القصة.. الوجودية
لا شك أن القصة أقرب إلى تركيز المطالب في الذهن، فان الذهن بتشوقه لاستماع القصة، يتركز فيه ما يلقى إليه من القصص، وحيث كان المطلب مندمجاً في القصة، يبقى المطلب في الذهن تبعاً، بل يؤثر فيع ترغيباً وترهيباً وحثاً أكثر فأكثر..
وهذا هو سر القصص القرآنية، كما ألمع إلى ذلك القرآن الكريم بنفسه حيث قال :( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (7).
كما أن الإنسان بفطرته الأولية اهتدى إلى ذلك منذ عشرات القرون، فقصص (كليلة ودمنة) الحِكَمية إنما صبغت لأجل هذه الغاية.
لكن ذلك كله إنما يكون بالنسبة إلى الأمور القريبة من الإحساس، كالترغيب إلى الصدق، والتنفير عن الخيانة أو ما أشبه ذلك.
أما الأمور البعيدة عن الإحساس، وبالأخص المطالب الفلسفية ـ من الدرجة الثانية أو الثالثة ـ فالقصة إنما توجب البشاعة فيها، وتوجب تضاعف العبء على الفهم، لأن الذهن يلتفت تارة إلى القصة بما أنها تعطي المطلب الفلسفي، وتارة إلى المطلب الفلسفي بالذات، بخلاف ما لو صببت المطلب في قالب علمي، وأريته عارياً عن الحشو والزوائد إلى الاذهان.
مثلاً: دليل التمانع الدال على استحالة التعدد في المبدأ الأول، إذا وضع في قالب القصة، ابتعد عن الفهم.. اللهم إلا إذا أراد الإنسان (الخطابة) بمعناها المنطقي، لا إعطاء الدليل الفلسفي.
ولذا.. نجد أن الكتب الثلاثة لسارتر (وقف التنفيذ) و(سن الرشد) و(الحزن العميق) لا يكاد يدرك المراد منها،إلا إذا علم المطالع من الخارج المراد، أو كان دقيقاً أكثر دقة من الدقة الكافية لفهم المطالب الفلسفية.. واليك شاهداً من ذلك.
في كتاب (الغثيان)(8):
«إذا كنت جالساً في تلك الساعة على مقعد من مقاعد الحديقة العامة، وكانت جذور شجرة الكستناء تغوص في الأرض تماماً تحت مقعدي، وكنت قد نسيت أن تلك جذور، وتلاشت الكلمات معها معاني الأشياء، ووجوه استخدامها والمرتكزات الضعيفة التي خطها الناس على سطحها، إذ كنت أجلس حاني الظهر قليلاً، منعكس الرأس وحيداً في مواجهة هذه الكتلة السوداء المعقدة، وهي جامدة تماماً، ثبت الذعر في قلبي، ثم ألم بي فجأة هذا الإلهام.
وكانت هذه الرؤية قطعت أنفاسي، وقبل هذه الأيام الأخيرة لم أحس قط بما تعني كلمة (وجود) احساسي بها الآن، إذ كنت كالآخرين الذين يتنزهون على شاطئ البحر في ثيابهم الربيعية، وكنت أقول مثلهم: «البحر لهو» اخضر، وهذه النقطة «هي» بيضاء، وهذه «هي» قبرة تحلق في الفضاء.. ولكنني ما كنت أحس بأن هذه الاشياء توجد، بان القبرة هي قبرة موجودة، أن الوجود يتخفى عادة ويخبئ نفسه، فهو هنا حولنا وفينا، وهو نحن، ولا نستطيع لفظ كلمتين دون أن نتحدث عنه، وفي النهاية لا تستطيع لمسه، وإذا كنت أظن أنني أفكر فيه، تبين لي أنني لم «أكن أفكر شيئاً» فقد كان رأسي خالياً، أو كان فيه كلمة واحدة هي كلمة «الكينونة» أو كنت أفكر …».
أرأيت كيف أن القصة المتقدمة صارت عبئاً على الذهن؟ أليس كان الأقرب إلى الذهب أن يقول: «الوجود شامل لجميع الأشياء، فكل شيء موجود ، فالبحر والقبرة والشجرة موجودات»؟
أما القصة فإنها تجلب الذهن إلى نفسها، أولا، ثم يضطرب الذهن بين القصة والغاية المرادة منها، وهذا الذي ذكرناه ليس إشكالاً علمياً على هذه الطريقة، وإنما مجرد تنبيه إلى خطأ هذه الفكرة، اعني صب المطالب الفلسفية في القوالب القصصية.
أما ما تقوله: (دي بوفوار) في (الوجودية وحكمة الأمم) عذراً لصب المطالب في القصص: «إذا كانت وحدة الماهوية تختص بالفلسفة العادية، فالقصة الطويلة وحدها هي التي تتيح وصف انبثاق الوجود وتدفقه العجيبين، في حقيقتهما الكاملة الغريبة الآتية».
فذلك بنفسه يحتاج إلى التفسير والحل، فكيف يمكن أن يجعل هذا العذر مبرراً لأصل القصة، فكيف بالطويلة منها؟