مقامة الرياحين باختصار وتصرف عن الإمام جلال الدين السيوطي: حدثنا الريّان، عن أبي الريحان، عن بلبل الأغصان، عن ناظر الإنسان، عن كوكب البستان، قال: مررتُ يوماً على حديقةٍ خضراء نضرةٍ أنيقة، أغصانها وريقة، ذاتِ ألوان وأفنان، وأكمام وأكنان، وإذا به الأزهار مجتمعة، والأنوار ملتمعة؛ فقلتُ لبعضِ من عبر، ألا تحدثني ما الخبر، فقال: إن عساكر الرياحين قد حضرت، وأزهار البساتين قد نظرت لمَّا نضرت، واتفقت على عقد مجلسٍ حافل، لاختيار من هو بالمُلكِ أحقُّ وكافل، وها هي أكابر الأزهار قد صعدت المنابر، ليُبدي كلٌّ منها حُجَّته للناظر؛ فجلستُ لأحضرَ الخطاب، وأسمعَ إلى ما يقولونه من فنون الحديث المستطاب؛ فهجمَ الوردُ بشوكته، وخرج من بين الرياحين معجباً بإشراقِ صورته، وقال: خطاب الورد: بسم الله المعين، وبه نستعين، أنا الورد ملكُ الرياحين، أنعشُ الأرواحَ وأمتعها إلى حين، ونديم الخلفاء والسلاطين، ولوني الأحمر ظاهرٌ على أزهار البساتين، فأنا سلطان الأزهار، في كُلِّ جنَّة تجري من تحتها الأنهار؛ طالما صعدتُ على الرؤوس، وصرتُ قوتَ الأرواح والنفوس؛ ويكفيني رِفعةً على سائرِ الأقران، أنَّ لفظي مذكور في القرآن، في قوله - تعالى -في سورة الرحمان: ((فإذا انشقتْ السماء فكانت وردةً كالدِّهان))، وقد قال فيَّ الشاعر:
للوردِ عندي محلُّ * * * ورتبةٌ لا تُملُّ
كلُّ الرياحينِ جندٌ * * * وهو الأمير الأجلُّ
خطاب النرجس: فقام النرجس على ساق، ورمى الورد منه بأحداق، وقال: لقد تجاوزت الحدَّ يا ورد، وتفاخرت بما ليس فيه فخر ولا مجد، فاحفظ بالصمتِ حُرمتَك، وإلا كسرتُ بقائم سيفي شوكتك، ألا ترى وسطي لا يزالُ مشدودا، وسيفي لا يزال مجرودا، فأنا فريدُ الزمان، في المحاسن والإحسان، وأنا القائم لله على ساقي، الساهر طول الليل في عبادة ربي فلا تطرف أحداقي، ولقد أحسن الشاعر ابن الرومي حيث قال، مبيّناً فضلي على كلِّ حال:
أيها المُحتجُّ * * * للوردِ بزورٍ ومُحالْ
ذهبَ النرجسُ بالفضلِ * * * فأنصفْ في المقالْ
خطاب الياسمين: فقام الياسمين، وقال: آمنتُ برب العالمين، لقد تجاسرتَ يا نرجس، وأكثرُكَ رجسٌ نجسْ، وقللتَ الأدب، ومدحتَ نفسكَ من غير سبب، فكيفَ تطلبُ المُلكَ والحُرمة، وأنتَ مشدود الوسطِ في الخدمة، فلا والله لا يقول هذا لبيب، ولا ينطق به أديب، فهل في الدنيا أبخس من ثمنك، وأقلّ من قيمتك؟ فلو اقتصر عليكَ البائع، لكان طول زمنه جائع. ولكنْ أنا زَيْنُ الرياض، ومعروف وجهي بالبياض، والبياض شطر الحسن كما ورد، فإذا حضرتُ هرب غيري وشرد، طالما نُثرت على العروس، وصعدتُ على الرؤوس، قال بعض البُلغاء فيَّ: أنا الياسمين الذي لطفتُ فنلتُ المنى فريحي لمن قد نأى وعيني إلى من دنا خطاب الآس: ثم نهض الآس على ركبتيه، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: لقد تجاوزت يا ياسمين الحدود، ولم تدرِ أنك على الأرض مطروح مبدود، أما يكفيك أنك بالأقدام تُداس، عند جميع الناس، فلو كنتَ قويّاً لما طرحك النسيم، وذلك دليل على أنَّ جسمكَ سقيم، تدّعي الشجاعة وأنتَ ضعيف، وتزعم القوة وجسمك نحيف؛ عمركَ قصير، وإلى المزبلة تصير، فالزم الصمت أمامي، ولا تطمع نفسك بمقامي، فأنا الآس، المعظَّم عند الناس، المعروف بغصني الصلب، المستخدم في أبواب الطب، المقوّي للأبدان، الباقي على طول الزمان، كما قال فيَّ بعض الأعيان: الآس سيد أنواعِ الرياحينِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ في البساتينِ تبقى على الدَّهر لا تبلى نضارته من المصيفِ ولا من بردِ كانونِ خطاب الفل: ثم نطق الفلُّ البديع، ولم يشكر للآس الصنيع، وقال: يا أيها الآس، يا عظيم الوسواس، أتتكلم وأنا موجود، وتفتخر وأنا مازلتُ في الوجود، فأنت لا تقول إلا الزلل، ولا تعرف كيفية الجدل، فلقد ساء قلبك، وقلَّ عقلك، فتأملتَ في عيب غيرك، ونسيتَ عيوبَ نفسك، فإن افتخرتَ بطولِ غصنكَ الصَّلب، فهو لا يصلحُ إلا لضرب القطِّ والكلب. ولكن اجلس أمامي، واستمع لكلامي، فأنا الفلُّ المشهور، العزيز عند الجمهور، صاحب المقام العالي، بهجة الأيام والليالي، فمقامي تدركه الأزهار، ومقالي مقبول في سائر الأقطار.ثم قال الراوي: فلما أوشك أن يتمزق ثوب الاجتماع، اتفق الجميع وانعقد الإجماع، على أن يتعوذوا بالله من الشيطان، ويجعلوا الورد هو السلطان، وقالوا:هو صاحب السلاح القاطع، بالدليل والبرهان الساطع، فشوكته لا تُطاق، وهو الأمير على الإطلاق، فقدَّموه أميرا، وجعلوه سلطاناً نصيرا.
للوردِ عندي محلُّ * * * ورتبةٌ لا تُملُّ
كلُّ الرياحينِ جندٌ * * * وهو الأمير الأجلُّ
خطاب النرجس: فقام النرجس على ساق، ورمى الورد منه بأحداق، وقال: لقد تجاوزت الحدَّ يا ورد، وتفاخرت بما ليس فيه فخر ولا مجد، فاحفظ بالصمتِ حُرمتَك، وإلا كسرتُ بقائم سيفي شوكتك، ألا ترى وسطي لا يزالُ مشدودا، وسيفي لا يزال مجرودا، فأنا فريدُ الزمان، في المحاسن والإحسان، وأنا القائم لله على ساقي، الساهر طول الليل في عبادة ربي فلا تطرف أحداقي، ولقد أحسن الشاعر ابن الرومي حيث قال، مبيّناً فضلي على كلِّ حال:
أيها المُحتجُّ * * * للوردِ بزورٍ ومُحالْ
ذهبَ النرجسُ بالفضلِ * * * فأنصفْ في المقالْ
خطاب الياسمين: فقام الياسمين، وقال: آمنتُ برب العالمين، لقد تجاسرتَ يا نرجس، وأكثرُكَ رجسٌ نجسْ، وقللتَ الأدب، ومدحتَ نفسكَ من غير سبب، فكيفَ تطلبُ المُلكَ والحُرمة، وأنتَ مشدود الوسطِ في الخدمة، فلا والله لا يقول هذا لبيب، ولا ينطق به أديب، فهل في الدنيا أبخس من ثمنك، وأقلّ من قيمتك؟ فلو اقتصر عليكَ البائع، لكان طول زمنه جائع. ولكنْ أنا زَيْنُ الرياض، ومعروف وجهي بالبياض، والبياض شطر الحسن كما ورد، فإذا حضرتُ هرب غيري وشرد، طالما نُثرت على العروس، وصعدتُ على الرؤوس، قال بعض البُلغاء فيَّ: أنا الياسمين الذي لطفتُ فنلتُ المنى فريحي لمن قد نأى وعيني إلى من دنا خطاب الآس: ثم نهض الآس على ركبتيه، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: لقد تجاوزت يا ياسمين الحدود، ولم تدرِ أنك على الأرض مطروح مبدود، أما يكفيك أنك بالأقدام تُداس، عند جميع الناس، فلو كنتَ قويّاً لما طرحك النسيم، وذلك دليل على أنَّ جسمكَ سقيم، تدّعي الشجاعة وأنتَ ضعيف، وتزعم القوة وجسمك نحيف؛ عمركَ قصير، وإلى المزبلة تصير، فالزم الصمت أمامي، ولا تطمع نفسك بمقامي، فأنا الآس، المعظَّم عند الناس، المعروف بغصني الصلب، المستخدم في أبواب الطب، المقوّي للأبدان، الباقي على طول الزمان، كما قال فيَّ بعض الأعيان: الآس سيد أنواعِ الرياحينِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ في البساتينِ تبقى على الدَّهر لا تبلى نضارته من المصيفِ ولا من بردِ كانونِ خطاب الفل: ثم نطق الفلُّ البديع، ولم يشكر للآس الصنيع، وقال: يا أيها الآس، يا عظيم الوسواس، أتتكلم وأنا موجود، وتفتخر وأنا مازلتُ في الوجود، فأنت لا تقول إلا الزلل، ولا تعرف كيفية الجدل، فلقد ساء قلبك، وقلَّ عقلك، فتأملتَ في عيب غيرك، ونسيتَ عيوبَ نفسك، فإن افتخرتَ بطولِ غصنكَ الصَّلب، فهو لا يصلحُ إلا لضرب القطِّ والكلب. ولكن اجلس أمامي، واستمع لكلامي، فأنا الفلُّ المشهور، العزيز عند الجمهور، صاحب المقام العالي، بهجة الأيام والليالي، فمقامي تدركه الأزهار، ومقالي مقبول في سائر الأقطار.ثم قال الراوي: فلما أوشك أن يتمزق ثوب الاجتماع، اتفق الجميع وانعقد الإجماع، على أن يتعوذوا بالله من الشيطان، ويجعلوا الورد هو السلطان، وقالوا:هو صاحب السلاح القاطع، بالدليل والبرهان الساطع، فشوكته لا تُطاق، وهو الأمير على الإطلاق، فقدَّموه أميرا، وجعلوه سلطاناً نصيرا.