المقال للدكتور : جمال الحسيني أبو فرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
_______________
لقد أعلن نبي الإسلام أنه يحمل رسالة للعالم أجمع؛ ولاشك أن دعوى عالمية أية رسالة سماوية لا بد وأن تبرهنها عالمية لغتها، بمعنى صلاحيتها لحمل الرسالة إلى العالم أجمع؛ ومن هنا يمكننا أن نفهم من قوله تعالى: )إنا جعلناه قرآنًا عربيا لعلكم تعقلون(، وقوله:) بلسان عربي مبين( أن المراد بالخطاب هنا ليس العرب فقط؛ بل العالم كله، وكأن معنى الآيات: إنا أنزلناه قرآنًا عربيا لأن العربية لغة تصلح لأن تخاطب العالم أجمع؛ لأنها لغة مبينة عن أدق المعانى بأبسط الألفاظ وأجملها، ومن ثم كان حري بنا أن نعقل ما يتنزل علينا بها من قرآن، ومن لا يعرفها يمكنه أن يتعلمها، ومن لم يستطع أو لم يرد فيمكنه أن يعتمد على من يعرفها، فالمهم أن المعنى الموحى بها يصل إلى الأرض بدقة دون لبس، وبجمال دون عيب.
وهذا ما يؤكده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم ….." الخ الحديث.
فإعطائه e جوامع الكلم يعني فصاحته e القادرة على توظيف اللغة العربية فى حمل الرسالة الخاتمة إلى العالم أجمع على أتم صورة وأجملها، ولا شك أنه يعني أيضًا قابلية هذه اللغة لهذه المهمة، وهذا ما يبرهنه علم اللغة المقارن، كما أن هذا ما يقتضيه العقل للغة الرسالة الخاتمة؛ فعالمية الرسالة لا بد أن تبرهنها عالمية لغتها؛ وهو ما يقتضي لها الكمال أو الاكتمال اللغوي، الذي يعني كفاءة وانتظام قواعدها الصوتية، والصرفية، وقواعد التراكيب والعبارات، كما يعنى ازدهار ظاهرة التمييز والتخصيص بها: كالتمييز بين المذكر والمؤنث، وبين المفرد والمثنى والجمع، وبين جموع القلة وجموع الكثرة، وبين الصفات العارضة والصفات الملازمة …… الخ؛ كما يعني كفاءة أبجديتها في ضبط الألفاظ في دقة ويسر، كما يعني بساطة ألفاظها وموسيقيتها حتى يسهل تعلمها لمن ليس من أهلها، وتناقل نصوصها المقدسة عبر الزمان والمكان، وحفظها في القلوب والسطور.
وهي جميعًا من المزايا التي تمت للغة العربية، وهو ما أدركه العربي الأول حين جعل الفصاحة علما على العروبة فجاءت كلمة عرُِب بمعنى: فصح، وأعرب بمعنى: أفصح.
كما أدركه المقارن للعربية بالعبرية لغة الكتاب المقدس الأصلية، أو بالإنجليزية، أو الفرنسية أهم لغتين في عصر العلم المعاصر الذي لا يألو جهدًا في البحث عن دقة التعبير وجماله.
فالأبجدية العربية قد جربت زمنا طويلا في كتابة اللغات من كل أسرة لسانية فلم تقصر، أما الحروف اللاتينية مثلاً (وهي من أعظم الأبجديات اللغوية) فتستخدم للكتابة في عائلة واحدة من العائلات اللغوية الكبرى، وهي العائلة المسماة (بالهندية الجرمانية).
وهذه العائلة هي العائلة التي يقوم فيها تصريف الكلمات على (النحت) أو على إضافة المقاطع إلى أول الكلمة أو آخرها؛ وتسمى من أجل ذلك باللغات "الغروية" من الغراء اللاصق، أما الحروف العربية فهى تقوم بأداء الكتابة بهذه اللغات وبكثير غيرها؛ فهي تستخدم لكتابة الفارسية والأوردية، وهما من لغات النحت أو من عائلة اللغات الغروية، وتستخدم لكتابة التركية وهـى مـن العـائلة المسماة بالطورانية، ويرجعون فـي تصريف ألفاظها إلـى النحت تارة وإلـى الاشتقـاق تارة أخـرى؛ فهي وسط بين اللغة الفارسية واللغة العربية، وتستخدم الحروف العربية بطبيعة الحال لكتابة لغة الضاد المميزة بمخارجها الواضحة الدقيقة، وهى أعظم لغات الاشتقاق التي اشتهرت باسم العائلة السامية، وتكتب بالحروف العربية كذلك لهجات ملاوية، لعلها تشكل عائلة مستقلة من العائلات اللغوية.
وقد استطاعت هذه الأمم جميعا أن تؤدى كتابتها بالحروف العربية دون أن تدخل عليها تعديلا في تركيبها أو في أشكالها المنفردة، ولم تتصرف فيها بغير زيادة العلامات والنقط على بعض الحروف، وهى زيادة موافقة لبنية الحروف العربية وليست بالغريبة عنها؛ لأن العرب أنفسهم أضافوا النقط والشكل عند الحاجة إلى ذلك، وليست زيادة شرطة على الكاف بأغرب من زيادة النقط على الحروف للتمييز بين الأشكال المتشابهة أو المتقاربة.
وعلى كثرة اللغات والعائلات اللغوية التي تؤديها حروف العربية لم يزل ضبطها للألفاظ أدق وأسهل من ضبط الحروف اللاتينية التي تستخدم لكتابة عائلة لغوية واحدة.
فالأبجديات الأوروبية كثيرا ما لا يتفق فيها نطق الكلمة المكتوبة على ألسنة أمتين ولو كانت لهما أبجدية واحدة، وأظهر ما يظهر ذلك في كتابة الأعلام ، فاسم Franklin مثلا ينطق ( فرانكلن ) بالإنجليزية، وينطق (فرانكلا) بالفرنسية.
وهذا ما لا نعهده في نطق الفارسي الذي يقرأ الأوردية أو التركية أو العربية، ولا نعهده فى نطق العربي الذي يقرأ الفارسية أو الأوردية أو التركية0
بل إن من الحروف في الأبجديات الأوربية ما يلفظ على خمسة أصوات كحرف( T ) الذي ينطق في الإنجليزية (تاء) كما في to و(ثاء) كما في think و(ذالا) كما في (this) وشينا كما في mention بل و(سينا) كما في هذه الكلمة نفسها بالفرنسية0
وكذلك حرف (S) في الإنجليزية فينطق (زايا) فى is و (صادا) في salt و(شينًا) في sure و(جيما معطشة) في pleasure.
وكذلك حرف (G) في الإنجليزية فينطق (جيما قاهرية) كما في God (وجميا معطشة) كما في Religion وقد يكتب ولا ينطق في right.
وبعض حروف العلة في الإنجليزية تقترن فتنطق على أربعة أصوات كما في هذه الكلمات:blood, door, food, moon . وهو غموض لا نجد له مثيلا في العربية.
أما قواعد النحو والصرف فهي غير منتظمة في كثير من اللغات انتظامها في العربية، مما يضطر معه المتعلم إلى حفظ كثير من الأفعال لشذوذها في التصريف بين المضارع والماضي، وكثير من الصفات والظروف التى لا تجري على قاعدة مطردة في اشتقاق الصفة والظرف، كما هو الحال في الفرنسية والإنجليزية.
إما بالنسبة للغة العبرية، فإنه بالرغم من أن هناك علاقة قرابة واضحة بينها وبين العربية، وبالرغم من أن اللغة العربية ظلت محتفظة بكيانها، بل ووصلت في خصوبتها وغناها إلى أعلى الدرجات كما يتبين لنا بوضوح مما تبقى لدينا من تراث جاهلي قبل الإسلام من شعر ونثر، وحتى كان الإعجاز اللغوى أحد أوجه الإعجاز القرآني؛ فإن اللغة العبرية الحية نسيت فى وقت ما، واقتصرت معرفتها – معرفة ناقصة- على مجموعة قليلة من رجال الدين، ولم يترك علماء اللغة العبرية القدماء للخلف شيئًا ذا بال بشأن الأسس والمبادئ التي تقوم عليها هذه اللغة، بل وضاعت تقريبًا جميع أسماء الفاكهة والطيور والأسماك، وأسماء أخرى كثيرة على مر الزمان.
كما أن معاني كثير من الأسماء والأفعال التي نصادفها في التوراة إما مفقودة، أو على الأقل مختلف عليها.
كما أنا نفتقر بدرجة أشد إلى معرفة التراكيب الخاصة في هذه اللغة فقد ضاعت جل العبارات والأساليب الخاصة التي استعملها العبرانيون من ذاكرة الناس.
فلن نستطيع إذن أن نبحث لكل نص كما نود عن جميع المعاني المقبولة وفقًا للاستعمال الجاري في هذه اللغة، وسنجد نصوصًا كثيرة تتضمن كلمات معناها غامض للغاية ولا يمكن إدراكه على الإطلاق.
وفضلاً عن أننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة تامة بالعبرية، فهناك تكوين هذه اللغة نفسه وطبيعتها، إذ يوجد فيها كثير من المتشابهات مما يستحيل معه العثور على منهج يسمح لنا بأن نحدد عن يقين معاني جميع نصوص العهد القديم.
فالعبرية مثلاً،لا تعرف المضارع، وإنما تعبر عنه بصيغة اسم الفاعل، وأحيانًا بصيغة المستقبل؛ كما أن العبرانيين لم تكن لديهم حروف تعادل الحروف المتحركة حتى القرن السادس الميلادي؛ ولم يعرفوا الحركات قبل أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الميلادي على يد علماء لغويين لا تساوي سلطتهم شيئًا، وخاصة مع عدم تواتر الحفظ في الصدور؛ هذا بالإضافة إلى أن الحروف العبرية إنما تكتب فرادى، ولا يتصل بعضها ببعض، ولم يتعود العبرانيون أن يقسموا كلامهم المكتوب أو أن يبرزوا المعنى بصورة أقوي، أي توضيحه بعلامات ترقيم.
ومن ثم بدت دراسة اللغة العبرية فى حاجة ماسة إلى دراسة تلك اللغات الشقيقة، وخاصة العربية باعتبارها أكثر اللغات الشقيقة حياة وازدهارًا، من أجل حل المشكلات الصعبة، وهذا ما أكد عليه مران بن جناح في كتابه التنقيح، وكذلك أكد عليه دوناش بن لبرت عندما ترك لنا قائمة تحتوى على (168) كلمة عبرية لا يمكن فهمها إلا إذا قورنت باللغة العربية؛ كما أكد عليه كثير من علماء اليهود عندما اقتفوا في دراساتهم النحوية أثر النحويين العرب - ولا سيما سيبويه- حتى جاءت كتاباتهم باللغة العربية. ولا شك أن فهم أية لغة جيدًا يحتاج إلى معرفة غيرها من اللغات وخاصة اللغات الشقيقة المنبثقة عن نفس الأصل، وكذلك اللغات التي احتكت بها فتأثرت وأثرت، إلا أن حاجة دارس اللغة العربية إلى دراسة مثل هذه اللغات هو من باب الكمال، أما حاجة دارس العبرية كمتخصص فهو من باب الاحتياج الضرورى.
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
_______________
لقد أعلن نبي الإسلام أنه يحمل رسالة للعالم أجمع؛ ولاشك أن دعوى عالمية أية رسالة سماوية لا بد وأن تبرهنها عالمية لغتها، بمعنى صلاحيتها لحمل الرسالة إلى العالم أجمع؛ ومن هنا يمكننا أن نفهم من قوله تعالى: )إنا جعلناه قرآنًا عربيا لعلكم تعقلون(، وقوله:) بلسان عربي مبين( أن المراد بالخطاب هنا ليس العرب فقط؛ بل العالم كله، وكأن معنى الآيات: إنا أنزلناه قرآنًا عربيا لأن العربية لغة تصلح لأن تخاطب العالم أجمع؛ لأنها لغة مبينة عن أدق المعانى بأبسط الألفاظ وأجملها، ومن ثم كان حري بنا أن نعقل ما يتنزل علينا بها من قرآن، ومن لا يعرفها يمكنه أن يتعلمها، ومن لم يستطع أو لم يرد فيمكنه أن يعتمد على من يعرفها، فالمهم أن المعنى الموحى بها يصل إلى الأرض بدقة دون لبس، وبجمال دون عيب.
وهذا ما يؤكده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم ….." الخ الحديث.
فإعطائه e جوامع الكلم يعني فصاحته e القادرة على توظيف اللغة العربية فى حمل الرسالة الخاتمة إلى العالم أجمع على أتم صورة وأجملها، ولا شك أنه يعني أيضًا قابلية هذه اللغة لهذه المهمة، وهذا ما يبرهنه علم اللغة المقارن، كما أن هذا ما يقتضيه العقل للغة الرسالة الخاتمة؛ فعالمية الرسالة لا بد أن تبرهنها عالمية لغتها؛ وهو ما يقتضي لها الكمال أو الاكتمال اللغوي، الذي يعني كفاءة وانتظام قواعدها الصوتية، والصرفية، وقواعد التراكيب والعبارات، كما يعنى ازدهار ظاهرة التمييز والتخصيص بها: كالتمييز بين المذكر والمؤنث، وبين المفرد والمثنى والجمع، وبين جموع القلة وجموع الكثرة، وبين الصفات العارضة والصفات الملازمة …… الخ؛ كما يعني كفاءة أبجديتها في ضبط الألفاظ في دقة ويسر، كما يعني بساطة ألفاظها وموسيقيتها حتى يسهل تعلمها لمن ليس من أهلها، وتناقل نصوصها المقدسة عبر الزمان والمكان، وحفظها في القلوب والسطور.
وهي جميعًا من المزايا التي تمت للغة العربية، وهو ما أدركه العربي الأول حين جعل الفصاحة علما على العروبة فجاءت كلمة عرُِب بمعنى: فصح، وأعرب بمعنى: أفصح.
كما أدركه المقارن للعربية بالعبرية لغة الكتاب المقدس الأصلية، أو بالإنجليزية، أو الفرنسية أهم لغتين في عصر العلم المعاصر الذي لا يألو جهدًا في البحث عن دقة التعبير وجماله.
فالأبجدية العربية قد جربت زمنا طويلا في كتابة اللغات من كل أسرة لسانية فلم تقصر، أما الحروف اللاتينية مثلاً (وهي من أعظم الأبجديات اللغوية) فتستخدم للكتابة في عائلة واحدة من العائلات اللغوية الكبرى، وهي العائلة المسماة (بالهندية الجرمانية).
وهذه العائلة هي العائلة التي يقوم فيها تصريف الكلمات على (النحت) أو على إضافة المقاطع إلى أول الكلمة أو آخرها؛ وتسمى من أجل ذلك باللغات "الغروية" من الغراء اللاصق، أما الحروف العربية فهى تقوم بأداء الكتابة بهذه اللغات وبكثير غيرها؛ فهي تستخدم لكتابة الفارسية والأوردية، وهما من لغات النحت أو من عائلة اللغات الغروية، وتستخدم لكتابة التركية وهـى مـن العـائلة المسماة بالطورانية، ويرجعون فـي تصريف ألفاظها إلـى النحت تارة وإلـى الاشتقـاق تارة أخـرى؛ فهي وسط بين اللغة الفارسية واللغة العربية، وتستخدم الحروف العربية بطبيعة الحال لكتابة لغة الضاد المميزة بمخارجها الواضحة الدقيقة، وهى أعظم لغات الاشتقاق التي اشتهرت باسم العائلة السامية، وتكتب بالحروف العربية كذلك لهجات ملاوية، لعلها تشكل عائلة مستقلة من العائلات اللغوية.
وقد استطاعت هذه الأمم جميعا أن تؤدى كتابتها بالحروف العربية دون أن تدخل عليها تعديلا في تركيبها أو في أشكالها المنفردة، ولم تتصرف فيها بغير زيادة العلامات والنقط على بعض الحروف، وهى زيادة موافقة لبنية الحروف العربية وليست بالغريبة عنها؛ لأن العرب أنفسهم أضافوا النقط والشكل عند الحاجة إلى ذلك، وليست زيادة شرطة على الكاف بأغرب من زيادة النقط على الحروف للتمييز بين الأشكال المتشابهة أو المتقاربة.
وعلى كثرة اللغات والعائلات اللغوية التي تؤديها حروف العربية لم يزل ضبطها للألفاظ أدق وأسهل من ضبط الحروف اللاتينية التي تستخدم لكتابة عائلة لغوية واحدة.
فالأبجديات الأوروبية كثيرا ما لا يتفق فيها نطق الكلمة المكتوبة على ألسنة أمتين ولو كانت لهما أبجدية واحدة، وأظهر ما يظهر ذلك في كتابة الأعلام ، فاسم Franklin مثلا ينطق ( فرانكلن ) بالإنجليزية، وينطق (فرانكلا) بالفرنسية.
وهذا ما لا نعهده في نطق الفارسي الذي يقرأ الأوردية أو التركية أو العربية، ولا نعهده فى نطق العربي الذي يقرأ الفارسية أو الأوردية أو التركية0
بل إن من الحروف في الأبجديات الأوربية ما يلفظ على خمسة أصوات كحرف( T ) الذي ينطق في الإنجليزية (تاء) كما في to و(ثاء) كما في think و(ذالا) كما في (this) وشينا كما في mention بل و(سينا) كما في هذه الكلمة نفسها بالفرنسية0
وكذلك حرف (S) في الإنجليزية فينطق (زايا) فى is و (صادا) في salt و(شينًا) في sure و(جيما معطشة) في pleasure.
وكذلك حرف (G) في الإنجليزية فينطق (جيما قاهرية) كما في God (وجميا معطشة) كما في Religion وقد يكتب ولا ينطق في right.
وبعض حروف العلة في الإنجليزية تقترن فتنطق على أربعة أصوات كما في هذه الكلمات:blood, door, food, moon . وهو غموض لا نجد له مثيلا في العربية.
أما قواعد النحو والصرف فهي غير منتظمة في كثير من اللغات انتظامها في العربية، مما يضطر معه المتعلم إلى حفظ كثير من الأفعال لشذوذها في التصريف بين المضارع والماضي، وكثير من الصفات والظروف التى لا تجري على قاعدة مطردة في اشتقاق الصفة والظرف، كما هو الحال في الفرنسية والإنجليزية.
إما بالنسبة للغة العبرية، فإنه بالرغم من أن هناك علاقة قرابة واضحة بينها وبين العربية، وبالرغم من أن اللغة العربية ظلت محتفظة بكيانها، بل ووصلت في خصوبتها وغناها إلى أعلى الدرجات كما يتبين لنا بوضوح مما تبقى لدينا من تراث جاهلي قبل الإسلام من شعر ونثر، وحتى كان الإعجاز اللغوى أحد أوجه الإعجاز القرآني؛ فإن اللغة العبرية الحية نسيت فى وقت ما، واقتصرت معرفتها – معرفة ناقصة- على مجموعة قليلة من رجال الدين، ولم يترك علماء اللغة العبرية القدماء للخلف شيئًا ذا بال بشأن الأسس والمبادئ التي تقوم عليها هذه اللغة، بل وضاعت تقريبًا جميع أسماء الفاكهة والطيور والأسماك، وأسماء أخرى كثيرة على مر الزمان.
كما أن معاني كثير من الأسماء والأفعال التي نصادفها في التوراة إما مفقودة، أو على الأقل مختلف عليها.
كما أنا نفتقر بدرجة أشد إلى معرفة التراكيب الخاصة في هذه اللغة فقد ضاعت جل العبارات والأساليب الخاصة التي استعملها العبرانيون من ذاكرة الناس.
فلن نستطيع إذن أن نبحث لكل نص كما نود عن جميع المعاني المقبولة وفقًا للاستعمال الجاري في هذه اللغة، وسنجد نصوصًا كثيرة تتضمن كلمات معناها غامض للغاية ولا يمكن إدراكه على الإطلاق.
وفضلاً عن أننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة تامة بالعبرية، فهناك تكوين هذه اللغة نفسه وطبيعتها، إذ يوجد فيها كثير من المتشابهات مما يستحيل معه العثور على منهج يسمح لنا بأن نحدد عن يقين معاني جميع نصوص العهد القديم.
فالعبرية مثلاً،لا تعرف المضارع، وإنما تعبر عنه بصيغة اسم الفاعل، وأحيانًا بصيغة المستقبل؛ كما أن العبرانيين لم تكن لديهم حروف تعادل الحروف المتحركة حتى القرن السادس الميلادي؛ ولم يعرفوا الحركات قبل أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الميلادي على يد علماء لغويين لا تساوي سلطتهم شيئًا، وخاصة مع عدم تواتر الحفظ في الصدور؛ هذا بالإضافة إلى أن الحروف العبرية إنما تكتب فرادى، ولا يتصل بعضها ببعض، ولم يتعود العبرانيون أن يقسموا كلامهم المكتوب أو أن يبرزوا المعنى بصورة أقوي، أي توضيحه بعلامات ترقيم.
ومن ثم بدت دراسة اللغة العبرية فى حاجة ماسة إلى دراسة تلك اللغات الشقيقة، وخاصة العربية باعتبارها أكثر اللغات الشقيقة حياة وازدهارًا، من أجل حل المشكلات الصعبة، وهذا ما أكد عليه مران بن جناح في كتابه التنقيح، وكذلك أكد عليه دوناش بن لبرت عندما ترك لنا قائمة تحتوى على (168) كلمة عبرية لا يمكن فهمها إلا إذا قورنت باللغة العربية؛ كما أكد عليه كثير من علماء اليهود عندما اقتفوا في دراساتهم النحوية أثر النحويين العرب - ولا سيما سيبويه- حتى جاءت كتاباتهم باللغة العربية. ولا شك أن فهم أية لغة جيدًا يحتاج إلى معرفة غيرها من اللغات وخاصة اللغات الشقيقة المنبثقة عن نفس الأصل، وكذلك اللغات التي احتكت بها فتأثرت وأثرت، إلا أن حاجة دارس اللغة العربية إلى دراسة مثل هذه اللغات هو من باب الكمال، أما حاجة دارس العبرية كمتخصص فهو من باب الاحتياج الضرورى.