الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فلما توفي نور الدين صار بين صلاح الدين وأبناء نور الدين نزاع حتى آل الأمر إلى ظهور صلاح الدين، وشملت سلطنته مصر والشام والجزيرة وغيرها. وكان -رحمه الله- عادلا كريما حليما صبورا على ما يكره، ومن أخبار زهده وكرمه أنه مات ولم يخلـِّف إلا دينارا وأربعين درهما مع سعة سلطانه.
ولقد بدأ صلاح الدين منازلته للصليبيين في عام ستة وستين وخمسمائة حيث أغار على أعمال عسقلان وغزة، وأتاه ملك الفرنج في قلة من العسكر مسرعين لرده عن البلاد فقاتلهم وهزمهم، وأفلت ملك الفرنج من الأسر، وعاد صلاح الدين إلى مصر فأمر بصنع مراكب مفصلة وحملها قطعا على الجمال في البر وقصد أيلة، ثم أمر بجمع قطع المراكب وألقاها في البحر، وحاصر أيلة برا وبحرا وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر.
وفي سنة سبعين وخمسمائة أخرج الفرنج أسطولا بحريًا حربيًا من صقلية لغزو مصر وهو مكون من مائتي سفينة تحمل الرجال، وست وثلاثين تحمل الخيل، بالإضافة إلى ست مراكب كبار تحمل آلة الحرب وأربعين مركبا تحمل الأزواد، وكان عدد المقاتلين خمسون ألفا من الرجالة وألف وخمسمائة من الفرسان، وكانت هذه الحملة بقيادة ابن عم صاحب صقلية فوصلوا إلى الإسكندرية في السادس والعشرين من ذي الحجة عام تسعة وستين وخمسمائة على حين غفلة من أهلها وطمأنينة، فقاتلهم أهل الإسكندرية قتالا شديدا.
وسمع الفرنج باقتراب صلاح الدين منهم في عساكره فسقط في أيديهم وازدادوا تعبا وفتورا، فهاجمهم المسلمون ووصلوا إلى خيامهم فغنموها بما فيها من الأسلحة الكثيرة وكثر القتل في رجالة الفرنج فهرب كثير منهم إلى البحر وغرق بعضهم.
وغاص بعض المسلمين في الماء وخرق مراكب الفرنج فغرقت، فخاف الباقون من ذلك فولوا هاربين، واحتمى ثلاثمائة من فرسان الفرنج على رأس تل، فقاتلهم المسلمون إلى بكرة، ودام القتال إلى أن أضحى النهار، فغلبهم أهل البلد وقهروهم فصاروا بين قتيل وأسير.
وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة خرج صلاح الدين من مصر إلى الشام، فلما وصل أرسل إلى بقية أطراف الشام وإلى المشرق يطلب اجتماع الجيوش لغزو الصليبيين، فاجتمع لديه اثنا عشر ألف فارس من الجند الذين يتقاضون الرواتب سوى المتطوعة، ثم سار بجيشه حتى خلـَّف طبرية خلف ظهره وتقدم حتى قارب الصليبيين وهم في خيامهم لم يفارقوها، فلما كان في الليل جعل في مقابل الصليبيين من يمنعهم من القتال وسار بطائفة من الجيش إلى طبرية، وقاتل أهلها ونقب بعض أبراجها، وأخذ المدينة عنوة في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعة التي لها فامتنعوا بها وفيها أميرتها النصرانية ومعها أولادها.
فلما سمع الصليبيون بذلك اجتمعوا للمشورة فاستقر رأيهم على التقدم لقتال المسلمين وهذا ما أراده صلاح الدين من مهاجمة طبرية، وتقدموا حتى قربوا من معسكر المسلمين فعاد صلاح الدين من طبرية، وكان المسلمون قد نزلوا على الماء والزمان قيظ شديد الحرارة فوجد الصليبيون العطش ولم يتمكنوا من الوصول إلى الماء ولم يتمكنوا عن الرجوع خوفا من المسلمين فبقوا على حالهم إلى الغد وقد أخذ العطش منهم، ولما عاد صلاح الدين والمسلمون ركبوا وتقدموا إلى الصليبيين وركب الصليبيون ودنا بعضهم من بعض، وأمر السلطان الرماة أن يرشقوا الأعداء بنبالهم وتبارز الشجعان ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحمل المسلمون على أعدائهم، فاقتتلوا أشد قتال وصبر الفريقان، وأثخن رماة المسلمين في الأعداء فقتلوا كثيرا من خيولهم.
وتوجه الصليبيون نحو طبرية لعلهم يردون الماء؛ فلما علم صلاح الدين بمقصدهم صدهم عن مرادهم، ولما اشتد القتال عليهم أدرك القمص حاكم طرابلس أنه لا طاقة لهم بقتال المسلمين ففر من المعركة. فلما انهزم القمص فتَّ ذلك في أعضادهم، وكان بعض المتطوعة قد ألقى في تلك الأرض نارا وكان الحشيش كثيرا فاحترق، وحملت الريح حر النار والدخان إلى الأعداء، فاجتمع عليهم العطش، وحر الزمان، وحر النار والدخان، وحر القتال، فوهن الأعداء لذلك وهنا عظيما فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها؛ فارتفع من بقي منهم على تل بناحية حطين وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ويحموا نفوسهم به، فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات، ومنعهم المسلمون عما أرادوا.
وأخذ المسلمون صليبهم الذي يسمونه "صليب الصلبوت" والتي يزعمون أن به قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح -في زعمهم- فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك، وكان الفرنجة قد ازدادوا عطشا؛ فنزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض، فصعد المسلمون إليهم فألقوا خيمة الملك وأسروهم عن بكرة أبيهم، وفيهم الملك وأخوه البرنس "أرياط" صاحب الكرك، ولم يكن في الفرنج أشد عداوة للمسلمين منه، وأسروا أيضا صاحب جبيل وابن هنفري، ومقدم الداوية وكان من أعظم الفرنج شأنا.
وانتهت المعركة بانتصار حاسم للمسلمين وانهزام شديد للصليبيين، وقد كثر فيها القتلى والأسرى منهم حتى أن من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحدا! ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا واحدا!!
وقد بلغ عدد القتلى ثلاثين ألفا، وعدد الأسرى ثلاثين ألفا.
فلما فرغ المسلمون منهم نزل صلاح الدين في خيمته وأحضر ملك الفرنج عنده والبرنس صاحب الكرك، وأجلس الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش فسقاه ماء مثلوجا فشرب وأعطى فضله البرنس صاحب الكرك فشرب، فقال صلاح الدين: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني، ثم كلم البرنس وقرعه بذنوبه، ومن ذلك سب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وعزمه على غزو مكة والمدينة، وقتل الحجاج غدرا وكان يقول: "أين محمدكم فليأتي لينصركم". فقال له صلاح الدين: "جئتك بالنيابة عن محمد -صلى الله عليه وسلم- للانتصار لأمته".
وكان صلاح الدين قد نذر مرتين أن يقتله إن ظفر به فقام إليه بنفسه فقتله، فلما قتله وسحب وأخرج؛ ارتعدت فرائص ملك الصليبيين فسكـَّن السلطان جأشه وأَمَّـنه.
ولقد كان من براعة صلاح الدين وتخطيطه الحربي أنه بدأ بالاستيلاء على المدن الساحلية التي بين الصليبيين حتى لا تكون محطات لنزول حملة صليبية جديدة، ولقد كان الاستيلاء على بيت المقدس من قبل المسلمين أمرا كبيرا على النصارى في العالم، فقد كان هناك احتمال أن يقوم المنكوبون في حطين بطلب النجدة من الممالك الأوروبية، فبدأ صلاح الدين بأقرب بلد إليه وهي طبرية، فاستولى عليها، ثم فتح مدينة عكا بعد حصارها والصلح مع أهلها، ثم أرسل إلى أخاه العادل نائبه على مصر ليغزو المدن الساحلية القريبة منه "مجدل يابا" و"يافا"، ثم فتح صلاح الدين الناصرة، وقيسارية، وصفورية، ومعيليا، والشقيف، والفولة، وغيرها من البلدان المجاورة لمدينة عكا.
ثم تولى صلاح الدين فتح مدينة بيروت، وصيدا، وتبنين، وجبيل، وبقي من المدن الساحلية الشمالية مدينة صور التي تجمـَّع بها أكثر من خرجوا من بلادهم من النصارى، فتركها صلاح الدين حتى لا تشغله عن فتح بيت المقدس، وقد رجع السلطان جنوبا إلى القدس، ولكنه قدَّم عليها عسقلان فحاصرها بعد أن التقى بأخيه العادل نائبه على مصر ومعه جيش من مصر ففتحها صلحا بعد حصار دام أربعة عشر يوما ثم فتح عزة، والرملة، والداروم، وغيرها، ولما تمَّ فتح ما حول القدس، وتم تأمين الساحل؛ توجـَّه السلطان صلاح الدين بجيشه نحو بيت المقدس، وكان بها جمع كثيف من النصارى، وكانوا يرون الموت أهون من أن يملك المسلمون بيت المقدس.
وقد وصل جيش المسلمين إلى القدس في منتصف رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فرأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم وسمعوا لأهله من الضجيج داخل المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتل؛ لأن السور في غاية التحصين، فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال، فانتقل إلى هذه الجهة ونصب المنجنيقات وبدأ القتال بالرمي من الطرفين، وتقاتلوا أشد قتال رآه الناس، وكان خيالة الأعداء يخرجون كل يوم إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون فقتل من الفريقين بعضهم.
وممن استشهد من المسلمين الأمير عز الدين عيسى بن مالك وهو من أكابر الأمراء، وكان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يقاتل بنفسه كل يوم، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك فحملوا حملة رجل واحد فأزالوا الفرنج عن مواقعهم فأدخلوهم إلى القدس، ووصل المسلمون إلى الخندق فجاوزوه، والتصقوا بالسور فنقبوه، وزحف الرماة يحمونهم والمجانيق توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار حتى يتمكن المسلمون من نقب السور.
فلما نقبوه؛ حشوه بالبارود وفجروه فسقط السور والبرج الذي عليه، فلما رأى ذلك الفرنج اجتمع مقدموهم فتشاوروا، واجتمع رأيهم على طلب الأمان وتسليم القدس لصلاح الدين، فأرسلوا جماعة من أعيانهم في طلب الأمان؛ فامتنع السلطان من إجابتهم وقال: "لا أفعل بكم إلا ما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي وجزاء سيئة بمثلها".
فلما رجعت رسلهم خائبين لم يظفروا بالصلح أرسل كبيرهم ياليان بن بيرزان وطلب الأمان لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في أمر الصلح، فأجيب إلى ذلك وحضر عنده ورغب في الأمان فلم يجبه، واستعطفه فلم يعطف عليه، فلما أيس من ذلك قال له: "أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمه إلا الله -تعالى- وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا الموت لابد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منا دينارا واحدا، ولا تسبون ولا تأسرون رجلا ولا امرأة، فإذا فرغنا من ذلك خربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرها من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك دابة ولا حيوانا إلا قتلناه، ثم نخرج إليكم فنقاتلكم قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه".
فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان؛ فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج، فاستقر أن يؤخذ من كل رجل عشرة دنانير ومن الطفل ذكرا أو أنثى ديناران، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوم فقد نجا ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤدِ ما عليه فقد صار مملوكا، فبذل ياليان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك.
وسـُلِمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يوما مشهودا ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها، ودخل صلاح الدين المسجد الأقصى فأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس ففعل ذلك، وأتى بمنبر نور الدين محمود فحـُمِل من حلب، ونصب بالقدس.
وهكذا فتح بيت المقدس للمرة الثانية في الإسلام وقد حاز شرف المرة الأولى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
وحاز شرف الثانية السلطان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، وهو شرف كبير أن يقرن الثاني بالأول.
ولما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والفساقى دخل أهل الإيمان، ونودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحِد الرحمن، ونصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون وخرس القسيسون، وزال البوس وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس.
وعـُبِد الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي َلَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، وخطب الخطيب القاضي "محي الدين بن الزكي" فذكر شرف بيت المقدس وأتى بتحميدات القرآن كلها، ووعظ الناس بموعظة مشتملة على تغبيط الناس بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس.
ولما عاد صلاح الدين إلى دمشق وجد وكيل الخزانة الصفي بن الفايض قد بنى له دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي، فغضب عليه وعزله وقال: "إنا لم نخلق للمقام في دمشق ولا بغيرها من البلاد وإنما خلقنا لعبادة الله -عز وجل- والجهاد في سبيله وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له".
وفي سنة أربعة وثمانين وخمسمائة فتح صلاح الدين قلعة برزبة، وبعد أن استولى صلاح الدين على حصن برزبة توجه إلى حصن الثغر فحاصره، فسلموا الحصن لصلاح الدين ثم توجه إلى صور، ولكنه لم يفتحها.
وقد انتهى أمر صلاح الدين مع الصليبيين إلى عقد هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، وذلك في العشرين من شعبان عام ثمان وثمانين وخمسمائة، وقد كانت الهدنة بطلب من ملك إنجلترا وقد أشار أمراء صلاح الدين عليه بالموافقة؛ ليرحل الفرنج القادمون فتخف الوطأة على المسلمين.
فلما توفي نور الدين صار بين صلاح الدين وأبناء نور الدين نزاع حتى آل الأمر إلى ظهور صلاح الدين، وشملت سلطنته مصر والشام والجزيرة وغيرها. وكان -رحمه الله- عادلا كريما حليما صبورا على ما يكره، ومن أخبار زهده وكرمه أنه مات ولم يخلـِّف إلا دينارا وأربعين درهما مع سعة سلطانه.
ولقد بدأ صلاح الدين منازلته للصليبيين في عام ستة وستين وخمسمائة حيث أغار على أعمال عسقلان وغزة، وأتاه ملك الفرنج في قلة من العسكر مسرعين لرده عن البلاد فقاتلهم وهزمهم، وأفلت ملك الفرنج من الأسر، وعاد صلاح الدين إلى مصر فأمر بصنع مراكب مفصلة وحملها قطعا على الجمال في البر وقصد أيلة، ثم أمر بجمع قطع المراكب وألقاها في البحر، وحاصر أيلة برا وبحرا وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر.
وفي سنة سبعين وخمسمائة أخرج الفرنج أسطولا بحريًا حربيًا من صقلية لغزو مصر وهو مكون من مائتي سفينة تحمل الرجال، وست وثلاثين تحمل الخيل، بالإضافة إلى ست مراكب كبار تحمل آلة الحرب وأربعين مركبا تحمل الأزواد، وكان عدد المقاتلين خمسون ألفا من الرجالة وألف وخمسمائة من الفرسان، وكانت هذه الحملة بقيادة ابن عم صاحب صقلية فوصلوا إلى الإسكندرية في السادس والعشرين من ذي الحجة عام تسعة وستين وخمسمائة على حين غفلة من أهلها وطمأنينة، فقاتلهم أهل الإسكندرية قتالا شديدا.
وسمع الفرنج باقتراب صلاح الدين منهم في عساكره فسقط في أيديهم وازدادوا تعبا وفتورا، فهاجمهم المسلمون ووصلوا إلى خيامهم فغنموها بما فيها من الأسلحة الكثيرة وكثر القتل في رجالة الفرنج فهرب كثير منهم إلى البحر وغرق بعضهم.
وغاص بعض المسلمين في الماء وخرق مراكب الفرنج فغرقت، فخاف الباقون من ذلك فولوا هاربين، واحتمى ثلاثمائة من فرسان الفرنج على رأس تل، فقاتلهم المسلمون إلى بكرة، ودام القتال إلى أن أضحى النهار، فغلبهم أهل البلد وقهروهم فصاروا بين قتيل وأسير.
وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة خرج صلاح الدين من مصر إلى الشام، فلما وصل أرسل إلى بقية أطراف الشام وإلى المشرق يطلب اجتماع الجيوش لغزو الصليبيين، فاجتمع لديه اثنا عشر ألف فارس من الجند الذين يتقاضون الرواتب سوى المتطوعة، ثم سار بجيشه حتى خلـَّف طبرية خلف ظهره وتقدم حتى قارب الصليبيين وهم في خيامهم لم يفارقوها، فلما كان في الليل جعل في مقابل الصليبيين من يمنعهم من القتال وسار بطائفة من الجيش إلى طبرية، وقاتل أهلها ونقب بعض أبراجها، وأخذ المدينة عنوة في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعة التي لها فامتنعوا بها وفيها أميرتها النصرانية ومعها أولادها.
فلما سمع الصليبيون بذلك اجتمعوا للمشورة فاستقر رأيهم على التقدم لقتال المسلمين وهذا ما أراده صلاح الدين من مهاجمة طبرية، وتقدموا حتى قربوا من معسكر المسلمين فعاد صلاح الدين من طبرية، وكان المسلمون قد نزلوا على الماء والزمان قيظ شديد الحرارة فوجد الصليبيون العطش ولم يتمكنوا من الوصول إلى الماء ولم يتمكنوا عن الرجوع خوفا من المسلمين فبقوا على حالهم إلى الغد وقد أخذ العطش منهم، ولما عاد صلاح الدين والمسلمون ركبوا وتقدموا إلى الصليبيين وركب الصليبيون ودنا بعضهم من بعض، وأمر السلطان الرماة أن يرشقوا الأعداء بنبالهم وتبارز الشجعان ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحمل المسلمون على أعدائهم، فاقتتلوا أشد قتال وصبر الفريقان، وأثخن رماة المسلمين في الأعداء فقتلوا كثيرا من خيولهم.
وتوجه الصليبيون نحو طبرية لعلهم يردون الماء؛ فلما علم صلاح الدين بمقصدهم صدهم عن مرادهم، ولما اشتد القتال عليهم أدرك القمص حاكم طرابلس أنه لا طاقة لهم بقتال المسلمين ففر من المعركة. فلما انهزم القمص فتَّ ذلك في أعضادهم، وكان بعض المتطوعة قد ألقى في تلك الأرض نارا وكان الحشيش كثيرا فاحترق، وحملت الريح حر النار والدخان إلى الأعداء، فاجتمع عليهم العطش، وحر الزمان، وحر النار والدخان، وحر القتال، فوهن الأعداء لذلك وهنا عظيما فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها؛ فارتفع من بقي منهم على تل بناحية حطين وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ويحموا نفوسهم به، فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات، ومنعهم المسلمون عما أرادوا.
وأخذ المسلمون صليبهم الذي يسمونه "صليب الصلبوت" والتي يزعمون أن به قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح -في زعمهم- فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك، وكان الفرنجة قد ازدادوا عطشا؛ فنزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض، فصعد المسلمون إليهم فألقوا خيمة الملك وأسروهم عن بكرة أبيهم، وفيهم الملك وأخوه البرنس "أرياط" صاحب الكرك، ولم يكن في الفرنج أشد عداوة للمسلمين منه، وأسروا أيضا صاحب جبيل وابن هنفري، ومقدم الداوية وكان من أعظم الفرنج شأنا.
وانتهت المعركة بانتصار حاسم للمسلمين وانهزام شديد للصليبيين، وقد كثر فيها القتلى والأسرى منهم حتى أن من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحدا! ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا واحدا!!
وقد بلغ عدد القتلى ثلاثين ألفا، وعدد الأسرى ثلاثين ألفا.
فلما فرغ المسلمون منهم نزل صلاح الدين في خيمته وأحضر ملك الفرنج عنده والبرنس صاحب الكرك، وأجلس الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش فسقاه ماء مثلوجا فشرب وأعطى فضله البرنس صاحب الكرك فشرب، فقال صلاح الدين: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني، ثم كلم البرنس وقرعه بذنوبه، ومن ذلك سب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وعزمه على غزو مكة والمدينة، وقتل الحجاج غدرا وكان يقول: "أين محمدكم فليأتي لينصركم". فقال له صلاح الدين: "جئتك بالنيابة عن محمد -صلى الله عليه وسلم- للانتصار لأمته".
وكان صلاح الدين قد نذر مرتين أن يقتله إن ظفر به فقام إليه بنفسه فقتله، فلما قتله وسحب وأخرج؛ ارتعدت فرائص ملك الصليبيين فسكـَّن السلطان جأشه وأَمَّـنه.
ولقد كان من براعة صلاح الدين وتخطيطه الحربي أنه بدأ بالاستيلاء على المدن الساحلية التي بين الصليبيين حتى لا تكون محطات لنزول حملة صليبية جديدة، ولقد كان الاستيلاء على بيت المقدس من قبل المسلمين أمرا كبيرا على النصارى في العالم، فقد كان هناك احتمال أن يقوم المنكوبون في حطين بطلب النجدة من الممالك الأوروبية، فبدأ صلاح الدين بأقرب بلد إليه وهي طبرية، فاستولى عليها، ثم فتح مدينة عكا بعد حصارها والصلح مع أهلها، ثم أرسل إلى أخاه العادل نائبه على مصر ليغزو المدن الساحلية القريبة منه "مجدل يابا" و"يافا"، ثم فتح صلاح الدين الناصرة، وقيسارية، وصفورية، ومعيليا، والشقيف، والفولة، وغيرها من البلدان المجاورة لمدينة عكا.
ثم تولى صلاح الدين فتح مدينة بيروت، وصيدا، وتبنين، وجبيل، وبقي من المدن الساحلية الشمالية مدينة صور التي تجمـَّع بها أكثر من خرجوا من بلادهم من النصارى، فتركها صلاح الدين حتى لا تشغله عن فتح بيت المقدس، وقد رجع السلطان جنوبا إلى القدس، ولكنه قدَّم عليها عسقلان فحاصرها بعد أن التقى بأخيه العادل نائبه على مصر ومعه جيش من مصر ففتحها صلحا بعد حصار دام أربعة عشر يوما ثم فتح عزة، والرملة، والداروم، وغيرها، ولما تمَّ فتح ما حول القدس، وتم تأمين الساحل؛ توجـَّه السلطان صلاح الدين بجيشه نحو بيت المقدس، وكان بها جمع كثيف من النصارى، وكانوا يرون الموت أهون من أن يملك المسلمون بيت المقدس.
وقد وصل جيش المسلمين إلى القدس في منتصف رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فرأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم وسمعوا لأهله من الضجيج داخل المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتل؛ لأن السور في غاية التحصين، فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال، فانتقل إلى هذه الجهة ونصب المنجنيقات وبدأ القتال بالرمي من الطرفين، وتقاتلوا أشد قتال رآه الناس، وكان خيالة الأعداء يخرجون كل يوم إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون فقتل من الفريقين بعضهم.
وممن استشهد من المسلمين الأمير عز الدين عيسى بن مالك وهو من أكابر الأمراء، وكان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يقاتل بنفسه كل يوم، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك فحملوا حملة رجل واحد فأزالوا الفرنج عن مواقعهم فأدخلوهم إلى القدس، ووصل المسلمون إلى الخندق فجاوزوه، والتصقوا بالسور فنقبوه، وزحف الرماة يحمونهم والمجانيق توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار حتى يتمكن المسلمون من نقب السور.
فلما نقبوه؛ حشوه بالبارود وفجروه فسقط السور والبرج الذي عليه، فلما رأى ذلك الفرنج اجتمع مقدموهم فتشاوروا، واجتمع رأيهم على طلب الأمان وتسليم القدس لصلاح الدين، فأرسلوا جماعة من أعيانهم في طلب الأمان؛ فامتنع السلطان من إجابتهم وقال: "لا أفعل بكم إلا ما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي وجزاء سيئة بمثلها".
فلما رجعت رسلهم خائبين لم يظفروا بالصلح أرسل كبيرهم ياليان بن بيرزان وطلب الأمان لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في أمر الصلح، فأجيب إلى ذلك وحضر عنده ورغب في الأمان فلم يجبه، واستعطفه فلم يعطف عليه، فلما أيس من ذلك قال له: "أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمه إلا الله -تعالى- وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا الموت لابد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منا دينارا واحدا، ولا تسبون ولا تأسرون رجلا ولا امرأة، فإذا فرغنا من ذلك خربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرها من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك دابة ولا حيوانا إلا قتلناه، ثم نخرج إليكم فنقاتلكم قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه".
فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان؛ فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج، فاستقر أن يؤخذ من كل رجل عشرة دنانير ومن الطفل ذكرا أو أنثى ديناران، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوم فقد نجا ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤدِ ما عليه فقد صار مملوكا، فبذل ياليان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك.
وسـُلِمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يوما مشهودا ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها، ودخل صلاح الدين المسجد الأقصى فأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس ففعل ذلك، وأتى بمنبر نور الدين محمود فحـُمِل من حلب، ونصب بالقدس.
وهكذا فتح بيت المقدس للمرة الثانية في الإسلام وقد حاز شرف المرة الأولى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
وحاز شرف الثانية السلطان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، وهو شرف كبير أن يقرن الثاني بالأول.
ولما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والفساقى دخل أهل الإيمان، ونودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحِد الرحمن، ونصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون وخرس القسيسون، وزال البوس وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس.
وعـُبِد الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي َلَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، وخطب الخطيب القاضي "محي الدين بن الزكي" فذكر شرف بيت المقدس وأتى بتحميدات القرآن كلها، ووعظ الناس بموعظة مشتملة على تغبيط الناس بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس.
ولما عاد صلاح الدين إلى دمشق وجد وكيل الخزانة الصفي بن الفايض قد بنى له دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي، فغضب عليه وعزله وقال: "إنا لم نخلق للمقام في دمشق ولا بغيرها من البلاد وإنما خلقنا لعبادة الله -عز وجل- والجهاد في سبيله وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له".
وفي سنة أربعة وثمانين وخمسمائة فتح صلاح الدين قلعة برزبة، وبعد أن استولى صلاح الدين على حصن برزبة توجه إلى حصن الثغر فحاصره، فسلموا الحصن لصلاح الدين ثم توجه إلى صور، ولكنه لم يفتحها.
وقد انتهى أمر صلاح الدين مع الصليبيين إلى عقد هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، وذلك في العشرين من شعبان عام ثمان وثمانين وخمسمائة، وقد كانت الهدنة بطلب من ملك إنجلترا وقد أشار أمراء صلاح الدين عليه بالموافقة؛ ليرحل الفرنج القادمون فتخف الوطأة على المسلمين.