ذكر المَقَّري(1) في كتابه العجيب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) الباب الرابع - ذكرقرطبة الزهراء والزاهرة.
حيث ذكراشتهار قرطبة بالعناية بالكتب ، وكثرة عناية أهلها بالعلم ، وأدواته ، حتى أصبح التجمل بالمكتبات شعاراً لرؤساء قرطبة مع خلوهم من أسباب العلم. فقال نقلاً عن ابن سعيد المغربي :
(قال والدي: ومن محاسنها - أي قرطبة - ظرف اللباس، والتظاهر بالدين، والمواظبة على الصلاة، وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم، وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها، والتستر بأنواع المنكرات، والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم، وهي أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى إن
الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها ليس إلاّ لأن يقال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به.
قال الحضرمي: أقمت مرّة بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ، إلى أن بلغ فوق حدّه.
فقلت له: يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلّغه إلى ما لا يساوي.
قال: فأراني شخصاً عليه لباس رياسة ، فدنوت منه، وقلت له: أعز الله سيّدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده.
قال: فقال لي: لست بفقيه، ولا أدري ما فيه، ولكنّي أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فها موضع يسع هذاالكتاب، فلمّا رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته، ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير.
قال الحضرمي: فأحرجني ، وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيراً إلاّ عند مثلك ، يعطى الجوز من لا عنده أسنان ، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلّة ما بيدي بيني وبينه.
قال ابن سعيد: وجرت مناظرة بين يدي منصور بني عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه: ما أدري ما تقول، غير أنّه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية).
التعليق :
1- أهمية العناية بمخطوطات العلوم التي وصلتنا عن مدينة قرطبة لنفاستها ، وعناية أهلها بالعلم قديماً ، وقد نبغ كثير من العلماء من قرطبة منهم ابن عبدالبر ، والقرطبي صاحب التفسير ، وقبله القرطبي شيخه أبو العباس ، وغيرهم كثير.ولا تزال خزائن المخطوطات حتى اليوم مليئة بمخطوطات قرطبة ، على كثرة ما أتلف النصارى منها أيام حملات التطهير الديني والعرقي ومحاكم التفتيش.
2 - أن التباهي بالمكتبات قديم ، مع خلو جامعها من معرفة ما فيها. وكم رأينا من المفارقات في ذلك. فرب مسؤول لديه في مكتبته من نفائس الكتب ما لا يعرف قيمته ولا قدره ، وقد رأيت في بيت أحد أقاربي - وهو برتبة عسكرية عالية - نسخةً مجلدة نفيسة من كتاب (التمهيد) لابن عبدالبر ، فسألته عن هذا الكتاب ، فلم يحسن قراءة عنوانه ، ونسي من أين جاء هذا الكتاب إلى هذا الرف في مجلسه ، وقال وهو منشغل بشرب القهوة : يمكن يكون كتاب مفيد !
فقلت له : إنني أشعر بالغربة التي يعاني منها هذا الكتاب في بيتك ، فلو علم مؤلفه بوقوعه في يد مثلك لما تكلف تصنيفه. ثم سألته : وماذا تصنع به وأنت لا تدري ما فيه ؟
فقال ضاحكاً : يملأ مكانه في الرف ، سيكون منظره غيرمقبول بدون الكتاب !
قلت : فهذا كصاحب الحضرمي وإن لم يعلم بقصته .
3- أن البيئة العلمية تعين طالب العلم على طلبه ، فخروج علماء كثر من قرطبة ، بسبب ازدهار حركة العلم والتصنيف ، ورواج الكتب أعان على ذلك ، بخلاف مدن لم تشتهر بذلك ، وتأمل كلام ابن رشد في أشبيلية ولعله من باب الدعابة لابن زهر.
4- لا يُقَرُّ الحضرمي - عفا الله عنه - في اعتراضه على القَدَرِ بقوله :(نعم لا يكون الرزق كثيراً إلاّ عند مثلك، يعطى الجَوزُ من لا عنده أسنان، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلّة ما بيدي بيني وبينه). وما أظنه قالها إلا زلة ، ونفثة مصدور أفلتت بغتة من صدر طالب علم حريص قعد به قل المال في يده عن نيل مراده ، وما أكثر أمثال هذه النفثة عند أمثاله قديماً وحديثاً.
---------
(1) المقري بفتح الميم ، وتشديد القاف المفتوحة على ورن الأزهري . نسبة إلى مَقَّرة ، وهي قرية من قرى تلمسان .
_________________
نقلا عن الدكتور / عبدالرحمن الشهري
المحاضر بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة الملك خالد
جزاه الله عنا كل خير
حيث ذكراشتهار قرطبة بالعناية بالكتب ، وكثرة عناية أهلها بالعلم ، وأدواته ، حتى أصبح التجمل بالمكتبات شعاراً لرؤساء قرطبة مع خلوهم من أسباب العلم. فقال نقلاً عن ابن سعيد المغربي :
(قال والدي: ومن محاسنها - أي قرطبة - ظرف اللباس، والتظاهر بالدين، والمواظبة على الصلاة، وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم، وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها، والتستر بأنواع المنكرات، والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم، وهي أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى إن
الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها ليس إلاّ لأن يقال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به.
قال الحضرمي: أقمت مرّة بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ، إلى أن بلغ فوق حدّه.
فقلت له: يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلّغه إلى ما لا يساوي.
قال: فأراني شخصاً عليه لباس رياسة ، فدنوت منه، وقلت له: أعز الله سيّدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده.
قال: فقال لي: لست بفقيه، ولا أدري ما فيه، ولكنّي أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فها موضع يسع هذاالكتاب، فلمّا رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته، ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير.
قال الحضرمي: فأحرجني ، وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيراً إلاّ عند مثلك ، يعطى الجوز من لا عنده أسنان ، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلّة ما بيدي بيني وبينه.
قال ابن سعيد: وجرت مناظرة بين يدي منصور بني عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه: ما أدري ما تقول، غير أنّه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية).
التعليق :
1- أهمية العناية بمخطوطات العلوم التي وصلتنا عن مدينة قرطبة لنفاستها ، وعناية أهلها بالعلم قديماً ، وقد نبغ كثير من العلماء من قرطبة منهم ابن عبدالبر ، والقرطبي صاحب التفسير ، وقبله القرطبي شيخه أبو العباس ، وغيرهم كثير.ولا تزال خزائن المخطوطات حتى اليوم مليئة بمخطوطات قرطبة ، على كثرة ما أتلف النصارى منها أيام حملات التطهير الديني والعرقي ومحاكم التفتيش.
2 - أن التباهي بالمكتبات قديم ، مع خلو جامعها من معرفة ما فيها. وكم رأينا من المفارقات في ذلك. فرب مسؤول لديه في مكتبته من نفائس الكتب ما لا يعرف قيمته ولا قدره ، وقد رأيت في بيت أحد أقاربي - وهو برتبة عسكرية عالية - نسخةً مجلدة نفيسة من كتاب (التمهيد) لابن عبدالبر ، فسألته عن هذا الكتاب ، فلم يحسن قراءة عنوانه ، ونسي من أين جاء هذا الكتاب إلى هذا الرف في مجلسه ، وقال وهو منشغل بشرب القهوة : يمكن يكون كتاب مفيد !
فقلت له : إنني أشعر بالغربة التي يعاني منها هذا الكتاب في بيتك ، فلو علم مؤلفه بوقوعه في يد مثلك لما تكلف تصنيفه. ثم سألته : وماذا تصنع به وأنت لا تدري ما فيه ؟
فقال ضاحكاً : يملأ مكانه في الرف ، سيكون منظره غيرمقبول بدون الكتاب !
قلت : فهذا كصاحب الحضرمي وإن لم يعلم بقصته .
3- أن البيئة العلمية تعين طالب العلم على طلبه ، فخروج علماء كثر من قرطبة ، بسبب ازدهار حركة العلم والتصنيف ، ورواج الكتب أعان على ذلك ، بخلاف مدن لم تشتهر بذلك ، وتأمل كلام ابن رشد في أشبيلية ولعله من باب الدعابة لابن زهر.
4- لا يُقَرُّ الحضرمي - عفا الله عنه - في اعتراضه على القَدَرِ بقوله :(نعم لا يكون الرزق كثيراً إلاّ عند مثلك، يعطى الجَوزُ من لا عنده أسنان، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلّة ما بيدي بيني وبينه). وما أظنه قالها إلا زلة ، ونفثة مصدور أفلتت بغتة من صدر طالب علم حريص قعد به قل المال في يده عن نيل مراده ، وما أكثر أمثال هذه النفثة عند أمثاله قديماً وحديثاً.
---------
(1) المقري بفتح الميم ، وتشديد القاف المفتوحة على ورن الأزهري . نسبة إلى مَقَّرة ، وهي قرية من قرى تلمسان .
_________________
نقلا عن الدكتور / عبدالرحمن الشهري
المحاضر بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة الملك خالد
جزاه الله عنا كل خير
عدل سابقا من قبل أحمد في الخميس أبريل 16, 2009 10:17 am عدل 1 مرات (السبب : تنسيق الألوان)