الخضر حسين: يكفيني كوب لبن وكسرة خبز
ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نفطة التونسية في (26 رجب 1293هـ= 16 أغسطس 1876م)، فحفظ القرآن الكريم، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة سنة (1305هـ= 1887م) وهو في الثانية عشرة من عمره، والتحق بجامع الزيتونة، وأكبَّ على التحصيل والتلقِّي، وكانت الدراسة فيه صورة مصغرة من التعليم في الجامع الأزهر في ذلك الوقت.
ثم تخرَّج محمد الخضر الحسين في الزيتونة غزير العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، محبًّا للإصلاح، فأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321هـ= 1902م) لتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وترشد الناس إلى مبادئ الإسلام وشرائعه.
في مواجهة الاستعمار الفرنسي، عندما اتُّهم ببث روح العداء:
ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الدولة العثمانية وإيطاليا؛ وقف محمد الخضر حسين قلمه ولسانه إلى جانب دولة الخلافة، ودعا الناس إلى عونها ومساندتها، وحين حاولت الحكومة ضمه إلى العمل في محكمة فرنسية رفض الاشتراك فيها، وبدأ الاستعمار الفرنسي يضيِّق عليه ويتهمه ببث روح العداء له، فاضطر الشيخ محمد الخضر الحسين إلى مغادرة البلاد سنة (1329هـ= 1910م)، واتجه إلى إستانبول.
فغادر البلاد لما واجهه من التضييق والتهم بسبب رفضه الاشتراك في العمل في المحكمة الفرنسية، فواعجبًا عندما تمرُّ الأيام، ولا تجد الحكومة الفرنسية ملجأً لمحاربة حجاب المسلمات إلا من خلال من جلس على كرسي محمد الخضر حسين!
بدأ -رحمه الله- رحلته إلى إستانبول، فزار مصر والشام، واعتقل لفترة سنة (1334هـ= 1915م) بالشام، ثم ذهب إلى إستانبول في رحلة طويلة استقرت به في نهاية مطافها في القاهرة مدينة الأزهر.
الشيخ ينزل القاهرة، ويتجنس المصرية:
نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1339هـ= 1920م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر وتوثقت علاقته بهم، ومنهم فضيلة الشيخ محب الدين الخطيب -رحمه الله-، ثم تجنَّس المصرية، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعُقدت له لجنة الامتحان، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش المُمتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عُمقًا في الإجابة، وغزارة في العلم، وقوة في الحجة، فمنحته اللجنة شهادة العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحْرٌ لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟!".
عندما وقف مدافعًا عن تطبيق الشريعة الإسلامية:
وفي عام (1344هـ= 1926م) أصدر علي عبد الرزاق -الأزهري المنتكس- كتابه "الإسلام وأصول الحكم" يهاجم فيه تطبيق الشريعة الإسلامية، ويزعم أن الإسلام ليس دين حكم، وينكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية.
فنهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب، وأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" في نفس العام، تتبَّع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبِّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجُمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو لا المعنى الذي يريده صاحب المصدر المنقول عنه.
محمد الخضر حسين يقف أمام ذيل الاستشراق طه حسين:
وفي العام التالي أصدر ذيل الاستشراق طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي زعم فيه أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًّا إنما هو مختلق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية بل جاهر بالهجوم على المعتقدات الدينية حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي..."، نعوذ بالله من الكفر والضلال.
فكان الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- ممن انبرى للرد على هذا الضلال المبين، فألَّف كتابًا شافيًا بعنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي، وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي "مرجليوث" دون أن يذكر ذلك.
محمد الخضر حسين شيخًا للأزهر:
كانت تلك الصولات والجولات، مع غزارة العلم، وحسن السمت، وصلاح العمل هي المؤهلات التي تؤهل الرجل في ذاك الزمان لمشيخة الأزهر، فاختير رحمه الله شيخًا للأزهر في (26 ذي الحجة 1371هـ= 16 سبتمبر 1952م)، وسعى في إصلاح الأزهر ثابتًا على مبادئه، دون أن يفتنه كرسي ولا منصب، ولكن صادف توليه للمشيخة بداية عصر جديد من النزول بالأمة إلى الهاوية، فلم يلبث أن قدَّم استقالته في (2 جمادى الأولى 1372هـ= 7 يناير 1954م) .
عندما كان شيخ الأزهر عزيزًا:
في عام 1953م حدث اعتداء فرنسا على سلطان المغرب محمد الخامس، وأُبعد عن بلاده، لكن بعض القبائل العميلة للاستعمار الفرنسي آزرت المعتدي، فعقد الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين جلسة لهيئة كبار العلماء، وأصدر بيانًا شديد اللهجة ضد عدوان فرنسا على السلطان الشرعي، واعتبر البيان أن العملاء الخونة خارجون عن الإسلام؛ لموالاتهم الكافر المغتصب.
وأرسل البيان إلى جريدة "الأهرام" التي عُرفت بولائها لكل حكومة خاصة الاتجاه الثوري الذي كان له بريقه في تلك الأيام، فعرضت الجريدة على المسئولين هذا البيان، فطلبوا إرجاء نشره، وفي الصباح لم يجد الشيخ بيان هيئة كبار العلماء منشورًا في الجريدة، فأرفق مع استقالته صورة من البيان وأرسلها إلى رئيس الجمهورية، فنُشر البيان كاملاً في اليوم التالي؛ تجنبًا لمصادمات قد تحدث مع الأزهر شيوخًا وطلابًا حين تُشاع الاستقالة.
وفي ذات يوم استدعاه وزير من وزراء الدولة، فأبى، وقال: "لا يملك دعوتي إلى مكتبه إلا رئيس الدولة"، فذهب إليه الوزير المذكور في اليوم التالي معتذرًا .
عندما استقال شيخ الأزهر اعتراضًا على تحكيم غير شرع الله:
وقد كان السبب في استقالته اعتراضه واحتجاجه على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي، وكان يقول بأن العكس هو الصحيح، فالذي يجب هو اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع.
لقد قدم استقالته ولسان حاله ما حفظه التاريخ من كلماته التي قالها خلال توليه لهذا المنصب: "إن الأزهر أمانة قي عنقي، أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي؛ فلا أقل من أن لا يحصل له نقص" ، وكان كثيرا ما يردد: "يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء".
ولما جاء وفد من الرئيس يساومه على دينه؛ فأجابه قائلاً: "قل للرئيس يكفيني من دنياكم كسرة خبز وكوب لبن، وقد ضمنها الله لي، وهذه استقالتي تحت تصرفكم".
وبعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ = 28 من فبراير 1958م) .
مواقف لها رجال:
لقد أخرج الأزهر -ذلك المسجد الشامخ وتلك الجامعة العريقة- رجالاً كانوا صمام الأمان لهذه الأمة؛ دافعوا عن ثوابتها، ووقفوا أمام العداة.
وأنَّى للتاريخ أن يذكر من جعل الكرسي في محرابه، وكأنه سيشفع له عند ربه، فأمثال الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- لم يكن الكرسي هو الذي خلَّد ذكراهم، وإنما خلدتها مواقفهم كرجال من ورثة الأنبياء يخشون الله، ولا يخشون أحدًا إلا الله -عز وجل-.
ونختم بتلك الكلمات للشيخ -رحمه الله-: قال -رحمه الله- في رسالته "الحرية في الإسلام":
"ولا نجهل أن القرون السالفة تمخَّضت فولدت رجالاً تمتلئ أفئدتهم غيرة على الحق والعدالة، فصغرت في أعينهم أبهة الملك، وازدروا بما يكتنفها من أدوات الاستبداد، فجاهروا بالنصيحة المُرَّة".
ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نفطة التونسية في (26 رجب 1293هـ= 16 أغسطس 1876م)، فحفظ القرآن الكريم، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة سنة (1305هـ= 1887م) وهو في الثانية عشرة من عمره، والتحق بجامع الزيتونة، وأكبَّ على التحصيل والتلقِّي، وكانت الدراسة فيه صورة مصغرة من التعليم في الجامع الأزهر في ذلك الوقت.
ثم تخرَّج محمد الخضر الحسين في الزيتونة غزير العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، محبًّا للإصلاح، فأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321هـ= 1902م) لتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وترشد الناس إلى مبادئ الإسلام وشرائعه.
في مواجهة الاستعمار الفرنسي، عندما اتُّهم ببث روح العداء:
ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الدولة العثمانية وإيطاليا؛ وقف محمد الخضر حسين قلمه ولسانه إلى جانب دولة الخلافة، ودعا الناس إلى عونها ومساندتها، وحين حاولت الحكومة ضمه إلى العمل في محكمة فرنسية رفض الاشتراك فيها، وبدأ الاستعمار الفرنسي يضيِّق عليه ويتهمه ببث روح العداء له، فاضطر الشيخ محمد الخضر الحسين إلى مغادرة البلاد سنة (1329هـ= 1910م)، واتجه إلى إستانبول.
فغادر البلاد لما واجهه من التضييق والتهم بسبب رفضه الاشتراك في العمل في المحكمة الفرنسية، فواعجبًا عندما تمرُّ الأيام، ولا تجد الحكومة الفرنسية ملجأً لمحاربة حجاب المسلمات إلا من خلال من جلس على كرسي محمد الخضر حسين!
بدأ -رحمه الله- رحلته إلى إستانبول، فزار مصر والشام، واعتقل لفترة سنة (1334هـ= 1915م) بالشام، ثم ذهب إلى إستانبول في رحلة طويلة استقرت به في نهاية مطافها في القاهرة مدينة الأزهر.
الشيخ ينزل القاهرة، ويتجنس المصرية:
نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1339هـ= 1920م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر وتوثقت علاقته بهم، ومنهم فضيلة الشيخ محب الدين الخطيب -رحمه الله-، ثم تجنَّس المصرية، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعُقدت له لجنة الامتحان، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش المُمتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عُمقًا في الإجابة، وغزارة في العلم، وقوة في الحجة، فمنحته اللجنة شهادة العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحْرٌ لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟!".
عندما وقف مدافعًا عن تطبيق الشريعة الإسلامية:
وفي عام (1344هـ= 1926م) أصدر علي عبد الرزاق -الأزهري المنتكس- كتابه "الإسلام وأصول الحكم" يهاجم فيه تطبيق الشريعة الإسلامية، ويزعم أن الإسلام ليس دين حكم، وينكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية.
فنهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب، وأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" في نفس العام، تتبَّع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبِّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجُمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو لا المعنى الذي يريده صاحب المصدر المنقول عنه.
محمد الخضر حسين يقف أمام ذيل الاستشراق طه حسين:
وفي العام التالي أصدر ذيل الاستشراق طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي زعم فيه أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًّا إنما هو مختلق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية بل جاهر بالهجوم على المعتقدات الدينية حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي..."، نعوذ بالله من الكفر والضلال.
فكان الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- ممن انبرى للرد على هذا الضلال المبين، فألَّف كتابًا شافيًا بعنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي، وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي "مرجليوث" دون أن يذكر ذلك.
محمد الخضر حسين شيخًا للأزهر:
كانت تلك الصولات والجولات، مع غزارة العلم، وحسن السمت، وصلاح العمل هي المؤهلات التي تؤهل الرجل في ذاك الزمان لمشيخة الأزهر، فاختير رحمه الله شيخًا للأزهر في (26 ذي الحجة 1371هـ= 16 سبتمبر 1952م)، وسعى في إصلاح الأزهر ثابتًا على مبادئه، دون أن يفتنه كرسي ولا منصب، ولكن صادف توليه للمشيخة بداية عصر جديد من النزول بالأمة إلى الهاوية، فلم يلبث أن قدَّم استقالته في (2 جمادى الأولى 1372هـ= 7 يناير 1954م) .
عندما كان شيخ الأزهر عزيزًا:
في عام 1953م حدث اعتداء فرنسا على سلطان المغرب محمد الخامس، وأُبعد عن بلاده، لكن بعض القبائل العميلة للاستعمار الفرنسي آزرت المعتدي، فعقد الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين جلسة لهيئة كبار العلماء، وأصدر بيانًا شديد اللهجة ضد عدوان فرنسا على السلطان الشرعي، واعتبر البيان أن العملاء الخونة خارجون عن الإسلام؛ لموالاتهم الكافر المغتصب.
وأرسل البيان إلى جريدة "الأهرام" التي عُرفت بولائها لكل حكومة خاصة الاتجاه الثوري الذي كان له بريقه في تلك الأيام، فعرضت الجريدة على المسئولين هذا البيان، فطلبوا إرجاء نشره، وفي الصباح لم يجد الشيخ بيان هيئة كبار العلماء منشورًا في الجريدة، فأرفق مع استقالته صورة من البيان وأرسلها إلى رئيس الجمهورية، فنُشر البيان كاملاً في اليوم التالي؛ تجنبًا لمصادمات قد تحدث مع الأزهر شيوخًا وطلابًا حين تُشاع الاستقالة.
وفي ذات يوم استدعاه وزير من وزراء الدولة، فأبى، وقال: "لا يملك دعوتي إلى مكتبه إلا رئيس الدولة"، فذهب إليه الوزير المذكور في اليوم التالي معتذرًا .
عندما استقال شيخ الأزهر اعتراضًا على تحكيم غير شرع الله:
وقد كان السبب في استقالته اعتراضه واحتجاجه على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي، وكان يقول بأن العكس هو الصحيح، فالذي يجب هو اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع.
لقد قدم استقالته ولسان حاله ما حفظه التاريخ من كلماته التي قالها خلال توليه لهذا المنصب: "إن الأزهر أمانة قي عنقي، أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي؛ فلا أقل من أن لا يحصل له نقص" ، وكان كثيرا ما يردد: "يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء".
ولما جاء وفد من الرئيس يساومه على دينه؛ فأجابه قائلاً: "قل للرئيس يكفيني من دنياكم كسرة خبز وكوب لبن، وقد ضمنها الله لي، وهذه استقالتي تحت تصرفكم".
وبعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ = 28 من فبراير 1958م) .
مواقف لها رجال:
لقد أخرج الأزهر -ذلك المسجد الشامخ وتلك الجامعة العريقة- رجالاً كانوا صمام الأمان لهذه الأمة؛ دافعوا عن ثوابتها، ووقفوا أمام العداة.
وأنَّى للتاريخ أن يذكر من جعل الكرسي في محرابه، وكأنه سيشفع له عند ربه، فأمثال الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- لم يكن الكرسي هو الذي خلَّد ذكراهم، وإنما خلدتها مواقفهم كرجال من ورثة الأنبياء يخشون الله، ولا يخشون أحدًا إلا الله -عز وجل-.
ونختم بتلك الكلمات للشيخ -رحمه الله-: قال -رحمه الله- في رسالته "الحرية في الإسلام":
"ولا نجهل أن القرون السالفة تمخَّضت فولدت رجالاً تمتلئ أفئدتهم غيرة على الحق والعدالة، فصغرت في أعينهم أبهة الملك، وازدروا بما يكتنفها من أدوات الاستبداد، فجاهروا بالنصيحة المُرَّة".