بين المقابلة والطباق في الآيات القرآنية
دكتور أحمد عبد المجيد محمد خليفة
الأستاذ المشارك بالكلية الجامعية بمكة المكرمة
أولا ـ الطـبـاق
هو إحدى فنون البديع المعنوية التي كثر ورودها في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وكلام البلغاء .فهو من أعظم المحسنات أثرا في تجميل الأسلوب ؛ وإبراز المعاني ، لأنه يتجاوز ظواهر الألفاظ إلى بواطنها ، ولا يقف عند الألفاظ ، يل يتجاوزها إلى المعاني ، وهو بذلك وسيلة إيضاح جيدة تعرض بها الأشياء أو الصفات ، ثم يعرض ما يقابلها في المعاني. فلا شك أن الجمع بين الأشياء المتطابقة يضفي على الكلام حسنا وجمالا ، ويزيده رونقا وبيانا فالضد يظهر حسنه الضد كما يقولون .
إذ أن المطابقة تنشط الفاعلية الإدراكية ، وتأدي إلى تداعي المعاني المعاكسة ، وتوسع ملكة التخيل والوهم ، وتوقظ الإحساس ، وتأجج العطفة ، وتستفز الشعور من خلال تسليط الضوء على المفارقات .
ويقال للمطابقة : التطبيق ، والطباق ، ومنهم من عد المقابلة فيها ، وهذا خلط واضح ، إذ لم يبق للفرق بينهما محل .
المفهوم اللغوي للمطابقة : هو الجمع بين الشيئين ، يقولون : طابق فلان بين ثوبين ، ثم استعمل في غير ذلك فقيل طابق البعير في سيره ، إذا وضع رجله موضع يده ، وهو راجع إلى الجمع بين الشيئين ، قال الجعدي :
وخيل تطابق بالذراعين طبــا ق الكلاب يطأن الهراسا (1)
وقال الأصمعي : " المطابقة أصلها وضع الرِّجل في موضع اليد في مشي ذوات الأربع .(2) . ونقل عن الخليل بن أحمد ( رحمه الله ) : " يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذوٍ واحدٍ ، وألصقتهما . (3)
ويرى ابن حجة الحموي أنه " ليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية مناسبة، لأن المطابقة في الاصطلاح : الجمع بين الضدين ، في كلم ، أو بيت شعر ، كالإيراد والإصدار ، والليل والنهار ، والبياض والسواد (4)
وقال ابن الأثير " " أجمع جماعة علماء من أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده : كالبياض والسواد ، والليل والنهار ، وخالفهم في ذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، فقال : المطابقة : إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصفة ، مختلفتين في المعنى ". وهذا الذي ذكره قدامة هو: التجنيس بعينه ، غير أن الأسماء لا مشاحة فيها إلا إذا كانت مشتقة ، ولننظر نحن فيما حمله على ذلك . والذي حمل قدامة على ذلك ما اقتضاه اشتقاق لفظ الطباق " (5) .
وقال الرماني : " المطابقة مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان " واستحسن هذا التعريف ابن رشيق القيرواني فقال : " هذا أحسن قول سمعته في المطابقة من غيره ، وأجمعه لفائدة " (6) .
وخلاصة القول في تعريف الطباق : هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام من خلال لفظتين متضادتين ، يتنافى وجودهما معًا في شيء واحد ، في وقت واحد . وقد يكونا بلفظين متحدين في الاسمية ، أو الفعلية ، أو الحرفية ، أو خلاف ذلك . على نحو ما سيأتي توضيحه ، وتطبيقه على القرآن الكريم .
ولقد أشار الباحثون القدامى والمحدثون إلى أن هناك ألفاظا قرآنية لا تكاد تفترق في القرآن الكريم هي من عادات القرآن واضطراداته ، مثل الجنة والنار ، والرغبة والرهبة ، والنعيم والعذاب ، والطيب والخبيث ، والنفع والضر ، والجائز والمقتصد ، وانه ما جاء بوعيد إلاَّ أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها إشارة . (7)
وقد أشرنا إلى أن الطباق قد يكون بين اسمين أو فعلين أو حرفين ، ونذكر من ذلك ما وقع في الأسلوب القرآني ، ما كان بين اسمين ؛ قوله تعالى :
(( وما يستوي الأعمى والبصيرُ ، ولا الظلماتُ ولا النُّورُ ، ولا الظِّـِّلُّ ولا الحرورُ وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ )) (8) .ُ
_ فقد جمع بين " الأعمى ( ويقصد به الكافر، ويعني في إبعاده الجهل والضلالة وعدم الرؤية) وبين البصير ( ويقصد به "المؤمن" ويعني بع العلم والهدى ووضوح الرؤية ) . وجمع أيضا بين الظلمات : ويقصد بها الضلال . وبين النور : ويقصد بها الهداية . وبين الظل والمراد به نعيم الجنة ، وبين الحرور ، والمراد به عذاب النار . وبين الأحياء والأموات ، وهما المؤمنين والكافرون . وأن لكل ضد من هذه الأضداد التي تتطابق مع بعضها البعض معاني عميقة ، ودقيقة ومتشعبة .
و نذكر من الطباق بين فعلين ، قوله تعالى : (( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا )) (9) .فقد وقع الطباق بين " أضحك وأبكى " وبين أمات وأحيى " . وفي هذين الطباقين معنى دقيق ، وعميق ، يتمثل في أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أضحك : أي أدخل السرور والبهجة والمرح والسعادة على النفس البشرية . وهو أيضا الذي أبكى : أي أدخل الحسرة والألم والتعاسة والشقاء على النفس الأخرى . بشكل كامل ومتطابق ، ولذلك لم يقل " أحزن وأرضى " بل جاء بدليل الفرح والسرور بكلمة أضحك ، وبدليل الحزن بكلمة "أبكى" . ويبدو ذلك أيضا واضحا في المطابقة ين " أمات " , "أحيا " ، فالإماتة : لفظ يدل على زوال الحياة وانتهائها زوالا كاملا ، بينما الفعل " أحيا " يرمز للنقيض تماما إذ يبعث الحياة ، ويبثها في كل ما هو جماد ، فيجعله حياً ،يتحرك ، وينطق ، ويحس ، ويصبح صورة متناقضة تماما لصورة الموت والفناء والزوال .
ومثال التضاد بين حرفين : قوله تعالى : (( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )) (10) .فالجمع بين حرفي : "اللام " في كلمة " لها" ، و"على" في كلمة " عليها" مطابقة . فاللام في "لها " تفيد الملكية المشعرة بالانتفاع . و"على " في عليها ؛ تشعر بالثقل المفيد للتضرر والأذى.
وقد يكون التضاد بين لفظين مختلفين : ومن أمثلة ذلك ؛ قوله تعالى : (( أو من كان ميتا فأحييناه )) (11) . فالتضاد هنا وقع بين لفظي " ميتا " : وهو اسم . وبين " أحيينا " : وهو فعل . والمراد بالميت في الآية الكريمة " الضال " . وبـ "أحييناه " أي: هديناه.
" الفرق بين المطابقة والتكافؤ "
يرى زكي الدين بن أبي الإصبع : أن المطابقة ضربان :
ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة ، وضرب يأتي بألفاظ المجاز .
واستحسن ابن حجة الحموي هذا التقسيم فقال : " ولقد شفى ذكي بن أبي الإصبع القلوب ، في ما قرره "(12) . فإنه قال : المطابقة ضربان :
1- فالضرب الذي يأتي بألفاظ الحقيقة ،هو ما يسمي بالمطابقة الحقيقية ، وأعظم الشواهد عليه ؛ قوله تعالى : ((وأنه هو أضحك وأبكى ،وأنه هو أمات وأحيا )) (13)
-وقول النبي ( ص) للأنصار ( رضي الله عنهم ) : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) . فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة .
- والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق ، قوله تعالى : (( وما يستوى الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات )) (14) . فانظر إلى عظيم هذه المطابقة ، وما فيها من الوجازة (15) .
2- والضرب الذي يأتي بألفاظ المجاز : يسميه قدامة بن جعفر بـ "التكافؤ " ( بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد ) ومنه قول الشاعر :
حلو الشمائل وهو مر باسل يحمي الذمار صبيحة الإرهاق
فقوله : حلو ، ومر ، يجري مجرى الاستعارة ، إذ ليس في الإنسان ، ولا في شمائله ، ما يذاق بحاسة الذوق .
- ومن أمثلة التكافؤ ، قول ابن رشيق ، وهو حسن :
وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا نجوم العوالي في سماء عجاج
- وما أحلى قول القائل في هذا الباب :
إذا نحن سرنا بين شؤق ومغرب تحرك يقظان التراب ونائمه
فالمطابقة بين اليقظان ، والنائم ، ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز . وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الإصبع (16) .
أنواع المطابقة
قسم البلاغيون المطابقة إلى ثلاثة أنواع :
1- مطابقة الإيجاب .
2- مطابقة السلب .
3-إيهام الطباق .
أولاً- مطابقة الإيجاب :وهي التي لا يختلف الضدان فيها إيجابا وسلبا . ومن أمثلتها في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى : (( ولا تقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون )) (17) . فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون . وقد خص الله الشهداء بالذكر هنا تشريفا لهم وتكريما أيضا .
-فالمطابقة وقعت في الآية الكريمة بين " أموات : و "أحياء " . وهي مطابقة إيجاب ، وبألفاظ الحقيقة .
ومن ذلك ـأيضا - قوله تعالى: (( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) 0(18)
يبين الله سبحانه وتعالى أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته ، في جميع الأوقات بالليل والنهار ، في السر والعلانية ، بأن أجرهم على الله ، وأنهم في الدرجات العالية في جنات الخلد ، ولا خوف عليهم فيها ، ولا يصيبهم فيها حزن أبدا .
- فالطباق هنا وقع بين " الليل والنهار " وبين " السر والعلانية " وبين "لهم " و " عليهم .
*ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) (19). أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الله (الإسلام) فهو دين واضح ، فمن يكفر بالله أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، ومن خلع الأنداد والأوثان ، وما يدعوا إليه الشيطان فإن الله ثبت أمره ، واستقام على الطريقة المثلى ، والصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم .
- فالمطابقة فل الآية وقعت بين " الرشد :الذي هو الهداية ، وبين الغي : الذي هو الضلال. وكذلك أيضا بين " يكفر ، ويؤمن " .
*ومنه – أيضا- قوله تعالى:
(( باطنـه فيـه الرحمة ، وظاهـره من قبلِهِ العذابُ )) (20) .
ومن ذلك –أيضا- قوله تعالى :
(( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات )) (21) .
ونذكر من ذلك في الأسلوب النبوي ، قول رسول الله (ًص) : (( أفضل الأعمال أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن ظلمك )). والمتأمل لهذه المطابقة بين الوصل والقطيعة ، وبين العطاء والحرمان ، يدرك جمال الطباق ، لما يحتويه الفعل " قطعك " من قطع مادى ومعنوي واجتماعي ونفسي . ومثل ذلك قوله (ص) : " وتعطي من حرمك " وهكذا فإن الطباق يجمع بين الضدين أو الشيء وضده بكل ما فيهما من معان ، وصور وأحاسيس. (22)
· وقوله (ص) : (( اليد العليا خير من اليد السفلى )) . فقد أراد الحبيب محمد (ص) باليد العليا ك يد المعطي ، وأراد باليد السفلى : يد المستعطي . وفي الحقيقة أنه ليس ثمة يد عليا ويد سافلة ، وإنما المراد أن المعطي أعلى رتبة من الآخذ في مجال الرفد . فالطباق بين العليا والسقلى من ألى الطباق ، وقد احتوى أيضا على مجاز بديع .
ثانيا – طباق السلب : وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا. حيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد . نحو قوله تعالى : (( يخادعون الله والذين لآمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون )) (23) . يبين الله سبحانه وتعالى للمنافقين أنهم يخادعون أنفسهم بإظهارهم إيمانهم بالرغم من أنهم يسترون كفرهم ، وجحودهم ، بوله " يخادعون الله " ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " لأن المنافق يظن أنه يحسن لنفسه ، وهو بذلك يوقعها قي غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خداع المنافق نفسه . فالطباق بين " يخدعون " و "ما يخدعون "وهي طباق سلب بإيجاب الخداع ، ونفيه لأنهما ضدان .
*ومن ذلك قوله تعالى : (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) (24) .
* وقوله : (( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك علام الغيوب )) (25) .
-وقد يكون أحد المصدرين في صيغة الأمر والآخر في صيغة النهي :كما في قوله تعالى : (( اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا دونه أولياء )) . فطباق السلب وقع بين " اتبعوا " و"لا تتبعوا " . وهذا النوع من الطباق يقع كثيرا في القرآن الكريم .
ثالثا - إيهام التضاد : وهو " أن يجمع بين معنيين ليسا متقابلين ، ولكن عُبّرَ عنهما بلفظين متقابلين " . أو بعبارة أخرى : " هو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد مع أنه ليس بضد " . ومن أمثلة ذلك قول الشاعر دعبل الخزاعي :
لا تعجبي يا سلمُ من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
فضحك المشيب من جهة المعنى ليس بضدٍ للبكاء ، لأنه كناية عن كثرة الشيب ، وظهوره في الرأس ، ولكنه من جهة اللفظ يوهم التطابق أو أكثر .
ومنه أيضا قول الشاعر :
يبدي وشاحا أبيضا من سيبه والجو قد لبس الوشاح الأغبرا
فإن الأغبرا ، ليس بضد " الأبيض " وإنما يوهم بلفظه أنه ضد .
ظهور التضاد وخفاؤه
قد يكون التضاد بين المعاني ظاهرا جليا كما في الأمثلة السابقة ، ومنها أيضا قوله تعالى ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء )) (26)
وقد يكون خفيا : ومن أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )) (27) .
فالمطابقة هنا بين " أشداء " و" رحماء " . والرحمة ليست ضدا في المعنى ل"أشداء " . ولكن الرحمة تستلزم "اللين " الذي يتقابل ويتضاد مع " الشدة " ، لأن من رحم لان قلبه ورق . فالتضاد كما رأيت ليس واضحا ، بل فيه خفاء .
· ومنه أيضا قوله تعالى : (( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا )) . فالمطابقة بين " الغرق " و" دخول النار " ، فإن من دخل النار احترق ( والاحتراق ضد الغرق ) ، والإغراق ليس ضد النار في المعنى ، ولكن الإغراق يستلزم " الماء " و "الماء " ضد النار .
· ومن الأمثلة التي ترد فيه المفردات على غير ما هو معهود من التقابل ، فالمعلوم أن ضد العلم الجهل ، وضد العمى الإبصار ، ولكن التعبير القرآني يجيء على هذه الشاكلة (( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ )) (28) . حيث يقابل بين "يعلم " ، وأعمى " أي : بين العلم والعمى ، وما هما بمتضادتين لفظا ، ولكن الجهل الذي هو ضد العلم يشبَّه صاحبه بالأعمى ، لأنه لا يقوى على التمييز بين الخقائق ، ولا شك أن العمى هنا منظور إليه بمعناه غير الحسي إذ المراد به الجهل أو الضلال ، وهما ضدان لعلم والهدى.
بلاغة الطباق
رأى علماء البلاغة أن بلاغة الطباق لا تكمن في الإتيان بلفظين متقابلين في المعنى فحسب ، فإن هذا الصنيع لا طائل من ورائه ، وهو أسهل شيء ، بل قد يؤدي ذلك إلى التكلف والتصنع ، وفساد المعنى ، وإنما جمال الطباق وبلاغته يتجلى في بعده من التكلف ، وانسجامه في المعنى ، ولا يأتي مجرد ، وإنما يجب أن يترشح بنوع من أنواع البديع الأخرى ، يشاركها في البهجة والرونق كقوله تعالى : (( تولج الليل في النهار ، وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب )) (29) . ففي العطف بقوله تعالى : " وترزق من تشاء بغير حساب " دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، وهذه مبالغة في التكميل المشحونة بقدرة الله سبحانه وتعالى ، فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا ، فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية ، والعكس الذي لا يدرك ، لو جازته ، وبلاغته ومبالغة التكميل التى لا تليق بغير قدرة الله سبحانه وتعالى . (30).
"وأن سر بلاغة كل من الطباق والمقابلة إنما هي تداعي المعاني ، فالضد أو المقابل يجلب إلىالذهن ضده ، أو مقابله .. فإذا كتب الأديب أو نطق ، أحد المتساندين وقع مقابلة في ذهن متلقي قي الأدب ، قبل أن يقرأه أو يسمعه ، وبهذا يتحول متلقي الأدب إلى مرسل له " (31).
الهوامش والحواشي
(1)
(2)
(3) .
ثانيا ـ المـقـابـلة
تعد المقابلة من المحسنات البديعية المعنوية التي ترجع إلى تحسين المعنى . وقد جعلها بعض علماء البلاغة مستقلة بذاتها ، بعدما كانت عند بعضهم مختلطة مع الطباق . وكان قدامة ابن جعفر أول من تكلم عنها ، وعدها فن مستقل بذاته ، وذكرها في معرض حديثه عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة العمل الأدبي ، وخاصة الشعر . وقد عرفها بقولة :" وصحة المقابلة أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق ، أو المخالفة بين بعضها وبعض ، فيأتي في الموافق بما يوافق ، وفي المخالف علي الصحة ، أو يشرط شروطا أو يعدد أحوالا في أحد المعنيين ، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده ، وفيما يخالف بضد ذلك " (1)
وعرفها أبو هلال العسكري ، بقوله: " هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى ، واللفظ على وجه الموافقة ،أو المخالفة ، نحو قوله تعالى : ((فمكروا مكرا ومكرنا مكرا )) فالمكر من الله تعالى : العذاب . جعله الله عز وجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه ، وأهل طاعته ))(2) .
كما عرفها ابن رشيق القيرواني ، فقال : المقابلة " أصلها ترتيب الكلام على ما يجب ، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولا ، وآخره ما يليق به آخرًا ، ويؤتى في الموافق بما يوافقه ، وفي المخالف بما يخالفه ، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد ، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة " (3) .
وعرفها السكاكي ، فقال : المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر ، وتقابل بالأضداد ، ثم إذا شرط هنا شرطت هناك ضده "(4) .
وعرفها الخطيب القزويني ، فقال : " هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين ،أو أكثر ،ثم بما يقابل ذلك على الترتيب " (5).
ويعرفها بدر الدين الزركشى يقول : " هو ذكر الشيء مع ما يوازنه في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها " (6) .
وخلاصة القول من التعريفات السابقة لها أن المقابلة : هي أن يأتي المتكلم في كلامه بمعنيين متوافقين أو أكثر ليس بينهما تضاد ، ثم يأتي بما يقابل ذلك على الترتيب . على شاكلة قوله تعالى : (( فليضحكوا قليلا ، وليبكوا كثيرا جزاءا بما كانوا يكسبون )) (7) . فقد أتى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بمعنيين " يضحكوا " و""قليلا " وهما معنيان متوافقان أي ليس بينهما تضاد ، ثم أتى بعد ذلك بما يقابلهما على الترتيب بقوله " وليبكوا " و " كثيرا " .
· من ذلك أيضا قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) (8) . فقد قابل بأربعة معان، بأربعة أخرى ، الأربعة الأولى هي : " أعطى " " ,اتقى" , "صدق " و "اليسرى " .
والأربعة الثانية هي: " بخل " و "استغنى " و" كذب " و "العسرى " .
الفرق بين المطابقة والمقابلة
يكمن الفرق بين المطابقة والمقابلة في وجهين :
الأول – أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا . والمقابلة تكون لأكثر من ذلك ، كأن تكون مثلا بين أربعة أضداد : ضدين في صدر الكلام ، وضدين في عجزه . وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد : خمسة في الصدر ، وخمسة في العجز .
وقال علماء البديع : كلما كثر عددها كانت أبلغ . فمن مقابلة خمسة ألفاظ بخمسة أخرى ، قول أمير المؤمنين علي ( كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان ( رضي الله عنهما ) : إن الحق ثقيل مري (يسهل بلعه ) ، والباطل خفيف وبيّ (من الوباء وهو: المرض ) ، وأنت رجل إذا صدقت سخطت ، وإن كذبت رضيت " (9) .
الثاني – أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد ، أما المقابلة بالأضداد وغير الأضداد ، ولهذا جعل ابن الأثير ،الطباق أحد أنواع المقابلة ، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة ، وأعظم موقفا . ويضرب ابن حجة مثلا لذلك فيقول : " ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى :
(( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ))(10). فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام ، وهما ضـدان ، ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين ، وهما السكون والحركة ، على الترتيب ، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف ، فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة ، فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل ، لكون الحركة تكون لمصلحة ، ومفسدة ، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة ، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة ، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل ، وسلامة الحس ، وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ، ويتقي أسباب المهالك . والآية الكريمة سيقت للاعتداد بالنعم ، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه ، ليتم حسن البيان ، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنا إلى ألفاظ كثيرة ، فحصل في هذا الكلام ، بهذا السبب ، عدة ضروب من المحاسن . ألا ترى الله سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار ، حصول منافع الإنسان ، حيث قال :" لتسكنوا ، ولتبتغوا " (بلام التعليل !) فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع : المقابلة ، والتعليل ، والإشارة ، والإرداف ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، وحسن البيان ، وحسن النسق ، فلذلك جاء الكلام متلائما ، آخذا بعضه بأعناق بعض ، ثم أخبرنا بالخبر الصادق : إن جميع ما عدده من النعم باللفظ الخاص ، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الإرداف ، بعض رحمته ، حيث قال بحرف التبعيض : " ومن رحمته " . وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات ، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة (11) .
.أنواع المقابلة
تأتي المقابلة على أربعة أنواع هي :
1-مقابلة اثنين باثنين : ومن ذلك في الأسلوب القرآني قوله تعالى :
(( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا )) (12)
· وقوله تعالى :
(( تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء )) (13).
· وقوله تعالى :
(( تخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي )) (14) .
*وقوله أيضا :
(( وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا )) (15).
*وقوله : (( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )) .(16)
فقد جاء في صدر هذه الآيات السابقة بضدين ، ثم قابل الضدين بضدين لهما في عجزها ، على الترتيب . فجاءت خذه المقابلات في غاية البلاغة والروعة . وقد ورد هذا النوع من المقابلة كثيرا في القرآن الكريم ونكتفي بهذا القدر منه ، حتى لا يطول بنا حبل الكلام .
*ومنه أيضا قول الحبيب محمد (ص) : (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان الحزق ( الحمق والتسرع ) في شيء إلا شانه )) . فانظر كيف قابل الحبيب محمد (ص) الرفق بالحزق ، والزين بالشين ، بأحسن ترتيب ، وأتم مناسبة .
*وقوله أيضا لأم المؤمنين : (( عليك بالرفق يا عائشة ، فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه )) .
*وقوله أيضا :
(( إن لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير ، مغاليق الشر )) .
*وقوله أيضا للأنصار : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) أي يكثرون عند الملمات والحرب ، ويقلون عند المغانم ، ويعفون عنها .
2-مقابلة ثلاثة بثلاثة : ومن أمثلة ذلك في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى :
(( ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث )) (17) .
- فالمقابلة بين " يحل ، و"يحرم " ، و " الطيبات والخبائث " .
*ومنه أيضا قول الرسول (ص) ، من خطبـة له : (( ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتجلت مقبلة )(18) . إن أطراف المقابلة هي : الدنيا وارتحالها مدبرة ، يقابلها الآخرة ومجيئها مرتجلة مقبلة .
*وقوله (ص) أيضا : (( المؤمن غرّ كريم ، والفاجر خبٌّ لئيم )) (19) .
*وقال علي (كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان (رضي الله عنه ) : (( إن الحق ثقيل وبي ، والباطل خفيف مري (يسهل بلعه )) .
*ومنه في القريض ، قول أبي دلامة ، وهو أشعر بيت في المقابلة :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
- فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح " ، , وبين " الدين والكفر " وبين " الدنيا والإفلاس ". قال ابن أبي الإصبع : إنه لم يقل قبله مثله . (20) .
3-مقابلة أربعة بأربعة :ومثاله في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ))(21) .
- فالمقابلة بين قوله تعالى " استغنى " و قوله " اتقى " لأن المعنى زهد فيما عنده ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وذلك يتضمن عدم التقوى.
*ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) في وصيته عند الموت : هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها )) . فقابل أول بآخر ، والدنيا بالآخرة ، وخارجا بداخل ، ومنها بفيها . فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام ))(22).
*ومثله في القريض ، قول أبي تمام :
يا أمة كان قبح الجود يسخطها دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها
*وقول ابن حجة الحموي :
قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ولوا غضابا فوا حربي لغيظهم (23)
4- مقابلة خمسة بخمسة : قال علماء البلاغة كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، فمن مقابلة خمسة بخمسة ،وقد وقع ذلك في الشعر كثيرا ، ومن أمثلته قول أبي الطيب المتنبي : . أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قال صاحب الإيضاح : ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح ، والمقابلة الخامسة بين " بي " و "لي " ، فيها نظر لأن الباء ، واللام ، صلتا الفعلين (24) .
*ومنه أيضا قول صفي الدين الحلي :
كان الرضا بدنوي من خواطرهم فصار سخطي لبعدي عن جوارهمُ
-فالمقابلة بين الشطر الأول كله ، والشطر الثاني كله .
وقد رأى علماء البلاغة أنه كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، شريطة أن لا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف والتصنع . فوجدنا مقابلة ستة بستة ، كما في قول ،شرف الدين الأربلي :
على رأس عبد تاج عز يزينه وفي رجل حر قيد ذل يشينه
- فالمقابلة هنا بين ألفاظ صدر البيت كله وبين عجزه كله .
وإن كنت أري أن المقابلة إذا ذادت على أربعة ، بأربعة ، قد تسلّم إلى التكلف والتصنع ، وقد نفسد المعنى ، وتؤدي إلى اضطراب الأسلوب وتعقيده . ولذا ندر أن نجد أكثر من مقابلة أربعة بأربعة في الأسلوب القرآني المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة، وكذا الأسلوب النبوي . وكما أن المقابلة لا ضير في أن تكون بالأضداد ، أو بغيرها (شبيهها )، لأن المعنى يستدعي بعضه بعضا ، سواء بالمقابلة أو بالشبه ، وإن كان الضد أكثر ورودا على البال من الشبه ، وأوضح في الدلالة علة المعنى منه ، فإن الشبه يثير الفكر ، وينشطه ، ويؤدي إلى تداعي المعاني ، ويجعله يبحث عن أي الوجوه يكون ( الشبه ) المقابلة . فالمقابلة تجلو الأفكار ، وتوضح المعاني ، وتبرزها في صورة جلية ، وتؤكدها وتقويها، وتؤدي إلى تلاحم الأجزاء وأتلاف الألفاظ وزيادتها جمالا ، سواء كان ذلك من خلال عرض الأضداد أو الأشباه ، وهذا سر جمالها .
دكتور أحمد عبد المجيد محمد خليفة
الأستاذ المشارك بالكلية الجامعية بمكة المكرمة
أولا ـ الطـبـاق
هو إحدى فنون البديع المعنوية التي كثر ورودها في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وكلام البلغاء .فهو من أعظم المحسنات أثرا في تجميل الأسلوب ؛ وإبراز المعاني ، لأنه يتجاوز ظواهر الألفاظ إلى بواطنها ، ولا يقف عند الألفاظ ، يل يتجاوزها إلى المعاني ، وهو بذلك وسيلة إيضاح جيدة تعرض بها الأشياء أو الصفات ، ثم يعرض ما يقابلها في المعاني. فلا شك أن الجمع بين الأشياء المتطابقة يضفي على الكلام حسنا وجمالا ، ويزيده رونقا وبيانا فالضد يظهر حسنه الضد كما يقولون .
إذ أن المطابقة تنشط الفاعلية الإدراكية ، وتأدي إلى تداعي المعاني المعاكسة ، وتوسع ملكة التخيل والوهم ، وتوقظ الإحساس ، وتأجج العطفة ، وتستفز الشعور من خلال تسليط الضوء على المفارقات .
ويقال للمطابقة : التطبيق ، والطباق ، ومنهم من عد المقابلة فيها ، وهذا خلط واضح ، إذ لم يبق للفرق بينهما محل .
المفهوم اللغوي للمطابقة : هو الجمع بين الشيئين ، يقولون : طابق فلان بين ثوبين ، ثم استعمل في غير ذلك فقيل طابق البعير في سيره ، إذا وضع رجله موضع يده ، وهو راجع إلى الجمع بين الشيئين ، قال الجعدي :
وخيل تطابق بالذراعين طبــا ق الكلاب يطأن الهراسا (1)
وقال الأصمعي : " المطابقة أصلها وضع الرِّجل في موضع اليد في مشي ذوات الأربع .(2) . ونقل عن الخليل بن أحمد ( رحمه الله ) : " يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذوٍ واحدٍ ، وألصقتهما . (3)
ويرى ابن حجة الحموي أنه " ليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية مناسبة، لأن المطابقة في الاصطلاح : الجمع بين الضدين ، في كلم ، أو بيت شعر ، كالإيراد والإصدار ، والليل والنهار ، والبياض والسواد (4)
وقال ابن الأثير " " أجمع جماعة علماء من أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده : كالبياض والسواد ، والليل والنهار ، وخالفهم في ذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، فقال : المطابقة : إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصفة ، مختلفتين في المعنى ". وهذا الذي ذكره قدامة هو: التجنيس بعينه ، غير أن الأسماء لا مشاحة فيها إلا إذا كانت مشتقة ، ولننظر نحن فيما حمله على ذلك . والذي حمل قدامة على ذلك ما اقتضاه اشتقاق لفظ الطباق " (5) .
وقال الرماني : " المطابقة مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان " واستحسن هذا التعريف ابن رشيق القيرواني فقال : " هذا أحسن قول سمعته في المطابقة من غيره ، وأجمعه لفائدة " (6) .
وخلاصة القول في تعريف الطباق : هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام من خلال لفظتين متضادتين ، يتنافى وجودهما معًا في شيء واحد ، في وقت واحد . وقد يكونا بلفظين متحدين في الاسمية ، أو الفعلية ، أو الحرفية ، أو خلاف ذلك . على نحو ما سيأتي توضيحه ، وتطبيقه على القرآن الكريم .
ولقد أشار الباحثون القدامى والمحدثون إلى أن هناك ألفاظا قرآنية لا تكاد تفترق في القرآن الكريم هي من عادات القرآن واضطراداته ، مثل الجنة والنار ، والرغبة والرهبة ، والنعيم والعذاب ، والطيب والخبيث ، والنفع والضر ، والجائز والمقتصد ، وانه ما جاء بوعيد إلاَّ أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها إشارة . (7)
وقد أشرنا إلى أن الطباق قد يكون بين اسمين أو فعلين أو حرفين ، ونذكر من ذلك ما وقع في الأسلوب القرآني ، ما كان بين اسمين ؛ قوله تعالى :
(( وما يستوي الأعمى والبصيرُ ، ولا الظلماتُ ولا النُّورُ ، ولا الظِّـِّلُّ ولا الحرورُ وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ )) (8) .ُ
_ فقد جمع بين " الأعمى ( ويقصد به الكافر، ويعني في إبعاده الجهل والضلالة وعدم الرؤية) وبين البصير ( ويقصد به "المؤمن" ويعني بع العلم والهدى ووضوح الرؤية ) . وجمع أيضا بين الظلمات : ويقصد بها الضلال . وبين النور : ويقصد بها الهداية . وبين الظل والمراد به نعيم الجنة ، وبين الحرور ، والمراد به عذاب النار . وبين الأحياء والأموات ، وهما المؤمنين والكافرون . وأن لكل ضد من هذه الأضداد التي تتطابق مع بعضها البعض معاني عميقة ، ودقيقة ومتشعبة .
و نذكر من الطباق بين فعلين ، قوله تعالى : (( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا )) (9) .فقد وقع الطباق بين " أضحك وأبكى " وبين أمات وأحيى " . وفي هذين الطباقين معنى دقيق ، وعميق ، يتمثل في أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أضحك : أي أدخل السرور والبهجة والمرح والسعادة على النفس البشرية . وهو أيضا الذي أبكى : أي أدخل الحسرة والألم والتعاسة والشقاء على النفس الأخرى . بشكل كامل ومتطابق ، ولذلك لم يقل " أحزن وأرضى " بل جاء بدليل الفرح والسرور بكلمة أضحك ، وبدليل الحزن بكلمة "أبكى" . ويبدو ذلك أيضا واضحا في المطابقة ين " أمات " , "أحيا " ، فالإماتة : لفظ يدل على زوال الحياة وانتهائها زوالا كاملا ، بينما الفعل " أحيا " يرمز للنقيض تماما إذ يبعث الحياة ، ويبثها في كل ما هو جماد ، فيجعله حياً ،يتحرك ، وينطق ، ويحس ، ويصبح صورة متناقضة تماما لصورة الموت والفناء والزوال .
ومثال التضاد بين حرفين : قوله تعالى : (( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )) (10) .فالجمع بين حرفي : "اللام " في كلمة " لها" ، و"على" في كلمة " عليها" مطابقة . فاللام في "لها " تفيد الملكية المشعرة بالانتفاع . و"على " في عليها ؛ تشعر بالثقل المفيد للتضرر والأذى.
وقد يكون التضاد بين لفظين مختلفين : ومن أمثلة ذلك ؛ قوله تعالى : (( أو من كان ميتا فأحييناه )) (11) . فالتضاد هنا وقع بين لفظي " ميتا " : وهو اسم . وبين " أحيينا " : وهو فعل . والمراد بالميت في الآية الكريمة " الضال " . وبـ "أحييناه " أي: هديناه.
" الفرق بين المطابقة والتكافؤ "
يرى زكي الدين بن أبي الإصبع : أن المطابقة ضربان :
ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة ، وضرب يأتي بألفاظ المجاز .
واستحسن ابن حجة الحموي هذا التقسيم فقال : " ولقد شفى ذكي بن أبي الإصبع القلوب ، في ما قرره "(12) . فإنه قال : المطابقة ضربان :
1- فالضرب الذي يأتي بألفاظ الحقيقة ،هو ما يسمي بالمطابقة الحقيقية ، وأعظم الشواهد عليه ؛ قوله تعالى : ((وأنه هو أضحك وأبكى ،وأنه هو أمات وأحيا )) (13)
-وقول النبي ( ص) للأنصار ( رضي الله عنهم ) : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) . فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة .
- والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق ، قوله تعالى : (( وما يستوى الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات )) (14) . فانظر إلى عظيم هذه المطابقة ، وما فيها من الوجازة (15) .
2- والضرب الذي يأتي بألفاظ المجاز : يسميه قدامة بن جعفر بـ "التكافؤ " ( بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد ) ومنه قول الشاعر :
حلو الشمائل وهو مر باسل يحمي الذمار صبيحة الإرهاق
فقوله : حلو ، ومر ، يجري مجرى الاستعارة ، إذ ليس في الإنسان ، ولا في شمائله ، ما يذاق بحاسة الذوق .
- ومن أمثلة التكافؤ ، قول ابن رشيق ، وهو حسن :
وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا نجوم العوالي في سماء عجاج
- وما أحلى قول القائل في هذا الباب :
إذا نحن سرنا بين شؤق ومغرب تحرك يقظان التراب ونائمه
فالمطابقة بين اليقظان ، والنائم ، ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز . وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الإصبع (16) .
أنواع المطابقة
قسم البلاغيون المطابقة إلى ثلاثة أنواع :
1- مطابقة الإيجاب .
2- مطابقة السلب .
3-إيهام الطباق .
أولاً- مطابقة الإيجاب :وهي التي لا يختلف الضدان فيها إيجابا وسلبا . ومن أمثلتها في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى : (( ولا تقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون )) (17) . فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون . وقد خص الله الشهداء بالذكر هنا تشريفا لهم وتكريما أيضا .
-فالمطابقة وقعت في الآية الكريمة بين " أموات : و "أحياء " . وهي مطابقة إيجاب ، وبألفاظ الحقيقة .
ومن ذلك ـأيضا - قوله تعالى: (( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) 0(18)
يبين الله سبحانه وتعالى أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته ، في جميع الأوقات بالليل والنهار ، في السر والعلانية ، بأن أجرهم على الله ، وأنهم في الدرجات العالية في جنات الخلد ، ولا خوف عليهم فيها ، ولا يصيبهم فيها حزن أبدا .
- فالطباق هنا وقع بين " الليل والنهار " وبين " السر والعلانية " وبين "لهم " و " عليهم .
*ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) (19). أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الله (الإسلام) فهو دين واضح ، فمن يكفر بالله أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، ومن خلع الأنداد والأوثان ، وما يدعوا إليه الشيطان فإن الله ثبت أمره ، واستقام على الطريقة المثلى ، والصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم .
- فالمطابقة فل الآية وقعت بين " الرشد :الذي هو الهداية ، وبين الغي : الذي هو الضلال. وكذلك أيضا بين " يكفر ، ويؤمن " .
*ومنه – أيضا- قوله تعالى:
(( باطنـه فيـه الرحمة ، وظاهـره من قبلِهِ العذابُ )) (20) .
ومن ذلك –أيضا- قوله تعالى :
(( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات )) (21) .
ونذكر من ذلك في الأسلوب النبوي ، قول رسول الله (ًص) : (( أفضل الأعمال أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن ظلمك )). والمتأمل لهذه المطابقة بين الوصل والقطيعة ، وبين العطاء والحرمان ، يدرك جمال الطباق ، لما يحتويه الفعل " قطعك " من قطع مادى ومعنوي واجتماعي ونفسي . ومثل ذلك قوله (ص) : " وتعطي من حرمك " وهكذا فإن الطباق يجمع بين الضدين أو الشيء وضده بكل ما فيهما من معان ، وصور وأحاسيس. (22)
· وقوله (ص) : (( اليد العليا خير من اليد السفلى )) . فقد أراد الحبيب محمد (ص) باليد العليا ك يد المعطي ، وأراد باليد السفلى : يد المستعطي . وفي الحقيقة أنه ليس ثمة يد عليا ويد سافلة ، وإنما المراد أن المعطي أعلى رتبة من الآخذ في مجال الرفد . فالطباق بين العليا والسقلى من ألى الطباق ، وقد احتوى أيضا على مجاز بديع .
ثانيا – طباق السلب : وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا. حيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد . نحو قوله تعالى : (( يخادعون الله والذين لآمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون )) (23) . يبين الله سبحانه وتعالى للمنافقين أنهم يخادعون أنفسهم بإظهارهم إيمانهم بالرغم من أنهم يسترون كفرهم ، وجحودهم ، بوله " يخادعون الله " ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " لأن المنافق يظن أنه يحسن لنفسه ، وهو بذلك يوقعها قي غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خداع المنافق نفسه . فالطباق بين " يخدعون " و "ما يخدعون "وهي طباق سلب بإيجاب الخداع ، ونفيه لأنهما ضدان .
*ومن ذلك قوله تعالى : (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) (24) .
* وقوله : (( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك علام الغيوب )) (25) .
-وقد يكون أحد المصدرين في صيغة الأمر والآخر في صيغة النهي :كما في قوله تعالى : (( اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا دونه أولياء )) . فطباق السلب وقع بين " اتبعوا " و"لا تتبعوا " . وهذا النوع من الطباق يقع كثيرا في القرآن الكريم .
ثالثا - إيهام التضاد : وهو " أن يجمع بين معنيين ليسا متقابلين ، ولكن عُبّرَ عنهما بلفظين متقابلين " . أو بعبارة أخرى : " هو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد مع أنه ليس بضد " . ومن أمثلة ذلك قول الشاعر دعبل الخزاعي :
لا تعجبي يا سلمُ من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
فضحك المشيب من جهة المعنى ليس بضدٍ للبكاء ، لأنه كناية عن كثرة الشيب ، وظهوره في الرأس ، ولكنه من جهة اللفظ يوهم التطابق أو أكثر .
ومنه أيضا قول الشاعر :
يبدي وشاحا أبيضا من سيبه والجو قد لبس الوشاح الأغبرا
فإن الأغبرا ، ليس بضد " الأبيض " وإنما يوهم بلفظه أنه ضد .
ظهور التضاد وخفاؤه
قد يكون التضاد بين المعاني ظاهرا جليا كما في الأمثلة السابقة ، ومنها أيضا قوله تعالى ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء )) (26)
وقد يكون خفيا : ومن أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )) (27) .
فالمطابقة هنا بين " أشداء " و" رحماء " . والرحمة ليست ضدا في المعنى ل"أشداء " . ولكن الرحمة تستلزم "اللين " الذي يتقابل ويتضاد مع " الشدة " ، لأن من رحم لان قلبه ورق . فالتضاد كما رأيت ليس واضحا ، بل فيه خفاء .
· ومنه أيضا قوله تعالى : (( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا )) . فالمطابقة بين " الغرق " و" دخول النار " ، فإن من دخل النار احترق ( والاحتراق ضد الغرق ) ، والإغراق ليس ضد النار في المعنى ، ولكن الإغراق يستلزم " الماء " و "الماء " ضد النار .
· ومن الأمثلة التي ترد فيه المفردات على غير ما هو معهود من التقابل ، فالمعلوم أن ضد العلم الجهل ، وضد العمى الإبصار ، ولكن التعبير القرآني يجيء على هذه الشاكلة (( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ )) (28) . حيث يقابل بين "يعلم " ، وأعمى " أي : بين العلم والعمى ، وما هما بمتضادتين لفظا ، ولكن الجهل الذي هو ضد العلم يشبَّه صاحبه بالأعمى ، لأنه لا يقوى على التمييز بين الخقائق ، ولا شك أن العمى هنا منظور إليه بمعناه غير الحسي إذ المراد به الجهل أو الضلال ، وهما ضدان لعلم والهدى.
بلاغة الطباق
رأى علماء البلاغة أن بلاغة الطباق لا تكمن في الإتيان بلفظين متقابلين في المعنى فحسب ، فإن هذا الصنيع لا طائل من ورائه ، وهو أسهل شيء ، بل قد يؤدي ذلك إلى التكلف والتصنع ، وفساد المعنى ، وإنما جمال الطباق وبلاغته يتجلى في بعده من التكلف ، وانسجامه في المعنى ، ولا يأتي مجرد ، وإنما يجب أن يترشح بنوع من أنواع البديع الأخرى ، يشاركها في البهجة والرونق كقوله تعالى : (( تولج الليل في النهار ، وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب )) (29) . ففي العطف بقوله تعالى : " وترزق من تشاء بغير حساب " دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، وهذه مبالغة في التكميل المشحونة بقدرة الله سبحانه وتعالى ، فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا ، فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية ، والعكس الذي لا يدرك ، لو جازته ، وبلاغته ومبالغة التكميل التى لا تليق بغير قدرة الله سبحانه وتعالى . (30).
"وأن سر بلاغة كل من الطباق والمقابلة إنما هي تداعي المعاني ، فالضد أو المقابل يجلب إلىالذهن ضده ، أو مقابله .. فإذا كتب الأديب أو نطق ، أحد المتساندين وقع مقابلة في ذهن متلقي قي الأدب ، قبل أن يقرأه أو يسمعه ، وبهذا يتحول متلقي الأدب إلى مرسل له " (31).
الهوامش والحواشي
(1)
(2)
(3) .
ثانيا ـ المـقـابـلة
تعد المقابلة من المحسنات البديعية المعنوية التي ترجع إلى تحسين المعنى . وقد جعلها بعض علماء البلاغة مستقلة بذاتها ، بعدما كانت عند بعضهم مختلطة مع الطباق . وكان قدامة ابن جعفر أول من تكلم عنها ، وعدها فن مستقل بذاته ، وذكرها في معرض حديثه عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة العمل الأدبي ، وخاصة الشعر . وقد عرفها بقولة :" وصحة المقابلة أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق ، أو المخالفة بين بعضها وبعض ، فيأتي في الموافق بما يوافق ، وفي المخالف علي الصحة ، أو يشرط شروطا أو يعدد أحوالا في أحد المعنيين ، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده ، وفيما يخالف بضد ذلك " (1)
وعرفها أبو هلال العسكري ، بقوله: " هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى ، واللفظ على وجه الموافقة ،أو المخالفة ، نحو قوله تعالى : ((فمكروا مكرا ومكرنا مكرا )) فالمكر من الله تعالى : العذاب . جعله الله عز وجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه ، وأهل طاعته ))(2) .
كما عرفها ابن رشيق القيرواني ، فقال : المقابلة " أصلها ترتيب الكلام على ما يجب ، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولا ، وآخره ما يليق به آخرًا ، ويؤتى في الموافق بما يوافقه ، وفي المخالف بما يخالفه ، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد ، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة " (3) .
وعرفها السكاكي ، فقال : المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر ، وتقابل بالأضداد ، ثم إذا شرط هنا شرطت هناك ضده "(4) .
وعرفها الخطيب القزويني ، فقال : " هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين ،أو أكثر ،ثم بما يقابل ذلك على الترتيب " (5).
ويعرفها بدر الدين الزركشى يقول : " هو ذكر الشيء مع ما يوازنه في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها " (6) .
وخلاصة القول من التعريفات السابقة لها أن المقابلة : هي أن يأتي المتكلم في كلامه بمعنيين متوافقين أو أكثر ليس بينهما تضاد ، ثم يأتي بما يقابل ذلك على الترتيب . على شاكلة قوله تعالى : (( فليضحكوا قليلا ، وليبكوا كثيرا جزاءا بما كانوا يكسبون )) (7) . فقد أتى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بمعنيين " يضحكوا " و""قليلا " وهما معنيان متوافقان أي ليس بينهما تضاد ، ثم أتى بعد ذلك بما يقابلهما على الترتيب بقوله " وليبكوا " و " كثيرا " .
· من ذلك أيضا قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) (8) . فقد قابل بأربعة معان، بأربعة أخرى ، الأربعة الأولى هي : " أعطى " " ,اتقى" , "صدق " و "اليسرى " .
والأربعة الثانية هي: " بخل " و "استغنى " و" كذب " و "العسرى " .
الفرق بين المطابقة والمقابلة
يكمن الفرق بين المطابقة والمقابلة في وجهين :
الأول – أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا . والمقابلة تكون لأكثر من ذلك ، كأن تكون مثلا بين أربعة أضداد : ضدين في صدر الكلام ، وضدين في عجزه . وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد : خمسة في الصدر ، وخمسة في العجز .
وقال علماء البديع : كلما كثر عددها كانت أبلغ . فمن مقابلة خمسة ألفاظ بخمسة أخرى ، قول أمير المؤمنين علي ( كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان ( رضي الله عنهما ) : إن الحق ثقيل مري (يسهل بلعه ) ، والباطل خفيف وبيّ (من الوباء وهو: المرض ) ، وأنت رجل إذا صدقت سخطت ، وإن كذبت رضيت " (9) .
الثاني – أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد ، أما المقابلة بالأضداد وغير الأضداد ، ولهذا جعل ابن الأثير ،الطباق أحد أنواع المقابلة ، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة ، وأعظم موقفا . ويضرب ابن حجة مثلا لذلك فيقول : " ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى :
(( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ))(10). فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام ، وهما ضـدان ، ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين ، وهما السكون والحركة ، على الترتيب ، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف ، فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة ، فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل ، لكون الحركة تكون لمصلحة ، ومفسدة ، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة ، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة ، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل ، وسلامة الحس ، وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ، ويتقي أسباب المهالك . والآية الكريمة سيقت للاعتداد بالنعم ، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه ، ليتم حسن البيان ، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنا إلى ألفاظ كثيرة ، فحصل في هذا الكلام ، بهذا السبب ، عدة ضروب من المحاسن . ألا ترى الله سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار ، حصول منافع الإنسان ، حيث قال :" لتسكنوا ، ولتبتغوا " (بلام التعليل !) فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع : المقابلة ، والتعليل ، والإشارة ، والإرداف ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، وحسن البيان ، وحسن النسق ، فلذلك جاء الكلام متلائما ، آخذا بعضه بأعناق بعض ، ثم أخبرنا بالخبر الصادق : إن جميع ما عدده من النعم باللفظ الخاص ، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الإرداف ، بعض رحمته ، حيث قال بحرف التبعيض : " ومن رحمته " . وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات ، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة (11) .
.أنواع المقابلة
تأتي المقابلة على أربعة أنواع هي :
1-مقابلة اثنين باثنين : ومن ذلك في الأسلوب القرآني قوله تعالى :
(( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا )) (12)
· وقوله تعالى :
(( تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء )) (13).
· وقوله تعالى :
(( تخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي )) (14) .
*وقوله أيضا :
(( وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا )) (15).
*وقوله : (( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )) .(16)
فقد جاء في صدر هذه الآيات السابقة بضدين ، ثم قابل الضدين بضدين لهما في عجزها ، على الترتيب . فجاءت خذه المقابلات في غاية البلاغة والروعة . وقد ورد هذا النوع من المقابلة كثيرا في القرآن الكريم ونكتفي بهذا القدر منه ، حتى لا يطول بنا حبل الكلام .
*ومنه أيضا قول الحبيب محمد (ص) : (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان الحزق ( الحمق والتسرع ) في شيء إلا شانه )) . فانظر كيف قابل الحبيب محمد (ص) الرفق بالحزق ، والزين بالشين ، بأحسن ترتيب ، وأتم مناسبة .
*وقوله أيضا لأم المؤمنين : (( عليك بالرفق يا عائشة ، فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه )) .
*وقوله أيضا :
(( إن لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير ، مغاليق الشر )) .
*وقوله أيضا للأنصار : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) أي يكثرون عند الملمات والحرب ، ويقلون عند المغانم ، ويعفون عنها .
2-مقابلة ثلاثة بثلاثة : ومن أمثلة ذلك في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى :
(( ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث )) (17) .
- فالمقابلة بين " يحل ، و"يحرم " ، و " الطيبات والخبائث " .
*ومنه أيضا قول الرسول (ص) ، من خطبـة له : (( ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتجلت مقبلة )(18) . إن أطراف المقابلة هي : الدنيا وارتحالها مدبرة ، يقابلها الآخرة ومجيئها مرتجلة مقبلة .
*وقوله (ص) أيضا : (( المؤمن غرّ كريم ، والفاجر خبٌّ لئيم )) (19) .
*وقال علي (كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان (رضي الله عنه ) : (( إن الحق ثقيل وبي ، والباطل خفيف مري (يسهل بلعه )) .
*ومنه في القريض ، قول أبي دلامة ، وهو أشعر بيت في المقابلة :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
- فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح " ، , وبين " الدين والكفر " وبين " الدنيا والإفلاس ". قال ابن أبي الإصبع : إنه لم يقل قبله مثله . (20) .
3-مقابلة أربعة بأربعة :ومثاله في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ))(21) .
- فالمقابلة بين قوله تعالى " استغنى " و قوله " اتقى " لأن المعنى زهد فيما عنده ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وذلك يتضمن عدم التقوى.
*ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) في وصيته عند الموت : هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها )) . فقابل أول بآخر ، والدنيا بالآخرة ، وخارجا بداخل ، ومنها بفيها . فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام ))(22).
*ومثله في القريض ، قول أبي تمام :
يا أمة كان قبح الجود يسخطها دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها
*وقول ابن حجة الحموي :
قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ولوا غضابا فوا حربي لغيظهم (23)
4- مقابلة خمسة بخمسة : قال علماء البلاغة كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، فمن مقابلة خمسة بخمسة ،وقد وقع ذلك في الشعر كثيرا ، ومن أمثلته قول أبي الطيب المتنبي : . أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قال صاحب الإيضاح : ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح ، والمقابلة الخامسة بين " بي " و "لي " ، فيها نظر لأن الباء ، واللام ، صلتا الفعلين (24) .
*ومنه أيضا قول صفي الدين الحلي :
كان الرضا بدنوي من خواطرهم فصار سخطي لبعدي عن جوارهمُ
-فالمقابلة بين الشطر الأول كله ، والشطر الثاني كله .
وقد رأى علماء البلاغة أنه كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، شريطة أن لا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف والتصنع . فوجدنا مقابلة ستة بستة ، كما في قول ،شرف الدين الأربلي :
على رأس عبد تاج عز يزينه وفي رجل حر قيد ذل يشينه
- فالمقابلة هنا بين ألفاظ صدر البيت كله وبين عجزه كله .
وإن كنت أري أن المقابلة إذا ذادت على أربعة ، بأربعة ، قد تسلّم إلى التكلف والتصنع ، وقد نفسد المعنى ، وتؤدي إلى اضطراب الأسلوب وتعقيده . ولذا ندر أن نجد أكثر من مقابلة أربعة بأربعة في الأسلوب القرآني المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة، وكذا الأسلوب النبوي . وكما أن المقابلة لا ضير في أن تكون بالأضداد ، أو بغيرها (شبيهها )، لأن المعنى يستدعي بعضه بعضا ، سواء بالمقابلة أو بالشبه ، وإن كان الضد أكثر ورودا على البال من الشبه ، وأوضح في الدلالة علة المعنى منه ، فإن الشبه يثير الفكر ، وينشطه ، ويؤدي إلى تداعي المعاني ، ويجعله يبحث عن أي الوجوه يكون ( الشبه ) المقابلة . فالمقابلة تجلو الأفكار ، وتوضح المعاني ، وتبرزها في صورة جلية ، وتؤكدها وتقويها، وتؤدي إلى تلاحم الأجزاء وأتلاف الألفاظ وزيادتها جمالا ، سواء كان ذلك من خلال عرض الأضداد أو الأشباه ، وهذا سر جمالها .