جاحظ عصره، وإمام من أئمة الكتاب، وشاعر مجيد، وناثر فذ، سخر قلمه طويلاً لنصرة قضايا العرب والمسلمين، وهو من العلماء بالأدب والسياسة والتاريخ.
يقول عنه الأستاذ علي الطنطاوي:
(إن شكيب أعظم شخصية عربية، وكان لسان الإسلام، وأحسب أن مقالاته لو جمعت لجاء منها كتاب في ضعف حجم الأغاني).
ولد في الشويفات بلبنان سنة 1286/1869، من أسرة تنوخية الأصل، والتنوخيون هم الذين كانوا ملوك الحيرة، وتقلب في الوظائف والمناصب، فكان قائم مقام في الشوف ثلاث سنوات، وانتخب نائباً عن حوران في مجلس "المبعوثان" العثماني وهو بمثابة البرلمان لكل الشعوب العثمانية، وسكن دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم برلين، ثم انتقل إلى جنيف ليعيش في سويسرا خمساً وعشرين سنة يدافع فيها عن قضايا الإسلام والمسلمين، ثم عاد إلى بيروت فتوفي بها ودفن بالشويفات.
تلك كانت سطوراً مختصرة عن سيرته التي تحتمل مجلدات، وهو من طائفة الدروز الذين يسكنون جبل لبنان، لكن شكيباً كان قد تسنن وتعبد وصلى وصام وحج على منوال أهل السنة، وتزوج امرأة من أهل السنة، ولهذا فمن الدروز من لا يراه درزياً ومن أهل السنة من لا يراه سُنياً لكن زوجه أكدت انتسابه إلى أهل السنة ولله الحمد والمنة، كما ذكر ذلك العالم الأديب أحمد الشرباصي نقلاً عن زوجه نفسها حيث قابلها وذكرت له ذلك، وزوجه هذه شركسية قفقاسية تزوجها الأمير شكيب في اسطنبول لما كان عمرها عشرين سنة، وكان هو قد جاوز الأربعين، وليس له غيرها.
وقد نبغ شكيب أرسلان رحمه الله تعالى مبكراً، فأخذ في نظم الشعر وكتابة المقالات وهو لم يتعد الستة عشر عاماً، ولقد رآه الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لما نُفي إلى لبنان فقال له: إني أعرف اسمك، وستكون من أعظم الشعراء، هذا وقد كان عمره آنذاك سبعة عشر عاماً، ثم توثقت صلته بالأستاذ محمد عبده، وزاره في مصر وخالطه طويلاً، وجلس إلى جمال الدين الأفغاني باسطنبول، ورأى الشاعر أحمد شوقي فيها، واجتمع بالأستاذ رشيد رضا في بيروت، وكل هذا طبع في قلب الشاب وعقله وجوب العناية بالمصادر الإسلامية والبحث في آلام الأمة وآمالها، والاهتمام بشؤون العالم الإسلامي، وهذا جعله يشارك أمته همومها، فمن ذلك أنه شارك في الجهاد ضد الإيطاليين في ليبيا سنة 1911، وقاد ستمائة جمل تحمل المؤمن من مصر إلى برقة، وظل في موطن الجهاد ثمانية أشهر تقريباً.
وقال الزعيم الليبي سليمان الباروني:
(لو أخذت الحكومة العثمانية بتفاصيل الخطة التي رسمها الأمير شكيب ونفذتها بحذافيرها لما ضاع الأمل في إنقاذ طرابلس وبرقه، أو لاستطعنا على الأقل إطالة الحرب ثلاث سنوات أو أربع).
وسافر إلى المدينة المنورة سنة 1914 ليفتح مدرسة فيها.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى سنة 1915 أقام بمعان - في جنوب الأردن الآن- قرابة شهر ومعه مائة وعشرون مجاهداً، ثم انضم إلى الجيش العثماني الحجازي، وكان لا يثق بالحلفاء ويهاجمهم، ويعارض الثوار العرب في ثورتهم ضد الدولة العثمانية، وذلك لإخلاصه إخلاصاً منقطع النظير لها، ولأنه يعلم أن الخلفاء سيستولون على البلاد العربية بعد الحرب، ولذلك أرسل إلى أحد الأشراف الثوار قائلاً:
(ماذا تصنعون؟ أتقاتلون العرب بالعرب؟ وتسفكون دماء العرب بأيدي العرب، ولأجل أن تكون سورية لفرنسا، والعراق لانكلترا، وفلسطين لليهود؟).
فلما انتهت الحرب وانهزمت الدولة العثمانية رأى أن الدولة العثمانية بقيادة الكماليين أدارت ظهرها للعروبة والإسلام، وأن مصطفى كمال قد أسرف في عداوة الإسلام، فقرر أن يدعو إلى الوحدة العربية بعد أن كان يدعو إلى الجامعة الإسلامية، وله عذره الواضح في هذا؛ إذ بعد إلغاء الخلافة لم يكن هناك دولة إسلامية جامعة، وكانت الدول العربية والإسلامية تتساقط في أيدي الاحتلال واحدة بعد أخرى، وكانت الأحوال غير مواتية آنذاك للدعوة إلى الجامعة الإسلامية فدعا شكيب إلى الوحدة العربية حتى قال الملك فيصل بن الحسين له: (أشهد أنك أول عربي تكلم معي عن الوحدة العربية وأراد أن تكون وحدة عملية).
هذا على أن شكيب لم ينسى الوحدة الإسلامية لكنه كان سياسياً عملياً يعمل في المتاح له حَسَب أحوال زمانه، هذا وقد كان شكيب حريصاً على إعادة الخلافة عقب إلغائها في تركيا، ويكاتب الشيخ رشيد رضا في ذلك، ويقترح في هذه المسألة اقتراحات لكن الأمر كان أكبر منه.
ثم إنه لما احتلت فرنسا سورية الكبرى رفض أن يبقى فيها فخرج إلى ألمانيا التي كان لها صلات بالدولة العثمانية قوية ودخلتا الحرب معاً، فرحب به القوم، وأقام في برلين، ورافق الإمبراطور غليوم في زيارته لسورية بعد ذلك.
ولما كان مقر جمعية الأمم -عصبة الأمم- آنذاك في جنيف بسويسرا ترك الأمير شكيب إقامته في برلين واستقر في جنيف لمدة ربع قرن تقريباً، مدافعاً عن قضايا العروبة والإسلام، وشارك في أعمال ومؤتمرات كثيرة كانت تعقد في سويسرا وأوربا ومنها مؤتمرات الوفد السوري الفلسطيني الذي كان يرفع ظلامته إلى جمعية الأمم "عصبة الأمم"، وما أشبه الليلة بالبارحة!!
من اللطائف عن شكيب:
* لما حج كان الوقت صيفاً فلم يستطع أن ينام ثلاثة أيام بلياليهن، فأرسله الملك عبد العزيز إلى بستان عبد الله السليمان في الزاهر بمكة المكرمة فنـزل في بركة البستان فبرد جسده فنام!! ثم أوصى الملك بإصعاده إلى الطائف حتى يأتي وقت الحج.
* ولما كان في الحجاز عرض عليه الملك عبد العزيز أن يرسل له جارية ليتسرى بها فرفض قائلاً: (إنني متزوج، وأنا أحب زوجتي، وفوق هذا فإن زوجتي تغضب علي إذا عرفت)!!
* له رسالة منشورة باسم "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" قال عنها الأستاذ رشيد رضا:
(اضطربت بها بعض دول الاستعمار، وزلزلت زلزالاً شديداً، حتى قيل لنا إنها أغرت حكومة سورية بمنع نشرها فيها، وهي أحق بها وأهلها، فانفردت بهذه العداوة للإسلام دون مَن أغروها بها. وكذلك منعت فرنسة دخول هذه الرسالة الجزائر حينئذ، وجعلت عقوبة لمن يطالعها).
أسلوب شكيب في الشعر والكتابة:
كان الأمير شكيب أرسلان يُعَدّ شاعراً من مقدمي شعراء عصره لكنه في النثر من أهل الطبقة الأولى، وكان يُغرب أحياناً في عباراته وكلماته فيأتي بها عربية قحة صعبة، وكان يسجع أحياناً، لكنه إذا أطلق ليراعه العنان فإنه يأتي بكلام رائع جليل، أكتفي منه بهذا الذي كتبه بعد زيارته الأندلس شعراً ونثراً:
يقولون كانت أمةٌ عربية
بأندلسٍ سادت بها جَمَّ أَعْصُرِ
وقد عمرت أقطار أندلسٍ بهم
فكم بلدٍ فخم ومِصْرٍ مُمَصّرِ
وكم أَرْبُعٍ خُضْر وحَرث مطبق
وفاكهة رغد وزهر منوِّرِ
وكم قائد قَرْمٍ وجند مدرب
وكم سائس فحل وأمر مُدبّرِ
وكم بطل إن ثار نقعٌ رأيته
يبيع بأسواق المنايا ويشتري
وما شئت من علم ورأي وحكمة
ودرسٍ وتحقيق وقول محررِ
إلى شمم جم ومجد مؤثل
وفي عزة قَعْسا ووَفْر مُوَفّرِ
نعم كان فيها من نزار ويعرب
جموع نخيل الأرض في يوم محشرِ
فراحت كأن لم تغن بالأمس وانقضى
لهم كل رِكْز غير ذكرٍ مُعطرِ
وقد قال في كتابه "الحلل الأندلسية":
(نعم: حواضر كالبحار الزاخرة، كانت تموج بالبشر، وحصون كالجبال الشامخة تحصى بالألوف... وجيوش كانت حصى الدهناء ورمال البطحاء، ومساجد كانت في الجوامع المشهورة تَغَصّ بألوف الألوف من المصلين، ومدارس كانت مكتظة بالألوف من القراء والطالبين، وما شئت من إسلام وإيمان، وحديث وفرقان، وأذان يملأ الآذان، وما أردت من نحو ولغة وطب، وحكمة ومعان وبيان، بلغة عربية عرباء، يحرسها علماء كنجوم السماء، وما أردت من عيش خَضْل وزمن نَضْر... كل هذا عاد كهشيم المحتظر، كأن لم يَغْن بالأمس، ولم يبق منه إلا آثار صوامت، وأخبار تتناقلها الكتب، كأنه لم يعمر الأندلس من هذه الأمة عامر، ولا سمر فيها سامر...
وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في إسبانيا متأملاً غائصاً في بحار العبر، هائماً في أودية الفكر، كلما عثر على أثر قلبي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بُعد نظر، وعلو همم، وسلامة ذوق، ورِفق يد، ودقة صنعة، وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات فيما وراء النهر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين، ويشيدوا فيها ألوفاً من الحصون، وأن يملأوها أساساً وغراساً كأنهم فيها أبد الآبدين.
فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسماً بين الإعجاب بما صنعه آباؤه فيها والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي ملكوه، والوَجْد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم، فهو لا يزال يسير بين تأمل وتألم، وتفكر وتحسر...".
تدينه وفهمه للإسلام:
كان الأمير شكيب - في الجملة- متديناً، محافظاً على الصلاة في زمن كانت الصلاة فيه مهجورة من أكثر الناس، وكان محافظاً على دين أسرته، وكان عارفاً بشرائع الإسلام - في الجملة- وإليكم هذه الوقائع التي تدل على هذا:
1. في سنة 1935 رأس الأمير شكيب أرسلان المؤتمر الإسلامي الأوروبي الذي انعقد بجنيف، وكانت إحدى جلسات المؤتمر في يوم جمعة، فأوقف الجلسة ليصلي الحاضرون الجمعة، فخطب المصلين في الفندق وصلى بهم إماماً.
2. في سنة 1937 زار حلب، وخطب في جامعها الكبير قائلاً:
( إن المسلم يستمد استقلاله من القرآن، وإن إيمان المسلم غير الكامل إنما هو إيمان ناقص، ولا توجد الوطنية الصحيحة إلا في قلب المؤمن العامر بالإيمان).
3. أرسل بنتيه إلى لبنان ولم يسمح لهن بالبقاء في جنيف، وذكر السبب لولده غالب عندما اشتاق إلى أختيه وطلب من أبيه إحضارهما فقال:
(إنني أشد منك عذاباً في فراقهن، لكني لا أريد أن يخرجن إفرنجيات، فلو ربيتهن في جنيف لخرجن بدون لغة عربية، وبدون عقيدة إسلامية، وما يعود ممكناً إعادتهن إلى الحجاب متى ذهبن إلى الوطن).
4. عند حديثه عن حدود العلاقة بين الدين والدولة مثل لما يحصل في أوروبا من علاقة بين الفاتيكان وإيطاليا، وفي بلجيكا وغيرها فيقول:
(إذن فالمدنيّة تجتمع مع الدين، والحكومات الشرقية التي تزعم أنها تقطع صلتها بالدين الإسلامي اقتداء بحكومات أوروبا - التي تزعم عنها قطع الصلة بالدين المسيحي- إنما هي حكومات تضلل أفكار السُذّج من رعيتها، وتموّه عليهم، وتقصد حرباً وتوري بغيرها، وناشروا دعايتها في مصر والبلاد العربية كاذبون).
فكان شكيب بهذا من أوائل من رد على العلمانيين في العالم العربي.
لكن هذا كله لا يعني أنه بريء من أخطاء شرعية وقع فيها لكن أقول إنه في الجملة متدين بدين الإسلام معتز به، مقيم للشعائر، وهذا من مثله في ذلك الزمان عزيز، والله أعلم.
وبعض ما ذكرته يؤيد ما نقلته في بداية المقالة عن سنيته، والله أعلم.
يقول عنه الأستاذ علي الطنطاوي:
(إن شكيب أعظم شخصية عربية، وكان لسان الإسلام، وأحسب أن مقالاته لو جمعت لجاء منها كتاب في ضعف حجم الأغاني).
ولد في الشويفات بلبنان سنة 1286/1869، من أسرة تنوخية الأصل، والتنوخيون هم الذين كانوا ملوك الحيرة، وتقلب في الوظائف والمناصب، فكان قائم مقام في الشوف ثلاث سنوات، وانتخب نائباً عن حوران في مجلس "المبعوثان" العثماني وهو بمثابة البرلمان لكل الشعوب العثمانية، وسكن دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم برلين، ثم انتقل إلى جنيف ليعيش في سويسرا خمساً وعشرين سنة يدافع فيها عن قضايا الإسلام والمسلمين، ثم عاد إلى بيروت فتوفي بها ودفن بالشويفات.
تلك كانت سطوراً مختصرة عن سيرته التي تحتمل مجلدات، وهو من طائفة الدروز الذين يسكنون جبل لبنان، لكن شكيباً كان قد تسنن وتعبد وصلى وصام وحج على منوال أهل السنة، وتزوج امرأة من أهل السنة، ولهذا فمن الدروز من لا يراه درزياً ومن أهل السنة من لا يراه سُنياً لكن زوجه أكدت انتسابه إلى أهل السنة ولله الحمد والمنة، كما ذكر ذلك العالم الأديب أحمد الشرباصي نقلاً عن زوجه نفسها حيث قابلها وذكرت له ذلك، وزوجه هذه شركسية قفقاسية تزوجها الأمير شكيب في اسطنبول لما كان عمرها عشرين سنة، وكان هو قد جاوز الأربعين، وليس له غيرها.
وقد نبغ شكيب أرسلان رحمه الله تعالى مبكراً، فأخذ في نظم الشعر وكتابة المقالات وهو لم يتعد الستة عشر عاماً، ولقد رآه الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لما نُفي إلى لبنان فقال له: إني أعرف اسمك، وستكون من أعظم الشعراء، هذا وقد كان عمره آنذاك سبعة عشر عاماً، ثم توثقت صلته بالأستاذ محمد عبده، وزاره في مصر وخالطه طويلاً، وجلس إلى جمال الدين الأفغاني باسطنبول، ورأى الشاعر أحمد شوقي فيها، واجتمع بالأستاذ رشيد رضا في بيروت، وكل هذا طبع في قلب الشاب وعقله وجوب العناية بالمصادر الإسلامية والبحث في آلام الأمة وآمالها، والاهتمام بشؤون العالم الإسلامي، وهذا جعله يشارك أمته همومها، فمن ذلك أنه شارك في الجهاد ضد الإيطاليين في ليبيا سنة 1911، وقاد ستمائة جمل تحمل المؤمن من مصر إلى برقة، وظل في موطن الجهاد ثمانية أشهر تقريباً.
وقال الزعيم الليبي سليمان الباروني:
(لو أخذت الحكومة العثمانية بتفاصيل الخطة التي رسمها الأمير شكيب ونفذتها بحذافيرها لما ضاع الأمل في إنقاذ طرابلس وبرقه، أو لاستطعنا على الأقل إطالة الحرب ثلاث سنوات أو أربع).
وسافر إلى المدينة المنورة سنة 1914 ليفتح مدرسة فيها.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى سنة 1915 أقام بمعان - في جنوب الأردن الآن- قرابة شهر ومعه مائة وعشرون مجاهداً، ثم انضم إلى الجيش العثماني الحجازي، وكان لا يثق بالحلفاء ويهاجمهم، ويعارض الثوار العرب في ثورتهم ضد الدولة العثمانية، وذلك لإخلاصه إخلاصاً منقطع النظير لها، ولأنه يعلم أن الخلفاء سيستولون على البلاد العربية بعد الحرب، ولذلك أرسل إلى أحد الأشراف الثوار قائلاً:
(ماذا تصنعون؟ أتقاتلون العرب بالعرب؟ وتسفكون دماء العرب بأيدي العرب، ولأجل أن تكون سورية لفرنسا، والعراق لانكلترا، وفلسطين لليهود؟).
فلما انتهت الحرب وانهزمت الدولة العثمانية رأى أن الدولة العثمانية بقيادة الكماليين أدارت ظهرها للعروبة والإسلام، وأن مصطفى كمال قد أسرف في عداوة الإسلام، فقرر أن يدعو إلى الوحدة العربية بعد أن كان يدعو إلى الجامعة الإسلامية، وله عذره الواضح في هذا؛ إذ بعد إلغاء الخلافة لم يكن هناك دولة إسلامية جامعة، وكانت الدول العربية والإسلامية تتساقط في أيدي الاحتلال واحدة بعد أخرى، وكانت الأحوال غير مواتية آنذاك للدعوة إلى الجامعة الإسلامية فدعا شكيب إلى الوحدة العربية حتى قال الملك فيصل بن الحسين له: (أشهد أنك أول عربي تكلم معي عن الوحدة العربية وأراد أن تكون وحدة عملية).
هذا على أن شكيب لم ينسى الوحدة الإسلامية لكنه كان سياسياً عملياً يعمل في المتاح له حَسَب أحوال زمانه، هذا وقد كان شكيب حريصاً على إعادة الخلافة عقب إلغائها في تركيا، ويكاتب الشيخ رشيد رضا في ذلك، ويقترح في هذه المسألة اقتراحات لكن الأمر كان أكبر منه.
ثم إنه لما احتلت فرنسا سورية الكبرى رفض أن يبقى فيها فخرج إلى ألمانيا التي كان لها صلات بالدولة العثمانية قوية ودخلتا الحرب معاً، فرحب به القوم، وأقام في برلين، ورافق الإمبراطور غليوم في زيارته لسورية بعد ذلك.
ولما كان مقر جمعية الأمم -عصبة الأمم- آنذاك في جنيف بسويسرا ترك الأمير شكيب إقامته في برلين واستقر في جنيف لمدة ربع قرن تقريباً، مدافعاً عن قضايا العروبة والإسلام، وشارك في أعمال ومؤتمرات كثيرة كانت تعقد في سويسرا وأوربا ومنها مؤتمرات الوفد السوري الفلسطيني الذي كان يرفع ظلامته إلى جمعية الأمم "عصبة الأمم"، وما أشبه الليلة بالبارحة!!
من اللطائف عن شكيب:
* لما حج كان الوقت صيفاً فلم يستطع أن ينام ثلاثة أيام بلياليهن، فأرسله الملك عبد العزيز إلى بستان عبد الله السليمان في الزاهر بمكة المكرمة فنـزل في بركة البستان فبرد جسده فنام!! ثم أوصى الملك بإصعاده إلى الطائف حتى يأتي وقت الحج.
* ولما كان في الحجاز عرض عليه الملك عبد العزيز أن يرسل له جارية ليتسرى بها فرفض قائلاً: (إنني متزوج، وأنا أحب زوجتي، وفوق هذا فإن زوجتي تغضب علي إذا عرفت)!!
* له رسالة منشورة باسم "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" قال عنها الأستاذ رشيد رضا:
(اضطربت بها بعض دول الاستعمار، وزلزلت زلزالاً شديداً، حتى قيل لنا إنها أغرت حكومة سورية بمنع نشرها فيها، وهي أحق بها وأهلها، فانفردت بهذه العداوة للإسلام دون مَن أغروها بها. وكذلك منعت فرنسة دخول هذه الرسالة الجزائر حينئذ، وجعلت عقوبة لمن يطالعها).
أسلوب شكيب في الشعر والكتابة:
كان الأمير شكيب أرسلان يُعَدّ شاعراً من مقدمي شعراء عصره لكنه في النثر من أهل الطبقة الأولى، وكان يُغرب أحياناً في عباراته وكلماته فيأتي بها عربية قحة صعبة، وكان يسجع أحياناً، لكنه إذا أطلق ليراعه العنان فإنه يأتي بكلام رائع جليل، أكتفي منه بهذا الذي كتبه بعد زيارته الأندلس شعراً ونثراً:
يقولون كانت أمةٌ عربية
بأندلسٍ سادت بها جَمَّ أَعْصُرِ
وقد عمرت أقطار أندلسٍ بهم
فكم بلدٍ فخم ومِصْرٍ مُمَصّرِ
وكم أَرْبُعٍ خُضْر وحَرث مطبق
وفاكهة رغد وزهر منوِّرِ
وكم قائد قَرْمٍ وجند مدرب
وكم سائس فحل وأمر مُدبّرِ
وكم بطل إن ثار نقعٌ رأيته
يبيع بأسواق المنايا ويشتري
وما شئت من علم ورأي وحكمة
ودرسٍ وتحقيق وقول محررِ
إلى شمم جم ومجد مؤثل
وفي عزة قَعْسا ووَفْر مُوَفّرِ
نعم كان فيها من نزار ويعرب
جموع نخيل الأرض في يوم محشرِ
فراحت كأن لم تغن بالأمس وانقضى
لهم كل رِكْز غير ذكرٍ مُعطرِ
وقد قال في كتابه "الحلل الأندلسية":
(نعم: حواضر كالبحار الزاخرة، كانت تموج بالبشر، وحصون كالجبال الشامخة تحصى بالألوف... وجيوش كانت حصى الدهناء ورمال البطحاء، ومساجد كانت في الجوامع المشهورة تَغَصّ بألوف الألوف من المصلين، ومدارس كانت مكتظة بالألوف من القراء والطالبين، وما شئت من إسلام وإيمان، وحديث وفرقان، وأذان يملأ الآذان، وما أردت من نحو ولغة وطب، وحكمة ومعان وبيان، بلغة عربية عرباء، يحرسها علماء كنجوم السماء، وما أردت من عيش خَضْل وزمن نَضْر... كل هذا عاد كهشيم المحتظر، كأن لم يَغْن بالأمس، ولم يبق منه إلا آثار صوامت، وأخبار تتناقلها الكتب، كأنه لم يعمر الأندلس من هذه الأمة عامر، ولا سمر فيها سامر...
وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في إسبانيا متأملاً غائصاً في بحار العبر، هائماً في أودية الفكر، كلما عثر على أثر قلبي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بُعد نظر، وعلو همم، وسلامة ذوق، ورِفق يد، ودقة صنعة، وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات فيما وراء النهر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين، ويشيدوا فيها ألوفاً من الحصون، وأن يملأوها أساساً وغراساً كأنهم فيها أبد الآبدين.
فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسماً بين الإعجاب بما صنعه آباؤه فيها والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي ملكوه، والوَجْد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم، فهو لا يزال يسير بين تأمل وتألم، وتفكر وتحسر...".
تدينه وفهمه للإسلام:
كان الأمير شكيب - في الجملة- متديناً، محافظاً على الصلاة في زمن كانت الصلاة فيه مهجورة من أكثر الناس، وكان محافظاً على دين أسرته، وكان عارفاً بشرائع الإسلام - في الجملة- وإليكم هذه الوقائع التي تدل على هذا:
1. في سنة 1935 رأس الأمير شكيب أرسلان المؤتمر الإسلامي الأوروبي الذي انعقد بجنيف، وكانت إحدى جلسات المؤتمر في يوم جمعة، فأوقف الجلسة ليصلي الحاضرون الجمعة، فخطب المصلين في الفندق وصلى بهم إماماً.
2. في سنة 1937 زار حلب، وخطب في جامعها الكبير قائلاً:
( إن المسلم يستمد استقلاله من القرآن، وإن إيمان المسلم غير الكامل إنما هو إيمان ناقص، ولا توجد الوطنية الصحيحة إلا في قلب المؤمن العامر بالإيمان).
3. أرسل بنتيه إلى لبنان ولم يسمح لهن بالبقاء في جنيف، وذكر السبب لولده غالب عندما اشتاق إلى أختيه وطلب من أبيه إحضارهما فقال:
(إنني أشد منك عذاباً في فراقهن، لكني لا أريد أن يخرجن إفرنجيات، فلو ربيتهن في جنيف لخرجن بدون لغة عربية، وبدون عقيدة إسلامية، وما يعود ممكناً إعادتهن إلى الحجاب متى ذهبن إلى الوطن).
4. عند حديثه عن حدود العلاقة بين الدين والدولة مثل لما يحصل في أوروبا من علاقة بين الفاتيكان وإيطاليا، وفي بلجيكا وغيرها فيقول:
(إذن فالمدنيّة تجتمع مع الدين، والحكومات الشرقية التي تزعم أنها تقطع صلتها بالدين الإسلامي اقتداء بحكومات أوروبا - التي تزعم عنها قطع الصلة بالدين المسيحي- إنما هي حكومات تضلل أفكار السُذّج من رعيتها، وتموّه عليهم، وتقصد حرباً وتوري بغيرها، وناشروا دعايتها في مصر والبلاد العربية كاذبون).
فكان شكيب بهذا من أوائل من رد على العلمانيين في العالم العربي.
لكن هذا كله لا يعني أنه بريء من أخطاء شرعية وقع فيها لكن أقول إنه في الجملة متدين بدين الإسلام معتز به، مقيم للشعائر، وهذا من مثله في ذلك الزمان عزيز، والله أعلم.
وبعض ما ذكرته يؤيد ما نقلته في بداية المقالة عن سنيته، والله أعلم.