[size=16]إذا كنا قد ربطنا بين الجوع والنكتة وذكرنا ما عاناه صحابة رسول الله من شظف العيش والجوع، فمن الحري بنا أن نتوقع توارد الظرف بين تلك النخبة التي أرست دعائم الدين الحنيف، علما بأن الظرف يرتبط دائما بحدة الذكاء والفهم.
أول ما يرد للذهن هنا أن الخليفة عثمان بن عفان كان من طلائع رواد النكتة، حتى قال فيه النبي: «يدخل عثمان الجنة ضاحكا لأنه كان يضحكني». ومن المعلوم أن المؤرخين وصفوا أن النبي كان يضحك من كل قلبه وبكل جوارحه حتى تظهر ثناياه. وكان من ولع عثمان بن عفان بالضحك والنكتة أن ألحق أشعب الطماع، المنكت المشهور، بمعيته. وكان قد أضحك النبي بنكتة تعلقت هي الأخرى بالأكل. لاحظ رسول الله أن عثمان كان يأكل تمرا وفي إحدى عينيه رمد فانتقده على ذلك: «أتأكل التمر وأنت أرمد؟» فأجابه: «أنا آكله من الجانب الآخر!».
ورد أكثر من حديث شريف في هذا الشأن، ومنها قوله: «روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة. فإن القلوب إذا كلّت عميت». وفي حديث آخر قال: «أنا أمزح ولا أقول غير الحق». وهو منتهى الحكمة وقمة الفكاهة النافعة. ومن الواضح أن محمد بن عبد الله كان النبي الوحيد الذي وردت عنه وعن صحابته ومجلسه طرائف ومؤانسات تروى في بطون أدب الفكاهة والظرف.
من الظرفاء البارزين بين الصحابة، كان نعيمان الأنصاري. رويت عنه نكات كثيرة حتى قال ابن قتيبة إن النبي بقي يضحك سنة كاملة لإحدى نوادر نعيمان، عندما عمل مقلبا على رجل بدوي حر فباعه كعبد. ورويت عنه نكتة أخرى ارتبطت بالطعام أيضا. صادف بدويا يبيع جرة من العسل فاشتراها منه على أن يتسلم ثمنها عند تسليمها.
ثم بعث بها هدية إلى الرسول. فسر النبي بوصولها ووزع ما فيها على الصحابة كشأنه. ودعا لنعيمان بالخير والبركة. ما أن انتهى من ذلك حتى طالبه البدوي بثمنها. فقال عليه الصلاة والسلام: «هذه إحدى هنات نعيمان»، ثم تساءل منه عند ظهوره بين يديه فقال: «إنما أردت برك يا رسول الله ولم يكن معي شيء!»
كان ظرف نعيمان الأنصاري من نوع المقالب والمداعبات العملية ولم يكن من ظرف اللسان وبلاغة التعبير.
من الملاحظ أن معظم المفردات المتعلقة بالفكاهة ارتبطت بالطعام والأكل والجوع، فالفكاهة مشتقة من الفاكهة. والرجل يتفكه عندما يمزح ويضحك. والملحة من الملح، والنادرة من الندرة، والنكتة من مرادفات التمر، والهزل من الهزال، والظرف من وعاء الطعام، والكتكتة من القرقرة. ولنا عود لكل ذلك إن شاء الله.
[/size]