الحَــلاَّجُ ومُحَاوَلَةُ تَفْجِيرِ اللُّغَــةِ
تَمْهِيــدٌ
فى كل تاريخٍ عامٍ أو خاص الحظاتٌ حاسمة، تحدثُ فيها التحولات الكبرى؛ وقد كانت سنة 309 هجرية من أعظم السنوات حسماً وتحوُّلاً فى تاريخ التصوف.. ففى هذه السنة، وبالتحديد : يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر ذى القعدة، أُخرج الحسين بن منصور الحلاَّج من سجنه، فجُلد، وقُطعت يداه ورجلاه ، وشُوِّه، وصُلب، وقُطعت رأسه ، وأُحرقت جثته .
ولم تكن الأحداثُ التى وقعت فى هذا اليوم، مُفاجئة.. بل كانت مأساة الحلاج متوقَّعة منذ بدأتْ محاكمته ببغداد، قبل قتله ببضعة أشهر تنفيذاً للحكم النهائى، الذى أصدرته هذه المحكمة الفقهية .. تلك المحكمة التى انتهت إلى إلصاق تهمة المروق عن الدين، بهذا الصوفى العارم. بيد أنه يمكن القول، أيضاً ، أن نهاية الحلاج المأسوية، كانت متوقَّعة من قبل ذلك بسنوات طويلة ! فقد سمعه أبو القاسم الجنيد يتكلَّم فى بعض (الحقائق) الصوفية، فانزعج واحتدَّ على الحلاج، وصرخ فيه: أية خشبة سوف تفسدها ... وهى إشارةٌ مبكرة، أنبأت بالمصير الذى ينتظر الحلاج، وبنهايته مصلوباً على خشبة ! ولابد لنا هنا ، من ملاحظة أن هذه النبوءة، ارتبطت .. بل انطلقت ، من كلام قاله الحلاج.
إِشْكَالِيةُ الُّلغَةِ
مع النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى، أخذت مشكلة اللغة تطفو على سطح التصوف. فقد تعمَّقت الأحوال الصوفية ودقَّت المعانى وتفرَّدت، فلم يعد بإمكان اللغة العادية أن تصوِّر الدقائق الصوفية التى يودُّ أهل الطريق البوح بها. وتفاقم ذلك الإشكال التعبيرى، حتى صار بمثابة أزمة تبدَّت فى شطحيات أبى يزيد البسطامى (المتوفى 261 هجرية) التى اشتهر بين الصوفية أنها: عبارات غريبة، ظاهرها مستشفع وباطنها صحيحٌ مستقيم، وهو تعريف أبى نصر السَّرَّاج الطوسى، الذى نقل فى كتابه الشهير (اللمع فى التصوف) العديد من شطحات البسطامى أو عباراته الغريبة / المستشنعة/ الصحيحة ، مثل قول أبى يزيد :
أَشْرَفْتُ عَلَى مَيْدَانِ اللَّيْسِيَّةِ، فَمَا زِلْتُ أَطِيرُ فِيهِ عَشْرَ سِنينَ، حَتَّى صِرْتُ مِنْ لَيْسَ فى لَيْسَ بِلَيْسَ، ثُمَّ أَشرَفتُ على التضييعِ، حَتَّى ضِعْتُ فىِ الضَّيَاعِ ضَيَاعاً، وضَعْتُ ، فِضِعتُ عَنِ التَّضْييع بليْسَ، فىِ لَيْسَ، فىِ ضَيَاعَةِ التضْييعِ، ثُمَّ أشرَفتُ عَلَى التوحِيدِ، فىِ غَيْبُوبَةِ الخَلقِ عَنِ العَارفِ، وغيْبوبَةِ العارِفِ عن الخلْقِ(1).
والمتأمل فى العبارة، يلمح على الفور ما تشتمل عليه من وُعورةٍ لغوية تشى بتلك الأزمة التعبيرية التى عانى منها الصوفية منذ زمن البسطامى.. بل قبل البسطامى بفترة، وهو الأمر الذى لاحظه د. عبد الرحمن بدوى فى بعض الآثار المروية عن رابعة العدوية، من نوع قولها عن الكعبة الشريفة لما حَجَّت إليها: هَذا الصَّنَمُ المَعْبُودُ فِى الأَرْضِ ، وإِنهُ مَا وَلَجَهُ اللهُ ولاَ خلاَ منْهُ(2) .
ويمثل الحلاَّج مرحلة متقدمة من مراحل أزمة اللغة عند الصوفية، كما يمثل التضحية الكبرى التى قدَّمها الصوفية، فى طريقهم نحو إقرار القاموس الصوفى الخاص.. فقد قدَّم الحلاَّج حياته ثمناً لمحاولته التعبير عن الأحوال التى، يعاينها ويعانيها، مثلما عاينها وعاناها معاصروه من رجال التصوف. فها هو أبو بكر الشبلى (رفيق الحلاج) يشطح بعبارات لاتقل وُعورة وخطورة عما شطح(3) به الحلاج ، لكنه حين واجهوه بها، ادَّعى الجنون ودخل البيمارستان ! فعاش بعد مصرع الحلاج إحدى عشرة سنة (توفى سنة 320) وكان يقول: أنا والحلاج شئ واحد، فأهلكه عقله وخلَّصنى جنونى !
حَيَاةُ الحلاَّجِ
وُلد أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج حوالى عام 244هجرية(4) ، بقرية تابعة لبلدة البيضاء الفارسية، فدرس علوم الدين، ثم سلك طريق الصوفية على يد الشيخ سَهْل بن عبد الله التسترى.. ثم طاف وساح فى البلدان، وصحب جماعة من كبار مشايخ العصر كالجنيد والنورى وابن عطاء وعمرو بن عثمان المكى.. وجرت بين الحلاج وهؤلاء المشايخ وقائع كثيرة، يضيق المقام هنا عن ذكرها، لكنها فى مجملها تشير إلى نأى الحلاج وتفرُّده عن أهل الزمان، وتؤكد شعوره بذاته على أنه : نسيج وحده ..مع أنه يعانى ما يعانيه القوم.
وقد عاش الحلاَّج التجربة الصوفية بكل ما فيها من صدقٍ و روعة، وغرق فى بحر النور الإلهى تمام الغرق. ولسوف نقتصر فيما يلى على ذكر فقرتين شهيرتين من سيرة الحلاج ، تلك السيرة التى أفاض فيها المؤرخون والمترجمون له(5) .. وهاتان الفقرتان تكشفان عن طبيعة الحياة التى عاشها الحلاَّج ، وطبيعة الموقف الذى تمت فيه إدانته :
الفقرة الأولى قال ابن باكويه : سمعتُ الحسين بن محمد المذارى يقول: سمعتُ أبا يعقوب النهرجورى يقول : دخل الحسين بن منصور الحلاَّج مكة، فجلس فى صحن المسجد لايبرح من موضعه إلا للطهارة أو الطواف، لايبالى بالشمس ولا بالمطر، فكان يُحمل إليه كل عشية كوزٌ وقرص (ماء وخبز) فيعضُّ من جوانبه أربع عضات ويشرب(6) .
الفقرة الثانية قال ابن زنجى: وحُملت دفاتر من دور أصحاب الحلاج، فأمرنى حامد ــ الوزير ــ أن أقرأها والقاضى أبو عمر حاضر، فمن ذلك قرأتُ: إن الإنسان إذا أراد الحج، أفرد فى داره بيتاً، وطاف به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيماً، وكساهم قميصاً قميصاً، وعمل لهم طعاماً طيباً، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحدٍ سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك ، قام له ذلك مقام الحج! فلما قرأت ذلك الفصل، التفت القاضى أبو عمر إلى الحلاج وقال له: من أين لك هذا؟ قال : من كتاب الإخلاص للحسن البصرى. قال : كذبت ياحلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص وما فيه هذا(7). فلما قال أبو عمر: كذبت ياحلال الدم قال له حامد: أكتب بهذا ! فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاَّج، فألحَّ عليه حامد، وقدَّم له الدواة ، فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده مَنْ حضر المجلس، فقال الحلاج : ظهرى حِمىً، ودمى حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علىَّ، واعتقادى الإسلام، ومذهبى السنة، فالله الله فى دمى ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم، ثم نهضوا ورُدَّ الحلاج إلى الحبس، وكُتب إلى المقتدر - الخليفة - بخبر المجلس، فأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك على حامد، وندم وتخوَّف، فكتب رقعةً إلى المقتدر فى ذلك يقول: إن ماجرى فى المجلس قد شاع، ومتى لم تُتبعه قتل هذا - الحلاَّج - افتتن به الناس، ولم يختلف عليه اثنان. فعاد الجواب من الغد :" إذا كان القضاة قد أباحوا دمه، فليحضر صاحب الشرطة، ويتقدم بتسليمه وضربه ألف سوط، فإن هلك وإلا ضُربت عنقه.." فسُرَّ حامد(8) .
ويوم مقتله، وبينما كان الحلاَّجُ مشدوداً على الصليب الخشبى (الخشبة التى أفسدها) وقبيل حَزَّ رقبته؛ نظر إلى السماء مناجياً ربه :
نَحَنُ بشَوَاهِدِكَ نلُوذُ
وبِسَنَا عِزَّتِكَ نَسْتَضِئ
لِتُبْدِى لَنا مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ
وأنْتَ الذِى فِى السَّماءِ عَرْشُكَ
وأَنْتَ الذِى فىِ السَّمَاءِ إلَه
وفِى الأرضِ إِلَه..
تَجَلَّى كَمَا تَشَاء
مِثْلَ تَجَلِّيكَ فىِ مَشِيئتِكَ كأَحْسنِ صُورَةٍ
والصُّورَةُ
هِىَ الرُّوحُ النَّاطِقَةُ
الذِى أفْرَدْتَهُ بالعلمِ (والبيَانِ) والقُدرَةِ
وهَؤَلاءَ عِبَادُكَ
قَدْ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِى تَعَصُّباً لدِينكَ
وتَقَرُّباً إليْكَ
فاغْفرْ لَهُمْ !
فإنكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لِى
لما فَعَلُوا ما فَعلُوا
ولَوْ سَتَرْتَ عَنِّى مَا سَترْتَ عَنْهُمْ
لما لَقِيتُ مَا لَقِيتُ
فَلَكَ التَّقْديرُ فِيما تَفْعَلُ
ولَكَ التَّقْدِيرُ فيِما تُرِيدُ(9) .
والآن ، لِننظر فيما ذكره الحلاج من (البيَانِ) وعطفه -بالواو- على العلم والقدرة حين قال: وأفردته بالعلم والبيان والقدرة .. بعبارة أخرى: لننظر فيما إذا كان الحلاجُ قد نجح فى (الإبانة) وما هى حدود نجاحه ؟
لُغَةُ الحلاَّجِ
حين أراد الحلاَّج أن يترجم بالألفاظ، ما يمرُّ به من أحوال. لم يكن بإمكانه أن يستعير أساليب تعبيرية من الصوفية السابقين عليه، أو المعاصرين له. فالسابقون كانوا يكتفون بالتعريف الموجز لحقائق الطريق، دون محاولة لتأسيس مفردات لغوية خاصة، وكانوا لايجدون حرجاً فى التعبيرات الشاطحة ، ربما لثقتهم من أنه سيأتى من يتأوَّلها لصالحهم، تأويلاً محمولاً على حسن الظن بهم. والمعاصرون للحلاج من كبار الصوفية، كانوا يراعون العامة والفقهاء، فيكتفون بالإشارات المقتضبة الموجزة ، كأن يجيب الجنيد عن سؤال حول المعرفة والعارف، بقوله : َلَوْنُ الماءِ لَوْنُ إِنَائهِ .." وهى عبارة خطيرة سوف يسهب الصوفية من بعده فى الكلام عليها، لكنها من حيث الصياغة اللغوية ، خالية من أية محاولة لنحت لفظ صوفى متفرِّد .
هكذا لم يكن أمام الحلاَّج سبيلٌ للاستعانة بما سبقه ، وما يعاصره من الـتراث اللغـوى الصـوفـى. ومن ناحية أخرى، لم يكن بإمكانه أن يسكت أمام طوارق الأحوال.. فصار عليه أن يؤسِّس تراثاً لغوياً صوفياً، وأن يجد مخرجاً يتجاوز به أزمة اللغة التى تحول دون التعبير عن حقيقة الحال الذى يعاينه .. بعبارة أخرى، كان على الحلاج أن يجرِّب! خاصةً أنه القائل :
للعلم أهلٌ وللإيمان ترتيــبُ
وللعلوم وأهليها تجاريبُ
ولماَّ كان الشعر الموزون هو أحد السبل التعبيرية المتاحة أمام الحلاج، فهو لم ير بأساً فى جعله مجالاً للتجريب . وقد تمخَّضت تجاريبه الشعرية عن قدر لابأس به من المتناثرات الشعرية، التى جمعها الدكتور كامل الشيبى فى مجلد واحد، ونشره محقَّقاً منذ سنوات ببغداد .. فمن تجارب الحلاَّج الشعرية، قوله مبرراً مايلبسه من ثياب رَثَّة (القشر) تخفى تحتها نفساً كريمة (اللُّبّ) ، ومشيراً إلى الأمر الجسيم الذى يشعر أنه مُساقٌ إليه :
لَئِنْ أمسيتُ فى ثوبى عديمٍ
لقد بَليا على حُر كريــمِ
فلا يحزنك إن أبصرتَ حالاً
مغيرةً عن الحالِ القديـــمِ
فَلِى نفسٌ ستذهبُ أَوْ سَترقى لِعمْرِكَ بى إلى أمرٍ جَسيمِ(10)
تبدو هذه القطعة الشعرية على المستوى اللغوى، فقيرة بلاغياً، بسيطة التركيب إلى حد السذاجة التى لاتطمح إلا فى الإخبار عن حقيقة الحال. وهى على المستوى الصوفى، تكشف عن مضامين متواضعة، حين تؤكد بقاء الذات وتكتفى بالإشارة إلى إمكانية فنائها.. إذ الفناء درجة عالية فى سلّم الترقِّى الصوفى. وليس هذا فحسب، بل تصف الأبيات صاحبها بأنه الحرّ الكريم وهى مسألة تعدُّ من الوجهة الصوفية : نوعاً من المدح المذموم للنفس.. وكان الصوفية آنذاك قد أدركوا ضرورة ما أسموه كسر حدة النفس كإحدى الرياضات الروحية التى يسعى من خلالها الصوفى - مهما بلغت مرتبته -إلى السيطرة على نفسه والخلاص من رُعوناتها .. إذن ، لم يستطع الحلاَّج ، هنا، أن يصل بالشعر إلى درجة من النضج اللغوى أو الصوفى، بحيث يبعث برسالة صوفية عميقة، وفى الوقت ذاته يتجاوز أزمة اللغة التى أشرنا اليها .
لكن الحلاَّج لم يقف فى تجاريبه الشعرية عند هذا الحد، وإنما انجرف مع الشعر دون حذر، وترك الإيقاع يقوده نحو دليل إدانته .. فقال فى أبيات أخرى:
أنتَ بـين الشِّغَافِ والقلبُ تجرِى
مِثْلُ جَرْىِ الدُّمُوعِ مِنْ أَجْفَانِـى
وتحلُّ الضَّمــيرُ جـَـوْفَ فــؤادى
كحُلُــولِ الأرواحِ فـى الأبدانِ
ياهِــــلالاً بـــــدا لأربــعِ عَشْــرٍ
لِثمَـــــــانٍ وأَربــعٍ واثنـتـَـــانِ(11)
وبقطع النظر عن البيت الأخير الذى لايحمل من حيث ظاهر اللفظ ولاباطن المعنى أية دلالات ، ولايمكن اعتباره إلا كدليل على انجراف الحلاَّج مع البحر الشعرى والقافية، من دون هدف محدد.. جاء البيت الأول حانياً، رقيقاً، مشتملاً على صورة فنية جيدة التعبير، فيها سريان المحبوب ( الله) فيما بين القلب وما يغلِّفه (الشغاف) وتشبيه ذلك بانسياب الدمع من الجفن المغلِّف للعين. وهى صورة معبرة - صوفياً - عن فكرة امتلاء المحبِّ بالمحبوب (الله) الذى هو حقيقة كل شئ... لكن الحلاج يصدمنا فى البيت الثانى بكلمة الحلول الخطيرة، تلك الكلمة التى لم يجربها فى الشعر الصوفى غيره، ثم يعيد ذكرها مرتين، فى كل شطرةٍ مرة، بل هو يؤكد معناها فى أبيات تجريبية أخرى ،يقول فيها، غير هَيَّابٍ ولا متحسبٍ لوقعها على أهل الزمان:
مُـزِجَتْ روحك فى رَوحى كما
تُمــزَجُ الخمـرةُ بالمــاءِ الزِّلالِ(12)
وكأن الحلاج لم يكتف فقط بذكر كلمة الحلول التى كان يمكن تأويلها صوفياً على أى وجه من الوجوه، فإذا به يختم عليها بكلمة أشد خطراً: المزج. ثم يشبِّه هذا المزج بين روحه وروح المحبوب (الله) بمزج الخمر الحسية بالماء! وكانت تلك هى المرة الأولى - فيما نعتقد- التى تستخدم فيها كلمة الخمر فى الشعر الصوفى، ولسوف يعود شعراء الصوفية لاستخدامها على نطاق واسع، بعد إعطائها دلالة رمزية، بحيث تشير إلى النشوة بتجلِّى المحبوب (خمر المحبة) أو إلى تذكر عالم الذر الذى كانت فيه الأرواح، قبل خلق الأجساد، تُقِرُّ بالواحدانية لله (خمر التوحيد ، كأس : ألست بربكم) المهم الآن : أن الشعر جرف الحلاَّج، فأتى بكلمتين من قاموس الممنوع العقائدى .. فهل كان الرجل بالفعل يقصد : الحلول والمزج؟
فى شهادة - نثرية - للحلاَّج، نراه ينفى بشدة ما أثبته فى شعره! فيقول عن المزج ما نصُّه : مَنْ ظنَّ أَنَّ الأُلُوهِية تَمْتَزِجُ بالبَشَريَّةِ، فقَدْ كَفَر (13) . وعن الحلول يقول : إِنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ هِىَ تَوْحِيدُهُ، وتَوْحِيدُهُ تَميُّزُهُ عَنْ خَلْقِهِ، وكُلُّ مَا تَصَوَّرَ فِى الأَوْهَامِ فَهْوَ - تعالى - بِخِلاَفِهِ ، كَيْفَ يَحُلُّ بِهَ، مَا مِنْهُ بَدَأ(14) ..
القضية إذن ، أن الحلاج لم يستطع بالشعر أن يخرج من الأزمة ، مثلما استطاع من بعده شعراء الصوفية الأكثر نضجاً، أمثال ابن الفارض وجلال الدين الــرومــى. بــل وقع فى مأزق جديد عندما استسلم لوقع النظم ، وعندما جلــب كلمات مثل : الحلول ، والمزج ..
وقد أثارت كلمات الحلاَّج حفيظة المعاصرين له، فأدانوه بكلمتى (الحلول - المزج) لما فيها من دعاوى نصرانية بحلول الله بالبشر وامتزاجه بهم .. وقد استثقلوا كلامه حول (اللاهوت والناسوت) لنفس السبب. ولم يقتصر الأمر على الفقهاء فحسب، فقد روى المؤرخون أن مشايخ التصوف أنفسهم : كانوا يستثقلون كلامه(15) .
ومن الألفاظ التى لجأ إليها الحلاج فى محاولاته الأوّليّة هذه ، كلمة شعشعانى التى اعتبرت - لغرابتها - دليلاً على سوء الأدب .. فقد احتدَّ عليه مرة الوزير علىّ بن عيسى، قائلاً له : كم تكتب ــ ويلك ـ إلى الناس تبارك ذو النور الشعشعانى ما أحوجك إلى أدب !(16)
.. وعلى هذا النحو، فشل الشعرُ الحلاجى فى الوصول لصياغة مقبولة يعبر خلالها المشجون المسجون فى اللغة، عن مكنون ذاته؛ وفشلت الكلمات التجريبية (حلول - مزج - لاهوت - ناسوت - شعشعانى ) فى حمل معانيه .. فلم يبق أمامه إلا الصراخ !
حملت كتب التراجم ، العديد من صرخات الحلاج .. مثل زعقته فى أسواق بغــداد: أيهــــا الـنـاس ، اعلموا أن الله قد أباح لكم دمى فاقتلونى ، اقتلونــى
تؤجروا وأسترح، اقتلونى تكتبوا عند الله مجاهدين وأكتب أنا شهيد(17) .
وفى غمرة هذا الانفجار الوجدانى ، لاحت للحلاَّج الوسيلةُ المثلى للخروج من المأزق .. وأدرك أن تأسيس اللغة الصوفية، لايكون بالاسترسال مع النظم، ولايكون باستخدام الألفاظ المثقلة بالدلالات القديمة .. وإنما يكون بتفجير اللغة. نهايه الجزء الاول