نقلا عن وزيره بهاء الدين بن شداد الذي عاشره و خالطه ، و كان أحسن من كتب عنه .
_____________________________
ملاحظته للأمور الشرعية
ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام.
وكان رحمة الله عليه حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء وفهم من ذلك ما يحتاج إلى تفهمه بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسناً وإن لم يكن بعبارة الفقهاء فتحصل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التشبيه غير مارق سهم النظر إلى التعطيل والتمويه جارية على نمط الاستقامة موافقة لقانون النظر الصحيح مرضية عند أكابر العلماء وكان قد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب.
وكان شدة حرصه عليها يعلمها الصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر ورأيته وهو يأخذها عليهم وهم يلقونها من حفظهم بين يديه.
وأما الصلاة فإنه كان رحمه الله تعالى شديد المواظبة عليها بالجماعة حتى أنه ذكر يوماً أن له سنين ما صلي إلا جماعة.
وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة.
وكان يواظب على السنن الرواتب وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ في الليل وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح ولم يكن يترك الصلاة ما دام عقله عليه.
ولقد رأيته قدس الله روحه يصلي في مرضه الذي مات فيه قائماً وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه.
وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى.
وأما الزكاة فإنه مات رحمه الله تعالى ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة وأما صدقة النفل فإنها استرقت جميع ما ملكه من الأموال فإنه ملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية وجرماً واحداً ذهباً ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك.
وأما صوم رمضان فإنه كان عليه منه فوائت بسبب أمراض تواترت عليه في رمضانات متعددة وكان القاضي الفاضل قد تولى ثبت تلك الأيام وشرع رحمه الله في قضاء تلك الفوائت بالقدس الشريف في السنة التي توفي فيها وقد واظب على الصوم مدة حتى بقيت عليه فوائت رمضانين شغلته الأمراض وملازمة الجهاد عن قضائها ومع كون الصوم لا يوافق مزاجه ألهمه الله تعالى الصوم وأقدره على ما قضاه من تلك الفوائت فكان يصوم وأنا أثبت الأيام التي يصومها لأن القاضي كان غائباً وكان الطبيب يلوم وهو لا يسمع ويقول لا أعلم ما يكون فكأنه كان ملهماً ما وأما الحج فإنه كان لم يزل عازماً عليه وناوياً له سيما في العام الذي توفي فيه فإنه صمم العزم عليه وأمر بالتأهب وعملنا الرفادة ولم يبق إلا المسير فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت وخلو اليد عما يليق بأمثاله فأخر إلى العام المستقبل فقضى الله ما قضى وهذا شيء اشترك في العلم به الخاص والعام.
وكان رحمه الله تعالى يحب سماع القرآن العظيم ويستجيد إمامه ويشترط أن يكون عالماً بعلم القرآن العظيم متقناً لحفظه.
وكان يستقرئ من يحرسه في الليل وهو في برجه الجزءين والثلاثة والأربعة وهو يسمع.
وكان يستقرئ وهو في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الآية والعشرين والزائد على ذلك ولقد اجتاز على صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن فاستحسن قراءته فقربه وجعل له حظاً من خاص طعامه ووقف عليه وعلى أبيه جزأ من مزرعة.
وكان رحمه الله تعالى خاشع القلب رقيقه غزير الدمعة إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته.
وكان رحمه الله شديد الرغبة في سماع الحديث ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصين به وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له.
وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه.
تردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية حرسها الله تعالى وروى عنه أحاديث كثيرة.
وكان رحمه الله تعالى يحب أن يقرأ الحديث بنفسه وكان يستحضرني في خلوته ويحضر شيئاً من كتب الحديث ويقرؤها هو فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه ودمعت عينه.
وكان رحمة الله عليه كثير التعظيم لشعائر الدين يقول ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار مصدقاً بجميع ما وردت به الشرائع منشرحاً بذلك صدره مبغضاً للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز الله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معانداً للشرائع مبطلاً وكان قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمره بقتله فطلبه أياماً فقتله.
كان قدس الله روحه حسن الظن بالله كثير الاعتماد عليه عظيم الإنابة إليه.
ولقد شاهدت من آثار ذلك ما أحكيه.
حسن ظنه بالله واعتماده عليه
وذلك أن الفرنج خذلهم الله كانوا نازلين ببيت نوبة وهو موضع قريب من القدس الشريف حرسها الله تعالى بينهما بعض مرحلة وكان السلطان بالقدس وقد أقام يزكاً على العدو محيطاً به وقد سير إليهم الجواسيس والمخبرين فتواصلت الأخبار بقوة عزمهم على الصعود إلى القدس ومحاصرته وتركيب القنابل عليه واشتدت مخافة المسلمين بسبب ذلك فاستحضر الأمراء وعرفهم ما قد دهم المسلمين من الشدة وشاورهم في الإقامة بالقدس فأتوا بمجاملة باطنها غير ظاهرها وأصر الجميع على أن لا مصلحة في إقامته بنفسه فإنها مخاطرة بالإسلام وذكروا أنهم يقصدونهم ويخرج هو رحمه الله بطائفة من العسكر يكون حول العدو كما كان الحال بعكا ويكون هو ومن معه بصدر منع ميرتهم أو التضييق عليهم ويكونون هم بصدد حفظ البلد والدفع عنه وانفصل مجلس المشورة على ذلك وهو مصر على أن يقيم بنفسه علماً منه أنه إن لم يقم لم يقم أحد فلما انصرف الأمراء إلى بيوتهم جاء من عندهم خبر أنهم لا يقيمون إلا أن يقيم أخوه الملك العادل أو أحد أولاده حتى يكون هو الحاكم عليهم والذي يأتمرون بأمره فعلم أن هذه إشارة منهم إلى عدم الإقامة وضاق صدره وتقسم فكره واشتدت فكرته ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة وكانت ليلة الجمعة من أول الليل إلى أن قارب الصبح وكان الزمان شتاءً وليس معنا ثالث إلا الله تعالى ونحن نقسم أقساماً ونرتب على كل قسم بمقتضاه حتى أخذني الإشفاق عليه والخوف على مزاحه فإنه كان يغلب عليه اليبس فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه لعله ينام ساعة فقال رحمه الله لعلك جاءك النوم ثم نهض فما وصلت إلى بيتي وأخذت لبعض شأني إلا وأذن المؤذن وطلع الصبح وكنت أصلي معه الصبح في معظم الأوقات فدخلت عليه وهو يمر الماء على أطرافه فقال ما أخذني النوم أصلاً فقلت قد علمت فقال من أين فقلت لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه فقلت له قد وقع لي واقع وأظنه مفيداً إن شاء الله تعالى فقال وما هو فقلت له الإخلاد إلى الله تعالى والإنابة إليه.
والاعتماد في كشف الغمة عليه.
فقال: وكيف نصنع فقلت اليوم الجمعة يغتسل المولى عند الرواح ويصلي على العادة بالأقصى موضع مسرى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقدم المولى التصدق بشيء خفية على يد من يثق به ويصلي المولى ركعتين بين الآذان والإقامة ويدعو الله في سجوده فقد ورد فيه حديث صحيح وتقول في باطنك: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل.
فإن الله أكرم من أن يخيب قصدك ففعل ذلك كله وصليت إلى جانبه على العادة وصلى الركعتين بين الآذان والإقامة ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثم على سجادته ولا أسمع ما يقول فلم ينقض ذلك اليوم حتى وصلت رقعة من عز الدين جرديك وكان على اليزك يخبر فيها أن الفرنج مختبطون وقد ركب اليوم عسكرهم بأسره إلى الصحراء ووقفوا إلى قائم الظهيرة ثم عادوا إلى خيامهم وفي بكرة السبت جاءت رقعة ثانية تخبر عنهم بمثل ذلك.
ووصل في أثناء النهار جاسوس أخبر أنهم اختلفوا فذهبت الفرنسيسية إلى أنهم لا بد لهم من محاصرة القدس وذهب الأنكتار وأتباعه إلى أنه لا يخاطر بدين النصرانية ويرميهم في الجبل مع عدم المياه فإن السلطان كان قد أفسد جميع ما حول القدس من المياه أنهم خرجوا للمشورة ومن عادتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهور الخيل وأنهم قد نصوا على عشرة أنفس منهم وحكموهم فأي شيء أشاروا به لا يخالفونهم ولما كانت بكرة الاثنين جاء المبشر يخبر أنهم رحلوا عائدين إلى جهة الرملة فهذا ما شهدته من آثار استنباطه وإخلاده إلى الله تعالى رحمه الله.
ذكر عدله رحمه الله تعالى
روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الوالي العادل ظل الله في أرضه فمن نصحه في نفسه أو في عباده أظله الله تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله ومن خانه في نفسه أو في عباده خذله الله يوم القيامة يرفع للوالي العادل في كل يوم عمل ستين صديقاً كلهم عابد مجتهد لنفسه.
ولقد كان رحمه الله عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي.
وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً.
على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ويفتح باب العدل ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات.
وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ولم يرد قاصداً أبداً أو منتحلاً ولا طالب حاجة وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة رحمة الله عليه.
ولقد كان رؤوفاً بالرعية ناصراً للدين مواظباً على تلاوة القرآن العزيز عالماً بما فيه عاملاً به لا يعدوه أبداً رحمة الله عليه.
وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته.
ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده ولكنه لم يحابه في الحق.
وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي وذلك أني كنت يوماً في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل على شيخ حسن تاجر معروف يسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه فسألته من خصمك فقال خصمي السلطان وهذا بساط العدل وقد سمعنا أنك لا تحابي أحد قلت وفي أي قضية هو خصمك فقال إن سنقر الخلاطي كان مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات وكان في يده أموال عظيمة كلها لي ومات عنها واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها فقلت له يا شيخ وما أقعدك إلى هذه الغاية فقال الحقوق لا تبطل بالتأخر وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات فأخذت الكتاب منه وتصفحت مضمونه فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما وتم الشرط إلى آخره فتعجبت من هذه القضية وقلت للرجل لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده فرضي الرجل بذلك واندفع فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية فاستبعد ذلك استبعاداً عظيماً وقال كنت نظرت في الكتاب فقلت نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق وقد كتب عليه كتاب حكمي من دمشق وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون فقال مبارك نحن نحضر الرجل ونحاكمه ونعمل في القضية ما يقضيه الشرع.
ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة فقلت له هذا الخصم يتردد ولا بد أن نسمع دعواه فقال أقم عني وكيلا يسمع الدعوى ثم يقيم الشهود شهادتهم وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا ففعلت ذلك ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولاً فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلفه لورثته فقال الرجل لي بينة تشهد بما ادعيته ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه فلما سمع السلطان التاريخ قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك وذكروا القصة كما ذكرها والتاريخ كما ادعاه فأبأس الرجل فقلت له يا مولاي هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلباً لمراحم السلطان وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائباً للقصد فقال هذا باب آخر وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها.
فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ذكر طرف من كرمه رحمه الله
قال صلّى الله عليه وسلّم إذا عثر الكريم فإن الله آخذ بيده وفي الكرم أحاديث وكرمه قدس الله روحه كان أظهر من أن يسطر وأشهر من أن يذكر لكن نبهت عليه جملة وذلك أنه ملك ما ملك ومات ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً ناصرية ومن الذهب إلا جرم واحد صوري ما علمت وزنه وكان رحمه الله يهب الأقاليم وفتح آمد وطلبها منه ابن قره أرسلان فأعطاه إياه.
ورأيته قد اجتمع عنده جمع من الوفود بالقدس الشريف وكان قد عزم على التوجه إلى دمشق ولم يكن في الخزانة ما يعطى للوفود فلم أزل أخاطبه في معناهم حتى باع أشياء من بيت المال وفضضنا ثمنها عليهم ولم يفضل منه درهم واحد.
وكان رحمه الله يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة.
وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم معهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه وسمعته يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب فكأنه بذلك أراد نفسه رحمه الله تعالى.
وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول أعطينا لفلان.
وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئاً.
وكان رحمه الله يعطي ويكرم أكثر مما يعطى وكان قد عرفه الناس فكانوا يستزيدونه في كل وقت وما سمعته قط يقول وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي وكنت أخجل منه من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره.
وأما تعداد عطاياه وتعداد صنوفها فلا تطمع فيها حقيقة أصلاً وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي قد تجاربنا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة آلاف فرس.
ومن شاهد مواهبه يستقل هذا القدر.
اللهم إنك ألهمته الكرم وأنت أكرم منه فتكرم عليه برحمتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.
_____________________________
ملاحظته للأمور الشرعية
ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام.
وكان رحمة الله عليه حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء وفهم من ذلك ما يحتاج إلى تفهمه بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسناً وإن لم يكن بعبارة الفقهاء فتحصل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التشبيه غير مارق سهم النظر إلى التعطيل والتمويه جارية على نمط الاستقامة موافقة لقانون النظر الصحيح مرضية عند أكابر العلماء وكان قد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب.
وكان شدة حرصه عليها يعلمها الصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر ورأيته وهو يأخذها عليهم وهم يلقونها من حفظهم بين يديه.
وأما الصلاة فإنه كان رحمه الله تعالى شديد المواظبة عليها بالجماعة حتى أنه ذكر يوماً أن له سنين ما صلي إلا جماعة.
وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة.
وكان يواظب على السنن الرواتب وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ في الليل وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح ولم يكن يترك الصلاة ما دام عقله عليه.
ولقد رأيته قدس الله روحه يصلي في مرضه الذي مات فيه قائماً وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه.
وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى.
وأما الزكاة فإنه مات رحمه الله تعالى ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة وأما صدقة النفل فإنها استرقت جميع ما ملكه من الأموال فإنه ملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية وجرماً واحداً ذهباً ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك.
وأما صوم رمضان فإنه كان عليه منه فوائت بسبب أمراض تواترت عليه في رمضانات متعددة وكان القاضي الفاضل قد تولى ثبت تلك الأيام وشرع رحمه الله في قضاء تلك الفوائت بالقدس الشريف في السنة التي توفي فيها وقد واظب على الصوم مدة حتى بقيت عليه فوائت رمضانين شغلته الأمراض وملازمة الجهاد عن قضائها ومع كون الصوم لا يوافق مزاجه ألهمه الله تعالى الصوم وأقدره على ما قضاه من تلك الفوائت فكان يصوم وأنا أثبت الأيام التي يصومها لأن القاضي كان غائباً وكان الطبيب يلوم وهو لا يسمع ويقول لا أعلم ما يكون فكأنه كان ملهماً ما وأما الحج فإنه كان لم يزل عازماً عليه وناوياً له سيما في العام الذي توفي فيه فإنه صمم العزم عليه وأمر بالتأهب وعملنا الرفادة ولم يبق إلا المسير فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت وخلو اليد عما يليق بأمثاله فأخر إلى العام المستقبل فقضى الله ما قضى وهذا شيء اشترك في العلم به الخاص والعام.
وكان رحمه الله تعالى يحب سماع القرآن العظيم ويستجيد إمامه ويشترط أن يكون عالماً بعلم القرآن العظيم متقناً لحفظه.
وكان يستقرئ من يحرسه في الليل وهو في برجه الجزءين والثلاثة والأربعة وهو يسمع.
وكان يستقرئ وهو في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الآية والعشرين والزائد على ذلك ولقد اجتاز على صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن فاستحسن قراءته فقربه وجعل له حظاً من خاص طعامه ووقف عليه وعلى أبيه جزأ من مزرعة.
وكان رحمه الله تعالى خاشع القلب رقيقه غزير الدمعة إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته.
وكان رحمه الله شديد الرغبة في سماع الحديث ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصين به وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له.
وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه.
تردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية حرسها الله تعالى وروى عنه أحاديث كثيرة.
وكان رحمه الله تعالى يحب أن يقرأ الحديث بنفسه وكان يستحضرني في خلوته ويحضر شيئاً من كتب الحديث ويقرؤها هو فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه ودمعت عينه.
وكان رحمة الله عليه كثير التعظيم لشعائر الدين يقول ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار مصدقاً بجميع ما وردت به الشرائع منشرحاً بذلك صدره مبغضاً للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز الله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معانداً للشرائع مبطلاً وكان قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمره بقتله فطلبه أياماً فقتله.
كان قدس الله روحه حسن الظن بالله كثير الاعتماد عليه عظيم الإنابة إليه.
ولقد شاهدت من آثار ذلك ما أحكيه.
حسن ظنه بالله واعتماده عليه
وذلك أن الفرنج خذلهم الله كانوا نازلين ببيت نوبة وهو موضع قريب من القدس الشريف حرسها الله تعالى بينهما بعض مرحلة وكان السلطان بالقدس وقد أقام يزكاً على العدو محيطاً به وقد سير إليهم الجواسيس والمخبرين فتواصلت الأخبار بقوة عزمهم على الصعود إلى القدس ومحاصرته وتركيب القنابل عليه واشتدت مخافة المسلمين بسبب ذلك فاستحضر الأمراء وعرفهم ما قد دهم المسلمين من الشدة وشاورهم في الإقامة بالقدس فأتوا بمجاملة باطنها غير ظاهرها وأصر الجميع على أن لا مصلحة في إقامته بنفسه فإنها مخاطرة بالإسلام وذكروا أنهم يقصدونهم ويخرج هو رحمه الله بطائفة من العسكر يكون حول العدو كما كان الحال بعكا ويكون هو ومن معه بصدر منع ميرتهم أو التضييق عليهم ويكونون هم بصدد حفظ البلد والدفع عنه وانفصل مجلس المشورة على ذلك وهو مصر على أن يقيم بنفسه علماً منه أنه إن لم يقم لم يقم أحد فلما انصرف الأمراء إلى بيوتهم جاء من عندهم خبر أنهم لا يقيمون إلا أن يقيم أخوه الملك العادل أو أحد أولاده حتى يكون هو الحاكم عليهم والذي يأتمرون بأمره فعلم أن هذه إشارة منهم إلى عدم الإقامة وضاق صدره وتقسم فكره واشتدت فكرته ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة وكانت ليلة الجمعة من أول الليل إلى أن قارب الصبح وكان الزمان شتاءً وليس معنا ثالث إلا الله تعالى ونحن نقسم أقساماً ونرتب على كل قسم بمقتضاه حتى أخذني الإشفاق عليه والخوف على مزاحه فإنه كان يغلب عليه اليبس فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه لعله ينام ساعة فقال رحمه الله لعلك جاءك النوم ثم نهض فما وصلت إلى بيتي وأخذت لبعض شأني إلا وأذن المؤذن وطلع الصبح وكنت أصلي معه الصبح في معظم الأوقات فدخلت عليه وهو يمر الماء على أطرافه فقال ما أخذني النوم أصلاً فقلت قد علمت فقال من أين فقلت لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه فقلت له قد وقع لي واقع وأظنه مفيداً إن شاء الله تعالى فقال وما هو فقلت له الإخلاد إلى الله تعالى والإنابة إليه.
والاعتماد في كشف الغمة عليه.
فقال: وكيف نصنع فقلت اليوم الجمعة يغتسل المولى عند الرواح ويصلي على العادة بالأقصى موضع مسرى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقدم المولى التصدق بشيء خفية على يد من يثق به ويصلي المولى ركعتين بين الآذان والإقامة ويدعو الله في سجوده فقد ورد فيه حديث صحيح وتقول في باطنك: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل.
فإن الله أكرم من أن يخيب قصدك ففعل ذلك كله وصليت إلى جانبه على العادة وصلى الركعتين بين الآذان والإقامة ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثم على سجادته ولا أسمع ما يقول فلم ينقض ذلك اليوم حتى وصلت رقعة من عز الدين جرديك وكان على اليزك يخبر فيها أن الفرنج مختبطون وقد ركب اليوم عسكرهم بأسره إلى الصحراء ووقفوا إلى قائم الظهيرة ثم عادوا إلى خيامهم وفي بكرة السبت جاءت رقعة ثانية تخبر عنهم بمثل ذلك.
ووصل في أثناء النهار جاسوس أخبر أنهم اختلفوا فذهبت الفرنسيسية إلى أنهم لا بد لهم من محاصرة القدس وذهب الأنكتار وأتباعه إلى أنه لا يخاطر بدين النصرانية ويرميهم في الجبل مع عدم المياه فإن السلطان كان قد أفسد جميع ما حول القدس من المياه أنهم خرجوا للمشورة ومن عادتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهور الخيل وأنهم قد نصوا على عشرة أنفس منهم وحكموهم فأي شيء أشاروا به لا يخالفونهم ولما كانت بكرة الاثنين جاء المبشر يخبر أنهم رحلوا عائدين إلى جهة الرملة فهذا ما شهدته من آثار استنباطه وإخلاده إلى الله تعالى رحمه الله.
ذكر عدله رحمه الله تعالى
روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الوالي العادل ظل الله في أرضه فمن نصحه في نفسه أو في عباده أظله الله تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله ومن خانه في نفسه أو في عباده خذله الله يوم القيامة يرفع للوالي العادل في كل يوم عمل ستين صديقاً كلهم عابد مجتهد لنفسه.
ولقد كان رحمه الله عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي.
وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً.
على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ويفتح باب العدل ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات.
وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ولم يرد قاصداً أبداً أو منتحلاً ولا طالب حاجة وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة رحمة الله عليه.
ولقد كان رؤوفاً بالرعية ناصراً للدين مواظباً على تلاوة القرآن العزيز عالماً بما فيه عاملاً به لا يعدوه أبداً رحمة الله عليه.
وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته.
ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده ولكنه لم يحابه في الحق.
وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي وذلك أني كنت يوماً في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل على شيخ حسن تاجر معروف يسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه فسألته من خصمك فقال خصمي السلطان وهذا بساط العدل وقد سمعنا أنك لا تحابي أحد قلت وفي أي قضية هو خصمك فقال إن سنقر الخلاطي كان مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات وكان في يده أموال عظيمة كلها لي ومات عنها واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها فقلت له يا شيخ وما أقعدك إلى هذه الغاية فقال الحقوق لا تبطل بالتأخر وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات فأخذت الكتاب منه وتصفحت مضمونه فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما وتم الشرط إلى آخره فتعجبت من هذه القضية وقلت للرجل لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده فرضي الرجل بذلك واندفع فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية فاستبعد ذلك استبعاداً عظيماً وقال كنت نظرت في الكتاب فقلت نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق وقد كتب عليه كتاب حكمي من دمشق وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون فقال مبارك نحن نحضر الرجل ونحاكمه ونعمل في القضية ما يقضيه الشرع.
ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة فقلت له هذا الخصم يتردد ولا بد أن نسمع دعواه فقال أقم عني وكيلا يسمع الدعوى ثم يقيم الشهود شهادتهم وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا ففعلت ذلك ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولاً فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلفه لورثته فقال الرجل لي بينة تشهد بما ادعيته ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه فلما سمع السلطان التاريخ قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك وذكروا القصة كما ذكرها والتاريخ كما ادعاه فأبأس الرجل فقلت له يا مولاي هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلباً لمراحم السلطان وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائباً للقصد فقال هذا باب آخر وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها.
فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ذكر طرف من كرمه رحمه الله
قال صلّى الله عليه وسلّم إذا عثر الكريم فإن الله آخذ بيده وفي الكرم أحاديث وكرمه قدس الله روحه كان أظهر من أن يسطر وأشهر من أن يذكر لكن نبهت عليه جملة وذلك أنه ملك ما ملك ومات ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً ناصرية ومن الذهب إلا جرم واحد صوري ما علمت وزنه وكان رحمه الله يهب الأقاليم وفتح آمد وطلبها منه ابن قره أرسلان فأعطاه إياه.
ورأيته قد اجتمع عنده جمع من الوفود بالقدس الشريف وكان قد عزم على التوجه إلى دمشق ولم يكن في الخزانة ما يعطى للوفود فلم أزل أخاطبه في معناهم حتى باع أشياء من بيت المال وفضضنا ثمنها عليهم ولم يفضل منه درهم واحد.
وكان رحمه الله يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة.
وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم معهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه وسمعته يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب فكأنه بذلك أراد نفسه رحمه الله تعالى.
وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول أعطينا لفلان.
وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئاً.
وكان رحمه الله يعطي ويكرم أكثر مما يعطى وكان قد عرفه الناس فكانوا يستزيدونه في كل وقت وما سمعته قط يقول وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي وكنت أخجل منه من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره.
وأما تعداد عطاياه وتعداد صنوفها فلا تطمع فيها حقيقة أصلاً وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي قد تجاربنا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة آلاف فرس.
ومن شاهد مواهبه يستقل هذا القدر.
اللهم إنك ألهمته الكرم وأنت أكرم منه فتكرم عليه برحمتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.