ولادتـــه
ولد القارئ الشيخ محمد محمود الطبلاوي نائب نقيب القراء وقارئ مسجد الجامع الأزهر الشريف، يوم 14/11/1934م في قرية ميت عقبة مركز (إمبابة) الجيزة أيام كانت ميت عقبة قرية صغيرة قريبة جداً من ضفاف نيل مصر الخالد.
كان أهم ما يميز ميت عقبة آنذاك.. انتشار الكتاتيب والاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم بصورة لم نعهدها الآن. ذهب به والده الحاج (محمود) رحمه الله إلى كتاب القرية ليكون من حفظة كتاب الله عز وجل لأنه ابنه الوحيد. عرف الطفل الموهوب محمد محمود الطبلاوي طريقه إلى الكتاب وهو في سن الرابعة مستغرقاً في حب القرآن وحفظه فأتمه حفظاً وتجويداً في العاشرة من عمره.
كانت بداية شاقة وممتعة في نفس الوقت بالنسبة للفتى المحب لكتاب الله عز وجل والذي لم يرض عنه بديلا.. يقول الشيخ الطبلاوي وهو يسترجع ذكريات لا تنسى مع كتاب الله عز وجل: وكان والدي يضرع إلى السماء داعياً رب العباد أن يرزقه ولداً ليهبه لحفظ كتابه الكريم وليكون من أهل القرآن ورجال الدين.
استجاب الخالق القدير لدعاء عبده الفقير إليه ورزق والدي بمولوده الوحيد ففرح بمولدي فرحة لم تعد لها فرحة في حياته كلها. لا لأنه رزق ولداً فقط وإنما ليشبع رغبته الشديدة في أن يكون له ابن من حفظة القرآن الكريم، لأن والدي كان يوقن أن القرآن هو التاج الذي يفخر كل مخلوق أن يتوج به لأنه تاج العزة والكرامة في الدنيا والآخرة.
وهذه النعمة العظيمة التي منّ الله علي بها وقدمها لي والدي على طبق من نور تجعلني أدعو الله ليل نهار أن يجعل هذا العمل الجليل في ميزان حسنات والدي يوم القيامة وأن يجعل القرآن الكريم نوراً يضيء له ويمشي به يوم الحساب لأن الدال على الخير كفاعله ووالدي فعل خيراً عندما أصر وكافح وصبر وقدم لي العون والمساعدة ووفر لي كل شيء حتى أتفرغ لحفظ القرآن الكريم. رحم الله والدي رحمة واسعة إنه على كل شيء قدير.
بعد أن حفظ الفتى الموهوب محمد محمود الطبلاوي القرآن كاملاً بالأحكام ولم يتوان لحظة واحدة في توظيف موهبته التي أنعم الله بها عليه فلم يترك الكتّاب أو ينقطع عنه وإنما ظل يتردد عليه بانتظام والتزام شديد ليراجع القرآن مرة كل شهر.
يقول الشيخ الطبلاوي: فبدأت قارئاً صغيراً غير معروف كأي قارئ شق طريقه بالنحت في الصخر وملاطمة أمواج الحياة المتقلبة فقرأت الخميس والأربعين والرواتب والذكرى السنوية وبعض المناسبات البسيطة، كل ذلك في بداية حياتي القرآنية قبل بلوغي الخامسة عشرة من عمري وكنت راضيا بما يقسمه الله لي من أجر والذي لم يزد على ثلاثة جنيهات في السهرة ولما حصلت على خمسة جنيهات تخيلت أنني بلغت المجد ووصلت إلى القمة.
الموهبة وبداية الشهرة
لم ينس الشيخ الطبلاوي كل من قدم له نصحاً وإرشاداً وتوجيهاً.. ودائماً يذكر من تسببوا في إثقال موهبته في الحفظ والتجويد بكل خير فيقول: دائماً أتحين الفرصة التي أخلو فيها مع نفسي وأتذكر بدايتي مع القرآن ونشأتي وأول خطواتي على درب الهدى القرآني وما وصلت إليه الآن فأشعر أنني مدين بالكثير والكثير لكل من هو صاحب فضل عليّ بعد ربي العلي القدير فأدعو لوالدي ولسيدنا رحمهما الله ولزملائي الذي شجعوني واستمعوا إلي وأنا صغير وجعلوني أشعر بأنني قارئ موهوب وأتذكر قول شيخي الذي حفظني القرآن: (يا محمد أنت موهوب وصوتك جميل جداً وقوي معبر).
ولأن سيدنا كان خبيراً بالفطرة أستطاع أن يميز الأصوات بقوله: محمد الطبلاوي صوته رخيم وفلان صوته أقرع والآخر صوته نحاسي، وكان دائماً يحثني على الاهتمام بصوتي وأولاني رعاية واهتماماً خاصاً على غير ما كان يفعل مع زملائي من حيث التحفيظ بدقة والمراجعة المستمرة.
قرأ الشيخ محمد محمود الطبلاوي القرآن وانفرد بسهرات كثيرة وهو في الثانية عشرة من عمره ودعي لإحياء مآتم لكبار الموظفين والشخصيات البارزة والعائلات المعروفة بجوار مشاهير القراء الإذاعيين قبل أن يبلغ الخامسة عشرة واحتل بينهم مكانة مرموقة فاشتهر في الجيزة والقاهرة والقليوبية، وأصبح القارئ المفضل لكثير من العائلات الكبرى نظراً لقوة أدائه وقدراته العالية وروحه الشابة التي كانت تساعده على القراءة المتواصلة لمدة زمنية تزيد على الساعتين دون كلل ولا يظهر عليه الإرهاق.
بالإضافة إلى إصرار الناس على مواصلته للقراءة شوقاً للمزيد من الاستماع إليه لما تميز به من أداء فريد فرض موهبته على الساحة بقوة.. ساعده على ذلك حرصه الشديد على صوته وصحته مع المواظبة على مجالسة مشاهير القراء والاستماع إليهم مباشرة وعن طريق الإذاعة أمثال الشيخ رفعت والشيخ علي محمود والشيخ محمد سلامه والشيخ الصيفي والبهتيمي ومصطفى إسماعيل وغيرهم من قراء الرعيل الأول بالإذاعة.
الالتحاق بالإذاعة
يعد الشيخ محمد محمود الطبلاوي أكثر القراء تقدماً للالتحاق بالإذاعة كقارئ بها وقد يحسد على صبره الجميل الذي أثبت قيمة ومبدءاً وثقة في نفس هذا القارئ المتين بكل معاني هذه الكلمة. لم يتسرب اليأس إلى نفسه ولم تنل منه أي سهام وجهت إليه. وإنما تقبل كل شيء بنفس راضية مطمئنة إلى أنّ كل شيء بقدر وأنّ مشيئة الله فوق مشيئة البشر.
تقدم تسع مرات للإذاعة ولم يأذن الله له. وفي المرة العاشرة اعتمد قارئاً بالإذاعة بإجماع لجنة اختبار القراء وأشاد المختصون بالموسيقى والنغم والانتقال من مقام موسيقي إلى مقام آخر بإمكاناته العالية، وحصل على تقدير (الامتياز) وكانت اللجنة منصفة في ذلك والذي لم يعرف عدد مرات تقدم الشيخ الطبلاوي للإذاعة كان عليه أن يقف مع نفسه وقفة تجبره على السؤال عن سر هذا القارئ الذي ترجم كل شيء وفك رموزاً وشفرات في برهة قصيرة.
إنه القارئ الوحيد الذي اشتهر في أول ربع ساعة ينطلق فيها صوته عبر الإذاعة من ينكر هذه الشهرة التي عمت أرجاء مصر والأمة العربية والإسلامية بعد انطلاق صوت صاحبها بعشر دقائق فقط.. إنني أسجل هنا حقيقة يعلمها الملايين وهي أن الشيخ الطبلاوي سجل الرقم القياسي من حيث سرعة الشهرة والصيت والانتشار وكأنه أراد أن يتحدث إلى من يهمه الأمر بلغة قرآنية وإمكانات صوتية فرضت على الدنيا اسماً جديداً أراد أن يترجم الصبر إلى فعل وعمل فحقق من الشهرة خلال نصف ساعة ما لم يحققه غيره في ثلاثين عاماً لأنه صبر 9 سنوات نصف صبر أيوب الذي صبر 18 عماً فجاءه الشفاء مرة واحدة بعد أن تفجر الماء الشافي تحت قدميه وبمجرد أن وضع قدميه تحقق له من الشفاء ما كان يحتاج إلى عشرات السنين.
كانت الفترة ما بين 1975 وحتى 1980 بمثابة غزو مفاجئ من الشيخ الطبلاوي فاحتل المقدمة مع المرحوم الشيخ عبدالباسط الذي أعطاه الجمهور اللقب مدى حياته.
مواقف في حياة الشيخ محمد محمود الطبلاوي
يقول : إنني تعرضت لموقف شديدة المرارة على نفسي وكان من الممكن أن يقضى علي كقارئ ولكن الله سلّم. هذا الموقف أنقذتني منه عناية السماء وقدرة الله. وهذا الموقف حدث عندما كنت مدعواَ لإحياء مأتم كبير بأحد أحياء القاهرة المهتم أهله باستدعاء مشاهير القراء وكان السرادق ضخماً والوافدون إليه بالآلاف، وكان التوفيق حليفي والنفحات مع التجليات جعلتني أقرأ قرآنا وكأنه من السماء...
وأثناء استراحتي قبل تلاوة الختام جاءني القهوجي وقال تشرب فنجان قهوة يا شيخ محمد؟ قلت له : إذا ما كنش فيه مانع. وبعد قليل أحضر القهوة ووضعها أمامي على الترابيزة.. فانشغلت ونسيتها.. فقال لي صاحب الميكروفون القهوة بردت يا شيخ محمد فمددت يدي لتناولها فجاءني صديق وسلم عليّ وبدلاً من وضع يدي على الفنجان صافحت الرجل وانشغلت مرة ثانية وأردت أن أمد يدي فشعرت بثقل بذراعي لم يمكنني من تناول الفنجان وفجأة جاءني صاحب المأتم وطلب مني القراءة فتركت القهوة ولكن صاحب الميكرفون شربها وبعد لحظات علمت أنه انتقل بسيارة الإسعاف إلى القصر العيني وبفضل من الله تم إسعافه ونجا بقدرة الله.
وهكذا تدخلت عناية السماء مرتين الأولى عندما منعتني القدرة من تناول القهوة والثانية نجاة الرجل بعد إسعافه بسرعة. وهذا الموقف حدث لي بعد إلتحاقي بالإذاعة ووصلت إلى المكانة التي لم يصل إليها أحد بهذه السرعة.
وهناك موقف لن ينسى وسيظل محفوراً بذاكرتي وهو: أراد أحد القراء أن يشن حرباً عليّ لا لشيء إلا لأنني أخذت حظاً وفيراً من الشهرة بفضل الله تعالى.. فقال هذا القارئ الذي لا داعي لذكر اسمه. بعد التحاقه بالإذاعة بشهور: أريد الفرصة لكي أمسح الطبلاوي وأمثاله!! فأعطي الفرصة كاملة وأخذ إذاعة خارجية بعدها استبعد ستة شهور لأنه لم يتقن التلاوة!! فهذه جرأة على قدرة الله. أراد الله أن يشعره بأن الله يسمع ويرى وبيده ملكوت كل شيء هو المعز وهو المذل وهو على كل شيء قدير.
موقف خارج مصر
يقول الشيخ الطبلاوي: سافرت إلى الهند ضمن وفد مصري ديني بدعوة من الشيخ أبو الحسن الندوي. وكان رئيس الوفد المرحوم الدكتور زكريا البري وزير الأوقاف في ذلك الوقت.. وحدث أننا تأخرنا عن موعد حضور المؤتمر المقام بجامعة الندوة بنيودلهي، وكان التأخير لمدة نصف ساعة بسبب الطيران.. وبذكاء وخبرة قال الدكتور البري: الوحيد الذي يستطيع أن يدخل أمامنا هو الشيخ الطبلاوي لأنه الوحيد المميز بالزي المعروف ولأنه مشهور هنا وله مكانته في قلوب الناس بما له من مكانة قرآنية، وربما يكون للعمة والطربوش دور في الصفح والسماح لنا بالدخول.
وحدث ما توقعه الدكتور البري وأكثر.. والمفاجأة أن رئيس المؤتمر وقف مرحباً وقال بصوت عال: حضر وفد مصر وعلى رأسهم فضيلة الشيخ الطبلاوي.. فلنبدأ احتفالنا من جديد.. كانت لفتة طيبة أثلجت صدر الوزير لأن الندوة كانت تجمع شخصيات من مختلف دول العالم. وبعد انتهاء الجلسة التف حولي كل الموجودين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم يأخذون معي الصور التذكارية.. فقال لهم الدكتور الوزير : كلكم تعرفون الشيخ الطبلاوي؟ فردوا وقالوا: والشيخ عبدالباسط أيضاً وكثير من قراء مصر العظماء.
وفي الحقيقة عاد السيد الوزير إلى مصر بعد انتهاء المؤتمر وأعطاني عدة مسئوليات.. منها شيخ عموم المقارئ المصرية.. وعضو بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.. وعضو بلجنة القرآن بالوزارة ومستشار ديني بوزارة الأوقاف.. ففوجئت بقيام مجموعة من مشاهير القراء بالاحتجاج على هذه الامتيازات.. تحسب لقراء القرآن كلهم وفي مصلحتنا جميعاً، ويعد هذا نجاحاً للقراء، وكسباً لنا جميعاً.. وواجب علينا أن نفرح بهذا.
المصحف المرتل
يقول الشيخ الطبلاوي: والحمد لله لقد أكرمني المولى جل شأنه بأن مكنني من تسجيل القرآن الكريم كاملاً مرتين.. مجوداً ومرتلاً. وهذا هو الرصيد الذي أعتز به وهو الثروة التي منّ الله عليّ بها في الدنيا والآخرة.
أما بالنسبة للمصحف المرتل فهو مسجل بصوتي ويذاع بدول الخليج بناء على رغبة إذاعاتها.. وإذا طلبت إذاعتنا الغالية هذا المصحف فلن أتأخر عن إهدائه لمستمعيها فوراً وبدون مقابل مادي لأن الإذاعة صاحبة فضل على جميع القراء.
بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من التلاوات النادرة والحفلات الخارجية التي سجلتها في السبعينيات بالمساجد الكبرى في مصر وفي بعض الدول العربية والإسلامية.
السفر والبعثات المتعددة إلى الخارج
سافر إلى أكثر من ثمانين دولة عربية وإسلامية وأجنبية. بدعوات خاصة تارة ومبعوثاً من قبل وزارة الأوقاف والأزهر الشريف تارات أخرى ممثلاً مصر في العديد من المؤتمرات ومحكماً لكثير من المسابقات الدولية التي تقام بين حفظة القرآن من كل دول العالم.
ومن الدعوات التي يعتز بها، هي الدعوة التي تلقاها من مستر جون لاتسيس باليونان ليتلو القرآن أمام جموع المسلمين لأول مرة في تاريخ اليونان.. وكذلك الدعوة التي وجهت إليه من قبل المسئولين بإيطاليا عن طريق السفارة المصرية لتلاوة القرآن الكريم بمدينة (روما) لأول مرة أمام جموع غفيرة من أبناء الجاليات العربية والإسلامية هناك.
ولم ينس الشيخ الطبلاوي دعوة القصر الملكي بالأردن لإحياء مأتم الملكة (زين الشرف) والدة الملك حسين، حيث أقيم العزاء الرسمي بقصر رغدان بعمان.
وهناك مئات الأسفار التي جاب خلالها الشيخ الطبلاوي معظم دول العالم لتلاوة كتاب الله عز وجل. ونتج عن هذا العمر القرآني للشيخ الطبلاوي كثير من التسجيلات التي سجلت بالاحتفالات الخارجية وهي موجودة لدى شركة (إبراهيم فون) لصاحبها الحاج إبراهيم محمد محمود الطبلاوي.
تكريم الشيخ الطبلاوي
حصل على وسام من لبنان في الاحتفال بليلة القدر تقديراً لجهوده في خدمة القرآن الكريم.. ورغم السعادة والفرحة التي لا يستطيع أن يصفها بهذا التقدير إلا أنه يقول: إني حزين لأنني كرمت خارج وطني ولم أكرم في بلدي مصر أم الدنيا ومنارة العلم وقبلة العلماء.