محمد علي شمس الدين - روجيه غار ودي
هذا الكتاب «هل نحن بحاجة إلى الله؟» "Avons-nous besion de Dieu?" كتبه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي Roger Garaudi، صاحب التحولات الفكرية المثيرة، في مرحلته الايمانية (المسيحية)، وقام بترجمته الى العربية الدكتور محمد كامل ضاهر، ليصدر العام 2007 عن دار البيروني، بيروت، وعنوان الكتاب عنوان يستثير القارئ المعني بأسئلة تمس كينونته ومصيره وشروط حياته الراهنة، في عالم مختنق بحروب الإبادة الواصلة لحدود العدمية، ولحدود لا يفصل فيها بين الإلحاد والإيمان سوى خيط رفيع من تفكّر أو قراءة أو إيمان، فالإنسان، اليوم، على اختلاف مواقعه وانتماءاته، وسواء انتمى الى عالم استهلاكي ممسوح منمط ومسحوق ومنتهك، كشعوب عالم الجنوب على الاجمال، أو انتمى الى عالم قوي انتهاكي وذئبي مزوّد بكل ما قدمته العولمة وما بعد الحداثة من وسائل وذرائع وتقنيات الغلبة (على ما هو حال عالم الشمال على العموم)... نقول إن هذا الإنسان (المتعدد)، ومن زوايا مختلفة، يجد نفسه محاصراً بأسئلة كثيرة تتعدى وصف الراهن ورصده الموضوعي، في اتجاه فكري، وجودي أحيانا، ولاهوتي أو ميتافيزيقي في أحيان اخرى، إذ، على ما يظهر، وعلى امتداد العصور وتقلبات الأفكار والذرائع والقيم، لا بد من جزء من الوجود في العدم، ومن العدم في الوجود، وأشد الفلسفات الإلحادية عنفاً، متمثلة بالفيلسوف الالماني نيتشه، تنطوي على لاهوت إيماني ما... كما أن أكثر الافكار غيبية، تنطوي في داخلها على نواة من واقع بشري وتاريخي... فالذي يوحد الإنسان على امتداد العصور، ليس الخطيئة، كما يقول نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» بل «الألم»... هذا الإنسان الذي «أغمض عينيه ونامْ/ وتغطى بالآلامْ» على قول صلاح عبد الصبور.
«هل نحن بحاجة إلى الله» سؤال حاضر مثلما هو ماض، وللغد. إنه سؤال الحاجة الى المعنى الاكثر حضوراً وضغطا في تاريخ البشرية، ومن ناحيتي الايجاب (الضرورة) والسلب (الإنكار)، وهذا المعنى يتمثل بمفردة «الله».
ذريعة الخلق
قرأت لخورخي بورخيس في كتابه «الصانع» (ترجمة سعيد الغانمي، ط ,1996 «المؤسسة العربية للدراسات والنشر») النص التالي بعنوان «البرهان الطيوري»:
«أغمض عيني فأرى سرباً من الطيور. تدوم الرؤية ثانية أو لعلها أقل. ولا أعرف كم طيراً رأيت. هل كان عددها نهائيا ام لا نهائيا؟ تنطوي هذه المشكلة على قضية وجود الله. فإذا كان الله موجوداً فإن العدد نهائي، لان عدد الطيور معروف عند الله. وإذا لم يوجد الله، فإن العدد لا نهائي لأنه ما من أحد يقدر على عدّها. في هذه الحالة، رأيت (لنفترض) أقل من عشرة طيور وأكثر من واحد. لكنني لم أر تسعة أو ثمانية أو سبعة أو ستة ولا خمسة ولا أربعة ولا ثلاثة ولا طيرين. لقد رأيت عدداً من الطيور بين عشرة وواحد، لكن ليس تسعة ولا ثمانية ولا سبعة ولا ستة ولا خمسة... الخ. وهذا العدد، كعدد كلي، لا يمكن إدراكه. إذاً فالله موجود» ـ انتهى كلام بورخيس ـ.
هذا النص رمزي عجيب.. إذ ما صلة رؤية بورخيس الأعمى لعدد لا يستطيع تحديده من الطيور، بوجود الله؟ إنه إحساسه بضرورة معنى الرؤية لدى رجل عاجز عنها وبالتالي ملزم بالرؤية من داخل وكأن الرؤية لديه هي بالضرورة رؤيا.
لا يبتعد روجيه غارودي، في ذريعة من ذرائعه التي يتوسلها لتوكيد الحاجة الى الله، عن ذريعة بورخيس. يسميها ذريعة «الخلق»، ويوردها بعد ذريعتين هما على التوالي: فقد مسلّمات المعرفة Postulats ثم المحبة، والثالثة الخلق. والخلق هو التاريخ الفني والابداعي للإنسان.. حيث يستنبط لاهوتا من تجارب بشرية فنية مختلفة. إنه التجربة الثالثة للسمو. فالفن هو الوفرة في طرق الحياة، وتاريخ الفنون هو تاريخ الممكنات البشرية، في حين ان التاريخ السياسي تاريخ السلطة السائدة الواحد. إن وجود شكسبير وسرفنتس في عصر النهضة (قرن الوحوش والعواصف) سمح لهما بكتابة آثار تنقل إلينا القلق والأمل إزاء معنى الحياة. في مسرحية الملك لير التي كتبها شكسبير العام ,1605 يظهر في الفصل الرابع، المشهد الاول العالم والمملكة كقطعة خراب وجنون... حيث «المجانين يقودون المكفوفين». ثم هو يطرح السؤال التالي: «من يستطيع أن يقول من أنا؟» فيجيب دون كيشوت: أنا أعرف من أنا. فدون كيشوت العبئي محارب طواحين الهواء ينقذ وجوده باعتقاده أنه يعرف من هو. ما هو معناه. المسألة إذاً العثور على معنى.. والله معنى للإنسان. إذاً هو ضرورة.
المعنى نفسه يستشعره الناظر الى «تمثال العبد المقيّد» منحوتة ميكال آنج... حيث قراءة التمثال استشعار بحيويته، لا بكونه أنموذجاً تشريحياً، بل بكونه معنى متغلغلاً في جسد الرأي وعقله ووجدانه. مثله تمثال بوذا لماثورا Mathura، فالجفون الهادئة المغمضة لبوذا والخطوط الانسيابية، تجعل الناظر إليه يمتص المدى وينطوي على المعنى. وحتى زيارة كاتدرائية شارتز أو نوتردام دي باريس (على ماي ستشعر غارودي) فهي أشبه بحج أو طواف روحي، وليست نزهة نظر خارجي. إن كل فن، سواء كان قديماً أو حديثاً، نحتا كان أو رسما أو رقصا أو شعراً، يكتسب صفة «المقدّس» من خلال إثارة المعنى.. وهي إشارات يراها الفيلسوف الفرنسي، لوجوب وجود الله.
إن «كنيسة أوفير» التي حوّلها الرسام الهولندي فان غوغ الى لوحة خالدة، أصبحت بين يديه لحماً ودماً تحت ضغط سماء ذات زرقة حارقة تسوّدها ثعابين ملونة.. وهذه الكنيسة/ اللوحة سوف تثير فينا دائما قشعريرة المعنى.
في الرقص، وهو حصيلة كل الفنون، يوسع الراقص مساحة جسده كما فعلت مارتا غراهام، الاميركية، حتى تشمل سهول أميركا الشاسعة وربما ضيّق الراقص حدود جسده، كما فعلت ماري ويغمان، ليظهر مكبلاً، تحت هامش البطش الهتلري، وكأن المدى قفص.
يكتب غارودي ما يلي: «... تلك هي تجربة التسامي الاساسية الثالثة في الفنون، التي تتيح لنا أن نفهم ولادة تطلعات إلهية في قلب البشر، حتى ولو لم تشارك فيها» (ص 672).
يتعامل الفيلسوف الفرنسي في مفهوم «الله» تعاملا مشتبكا ومعرفيا، كما يتعامل معه تعاملا تاريخيا يسائل من خلاله تاريخ المسيحية، بشكل أساسي، ومن ثم تاريخ التطور الفكري في الغرب وصولا الى ثلاثي الإلحاد الأبرز: كيركغار، ماركس، ونيتشه... وذلك من خلال فصل من أهم فصول كتابه: فصل «الإلحاد مرحلة ضرورية للإيمان» فهو يدرك تماما أن «كلمة الله بالذات خطيرة بسبب الدلالات القديمة التي تشتمل عليها». الملك القادر على كل شيء، والذي ننتظر سلطانه المطلق والسحري لنوجه إليه طلباتنا على شكل صلوات تؤدي بنا الى نسيان مسؤولياتنا، والحاكم الاخير الذي ننسى أن الاحكام التي نعتقد أنه يحملها، متسمة بالاخلاقيات المسيطرة والقيم الاجتماعية لكل عصر وان كل جيل يتوهم أنها أبدية.
ويتبع خطا مزدوجا في التحليل. فهو صاحب منهج تاريخي في قراءة الافكار والفلسفات القديمة والحديثة، لكنه صاحب تأويل واستنباط ايضا، ملخصه الوصول الى اللاهوت المنبثق من تجارب بشرية. فكما الله معنى، لجهة قراءة الفنون المختلفة، فإنه ايضا تحرير، تأسيساً على ثورات العبيد، والحركات الحديثة للشعوب وأبطالها (غيفارا).
أي إله
ومن أهم الفصول التي كتبها، الفصل المتعلق بالفكر الغربي الإلحادي من خلال كيركغارد وماركس ونيتشه.. والانتهاء لرؤية ضرورة الإلحاد كمرحلة ممهدة للايمان. وهي مرحلة (أي الإلحاد) مر بها غارودي نفسه قبل الماركسية التي اعتنقها، ومن ثم انتقل للمرحلة الايمانية التي وصلته بالاسلام (مروراً بالعودة للايمان المسيحي كما يرى إليه). وكأنه يستعيد أو يستعير في درسة علاقة الإلحاد بالايمان، المقولة التي سبق ونادى بها الإمام الغزالي، في رحلته القلقة من الشك الى اليقين (الصوفي) حيث قال: «الشك قنظرة اليقين».
يرى غارودي أن الشك الذي عاشه متأثراً بكل من كيركغارد وماركس ونيتشه، قدّم له التوتر المأساوي مع الشك الضروري للايمان. في الإلحاد نقد مزدوج للعلم وللدين، من حيث يخدم كل منهما غايات غير إنسانية، أي سلطوية ومتسلطة وجائرة. يدحض غارودي كل ما لا يخدم إنسانية الإنسان من أفكار وقيم (حتى لو كانت دينية أو مسيحية بشكل خاص) ويمتدح الإلحاد الإنسان، إذا صح التعبير، أي ذاك المؤمن بحق الإنسان في الحياة والازدهار، في الحب والفن، وأخيراً في المعنى. هنا يغدو إلحاد كل من كيركغادر وماركس ونيتشه إلحاداً ينطوي على أساس إنساني وإيماني، بإله غير مفصول عن الإنسان، غير متعال، وغير غائم، وغير خادم لسلطة الكهنوت أو لسلطة الاقطاع أو الحكام... فهو إيمان بالفعل البشري في التحرر والسمو. هذا هو الإله الحقيقي لهؤلاء الملاحدة على ما يرى غارودي. من هنا فالمسيحية بالنسبة إليه وإليهم ليست مسيحية واحدة (من بولس حتى اليوم). في الفصل الاخير من كتاب كيركغارد المسمى «دراسة اليأس» "Traité du désespoir" كما في بحثه المسمى «إمّا... وإمّا» "Ou bien.. ou bien" ينتهي الى اعتبار الايمان المتمثل بيسوع داخل النفس البشرية لا خارجها. يلي البحث المتعلق بماركس. إن ما يرفضه ماركس هو التبريرات اللاهوتية المسيحية للاستبداد. وما كان بدأه كيركغارد من نقد المسيحية التاريخية ومؤسساتها انطلاقا من الفرد تابعه ماركس انطلاقا من المجتمع. فالرأسمالية إنكار للإنسان، تخدمها المؤسسات الدينية، أما البروليتاريا فإنكار للإنكار. في كتابه «رأس المال» استنادا الى فيكو Vico ميّز الفطرة (الطبيعية والحيوانية) عن التاريخ البشري الذي هو إرادة ومعنى.. هنا يتكوّن لديه لاهوت إنساني، ويلتقي مع هيغل في ضرورة علمنة الرجاء المسيحي في ملكوت الله، بحيث يبدو أنهما يلتقيان معا في ما قاله القس توما مونزير الذي قاد في القرن السادس عشر ثورة فلاحي سواب، في هذا الشعار المدوّن على راياتهم: «يا رب، ادعم عدالتك الإلهية».
أما الملحد الثالث، نيتشه، في البحث الغارودي، فيذهب أبعد في نقده للمسيحية التاريخية، فضلا عن نقده الشرس، في كتابه «الأصنام» وهكذا تكلم زرادشت، لسلسلة أفكار وفلسفات تبدأ مع سقراط «حيث فساد الفلسفة بدأ معه» ويمر بأفلاطون باختراعه المثال، ولا تنتهي بكيركغارد، لكن يلاحظ ان نيتشه ولّد مسيحا آخر في فلسفته، يسميه «الرسول الفرح» «يسوع البشارة السارة» وهو ايضا بوذا الألم والطمأنينة لا الخطيئة. (كما يرى في هكذا تكلم زرادشت)...: «دعني أكنْ يا زرادشت ضيفك لليلة واحدة» وأسلافه كما يرى هم هيراقليطس وأمبيد وكليس وسبينوزا وغوته. وما يسميه العود الأبدي أو الأبدية، هو الايمان بالإنسان محطم كل الاصنام، الإنسان الكلي، السوبرمان الذي يناجيه قائلا «أحبك أيتها الأبدية»... فالأبدية كما يرى نيتشه ليست خارج الإنسان، والله ايضا.. وهو ما لا ينكره غارودي بكل حال، في مراحل تطوراته الفكرية والروحية... منقووووووول
هذا الكتاب «هل نحن بحاجة إلى الله؟» "Avons-nous besion de Dieu?" كتبه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي Roger Garaudi، صاحب التحولات الفكرية المثيرة، في مرحلته الايمانية (المسيحية)، وقام بترجمته الى العربية الدكتور محمد كامل ضاهر، ليصدر العام 2007 عن دار البيروني، بيروت، وعنوان الكتاب عنوان يستثير القارئ المعني بأسئلة تمس كينونته ومصيره وشروط حياته الراهنة، في عالم مختنق بحروب الإبادة الواصلة لحدود العدمية، ولحدود لا يفصل فيها بين الإلحاد والإيمان سوى خيط رفيع من تفكّر أو قراءة أو إيمان، فالإنسان، اليوم، على اختلاف مواقعه وانتماءاته، وسواء انتمى الى عالم استهلاكي ممسوح منمط ومسحوق ومنتهك، كشعوب عالم الجنوب على الاجمال، أو انتمى الى عالم قوي انتهاكي وذئبي مزوّد بكل ما قدمته العولمة وما بعد الحداثة من وسائل وذرائع وتقنيات الغلبة (على ما هو حال عالم الشمال على العموم)... نقول إن هذا الإنسان (المتعدد)، ومن زوايا مختلفة، يجد نفسه محاصراً بأسئلة كثيرة تتعدى وصف الراهن ورصده الموضوعي، في اتجاه فكري، وجودي أحيانا، ولاهوتي أو ميتافيزيقي في أحيان اخرى، إذ، على ما يظهر، وعلى امتداد العصور وتقلبات الأفكار والذرائع والقيم، لا بد من جزء من الوجود في العدم، ومن العدم في الوجود، وأشد الفلسفات الإلحادية عنفاً، متمثلة بالفيلسوف الالماني نيتشه، تنطوي على لاهوت إيماني ما... كما أن أكثر الافكار غيبية، تنطوي في داخلها على نواة من واقع بشري وتاريخي... فالذي يوحد الإنسان على امتداد العصور، ليس الخطيئة، كما يقول نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» بل «الألم»... هذا الإنسان الذي «أغمض عينيه ونامْ/ وتغطى بالآلامْ» على قول صلاح عبد الصبور.
«هل نحن بحاجة إلى الله» سؤال حاضر مثلما هو ماض، وللغد. إنه سؤال الحاجة الى المعنى الاكثر حضوراً وضغطا في تاريخ البشرية، ومن ناحيتي الايجاب (الضرورة) والسلب (الإنكار)، وهذا المعنى يتمثل بمفردة «الله».
ذريعة الخلق
قرأت لخورخي بورخيس في كتابه «الصانع» (ترجمة سعيد الغانمي، ط ,1996 «المؤسسة العربية للدراسات والنشر») النص التالي بعنوان «البرهان الطيوري»:
«أغمض عيني فأرى سرباً من الطيور. تدوم الرؤية ثانية أو لعلها أقل. ولا أعرف كم طيراً رأيت. هل كان عددها نهائيا ام لا نهائيا؟ تنطوي هذه المشكلة على قضية وجود الله. فإذا كان الله موجوداً فإن العدد نهائي، لان عدد الطيور معروف عند الله. وإذا لم يوجد الله، فإن العدد لا نهائي لأنه ما من أحد يقدر على عدّها. في هذه الحالة، رأيت (لنفترض) أقل من عشرة طيور وأكثر من واحد. لكنني لم أر تسعة أو ثمانية أو سبعة أو ستة ولا خمسة ولا أربعة ولا ثلاثة ولا طيرين. لقد رأيت عدداً من الطيور بين عشرة وواحد، لكن ليس تسعة ولا ثمانية ولا سبعة ولا ستة ولا خمسة... الخ. وهذا العدد، كعدد كلي، لا يمكن إدراكه. إذاً فالله موجود» ـ انتهى كلام بورخيس ـ.
هذا النص رمزي عجيب.. إذ ما صلة رؤية بورخيس الأعمى لعدد لا يستطيع تحديده من الطيور، بوجود الله؟ إنه إحساسه بضرورة معنى الرؤية لدى رجل عاجز عنها وبالتالي ملزم بالرؤية من داخل وكأن الرؤية لديه هي بالضرورة رؤيا.
لا يبتعد روجيه غارودي، في ذريعة من ذرائعه التي يتوسلها لتوكيد الحاجة الى الله، عن ذريعة بورخيس. يسميها ذريعة «الخلق»، ويوردها بعد ذريعتين هما على التوالي: فقد مسلّمات المعرفة Postulats ثم المحبة، والثالثة الخلق. والخلق هو التاريخ الفني والابداعي للإنسان.. حيث يستنبط لاهوتا من تجارب بشرية فنية مختلفة. إنه التجربة الثالثة للسمو. فالفن هو الوفرة في طرق الحياة، وتاريخ الفنون هو تاريخ الممكنات البشرية، في حين ان التاريخ السياسي تاريخ السلطة السائدة الواحد. إن وجود شكسبير وسرفنتس في عصر النهضة (قرن الوحوش والعواصف) سمح لهما بكتابة آثار تنقل إلينا القلق والأمل إزاء معنى الحياة. في مسرحية الملك لير التي كتبها شكسبير العام ,1605 يظهر في الفصل الرابع، المشهد الاول العالم والمملكة كقطعة خراب وجنون... حيث «المجانين يقودون المكفوفين». ثم هو يطرح السؤال التالي: «من يستطيع أن يقول من أنا؟» فيجيب دون كيشوت: أنا أعرف من أنا. فدون كيشوت العبئي محارب طواحين الهواء ينقذ وجوده باعتقاده أنه يعرف من هو. ما هو معناه. المسألة إذاً العثور على معنى.. والله معنى للإنسان. إذاً هو ضرورة.
المعنى نفسه يستشعره الناظر الى «تمثال العبد المقيّد» منحوتة ميكال آنج... حيث قراءة التمثال استشعار بحيويته، لا بكونه أنموذجاً تشريحياً، بل بكونه معنى متغلغلاً في جسد الرأي وعقله ووجدانه. مثله تمثال بوذا لماثورا Mathura، فالجفون الهادئة المغمضة لبوذا والخطوط الانسيابية، تجعل الناظر إليه يمتص المدى وينطوي على المعنى. وحتى زيارة كاتدرائية شارتز أو نوتردام دي باريس (على ماي ستشعر غارودي) فهي أشبه بحج أو طواف روحي، وليست نزهة نظر خارجي. إن كل فن، سواء كان قديماً أو حديثاً، نحتا كان أو رسما أو رقصا أو شعراً، يكتسب صفة «المقدّس» من خلال إثارة المعنى.. وهي إشارات يراها الفيلسوف الفرنسي، لوجوب وجود الله.
إن «كنيسة أوفير» التي حوّلها الرسام الهولندي فان غوغ الى لوحة خالدة، أصبحت بين يديه لحماً ودماً تحت ضغط سماء ذات زرقة حارقة تسوّدها ثعابين ملونة.. وهذه الكنيسة/ اللوحة سوف تثير فينا دائما قشعريرة المعنى.
في الرقص، وهو حصيلة كل الفنون، يوسع الراقص مساحة جسده كما فعلت مارتا غراهام، الاميركية، حتى تشمل سهول أميركا الشاسعة وربما ضيّق الراقص حدود جسده، كما فعلت ماري ويغمان، ليظهر مكبلاً، تحت هامش البطش الهتلري، وكأن المدى قفص.
يكتب غارودي ما يلي: «... تلك هي تجربة التسامي الاساسية الثالثة في الفنون، التي تتيح لنا أن نفهم ولادة تطلعات إلهية في قلب البشر، حتى ولو لم تشارك فيها» (ص 672).
يتعامل الفيلسوف الفرنسي في مفهوم «الله» تعاملا مشتبكا ومعرفيا، كما يتعامل معه تعاملا تاريخيا يسائل من خلاله تاريخ المسيحية، بشكل أساسي، ومن ثم تاريخ التطور الفكري في الغرب وصولا الى ثلاثي الإلحاد الأبرز: كيركغار، ماركس، ونيتشه... وذلك من خلال فصل من أهم فصول كتابه: فصل «الإلحاد مرحلة ضرورية للإيمان» فهو يدرك تماما أن «كلمة الله بالذات خطيرة بسبب الدلالات القديمة التي تشتمل عليها». الملك القادر على كل شيء، والذي ننتظر سلطانه المطلق والسحري لنوجه إليه طلباتنا على شكل صلوات تؤدي بنا الى نسيان مسؤولياتنا، والحاكم الاخير الذي ننسى أن الاحكام التي نعتقد أنه يحملها، متسمة بالاخلاقيات المسيطرة والقيم الاجتماعية لكل عصر وان كل جيل يتوهم أنها أبدية.
ويتبع خطا مزدوجا في التحليل. فهو صاحب منهج تاريخي في قراءة الافكار والفلسفات القديمة والحديثة، لكنه صاحب تأويل واستنباط ايضا، ملخصه الوصول الى اللاهوت المنبثق من تجارب بشرية. فكما الله معنى، لجهة قراءة الفنون المختلفة، فإنه ايضا تحرير، تأسيساً على ثورات العبيد، والحركات الحديثة للشعوب وأبطالها (غيفارا).
أي إله
ومن أهم الفصول التي كتبها، الفصل المتعلق بالفكر الغربي الإلحادي من خلال كيركغارد وماركس ونيتشه.. والانتهاء لرؤية ضرورة الإلحاد كمرحلة ممهدة للايمان. وهي مرحلة (أي الإلحاد) مر بها غارودي نفسه قبل الماركسية التي اعتنقها، ومن ثم انتقل للمرحلة الايمانية التي وصلته بالاسلام (مروراً بالعودة للايمان المسيحي كما يرى إليه). وكأنه يستعيد أو يستعير في درسة علاقة الإلحاد بالايمان، المقولة التي سبق ونادى بها الإمام الغزالي، في رحلته القلقة من الشك الى اليقين (الصوفي) حيث قال: «الشك قنظرة اليقين».
يرى غارودي أن الشك الذي عاشه متأثراً بكل من كيركغارد وماركس ونيتشه، قدّم له التوتر المأساوي مع الشك الضروري للايمان. في الإلحاد نقد مزدوج للعلم وللدين، من حيث يخدم كل منهما غايات غير إنسانية، أي سلطوية ومتسلطة وجائرة. يدحض غارودي كل ما لا يخدم إنسانية الإنسان من أفكار وقيم (حتى لو كانت دينية أو مسيحية بشكل خاص) ويمتدح الإلحاد الإنسان، إذا صح التعبير، أي ذاك المؤمن بحق الإنسان في الحياة والازدهار، في الحب والفن، وأخيراً في المعنى. هنا يغدو إلحاد كل من كيركغادر وماركس ونيتشه إلحاداً ينطوي على أساس إنساني وإيماني، بإله غير مفصول عن الإنسان، غير متعال، وغير غائم، وغير خادم لسلطة الكهنوت أو لسلطة الاقطاع أو الحكام... فهو إيمان بالفعل البشري في التحرر والسمو. هذا هو الإله الحقيقي لهؤلاء الملاحدة على ما يرى غارودي. من هنا فالمسيحية بالنسبة إليه وإليهم ليست مسيحية واحدة (من بولس حتى اليوم). في الفصل الاخير من كتاب كيركغارد المسمى «دراسة اليأس» "Traité du désespoir" كما في بحثه المسمى «إمّا... وإمّا» "Ou bien.. ou bien" ينتهي الى اعتبار الايمان المتمثل بيسوع داخل النفس البشرية لا خارجها. يلي البحث المتعلق بماركس. إن ما يرفضه ماركس هو التبريرات اللاهوتية المسيحية للاستبداد. وما كان بدأه كيركغارد من نقد المسيحية التاريخية ومؤسساتها انطلاقا من الفرد تابعه ماركس انطلاقا من المجتمع. فالرأسمالية إنكار للإنسان، تخدمها المؤسسات الدينية، أما البروليتاريا فإنكار للإنكار. في كتابه «رأس المال» استنادا الى فيكو Vico ميّز الفطرة (الطبيعية والحيوانية) عن التاريخ البشري الذي هو إرادة ومعنى.. هنا يتكوّن لديه لاهوت إنساني، ويلتقي مع هيغل في ضرورة علمنة الرجاء المسيحي في ملكوت الله، بحيث يبدو أنهما يلتقيان معا في ما قاله القس توما مونزير الذي قاد في القرن السادس عشر ثورة فلاحي سواب، في هذا الشعار المدوّن على راياتهم: «يا رب، ادعم عدالتك الإلهية».
أما الملحد الثالث، نيتشه، في البحث الغارودي، فيذهب أبعد في نقده للمسيحية التاريخية، فضلا عن نقده الشرس، في كتابه «الأصنام» وهكذا تكلم زرادشت، لسلسلة أفكار وفلسفات تبدأ مع سقراط «حيث فساد الفلسفة بدأ معه» ويمر بأفلاطون باختراعه المثال، ولا تنتهي بكيركغارد، لكن يلاحظ ان نيتشه ولّد مسيحا آخر في فلسفته، يسميه «الرسول الفرح» «يسوع البشارة السارة» وهو ايضا بوذا الألم والطمأنينة لا الخطيئة. (كما يرى في هكذا تكلم زرادشت)...: «دعني أكنْ يا زرادشت ضيفك لليلة واحدة» وأسلافه كما يرى هم هيراقليطس وأمبيد وكليس وسبينوزا وغوته. وما يسميه العود الأبدي أو الأبدية، هو الايمان بالإنسان محطم كل الاصنام، الإنسان الكلي، السوبرمان الذي يناجيه قائلا «أحبك أيتها الأبدية»... فالأبدية كما يرى نيتشه ليست خارج الإنسان، والله ايضا.. وهو ما لا ينكره غارودي بكل حال، في مراحل تطوراته الفكرية والروحية... منقووووووول