاج ، وأن يكون القصد واحداً ، وهو إتباع ما رجحته الأدلة ، فإنه إذا جعل هذا الأمر نصب عينيه وأعينهم تنورت الأفكار وعرفت المآخذ والبراهين، واتبعت الحقائق وكان القصد الأصلي معرفة الحق وإتباعه .
ذم التعصب :
فالحذر الحذر من التعصب للأقوال والقائلين ، وهو أن يجعل القصد من المناظرة والمباحثة نصر القول الذي قاله ، أو قاله من يعظمه ، فإن التعصب مذهب للإخلاص ، مزيل لبهجة العلم ، معم للحقائق ، فاتح باب الحقد والخصام الضار ،كما أن الإنصاف هو زينة العلم وعنوان الإخلاص والنصح والفلاح .
التحذير من طلب العلم للدنيا :
ثم الحذر الحذر من طلب العلم للأغراض الفاسدة والمقاصد السيئة من المباهاة ، والمماراة ، والرياء ،والسمعة ، وأن يجعله وسيلة للأمور الدنيوية والرياسة ، فليست هذه حال أهل العلم الذين هم أهله في الحقيقة ومن طلب العلم أو استعمله في أغراضه السيئة فليس له في الآخرة من خلاق .
العمل بالعلم :
ومن أعظم ما يتعين على أهل العلم الاتصاف بما يدعوا إليه العلم من الأخلاق ، والأعمال ، والتعليم ، فهو أحق الناس بالاتصاف بالأخلاق الجميلة ، والتخلي من كل خلق رزيل ،وهم أولى الناس بالقيام بالواجبات الظاهرة والباطنة وترك المحرمات لما تميزوا به من العلم والمعارف التي لم تحصل لغيرهم ،ولأنهم قدوة للناس ،والناس مجبولون على الإقتداء بعلمائهم شاءوا أم أبوا في كثير من أمورهم ، ولأنهم يتطرق إليهم من الاعتراضات والقوادح عندما يتركون ما يدعوا إليه العلم أعظم مما يتطرق على غيرهم .
وأيضاً فكان السلف يستعينون بالعمل بالعلم علي العلم فإن عمل به استقر ودام ونما وكثرت بركته ،وإن ترك العمل به ذهب أو عدمت بركته ، فروح العلم وحياته وقيامه إنما هو بالقيام به عملاً وتخلقاً ، وتعليماً ونصحاً ولا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم .
طريقة التعليم :
وينبغي سلوك الطريق النافع عند البحث تعلماً وتعليماً ، فإذا شرع المعلم في مسألة وضحها ، وأوصلها إلي أفهام المتعلمين بكل ما يقدر عليه من التعبير ، وضرب الأمثال ، والتصوير والتحرير.
ثم لا ينتقل منها إلى غيرها قبل تفهيمها للمتعلمين ، ولا يدع المتعلمين يخرجون من الموضوع الذي لم يتم تعليمه وتقريره إلى موضوع آخر حتى يحكموه ويفهموه ، فإن الخروج من الموضوع إلى غيره قبل الانتهاء منه يحرم الفائدة كما تقدم .
تعاهد محفوظات المتعلمين :
وينبغي تعاهد محفوظات المتعلمين ومعلوماتهم بالإعادة والامتحان ، والحث علي المذاكرة والمراجعة ،وتكرار الدرس فإن التعلم بمنزلة الغرس للأشجار ، الدرس والمذاكرة والإعادة بمثابة السقي لها وإزالة الأشياء الضارة عنها ، لتنموا وتزداد على الدوام .
أدب الزمالة :
وكما أن على المعلم توقير معلمه ، والأدب معه ، فكذلك أقرانه ، والمتعلمون معه عليه من مراعاة حقوقهم ، والأدب معهم أعظم من حقوق الأصحاب بعضهم على بعض فالصحبة في طلب العلم تجمع حقوقاً كثيرة ، لان لهم حق الأخوة والصحبة ، وحقوق الانتماء إلى معلمهم وأنهم بمنزلة أولاده ، وحقاً لنفع بعضهم بعضاً
ولهذا ينبغي أن لا يدع ممكنناً من نفع من يقدر علي نفعه منه بتعليمه ما يجهل ، والبحث معه للتعاون على الخير وإرشاده لما فيه نفعه .
وينبغي أن يكون اجتماعهم في كل وقت غنيمة يتعلم فيها القاصر ممن هو اعلي منه ويعلم العارف غير العارف ويتطارحون من المسائل النافعة وليجعلوا همهم معقوداً علي ما هم بصدده .
مضار الاشتغال بالناس :
وليحذر من الاشتغال بالناس ، والتفتيش عن أحوالهم ، والعيب لهم ، فإن ذلك إثم حاضر ، والمعصية من أهل العلم أعظم منها من غيرهم ، ولأن غيرهم يقتدى بهم ، ومن كان طبعه الشر من غيرهم جعلهم حجة له ، ولأن الانشغال بالناس يضيع المصالح النافعة ، والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره .
القناعة باليسير :
واعلم أن القناعة باليسير والاقتصاد في أمر المعيشة مطلوب من كل أحد ، ولا سيما المشتغلون بالعلم ، فإنه كالمتعين عليهم ، لأن العلم وظيفة العمل كله أو معظمه ، فمتى زاحمته الأشغال الدنيوية والضروريات حصل النقص بحسب ذلك ، والاقتصاد والقناعة من أكبر العوامل لحصر الأشغال الدنيوية ، وإقبال المتعلم على ما هو بصدده .
بث العلم :
ومن آداب العالم والمتعلم النصح وبث العلوم النافعة بحسب الإمكان حتى ولو تعلم الإنسان مسألة واحدة ، ثم بثها كان من بركة علمه ، ولأن ثمرات العلم أن يأخذه الناس عنك فمن شح بعلمه ، مات علمه بموته وربما نسيه وهو حي ، كما أن من بث علمه كان حياة ثانية ، وحفظاً لما علمه ، وجازاه الله من جنس عمله
تأليف القلوب :
ومن أهم ما يتعين على أهل العلم معلمين أو متعلمين ، السعي في جمع كلمتهم ، وتأليف القلوب على ذلك وحسم أسباب الشر والعداوة والبغضاء بينهم وأن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم ، ويسعون له بكل طريق ، لأن المطلوب واحد والقصد واحد ، والمصلحة مشتركة فيحققوا هذا الأمر بمحبة كل من كان من أهل العلم ، ومن له قدم فيه واشتغال أو نفع ، ولا يدعون الأغراض الضارة تملكهم وتمنعهم من هذا المقصود الجليل ، فيحب بعضهم بعضاً ويذب بعضهم عن بعض ، ويبذلون النصيحة لمن رأوه منحرفاً عن الآخر ، ويبرهنون على أن النزاع في الأمور الجزئية التي تدعوا إلى ضد المحبة والاتلاف لا تقدم على الأمور الكلية التي فيها جمع الكلمة .
ولا يدعون أعداء العلم من العوام وغيرهم يتمكنون من إفساد ذات بينهم ، وتفريق كلمتهم .
من فوائد الائتلاف
فإن في تحقيق هذا المقصد الجليل والقيام به من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو لم يكن فيه إلا أن هذا هو الدين الذى حث عليه الشارع بكل طريق وأعظم من يلزم القيام به أهله ، وأنه من أعظم الأدلة علي الإخلاص والتضحية اللذين هما روح الدين، وقطب دائرته ، وأن بهذا الأمر يتصف العلبد أن يكون من أهل العلم الذين هم أهله الذين ورد في الكتاب والسنة في مدحهم والثناء عليهم ما لا يتسع هذا الموضع لذكره .
وفيه أيضاً من تكثير العلم ، وتوسعة الوصول إليه ، وتنوع طرقه ما هو ظاهر فإن أهل العلم إذا كانت طريقتهم واحدة تمكن أن يتعلم بعضهم من بعض ، وأن يعلم بعضهم بعضاً ،وإذا كان كل طائفة منهم منزوية عن الأخرى ، منحرفة عنها ، انقطعت الفائدة وحل محلها ضدها ، من حصول البغضاء والتعصب والتفتيش من كل منهما عن عيوب الطائفة الأخرى ، وأغلاطها والتوسل به للقدح ، وكل هذا مناف للدين والعقل ، ولما عليه السلف الصالح حيث يظنه الجاهل من الدين .
فالموفق تجده ناصحاً لله بتوحيده ،والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً ، وبإخلاص واحتساب ، وتكميلاتها بحسب وسعه .وناصحاً لكتاب الله بالإيمان بما أشتمل عليه ، والإقبال على تعلمه وتعلم ما يتعلق به ويتفرع عنه من علوم الشريعة .
وناصحاً لرسوله ص بالإيمان بكل ما جاء به من أصول الدين وفروعه ، وتقديم محبته على كل محبة بعد محبة الله ، وتحقيق متابعته في شرائع الدين الظاهرة والباطنة .
وناصحاً لأئمة المسلمين من ولاتهم وعلمائهم ورؤسائهم في محبة الخير لهم والسعي في إعانتهم عليه قولاً وفعلاً ومحبة اجتماع الرعية على طاعتهم وعدم مخالفتهم الضارة .
وناصحاً لعامة المسلمين ، ويحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ويسعى في إيصال النفع إليهم بكل ممكن، ويصدق ظاهره باطنه ،وأقواله أفعاله ، ويدعوا إلى هذا الأصل العظيم والصراط المستقيم فنسأله تعالى أن يرزقنا حبه وحب من يحبه وحب العمل الذي يقربنا إلي حبه ، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب .
وصلى الله علي محمد وسلم
للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي
إخلاص النية :
يتعين على أهل العلم من المتعلمين والمعلمين أن يجعلوا أساس أمرهم الذي يبنون عليه حركاتهم وسكناتهم الإخلاص الكامل والتقرب إلى الله تعالي بهذه العبادة التى هي أجل العبادات وأكملها وأنفعها وأعمها نفعاً ويتفقدوا هذا الأصل النافع في كل دقيقٍ من أمورهم وجليل ، فإن درسوا ، أو بحثوا أو ناظروا أو سمعوا أو استمعوا ، أو كتبوا أو حفظوا ، أو كرروا دروسهم الخاصة ، أو راجعوا عليها أو على غيرها الكتب الأخرى ، أو جلسوا مجلس علم ، أو نقلوا أقدامهم لمجالس العلم ، أو اشتروا كتاباً ، أو ما يعين على العلم ، كان الإخلاص لله ، واحتساب أجره وثوابه ملازماً لهم ، ليصير اشتغالهم كله قوة وطاعة ، وسيراً إلى الله وإلى كرامته ، وليتحققوا بقوله ص : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة )) أخرجه مسلم ( 4/2074 ) عن أبي هريرة .
فكل طريق حسي أو معنوي يسلكه أهل العلم يعين على العلم أو يحصله ، فإنه داخل في هذا .
طريقة الطلب :
ثم بعد هذا يتعين البداءة بالأهم فالأهم من العلوم الشرعية ، وما يعين عليها من علوم العربية . وتفصيل هذه الجملة كثير معروف يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص .
وينبغي أن يسلك أقرب طريق يوصل إلى المقصود الذي يطلبه .
وأن ينتقي من مصنفات الفن الذي يشتغل فيه أحسنها وأوضحها ، وأكثرها فائدة ، ويجعل جل همه واشتغاله بذلك الكتاب حفاظاً عند الإمكان أو دراسة تكرير بحيث تصير معانيه معقولة في ذهنه محفوظة ، ثم لا يزال يكرر ما مر عليه ويعيده .
ما ينبغي علي العالم لتلميذه :
وعلي المعلم أن ينظر إلى ذهب المتعلم ، وقوة استعداده أو ضعفه ، فلا يدعه يشتغل بكتاب لا يناسب حاله ، فإن هذا من عدم النصح ، فإن القليل الذي يفهمه ويعقله خير من الكثير الذي هو عرضة لعدم الفهم وللنسيان .
وكذلك يلقي عليه من التوضيح والتقرير لدرسه بقدر ما يتسع فهمه لإدراكه ، ولا يخلط المسائل بعضها ببعض .
وينبغي أن لا ينتقل من نوع من أنواع المسائل إلى نوع أخر حتى يتصور ، ويحقق السابق ، فإنه درك للسابق وبه يتوفر الفهم على اللاحق .
فأما إذا أدخل المسائل والأنواع بعضها ببعض قبل فهم المتعلم ، فإنه سبب لإضاعة الأول ، وعدم فهم اللاحق ، ثم تتزاحم المسائل التي لم يحققها على ذهنه فيملها ، ويضيق عطنه عن العود إليها ، فلا ينبغي أن يهمل هذا الأمر .
وعلي المعلم النصح للمتعلم بكل ما يقدر عليه من التعليم ، والصبر على عدم إدراكه ، وعلى عدم أدبه ، وجفائه ، مع شدة حرصه وملاحظته لكل ما يقومه ويهذبه ويحسن أدبه .
لأن المتعلم له حق علي المعلم ، حيث أقبل على الاشتغال بالعلم الذي ينفعه وينفع الناس ، وحيث توجه للمعلم دون غيره ، وحيث ما كان يحمله من العلم عن المعلم هو عين بضاعة المعلم ، فيحفظها وينميها ، ويتطلب بها المكاسب الرابحة ، فهو الولد الحقيقي للمعلم الوارث له ، قال تعالى :
( فهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5)رِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(مريم: الآية6)
والمراد : وراثة العلم والحكمة .
فالمعلم مأجور على نفس تعليمه ، سواء أفهم المتعلم أو لم يفهم ، فإذا فهم ما علمه ، وانتفع به بنفسه ، ونفع غيره ، كان أجراً جارياً للمعلم ما دام ذلك النفع متسلسلاً متصلاً . وهذه تجارة بمثلها يتنافس المتنافسون .
فعلى المعلم أن يسعى سعياً شديداً في إيجاد هذه التجارة وتنميتها ، فهي من عمله ، وآثار عمله .
قال تعالى :
( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)(يّـس: من الآية12)
فما قدموا : ما باشروا عمله ، وآثارهم : ما ترتب على أعمالهم من المصالح والمنافع ، أو ضدها في حياتهم وبعد مماتهم .
وينبغي أن يرغب المتعلم بكل طريق ، وينشطه ولا يمله بإشغاله بما يعسر على فهمه من أنواع العلم ومفرداته .
آداب الطالب :
وعلى المعلم أن يوقر معلمه ، ويتأدب معه غاية ما يقدر عليه ، لما له من الحق العام والخاص .
حق العالم العام :
أما العام : فإن معلم الخير قد استعد لنفع الخلق بتعليمه وفتواه ، فحقه على الناس حق المحسنين ، ولا إحسان أعظم وأنفع من إحسان من يرشد الناس لأمر دينهم ويعلمهم ما جهلوا ، وينبههم لما عنه غفلوا ، ويحصل من الخير وانقماع الشر ، ونشر الدين والمعارف النافعة ما هو من أنفع شيء للموحدين ، ولمن أتى من بعدهم من ذريتهم وغيرهم ، فلولا العلم كان الناس كالبهائم في ظلمة يتخبطون فهو النور الذي يهتدي به في الظلمات ، والحياة للقلوب والأرواح والدين والدنيا ، والبلد الذي ليس فيه ما يبين للناس أمور دينهم ويرشدهم لما ينتابهم مما هم في غاية الضرورة إليه ، فقد أهله من ضروراتهم ومصالحهم ما يضر فقده بدينهم ودنياهم .
فمن كان هذا إحسانه ، وأثره علي الخلق كيف لا يجب على كل مسلم محبته وتوقيره ، والقيام بحقوقه ؟ !
حق العالم الخاص :
أما حقه الخاص على المتعلم ، فلما بذله من تعليمه ، الحرص علي ما يرشده ويوصله إلى أعلى الدرجات ، فليس نفع الآباء والأمهات نظيراً لنفع المعلمين المربيين للناس بصغار العلم قبل كباره ، الباذلين نفائس أوقاتهم ، وصفوة أفكارهم في تفهيم المسترشدين بكل طريق ووسيلة يقدرون عليها .
وإذا كان من أحسن إلي الإنسان بهديةٍ مالية ينتفع بها ثم تزول وتذهب له حق كبير على المحسن إليه ، فما الظن بهدايا العلم النافع الكثيرة المتنوعة الباقي نفعها ما دام حياً وبعد مماته ، المتسلسل بحسب حال تلك الهدايا ، فحينئذ يعرف أن له ممن الحق والتوقير وحسن الأدب والوقوف مع إشارته ، وعدم الخروج عما أشار إليه مما ينفعه من الأمور التي قد جربها وهو أعرف بها منه من كيفيات التعليم ونحوها ما ليس لغيره .
احترام العالم :
وليجلس بين يديه متأدباً ، ويظهر غاية حاجته إلى علمه ،ويدعوا له حاضراً وغائباً ، وإذا أتحفه بفائدة أو توضيح لمشكل ، فلا يظهر أنه قد عرفه قبله ، وإن كان عارفاً له ، بل يصغي غليه إصغاء المتطلب المتطلب بشدة إلى الفائدة . هذا فيما يعرفه ، فكيف بما لم يعرفه ، ولهذا كان هذا الأدب مستحسناً مع كل أحد في العلوم والمخاطبات في الأمور الدينية والدنيوية .
العمل إذا أخطأ المعلم :
وإذا أخطأ المعلم في شيء فلينبهه برفق ولطف بحسب المقام ، ولا يقول له : أخطأت ، أو ليس الأمر كما تقول ، بل يأتي بعبارة لطيفة يدرك بها المعلم خطأه من دون أن يتشوش قلبه ، فإن هذا من الحقوق اللازمة وهو أدعى إلى الوصول إلى الصواب ، فإن الرد الذي يصحبه سوء الأدب وإزعاج القلب يمنع من تصور الصواب ومن قصده .
الرجوع عن الخطأ :
وكما أن هذا لازم على المتعلم ، فعلي المعلم إذا أخطأ أن يرجع إلى الحق ، ولا يمنعه قول قاله ثم رأى الصواب في خلافه من مراجعة الحق والرجوع إليه ، فإن هذا علامة الإنصاف والتواضع للحق فالواجب اتباع الصواب ، سواء جاء علي يد الصغير أو الكبير .
ومن نعمة الله علي المعلم أن يجد من تلاميذه من ينبهه على خطئه ، ويرشده إلى الصواب ، ليزول استمراره على جهله فهذا يحتاج إلى شكر الله تعالى ، ثم على شكر من أجري الله الهدى على يديه متعلماً كان أو غيره .
قول العالم : الله أعلم فيما لا يعلم :
ومن أعظم ما يجب علي المعلمين أن يقولوا لما لا يعلمونه : الله أعلم ، وليس هذا بناقص لأقدارهم ، بل هذا مما يزيد قدرهم ، ويستدل به على كمال دينهم ،وتحريهم للصواب .
فوائد التوقف عما لا يعلم :
وفي توقفه عما لا يعلم فوائد كثيرة .
منها : أن هذا هو الواجب عليه .
ومنها أنها إذا توقف وقال : الله أعلم فما أسرع ما يأتيه علم ذلك من مراجعته غيره فإن المتعلم إذا رأي معلمه قد توقف جد واجتهد في تحصيل علمها ، والتحاف المعلم بها ، فما أحسن هذا الأثر .
ومنها أنه إذا توقف فيما لا يعرف ، كان دليلاً على ثقته وأمانته وإتقانه فيما يجزم به المسائل ، كما أن من عرف منه الإقدام على الكلام فيما لا يعلم كان ذلك داعياً للريب في كل ما يتكلم به ، حتى في الأمر الواضحة .
ومنها : أن المعلم إذا رأي منه المتعلمون التوقف فيما لا يعلم كان ذلك تعليماً لهم وإرشاداً لهذه الطريقة الحسنة ، والإقتداء بالأحوال والأعمال ابلغ من الإقتداء بالأقوال .
المناظرة بين المتعلمين :
ومما يعين على هذا المطلوب أنه يفتح المعلم للمتعلمين باب المناظرة في المسائل والاحتجاج ، وأن يكون القصد واحداً ، وهو إتباع ما رجحته الأدلة ، فإنه إذا جعل هذا الأمر نصب عينيه وأعينهم تنورت الأفكار وعرفت المآخذ والبراهين، واتبعت الحقائق وكان القصد الأصلي معرفة الحق وإتباعه .
ذم التعصب :
فالحذر الحذر من التعصب للأقوال والقائلين ، وهو أن يجعل القصد من المناظرة والمباحثة نصر القول الذي قاله ، أو قاله من يعظمه ، فإن التعصب مذهب للإخلاص ، مزيل لبهجة العلم ، معم للحقائق ، فاتح باب الحقد والخصام الضار ،كما أن الإنصاف هو زينة العلم وعنوان الإخلاص والنصح والفلاح .
التحذير من طلب العلم للدنيا :
ثم الحذر الحذر من طلب العلم للأغراض الفاسدة والمقاصد السيئة من المباهاة ، والمماراة ، والرياء ،والسمعة ، وأن يجعله وسيلة للأمور الدنيوية والرياسة ، فليست هذه حال أهل العلم الذين هم أهله في الحقيقة ومن طلب العلم أو استعمله في أغراضه السيئة فليس له في الآخرة من خلاق .
العمل بالعلم :
ومن أعظم ما يتعين على أهل العلم الاتصاف بما يدعوا إليه العلم من الأخلاق ، والأعمال ، والتعليم ، فهو أحق الناس بالاتصاف بالأخلاق الجميلة ، والتخلي من كل خلق رزيل ،وهم أولى الناس بالقيام بالواجبات الظاهرة والباطنة وترك المحرمات لما تميزوا به من العلم والمعارف التي لم تحصل لغيرهم ،ولأنهم قدوة للناس ،والناس مجبولون على الإقتداء بعلمائهم شاءوا أم أبوا في كثير من أمورهم ، ولأنهم يتطرق إليهم من الاعتراضات والقوادح عندما يتركون ما يدعوا إليه العلم أعظم مما يتطرق على غيرهم .
وأيضاً فكان السلف يستعينون بالعمل بالعلم علي العلم فإن عمل به استقر ودام ونما وكثرت بركته ،وإن ترك العمل به ذهب أو عدمت بركته ، فروح العلم وحياته وقيامه إنما هو بالقيام به عملاً وتخلقاً ، وتعليماً ونصحاً ولا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم .
طريقة التعليم :
وينبغي سلوك الطريق النافع عند البحث تعلماً وتعليماً ، فإذا شرع المعلم في مسألة وضحها ، وأوصلها إلي أفهام المتعلمين بكل ما يقدر عليه من التعبير ، وضرب الأمثال ، والتصوير والتحرير.
ثم لا ينتقل منها إلى غيرها قبل تفهيمها للمتعلمين ، ولا يدع المتعلمين يخرجون من الموضوع الذي لم يتم تعليمه وتقريره إلى موضوع آخر حتى يحكموه ويفهموه ، فإن الخروج من الموضوع إلى غيره قبل الانتهاء منه يحرم الفائدة كما تقدم .
تعاهد محفوظات المتعلمين :
وينبغي تعاهد محفوظات المتعلمين ومعلوماتهم بالإعادة والامتحان ، والحث علي المذاكرة والمراجعة ،وتكرار الدرس فإن التعلم بمنزلة الغرس للأشجار ، الدرس والمذاكرة والإعادة بمثابة السقي لها وإزالة الأشياء الضارة عنها ، لتنموا وتزداد على الدوام .
أدب الزمالة :
وكما أن على المعلم توقير معلمه ، والأدب معه ، فكذلك أقرانه ، والمتعلمون معه عليه من مراعاة حقوقهم ، والأدب معهم أعظم من حقوق الأصحاب بعضهم على بعض فالصحبة في طلب العلم تجمع حقوقاً كثيرة ، لان لهم حق الأخوة والصحبة ، وحقوق الانتماء إلى معلمهم وأنهم بمنزلة أولاده ، وحقاً لنفع بعضهم بعضاً
ولهذا ينبغي أن لا يدع ممكنناً من نفع من يقدر علي نفعه منه بتعليمه ما يجهل ، والبحث معه للتعاون على الخير وإرشاده لما فيه نفعه .
وينبغي أن يكون اجتماعهم في كل وقت غنيمة يتعلم فيها القاصر ممن هو اعلي منه ويعلم العارف غير العارف ويتطارحون من المسائل النافعة وليجعلوا همهم معقوداً علي ما هم بصدده .
مضار الاشتغال بالناس :
وليحذر من الاشتغال بالناس ، والتفتيش عن أحوالهم ، والعيب لهم ، فإن ذلك إثم حاضر ، والمعصية من أهل العلم أعظم منها من غيرهم ، ولأن غيرهم يقتدى بهم ، ومن كان طبعه الشر من غيرهم جعلهم حجة له ، ولأن الانشغال بالناس يضيع المصالح النافعة ، والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره .
القناعة باليسير :
واعلم أن القناعة باليسير والاقتصاد في أمر المعيشة مطلوب من كل أحد ، ولا سيما المشتغلون بالعلم ، فإنه كالمتعين عليهم ، لأن العلم وظيفة العمل كله أو معظمه ، فمتى زاحمته الأشغال الدنيوية والضروريات حصل النقص بحسب ذلك ، والاقتصاد والقناعة من أكبر العوامل لحصر الأشغال الدنيوية ، وإقبال المتعلم على ما هو بصدده .
بث العلم :
ومن آداب العالم والمتعلم النصح وبث العلوم النافعة بحسب الإمكان حتى ولو تعلم الإنسان مسألة واحدة ، ثم بثها كان من بركة علمه ، ولأن ثمرات العلم أن يأخذه الناس عنك فمن شح بعلمه ، مات علمه بموته وربما نسيه وهو حي ، كما أن من بث علمه كان حياة ثانية ، وحفظاً لما علمه ، وجازاه الله من جنس عمله
تأليف القلوب :
ومن أهم ما يتعين على أهل العلم معلمين أو متعلمين ، السعي في جمع كلمتهم ، وتأليف القلوب على ذلك وحسم أسباب الشر والعداوة والبغضاء بينهم وأن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم ، ويسعون له بكل طريق ، لأن المطلوب واحد والقصد واحد ، والمصلحة مشتركة فيحققوا هذا الأمر بمحبة كل من كان من أهل العلم ، ومن له قدم فيه واشتغال أو نفع ، ولا يدعون الأغراض الضارة تملكهم وتمنعهم من هذا المقصود الجليل ، فيحب بعضهم بعضاً ويذب بعضهم عن بعض ، ويبذلون النصيحة لمن رأوه منحرفاً عن الآخر ، ويبرهنون على أن النزاع في الأمور الجزئية التي تدعوا إلى ضد المحبة والاتلاف لا تقدم على الأمور الكلية التي فيها جمع الكلمة .
ولا يدعون أعداء العلم من العوام وغيرهم يتمكنون من إفساد ذات بينهم ، وتفريق كلمتهم .
من فوائد الائتلاف
فإن في تحقيق هذا المقصد الجليل والقيام به من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو لم يكن فيه إلا أن هذا هو الدين الذى حث عليه الشارع بكل طريق وأعظم من يلزم القيام به أهله ، وأنه من أعظم الأدلة علي الإخلاص والتضحية اللذين هما روح الدين، وقطب دائرته ، وأن بهذا الأمر يتصف العلبد أن يكون من أهل العلم الذين هم أهله الذين ورد في الكتاب والسنة في مدحهم والثناء عليهم ما لا يتسع هذا الموضع لذكره .
وفيه أيضاً من تكثير العلم ، وتوسعة الوصول إليه ، وتنوع طرقه ما هو ظاهر فإن أهل العلم إذا كانت طريقتهم واحدة تمكن أن يتعلم بعضهم من بعض ، وأن يعلم بعضهم بعضاً ،وإذا كان كل طائفة منهم منزوية عن الأخرى ، منحرفة عنها ، انقطعت الفائدة وحل محلها ضدها ، من حصول البغضاء والتعصب والتفتيش من كل منهما عن عيوب الطائفة الأخرى ، وأغلاطها والتوسل به للقدح ، وكل هذا مناف للدين والعقل ، ولما عليه السلف الصالح حيث يظنه الجاهل من الدين .
فالموفق تجده ناصحاً لله بتوحيده ،والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً ، وبإخلاص واحتساب ، وتكميلاتها بحسب وسعه .وناصحاً لكتاب الله بالإيمان بما أشتمل عليه ، والإقبال على تعلمه وتعلم ما يتعلق به ويتفرع عنه من علوم الشريعة .
وناصحاً لرسوله ص بالإيمان بكل ما جاء به من أصول الدين وفروعه ، وتقديم محبته على كل محبة بعد محبة الله ، وتحقيق متابعته في شرائع الدين الظاهرة والباطنة .
وناصحاً لأئمة المسلمين من ولاتهم وعلمائهم ورؤسائهم في محبة الخير لهم والسعي في إعانتهم عليه قولاً وفعلاً ومحبة اجتماع الرعية على طاعتهم وعدم مخالفتهم الضارة .
وناصحاً لعامة المسلمين ، ويحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ويسعى في إيصال النفع إليهم بكل ممكن، ويصدق ظاهره باطنه ،وأقواله أفعاله ، ويدعوا إلى هذا الأصل العظيم والصراط المستقيم فنسأله تعالى أن يرزقنا حبه وحب من يحبه وحب العمل الذي يقربنا إلي حبه ، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب .
وصلى الله علي محمد وسلم