ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    بين المقابلة والطباق في الآيات القرآنية

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    بين المقابلة والطباق في الآيات القرآنية Empty بين المقابلة والطباق في الآيات القرآنية

    مُساهمة من طرف أحمد الخميس يناير 22, 2015 11:32 pm

    بين المقابلة والطباق في الآيات القرآنية

                                          دكتور أحمد عبد المجيد محمد خليفة

                                            الأستاذ المشارك بالكلية الجامعية بمكة المكرمة

               

                                          أولا ـ الطـبـاق

       هو إحدى فنون البديع المعنوية  التي كثر ورودها في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وكلام البلغاء .فهو من أعظم المحسنات  أثرا في تجميل  الأسلوب ؛ وإبراز المعاني ،  لأنه يتجاوز ظواهر الألفاظ إلى بواطنها  ، ولا يقف عند الألفاظ ، يل يتجاوزها إلى المعاني ، وهو بذلك وسيلة إيضاح جيدة  تعرض بها الأشياء  أو الصفات ، ثم يعرض ما يقابلها في المعاني. فلا شك أن الجمع بين الأشياء المتطابقة  يضفي على الكلام حسنا وجمالا ، ويزيده رونقا وبيانا فالضد يظهر حسنه الضد كما يقولون  .

       إذ أن المطابقة تنشط الفاعلية الإدراكية  ، وتأدي إلى تداعي المعاني المعاكسة ، وتوسع ملكة التخيل والوهم ، وتوقظ الإحساس ، وتأجج العطفة ، وتستفز الشعور من خلال تسليط الضوء على المفارقات .

       ويقال للمطابقة : التطبيق ، والطباق ، ومنهم من عد المقابلة فيها ، وهذا خلط واضح ، إذ لم يبق للفرق بينهما محل .

       المفهوم اللغوي للمطابقة : هو الجمع بين الشيئين ، يقولون : طابق فلان بين ثوبين ، ثم استعمل في غير ذلك فقيل طابق البعير في سيره ، إذا وضع رجله موضع يده ، وهو راجع إلى الجمع بين الشيئين ، قال الجعدي :

        وخيل تطابق بالذراعين طبــا          ق  الكلاب يطأن الهراسا (1)

        وقال الأصمعي  : " المطابقة أصلها وضع الرِّجل في موضع اليد في مشي ذوات الأربع .(2) .  ونقل عن الخليل بن أحمد ( رحمه الله ) : " يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذوٍ واحدٍ ، وألصقتهما  . (3)

        ويرى ابن حجة الحموي أنه " ليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية مناسبة، لأن المطابقة في الاصطلاح  : الجمع بين  الضدين ،  في كلم ، أو بيت شعر ، كالإيراد والإصدار ، والليل والنهار ، والبياض والسواد (4)

       وقال ابن الأثير " " أجمع جماعة علماء من أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده : كالبياض والسواد ، والليل والنهار ، وخالفهم في ذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، فقال : المطابقة : إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصفة ، مختلفتين في المعنى ". وهذا الذي ذكره قدامة  هو: التجنيس بعينه ، غير أن الأسماء لا مشاحة فيها  إلا إذا كانت مشتقة ، ولننظر نحن فيما حمله على ذلك . والذي حمل قدامة على ذلك ما اقتضاه اشتقاق لفظ الطباق " (5) .

        وقال الرماني : " المطابقة مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان "  واستحسن هذا التعريف ابن رشيق القيرواني فقال : " هذا أحسن قول سمعته في المطابقة من غيره ، وأجمعه لفائدة " (6) .

        وخلاصة القول في تعريف الطباق : هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام من خلال لفظتين متضادتين ، يتنافى وجودهما معًا في شيء واحد ، في وقت واحد . وقد يكونا بلفظين متحدين في الاسمية ، أو الفعلية ، أو الحرفية ، أو خلاف ذلك . على نحو ما سيأتي توضيحه ، وتطبيقه على القرآن الكريم .

       ولقد أشار الباحثون القدامى والمحدثون إلى أن هناك ألفاظا قرآنية لا تكاد  تفترق في القرآن الكريم هي من عادات القرآن واضطراداته ، مثل الجنة والنار ، والرغبة والرهبة ، والنعيم والعذاب ، والطيب والخبيث ، والنفع والضر ، والجائز والمقتصد ، وانه ما جاء بوعيد إلاَّ أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها إشارة . (7)

       وقد أشرنا إلى أن الطباق قد يكون بين اسمين أو فعلين أو حرفين ، ونذكر  من ذلك ما وقع في الأسلوب القرآني  ، ما كان بين اسمين ؛ قوله تعالى :

    (( وما يستوي الأعمى والبصيرُ ، ولا الظلماتُ ولا النُّورُ ، ولا الظِّـِّلُّ ولا الحرورُ  وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ )) (8) .ُ

       _ فقد جمع بين " الأعمى ( ويقصد به الكافر، ويعني في إبعاده الجهل والضلالة وعدم الرؤية)  وبين البصير ( ويقصد به "المؤمن" ويعني بع العلم والهدى ووضوح الرؤية ) .  وجمع أيضا بين الظلمات : ويقصد بها الضلال . وبين النور : ويقصد بها الهداية  . وبين الظل والمراد به نعيم الجنة ، وبين الحرور ، والمراد به عذاب النار . وبين الأحياء والأموات ، وهما المؤمنين والكافرون .  وأن لكل ضد من هذه الأضداد  التي تتطابق مع بعضها البعض معاني عميقة ، ودقيقة ومتشعبة .

        و نذكر من الطباق بين فعلين ، قوله  تعالى : (( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات  وأحيا  )) (9) .فقد وقع الطباق بين " أضحك وأبكى " وبين أمات وأحيى " . وفي هذين الطباقين معنى دقيق ، وعميق ، يتمثل في  أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أضحك : أي أدخل السرور والبهجة والمرح والسعادة على النفس البشرية . وهو أيضا الذي أبكى : أي أدخل الحسرة والألم والتعاسة والشقاء على النفس الأخرى . بشكل كامل ومتطابق ، ولذلك لم يقل " أحزن وأرضى " بل جاء بدليل الفرح والسرور بكلمة أضحك ، وبدليل الحزن بكلمة "أبكى" .  ويبدو ذلك أيضا واضحا في المطابقة ين " أمات " , "أحيا " ، فالإماتة : لفظ يدل على زوال الحياة وانتهائها زوالا كاملا ، بينما الفعل " أحيا " يرمز للنقيض تماما إذ يبعث الحياة ، ويبثها في كل ما هو جماد ، فيجعله حياً ،يتحرك ، وينطق ، ويحس ، ويصبح صورة متناقضة تماما لصورة الموت والفناء والزوال .

        ومثال التضاد بين حرفين : قوله تعالى :  (( لها  ما كسبت وعليها ما اكتسبت )) (10) .فالجمع بين حرفي : "اللام " في كلمة " لها" ، و"على" في كلمة " عليها" مطابقة . فاللام في "لها " تفيد الملكية المشعرة بالانتفاع . و"على " في عليها ؛ تشعر بالثقل المفيد للتضرر والأذى.

        وقد يكون التضاد بين لفظين مختلفين : ومن أمثلة ذلك ؛ قوله تعالى : (( أو من كان ميتا فأحييناه )) (11) . فالتضاد هنا وقع بين لفظي " ميتا " : وهو اسم . وبين " أحيينا " : وهو فعل . والمراد بالميت في الآية الكريمة " الضال " . وبـ "أحييناه "  أي: هديناه.





    " الفرق بين المطابقة والتكافؤ "

       

         يرى زكي الدين بن أبي الإصبع : أن المطابقة ضربان :

                        ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة ، وضرب يأتي  بألفاظ المجاز .

       واستحسن ابن حجة الحموي هذا التقسيم فقال :  " ولقد شفى ذكي بن أبي الإصبع القلوب ، في ما قرره "(12) .  فإنه قال : المطابقة ضربان :

    1-      فالضرب الذي  يأتي بألفاظ الحقيقة ،هو ما يسمي بالمطابقة الحقيقية ، وأعظم الشواهد عليه ؛ قوله تعالى : ((وأنه هو أضحك  وأبكى ،وأنه هو أمات وأحيا )) (13)

    -وقول النبي ( ص) للأنصار ( رضي الله عنهم ) : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) . فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة .

     - والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق ، قوله تعالى : (( وما يستوى الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات )) (14) . فانظر إلى عظيم هذه المطابقة ، وما فيها من الوجازة  (15) .

    2-      والضرب الذي يأتي بألفاظ المجاز : يسميه قدامة بن جعفر بـ "التكافؤ " ( بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد )  ومنه قول الشاعر :

                                                    حلو الشمائل  وهو مر باسل      يحمي الذمار صبيحة الإرهاق

    فقوله : حلو ، ومر ، يجري مجرى الاستعارة ، إذ ليس في الإنسان ، ولا في شمائله ، ما يذاق بحاسة الذوق .

       - ومن أمثلة التكافؤ ، قول ابن رشيق ، وهو حسن :

                                                 وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا        نجوم العوالي في سماء عجاج

        - وما أحلى قول القائل  في هذا الباب :

                                                  إذا نحن سرنا بين شؤق ومغرب     تحرك يقظان التراب ونائمه

       فالمطابقة بين اليقظان  ، والنائم ، ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز . وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الإصبع (16) .







    أنواع المطابقة



         قسم البلاغيون المطابقة إلى ثلاثة أنواع :

                                            1- مطابقة الإيجاب  .

                                            2- مطابقة السلب  .

                                            3-إيهام الطباق     .

    أولاً- مطابقة الإيجاب :وهي التي لا يختلف الضدان فيها إيجابا وسلبا . ومن أمثلتها في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى : (( ولا تقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ  ولكن لا تشعرون )) (17) . فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون . وقد  خص الله الشهداء بالذكر هنا تشريفا لهم وتكريما أيضا .

    -فالمطابقة وقعت في الآية الكريمة بين " أموات : و "أحياء " . وهي مطابقة إيجاب ، وبألفاظ الحقيقة .

       ومن ذلك ـأيضا - قوله تعالى: (( الذين ينفقون أموالهم  بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) 0(18)

        يبين الله سبحانه وتعالى أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته ، في جميع الأوقات بالليل والنهار  ، في السر والعلانية ، بأن أجرهم على الله ، وأنهم في الدرجات العالية في جنات الخلد ، ولا خوف عليهم فيها ، ولا يصيبهم فيها حزن أبدا .

    -                                فالطباق هنا وقع بين " الليل والنهار " وبين " السر والعلانية " وبين "لهم " و " عليهم .

         *ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) (19).  أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الله (الإسلام) فهو دين واضح ، فمن يكفر بالله أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، ومن خلع الأنداد والأوثان ، وما يدعوا إليه الشيطان فإن الله ثبت أمره ، واستقام على الطريقة المثلى ، والصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم .

    -           فالمطابقة فل الآية وقعت بين " الرشد :الذي هو الهداية ، وبين الغي : الذي هو الضلال. وكذلك أيضا بين " يكفر ، ويؤمن " .

    *ومنه – أيضا- قوله تعالى:

                                  (( باطنـه فيـه الرحمة ، وظاهـره من قبلِهِ العذابُ )) (20) .

    ومن ذلك –أيضا- قوله تعالى :

                                     (( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات )) (21) .

    ونذكر من ذلك في الأسلوب النبوي ، قول رسول الله (ًص) : (( أفضل الأعمال أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن ظلمك )). والمتأمل لهذه المطابقة بين الوصل والقطيعة ، وبين العطاء والحرمان ، يدرك جمال الطباق ، لما يحتويه الفعل " قطعك " من قطع مادى ومعنوي واجتماعي ونفسي . ومثل ذلك قوله (ص) : " وتعطي من حرمك " وهكذا فإن الطباق يجمع بين الضدين أو الشيء وضده بكل ما فيهما من معان ، وصور وأحاسيس. (22)

    ·       وقوله (ص) : (( اليد العليا خير من اليد السفلى )) . فقد أراد الحبيب محمد (ص) باليد العليا ك يد المعطي ، وأراد باليد السفلى : يد المستعطي . وفي الحقيقة أنه  ليس ثمة يد عليا ويد سافلة ، وإنما المراد أن المعطي أعلى رتبة من الآخذ في مجال الرفد . فالطباق بين العليا والسقلى من ألى الطباق ، وقد احتوى أيضا على مجاز بديع .


    ثانيا – طباق السلب : وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا. حيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد . نحو قوله تعالى : (( يخادعون الله والذين لآمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم  وما يشعرون )) (23) . يبين الله سبحانه وتعالى للمنافقين أنهم يخادعون أنفسهم بإظهارهم إيمانهم بالرغم من أنهم يسترون كفرهم ، وجحودهم ، بوله " يخادعون الله " ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " لأن المنافق يظن أنه يحسن لنفسه ، وهو بذلك يوقعها قي غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خداع المنافق نفسه . فالطباق بين " يخدعون " و "ما يخدعون "وهي طباق سلب  بإيجاب الخداع ، ونفيه لأنهما ضدان .

      *ومن ذلك قوله تعالى : (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) (24)    .            

      *    وقوله :  (( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك علام الغيوب )) (25) .

       -وقد يكون أحد المصدرين في صيغة الأمر والآخر في صيغة النهي :كما في قوله تعالى : (( اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم  ، ولا تتبعوا  دونه أولياء )) . فطباق السلب وقع بين " اتبعوا " و"لا تتبعوا "  . وهذا النوع من الطباق  يقع كثيرا في القرآن الكريم .



    ثالثا - إيهام التضاد : وهو " أن يجمع بين معنيين ليسا متقابلين ، ولكن عُبّرَ عنهما بلفظين متقابلين " . أو بعبارة أخرى : " هو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد  مع أنه ليس بضد " . ومن أمثلة  ذلك  قول الشاعر دعبل الخزاعي :

                                               لا تعجبي يا سلمُ من رجل      ضحك المشيب برأسه فبكى

       فضحك المشيب من جهة المعنى ليس بضدٍ للبكاء ، لأنه كناية عن كثرة الشيب ، وظهوره في الرأس ، ولكنه من جهة اللفظ يوهم  التطابق أو أكثر .

    ومنه أيضا قول الشاعر :

                                               يبدي وشاحا أبيضا من سيبه     والجو قد لبس الوشاح الأغبرا

     فإن الأغبرا ، ليس بضد " الأبيض " وإنما يوهم بلفظه أنه ضد .



    ظهور التضاد وخفاؤه



       قد يكون التضاد بين المعاني ظاهرا جليا كما في الأمثلة السابقة ، ومنها أيضا قوله تعالى ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء   وتذل من  تشاء )) (26)

    وقد يكون خفيا : ومن أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار  رحماء بينهم )) (27) .

    فالمطابقة هنا بين " أشداء " و" رحماء " . والرحمة ليست ضدا في المعنى ل"أشداء " . ولكن الرحمة تستلزم "اللين " الذي يتقابل ويتضاد مع " الشدة " ، لأن من رحم لان قلبه ورق . فالتضاد كما رأيت ليس واضحا ، بل فيه خفاء .

    ·       ومنه أيضا قوله تعالى : (( مما خطيئاتهم أغرقوا  فأدخلوا نارا )) . فالمطابقة بين " الغرق " و" دخول النار " ، فإن من دخل النار احترق  ( والاحتراق ضد الغرق ) ، والإغراق ليس ضد النار في المعنى ، ولكن الإغراق يستلزم " الماء " و "الماء " ضد النار .
    ·       ومن الأمثلة التي ترد فيه المفردات على غير ما هو معهود من التقابل ، فالمعلوم أن ضد العلم الجهل ، وضد العمى الإبصار  ، ولكن التعبير القرآني يجيء على هذه الشاكلة (( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ )) (28) . حيث يقابل بين "يعلم " ، وأعمى " أي : بين العلم والعمى ، وما هما بمتضادتين  لفظا ، ولكن الجهل الذي هو ضد العلم يشبَّه  صاحبه بالأعمى ، لأنه لا يقوى  على التمييز بين الخقائق ، ولا شك أن العمى هنا منظور إليه بمعناه غير الحسي إذ المراد به الجهل أو الضلال ، وهما ضدان لعلم والهدى.
                   

    بلاغة الطباق



          رأى علماء البلاغة  أن بلاغة الطباق لا تكمن في الإتيان  بلفظين متقابلين في المعنى فحسب ، فإن هذا الصنيع لا طائل من ورائه ، وهو أسهل شيء ، بل قد يؤدي ذلك إلى التكلف والتصنع ، وفساد المعنى ، وإنما جمال الطباق وبلاغته يتجلى في بعده من التكلف ، وانسجامه في المعنى ، ولا يأتي مجرد  ، وإنما يجب أن يترشح بنوع من أنواع البديع الأخرى ، يشاركها في البهجة والرونق كقوله تعالى : (( تولج الليل في النهار  ، وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب )) (29) . ففي العطف بقوله تعالى : " وترزق من تشاء بغير حساب " دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، وهذه مبالغة في التكميل المشحونة بقدرة الله سبحانه وتعالى ، فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا ، فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية ، والعكس الذي لا يدرك ، لو جازته ، وبلاغته ومبالغة التكميل التى لا تليق بغير قدرة الله سبحانه وتعالى . (30).

        "وأن سر بلاغة كل من الطباق والمقابلة  إنما هي تداعي المعاني ، فالضد أو المقابل يجلب إلىالذهن ضده ، أو مقابله .. فإذا كتب الأديب أو نطق ، أحد المتساندين وقع مقابلة في ذهن متلقي قي   الأدب ، قبل أن يقرأه أو يسمعه ، وبهذا يتحول متلقي الأدب إلى مرسل له " (31).

     



       

        الهوامش والحواشي

    (1)

    (2)

    (3) .

             

    ثانيا ـ المـقـابـلة

       تعد المقابلة من المحسنات البديعية المعنوية التي ترجع إلى تحسين المعنى . وقد جعلها بعض علماء البلاغة  مستقلة بذاتها ، بعدما كانت عند بعضهم مختلطة مع الطباق . وكان قدامة ابن جعفر أول  من تكلم عنها ، وعدها فن مستقل بذاته ، وذكرها في معرض حديثه عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة العمل الأدبي ، وخاصة الشعر . وقد عرفها بقولة :" وصحة المقابلة أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق ، أو المخالفة بين بعضها وبعض ، فيأتي في الموافق بما يوافق ، وفي المخالف علي الصحة ، أو يشرط شروطا أو يعدد أحوالا في أحد المعنيين ، فيجب أن يأتي فيما  يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده ، وفيما يخالف بضد ذلك " (1)

       وعرفها أبو هلال العسكري ، بقوله: " هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى ، واللفظ على وجه الموافقة ،أو المخالفة ، نحو قوله تعالى : ((فمكروا مكرا ومكرنا مكرا )) فالمكر من الله تعالى : العذاب . جعله  الله عز وجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه ، وأهل طاعته ))(2) .

       كما عرفها ابن رشيق القيرواني ، فقال : المقابلة " أصلها ترتيب الكلام على ما يجب ، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولا ، وآخره ما يليق به آخرًا   ، ويؤتى في الموافق بما يوافقه ، وفي المخالف بما يخالفه ، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد ، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة " (3) .

        وعرفها السكاكي  ،  فقال  : المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر ، وتقابل بالأضداد ، ثم إذا شرط هنا شرطت هناك ضده "(4) .

        وعرفها الخطيب القزويني ،  فقال : " هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين ،أو أكثر ،ثم بما يقابل ذلك على الترتيب " (5).

         ويعرفها بدر الدين الزركشى يقول : " هو ذكر الشيء مع ما يوازنه في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها " (6) .

       وخلاصة القول من  التعريفات السابقة لها أن المقابلة : هي أن يأتي المتكلم  في كلامه  بمعنيين  متوافقين أو أكثر ليس بينهما تضاد ، ثم يأتي  بما يقابل ذلك على الترتيب . على شاكلة قوله تعالى : (( فليضحكوا قليلا  ، وليبكوا كثيرا جزاءا بما كانوا يكسبون )) (7) . فقد أتى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بمعنيين " يضحكوا " و""قليلا " وهما معنيان متوافقان أي ليس بينهما تضاد ، ثم أتى بعد ذلك بما يقابلهما على الترتيب بقوله " وليبكوا " و " كثيرا " .

    ·                    من ذلك أيضا قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) (8) . فقد قابل  بأربعة معان، بأربعة أخرى ، الأربعة الأولى هي : " أعطى " " ,اتقى" , "صدق " و "اليسرى " .
       والأربعة الثانية هي: " بخل " و "استغنى " و" كذب " و "العسرى " .



    الفرق بين المطابقة والمقابلة



             يكمن الفرق بين المطابقة والمقابلة في وجهين :

        الأول – أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا . والمقابلة  تكون لأكثر من ذلك ، كأن تكون مثلا بين أربعة أضداد : ضدين في صدر الكلام  ، وضدين في عجزه . وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد : خمسة في الصدر ، وخمسة في العجز .

        وقال علماء  البديع : كلما كثر عددها كانت أبلغ . فمن مقابلة خمسة ألفاظ بخمسة أخرى ، قول أمير المؤمنين علي ( كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان ( رضي الله عنهما ) : إن الحق ثقيل مري (يسهل بلعه ) ، والباطل خفيف وبيّ (من الوباء وهو: المرض ) ، وأنت رجل إذا صدقت سخطت ، وإن كذبت رضيت " (9) .

        الثاني – أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد ، أما المقابلة بالأضداد وغير الأضداد ، ولهذا جعل ابن الأثير ،الطباق أحد أنواع المقابلة ، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة ، وأعظم موقفا . ويضرب ابن حجة مثلا لذلك  فيقول : " ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى :

    (( ومن رحمته  جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ))(10). فانظر إلى مجيء الليل  والنهار في صدر الكلام ، وهما ضـدان ،  ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين ، وهما السكون والحركة ، على الترتيب ، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف ، فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة ، فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل ، لكون  الحركة تكون لمصلحة  ، ومفسدة ، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة ، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة ، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل ، وسلامة الحس ، وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ، ويتقي أسباب المهالك .  والآية الكريمة سيقت للاعتداد بالنعم ، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه ، ليتم حسن البيان ، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنا إلى ألفاظ كثيرة ، فحصل في هذا الكلام ، بهذا السبب ، عدة ضروب من المحاسن .  ألا ترى الله سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار ،  حصول منافع الإنسان ، حيث قال :" لتسكنوا ،  ولتبتغوا " (بلام التعليل !)  فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع : المقابلة ، والتعليل ، والإشارة ، والإرداف ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، وحسن البيان ، وحسن النسق ، فلذلك جاء الكلام متلائما ، آخذا بعضه بأعناق بعض ، ثم أخبرنا بالخبر الصادق : إن جميع ما عدده من النعم  باللفظ الخاص ، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الإرداف ، بعض رحمته ، حيث قال بحرف التبعيض : " ومن رحمته " . وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات ، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة (11) .

                                       



    .أنواع المقابلة



          تأتي المقابلة على أربعة أنواع هي :

    1-مقابلة اثنين باثنين : ومن ذلك في الأسلوب القرآني قوله تعالى :

                                                             (( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا )) (12)

    ·       وقوله تعالى :
                                                             (( تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء )) (13).

    ·       وقوله تعالى  :
                                                          (( تخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي )) (14) .

        *وقوله أيضا :

                                                               (( وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا )) (15).

        *وقوله : (( ألم يروا  أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، والنهار  مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )) .(16)



         فقد جاء في صدر هذه الآيات السابقة  بضدين ،  ثم قابل الضدين بضدين لهما في عجزها ، على الترتيب . فجاءت خذه المقابلات في غاية البلاغة والروعة . وقد ورد هذا النوع من المقابلة كثيرا في القرآن الكريم ونكتفي بهذا القدر منه  ، حتى لا يطول بنا حبل الكلام .

        *ومنه أيضا قول الحبيب محمد (ص) : (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان الحزق ( الحمق والتسرع ) في شيء إلا شانه )) . فانظر كيف قابل الحبيب محمد (ص) الرفق بالحزق ، والزين بالشين ، بأحسن ترتيب ، وأتم مناسبة .

        *وقوله أيضا لأم المؤمنين : (( عليك بالرفق يا عائشة ،  فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه )) .

       *وقوله أيضا :

                                   (( إن لله عبادا جعلهم  مفاتيح الخير ، مغاليق الشر )) .

       *وقوله أيضا للأنصار : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) أي يكثرون عند الملمات والحرب ، ويقلون عند المغانم ، ويعفون عنها .



    2-مقابلة ثلاثة بثلاثة : ومن أمثلة ذلك في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى :

                                                 (( ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث )) (17) .

    -                                فالمقابلة بين " يحل ، و"يحرم " ، و " الطيبات والخبائث " .

       *ومنه أيضا قول الرسول (ص) ، من خطبـة له : (( ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة  قد ارتجلت مقبلة )(18) . إن أطراف المقابلة هي : الدنيا وارتحالها مدبرة ، يقابلها الآخرة ومجيئها مرتجلة مقبلة .

       *وقوله (ص) أيضا : (( المؤمن غرّ كريم ، والفاجر خبٌّ لئيم )) (19) .

       *وقال علي (كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان (رضي الله عنه ) : (( إن الحق ثقيل وبي ، والباطل خفيف مري (يسهل بلعه  )) .

     

    *ومنه في القريض ، قول أبي دلامة ، وهو أشعر بيت في المقابلة :

                                           ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا     وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

    -           فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح " ، , وبين " الدين والكفر " وبين " الدنيا والإفلاس ". قال ابن أبي الإصبع : إنه لم يقل قبله مثله . (20) .

    3-مقابلة أربعة  بأربعة :ومثاله  في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى  : (( فأما من أعطى واتقى  وصدق بالحسنى  فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ))(21) .

    -           فالمقابلة بين قوله تعالى " استغنى " و قوله " اتقى " لأن المعنى زهد فيما عنده ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وذلك يتضمن عدم التقوى.

      *ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه )  في وصيته عند الموت : هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها )) . فقابل أول بآخر ، والدنيا بالآخرة ، وخارجا بداخل ، ومنها بفيها . فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام ))(22).

       *ومثله في القريض  ،  قول أبي تمام :

                                            يا أمة كان قبح الجود يسخطها    دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها

       *وقول ابن حجة الحموي :

                                          قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا    ولوا غضابا فوا حربي لغيظهم (23)

    4- مقابلة خمسة بخمسة : قال علماء البلاغة كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، فمن مقابلة خمسة بخمسة ،وقد وقع ذلك في الشعر كثيرا ، ومن أمثلته قول أبي الطيب المتنبي :                .          أزورهم وسواد الليل يشفع لي     وأنثني وبياض الصبح يغري بي

    قال صاحب الإيضاح : ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح ، والمقابلة الخامسة بين " بي " و "لي " ، فيها نظر لأن الباء ، واللام ،  صلتا الفعلين (24) .

        *ومنه أيضا قول صفي الدين الحلي :

                                             كان الرضا بدنوي من خواطرهم        فصار سخطي لبعدي عن جوارهمُ

    -فالمقابلة بين الشطر الأول كله ، والشطر الثاني كله .

       وقد رأى علماء البلاغة أنه كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، شريطة أن لا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف والتصنع  . فوجدنا مقابلة ستة بستة ، كما في قول ،شرف الدين الأربلي :

                                              على رأس عبد تاج عز يزينه     وفي رجل حر قيد ذل يشينه

       - فالمقابلة هنا بين ألفاظ صدر البيت كله وبين عجزه كله .

    وإن كنت أري أن المقابلة إذا ذادت على أربعة ، بأربعة ، قد تسلّم إلى التكلف والتصنع ، وقد نفسد المعنى ، وتؤدي إلى اضطراب الأسلوب وتعقيده . ولذا ندر أن نجد  أكثر من مقابلة أربعة بأربعة في الأسلوب القرآني المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة، وكذا الأسلوب النبوي . وكما أن المقابلة  لا ضير في أن تكون بالأضداد ، أو بغيرها (شبيهها )، لأن المعنى يستدعي بعضه بعضا ، سواء بالمقابلة أو بالشبه ، وإن كان الضد أكثر ورودا على البال من الشبه ، وأوضح في الدلالة علة المعنى منه ، فإن الشبه يثير  الفكر ، وينشطه ، ويؤدي  إلى تداعي المعاني ، ويجعله يبحث عن أي الوجوه يكون ( الشبه ) المقابلة . فالمقابلة تجلو الأفكار ، وتوضح المعاني ، وتبرزها في صورة جلية ،  وتؤكدها وتقويها، وتؤدي  إلى تلاحم الأجزاء وأتلاف الألفاظ وزيادتها جمالا ، سواء كان ذلك من خلال عرض الأضداد أو الأشباه ، وهذا سر جمالها .

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 14, 2024 6:57 pm