مِنْ " ذكرياتِ " الشيخِ علي الطنطاوي - رحمهُ الله - . . . فوائد وفرائد
الحمدُ للهِ وبعدُ ،
عليٌّ الطنطاوي - رحمهُ اللهُ - ارتبط اسمهُ في أذهاننا منذ الصغرِ من خلالِ برنامجهِ الذي كان يقدمهُ في الرائي بعنوان : " نور وهداية " ، وكان لهُ برنامجٌ بعد الإفطارِ في رمضان ، وكان من المعمرين ، فمات - رحمهُ اللهُ - وقد تجاوز التسعين .
قال الشيخُ سليمان الخراشي في " الطنطاوي في الميزان " ( ص 5 ) : " هذا الشيخُ قد عرفناهُ ونحن صغارٌ بأحاديثهِ الممتعةِ عبر الإذاعةِ ومن خلالِ الرائي ، وقد ارتبط اسمهُ لدينا بشهرِ رمضان حيث كان يقدمُ البرامجَ المميزةَ خلال الشهرِ الكريمِ ، وكان يجمعُ في برامجهِ بين الإصلاحِ الاجتماعي والحديثِ الشجي الجذابِ .
هذا الشيخُ هو عليٌّ الطنطاوي الذي يعرفهُ الصغارُ والكبارُ في بلادنا ، حيث حلَّ ضيفاً علينا منذ عشراتِ السنين ، مستقراً في أم القرى ، ناشراً دعوتهُ عبر القنواتِ والوسائلِ التي تيسرت له منذ قدومهِ إلى اليوم " .ا.هـ.
ترك الشيخُ عليٌّ الطنطاوي مؤلفاتٍ كثيرةً من أشهرها : " ذكريات " ، وهي سلسلةٌ في ثمانية مجلداتٍ ، كتب فيها ذكرياتهُ في أسلوبٍ أدبيٍّ بسيطٍ ، إلى جانبِ السرد التاريخي لحياتهِ - رحمهُ اللهُ - ، حوت جملةً كبيرةً من الفوائدِ الأدبيةِ ، والتاريخيةِ ، واللغويةِ ، والفقيةِ ، وغيرِ ذلك مما يحسنُ جمعهُ في مجلدٍ لطيفٍ .
وقد رأيتُ أن أضع بين أيديكم ما جمعتهُ من تلك الفوائدِ للاستفادة منها ، وبدأتُ بالمجلدِ الثامنِ ثم ننزل بالتدرج إلى الأول إن شاء اللهُ تعالى ، نسألُ اللهَ الإعانةَ والسداد .
فائدةٌ :
نقل الشيخُ محمدٌ المجذوب عن الطنطاوي أنه قال : " إنهُ نشأ أول أمرهِ في وسطٍ صوفي ، إذ كان والدهُ نقشبندياً مثل أكثرِ المشايخِ ، فتعلم منه كره ابنَ تيميةَ والوهابيةَ ، حتى إذا شخص إلى مصر ، وصحب خالهُ المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب ، بدأ ينظرُ إلى ذلك الموضوعِ بروحٍ جديدةٍ دفعتهُ إلى إعادةِ النظرِ في أمرِ القومِ . . . بيد أنه لم ينتهِ إلى الاستقرارِ إلا بعد اتصالهِ بالشيخِ بهجةٍ البيطار ، فمن هناك بدأت استقامتهُ على الطريقةِ والتزامِ الجادةِ ، وكان من أثرِ ذلك كتاباهُ اللذان أخرجهما عن حياةِ الشيخِ محمدِ بنِ عبد الوهاب [ قال الشيخُ سليمان الخراشي في الحاشية : وعليهما ملاحظات ] . . . إلا أن هذا الاستقرار لم يأتِ بالمجانِ بل كلفهُ وأخاهُ عبد الغني - كما يقولُ - طويلاً من النقاشِ مع الشيخِ بهجة ، غفر اللهُ لنا ولهُ ، فقد دخلا معه في معركةِ جدالٍ حادةٍ ، بلغت بهما حدَّ إغضابهِ ، وهو المعروفُ بوقارِ العلمِ وسعةِ الصدرِ ، والبعد عن التعصب ، حتى لم يعد لهما حجةٌ يصح الاعتدادُ بها بعد أن اتضحت معالمُ الحقِّ في أجلى بيانٍ . . " .ا.هـ.
سبحان الله ! فقد أراد اللهُ للشيخِ عليٍّ الطنطاوي أن يبحثَ عن الحقِّ فهداهُ اللهُ إليهِ .
والآن مع الفوائدِ . . .
حمى الدينِ مستباحٌ لكلِّ أحدٍ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/8) : " وللطبِّ حُماتهُ ، والذائذون عنهُ ، فإن انتحل صفةَ الطبيبِ من ليس من أهلهِ ، ففتح عيادةً ، أو كتب وصفةً لاحقوهُ قضائياً فعاقبوهُ ، وكذلك من ادعى أنهُ مهندسٌ وما هو بمهندسٍ ، فرسم خريطةً حاكموهُ وجازوهُ ، فما لنا نرى بابينِ مفتوحين لا حارس عليهما ، ولا بواب ، يدخلهما من شاء ، وهما أخطرُ من الطب ومن الهندسةِ ، هما : " الدينُ والسياسيةُ " .
فمن أراد تكلم في الدينِ ، ولو خالف الأئمةَ الأولين والآخرين ، أو أفتى ولو جاء بما لم يقل به أحدٌ من المفتين ...
فما للدينِ لا يجدُ من يحميهِ ؟ لقد كانوا يقولون قديماً :
لقدْ هزلتْ حتى بدا من هُزالها * * * * سلاها وحتى سامها كلُّ مفلسِ
فماذا نقولُ وقد زاد بها الهزالُ حتى لم يبق منها إلا العظام ، وحتى أقدمت عليها السباعُ والضباعُ والهوامُ " .ا.هـ.
وصدقَ - رحمهُ اللهُ - .
فائدةٌ لغويةٌ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/9) : " حتى أنّ مديرَ مدرستنا الابتدائية التي كنتُ أدرّسُ فيها في أوائلِ العشرينيات " لا العشرينات " من هذا القرنِ " .ا.هـ.
تصحيحٌ لمفهومٍ خاطىءٍ عن النعامةِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/10) : " ... فهل نصيرُ كالنعامةِ التي كذبوا عليها فزعموا أنها تدفنُ رأسها في الرملِ تظنُ أنها إن لم ترَ عدوها فإنه لا يراها ، وهي لا تفعلُ ذلك ولكنها فريةٌ افتروها عليها ، وهي لا تملكُ لساناً تردُّ به عن نفسها ، أما أنا فإني أملكُ بحمدِ اللهِ لساني وقلمي " .ا.هـ.
مناظرةٌ مع نصراني :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي - رحمهُ اللهُ - (8/11 - 12) : " ذلك أنهُ كان من عادةِ رؤساءِ الجمهوريةِ في دمشق أنهم يدعون القضاةَ والعلماءَ ، ومن يسمونهم برجالِ الدينِ إلى مائدةِ الإفطارِ في رمضان ، وقد ذهبتُ مرتين فقط إلى دعوتين من الرئيسينِ هاشم بك الأناسي وشكري بك القوتلي رحمةُ اللهِ عليهما ، فجمع أحدهما بيننا نحن قضاة الشرعِ والمشايخِ ورجالِ الدين من النصارى ، وكانت أحاديث مما يُتحدثُ به في أمثالِ تلك المجالسِ ، أحاديث تمسُ المشكلاتِ ولا تخترقها ، وتطيفُ بها ولا تداخلها ، ففاجأنا مرةً واحدٌ من كبارهم يعتبُ علينا ، إننا ندعوهم كفاراً .
فجزع الحاضرون ووجموا ، وعرتِ المجلسُ سكتةً مفاجأةً ، فقلتُ للرئيسِ : تسمح لي أن أتولى أنا الجواب ؟ وسألتهُ : هل أنت مؤمنٌ بدينك ؟ قال : نعم ، قلتُ : ومن هم الذين تدعونهم مؤمنين بهِ : أليسوا هم الذين يعتقدون بما تعتقد ؟ قال : بلى ، قلتُ : وماذا تسمي من لا يعتقدُ بذلك ؟ ألا تدعوه كافراً ؟ فسكت . قلتُ إن الكافرَ عندك هو الذي يرفضُ أن يأخذَ بما تراهُ أنت من أسس الدينِ ، وأصولِ العقائدِ ، وكذلك نحنُ فالناسُ عندنا بين مسلمٍ يؤمنُ بما نؤمنُ به من رسالةِ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - ، وإن القرآن أنزلهُ اللهُ عليهِ ، وآخرُ لا يؤمنُ بذلك فنسميه كافراً فهل أنت مسلم ٌ ؟ فضحك وقال : لا ، طبعاً ، قلتُ : وهل أنا في نظرك وبمقاييس دينك مؤمنٌ بما لدى النصارى أو كافرٌ به ؟ فسكت وسكتوا ، قلتُ : أنا أسألك ، فإن لم تجب أجبتُ عنك ، أنا عندك كافرٌ لأني لا أعتقدُ بأن المسيحَ ابنُ اللهِ ، ولا بأنهم ثلاثةٌ الأبُ والابنُ وروحُ القدسِ ، والثلاثةُ واحدٌ ، ولا بمسألةِ الفداءِ ، ولا بامثالِ ذلك مما هو من أصولِ عقائدِ النصارى . وأنت عندي كافرٌ لأنك تقولُ بها ، فلماذا تنكرُ عليّ ما تراهُ حقاً لك ؟ إن ديننا ظاهرٌ معلنٌ ، ليس فيه خبايا ولا خفايا ولا أسرار ، والقرآنُ يتلى في كلِّ إذاعةٍ في الدنيا ، حتى أنني سمعتهُ مرةً في إذاعةِ إسرائيل ، والقرآنُ يقول : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ " [ المائدة : 17 ] ، ويقولُ في الآيةِ الثانيةِ : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " [ المائدة : 73 ] ، فالكفرُ والإيمانُ إذن مسألةٌ نسبيةٌ ، ما تسميه أنت كفراً أسميه أنا إيماناً ، وما أسميه أنا كفراً تسميه أنت إيماناً ، واللهُ هو الذي يفصلُ بيننا يومَ القيامةِ ، فسكتوا " .ا.هـ.
نسيانُ الأمةِ لعظمائها :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/36) : " وكان الرئيسُ هو الأستاذُ مصباح محرم ، وهو قاض كبير نسيهُ الناسُ كما نسوا من أمثالهِ الكثير ، لأن مكانهم في أذهانهم امتلأ بأسماءِ المغنين والممثلين ولاعبي الكرة في الملعبِ واللاعبين بمصالحِ الأممِ من السياسين في المجالسِ والأحزابِ " .ا.هـ.
عاقبةُ التفرقِ والانفرادِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/38 - 39) : " ... حتى ظهر مصطفى كمال فألقى القناعَ الأبيضَ المزورَ ، فظهر من ورائهِ الوجهُ الأسودُ القبيحُ ، لما بدأت تظهرُ نوايا الاتحاديين ألفت أحزابٌ ، وتجمعت جماعاتٌ لمقاومةِ دعوتهم إلى تتريكِ العناصرِ العثمانيةِ ، فكان منها ) الجمعية المحمدية ( ومنها ) حزب الحرية والائتلاف ( الذي كان الشيخُ مسعودٌ من أكبر العاملين له ، والساعين لإنشائهِ .
تنبه العربُ لمكايدِ الاتحاديين ، ولكنهم على عادتهم يخالفون دائماً أمرَ ربهم ، فيعمدون إلى التفرقِ والانفرادِ ، بدل التجمعِ والاتحادِ ، فيعملُ كلٌ وحدهُ وفق اجتهادهِ ولا يعملون معاً ، لذلك لم تفلح واحدةٌ من هذه الجماعاتِ وهذه الأحزابِ وبقي حزبُ " الاتحادِ والترقي " هو الحاكمُ ، حتى أدخلنا بسوءِ رأيهِ ، وفسادِ طويتهِ في الحربِ العالميةِ الأولى ، وجعلنا في الجانبِ الخاسرِ ، فكان السبب في انهيارِ هذا الصرحِ العظيمِ الذي ظل يقارعُ الأحداثَ ويثبتُ على الزلازلِ والهزاتِ خمسةَ قرونٍ : صرحُ الدولةِ العثمانيةِ على ما كان منها " .ا.هـ.
خطبةٌ في مكانٍ أسفله وأعلاه بنكٌ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي )8/49( : " وكان إلى جنبِ المشيريةِ مسجدٌ ) هو مسجدُ عيسى باشا ( وأمامها مسجدٌ . أما الذي إلى جنبها فقد أقيمت في مكانهِ عمارةٌ كبيرةٌ جعلوا للمسجدِ طبقةً منها ، وفي الطبقةِ التي تحتها مصرفٌ ) بنك ( وفي الطبقةِ التي فوقها مصرفٌ ) بنك ( . خطبتُ فيه مرةً خطبةَ الجمعةِ ، فقلتُ للناسِ : " إني أقومُ على هذا المنبرِ أقولُ إن اللهَ حرم الربا ، فيقولُ لي من هو تحتي : " كذابٌ " ، ويقولُ الذين هم فوقي : " كذابٌ " .
وجعلُ المساجد طبقة في عمارةٍ كبيرةٍ بدعة لم أعرفها في غير الشام وبيروت ، وهي حرامٌ ، لأن أرضَ المسجدِ وسماءهُ له فلا يجوزُ أن يملك تحته ولا ما فوقه " .ا.هـ.
وصفٌ غالبٌ في السِّمَانِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/51) : " والسِّمانُ عادةً يكونون خفافَ الروحِ ويكونون من أظرفِ الناسِ ، كأن الذي زاد في شحمهم ولحمهم خفف من دمهم . هذا هو الغالبُ عليهم فإن وجدتم فيهم من ثقُل دمهُ كما ثقُل جسمهُ فتلك هي المصيبةُ الكبرى . ولحملُ صخرةٍ تصعدُ بها الجبل ، أهونُ من مجالسةِ سمينٍ ثقيل الدم " .ا.هـ.
هِمَّةُ الشيخِ عليًّ الطنطاوي في القراءةِ :
قال الشيخُ عليًّ الطنطاوي (8/58) : " قلتُ : ومن يقرأُ أكثر مني ؟ أنا من سبعين سنةِ إلى الآن ، من يوم كنتُ صبياً ، أقرأُ كلَّ يومٍ مئةَ صفحة على الأقل ،وأقرأُ أحياناً ثلاث مئة أو أكثر ، ما لي عمل إلا القراءة ، لا أقطعها إلا أن أكون مريضاً أو على سفرٍ ، فاحسبوا كم صفحة قرأتُ في عمري . لقد قرأتُ أكثرَ من نصفِ مليون صفحة وأعرفُ من قرأ أكثر مني كالأستاذ العقاد والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحب الدين الخطيب رحمهم الله " .ا.هـ.
موقفٌ طريفٌ في مصر :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/67) : " ذهبتُ في إحدى سفراتي أزورُ الأستاذَ الزيات ، وكان قد انتقل إلى ( المنيل ) إلى شارعٍ سماه لي شارع ( مسجد السلطان قايتباي ) فأخذتُ سيارةً وذهبتُ المنيل أسألُ عن هذا الشارع فلم يعرفهُ أحدٌّ ممن سألتهُ عنهُ ، وطُفتُ في المكانِ خمسةَ أشواطٍ وأنا لا أعرفُ أين يقعُ هذا الشارع حتى كانت مصادفةٌ من أعجب المصادفاتِ ، أرويها لكم على حقيقتها وأحسبكم ستشكون فيها ، هي أنني وقفتُ على بابِ محلٍ تجاريٍّ أسألُ صاحبهُ عن الشارعِ فاهتم بي ، ولكن ما عرفهُ ، فرفعتُ رأسي وغذا لوحةٌ باسم الشارعِ على الجدارِ فوق هذا المحلِ فلما نبهتهُ إليها عجب كثيراً وضحك طويلاً وأقسم أنه لم ير اللوحةَ إلا الآن " ا.هـ.
كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل
الحمدُ للهِ وبعدُ ،
عليٌّ الطنطاوي - رحمهُ اللهُ - ارتبط اسمهُ في أذهاننا منذ الصغرِ من خلالِ برنامجهِ الذي كان يقدمهُ في الرائي بعنوان : " نور وهداية " ، وكان لهُ برنامجٌ بعد الإفطارِ في رمضان ، وكان من المعمرين ، فمات - رحمهُ اللهُ - وقد تجاوز التسعين .
قال الشيخُ سليمان الخراشي في " الطنطاوي في الميزان " ( ص 5 ) : " هذا الشيخُ قد عرفناهُ ونحن صغارٌ بأحاديثهِ الممتعةِ عبر الإذاعةِ ومن خلالِ الرائي ، وقد ارتبط اسمهُ لدينا بشهرِ رمضان حيث كان يقدمُ البرامجَ المميزةَ خلال الشهرِ الكريمِ ، وكان يجمعُ في برامجهِ بين الإصلاحِ الاجتماعي والحديثِ الشجي الجذابِ .
هذا الشيخُ هو عليٌّ الطنطاوي الذي يعرفهُ الصغارُ والكبارُ في بلادنا ، حيث حلَّ ضيفاً علينا منذ عشراتِ السنين ، مستقراً في أم القرى ، ناشراً دعوتهُ عبر القنواتِ والوسائلِ التي تيسرت له منذ قدومهِ إلى اليوم " .ا.هـ.
ترك الشيخُ عليٌّ الطنطاوي مؤلفاتٍ كثيرةً من أشهرها : " ذكريات " ، وهي سلسلةٌ في ثمانية مجلداتٍ ، كتب فيها ذكرياتهُ في أسلوبٍ أدبيٍّ بسيطٍ ، إلى جانبِ السرد التاريخي لحياتهِ - رحمهُ اللهُ - ، حوت جملةً كبيرةً من الفوائدِ الأدبيةِ ، والتاريخيةِ ، واللغويةِ ، والفقيةِ ، وغيرِ ذلك مما يحسنُ جمعهُ في مجلدٍ لطيفٍ .
وقد رأيتُ أن أضع بين أيديكم ما جمعتهُ من تلك الفوائدِ للاستفادة منها ، وبدأتُ بالمجلدِ الثامنِ ثم ننزل بالتدرج إلى الأول إن شاء اللهُ تعالى ، نسألُ اللهَ الإعانةَ والسداد .
فائدةٌ :
نقل الشيخُ محمدٌ المجذوب عن الطنطاوي أنه قال : " إنهُ نشأ أول أمرهِ في وسطٍ صوفي ، إذ كان والدهُ نقشبندياً مثل أكثرِ المشايخِ ، فتعلم منه كره ابنَ تيميةَ والوهابيةَ ، حتى إذا شخص إلى مصر ، وصحب خالهُ المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب ، بدأ ينظرُ إلى ذلك الموضوعِ بروحٍ جديدةٍ دفعتهُ إلى إعادةِ النظرِ في أمرِ القومِ . . . بيد أنه لم ينتهِ إلى الاستقرارِ إلا بعد اتصالهِ بالشيخِ بهجةٍ البيطار ، فمن هناك بدأت استقامتهُ على الطريقةِ والتزامِ الجادةِ ، وكان من أثرِ ذلك كتاباهُ اللذان أخرجهما عن حياةِ الشيخِ محمدِ بنِ عبد الوهاب [ قال الشيخُ سليمان الخراشي في الحاشية : وعليهما ملاحظات ] . . . إلا أن هذا الاستقرار لم يأتِ بالمجانِ بل كلفهُ وأخاهُ عبد الغني - كما يقولُ - طويلاً من النقاشِ مع الشيخِ بهجة ، غفر اللهُ لنا ولهُ ، فقد دخلا معه في معركةِ جدالٍ حادةٍ ، بلغت بهما حدَّ إغضابهِ ، وهو المعروفُ بوقارِ العلمِ وسعةِ الصدرِ ، والبعد عن التعصب ، حتى لم يعد لهما حجةٌ يصح الاعتدادُ بها بعد أن اتضحت معالمُ الحقِّ في أجلى بيانٍ . . " .ا.هـ.
سبحان الله ! فقد أراد اللهُ للشيخِ عليٍّ الطنطاوي أن يبحثَ عن الحقِّ فهداهُ اللهُ إليهِ .
والآن مع الفوائدِ . . .
حمى الدينِ مستباحٌ لكلِّ أحدٍ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/8) : " وللطبِّ حُماتهُ ، والذائذون عنهُ ، فإن انتحل صفةَ الطبيبِ من ليس من أهلهِ ، ففتح عيادةً ، أو كتب وصفةً لاحقوهُ قضائياً فعاقبوهُ ، وكذلك من ادعى أنهُ مهندسٌ وما هو بمهندسٍ ، فرسم خريطةً حاكموهُ وجازوهُ ، فما لنا نرى بابينِ مفتوحين لا حارس عليهما ، ولا بواب ، يدخلهما من شاء ، وهما أخطرُ من الطب ومن الهندسةِ ، هما : " الدينُ والسياسيةُ " .
فمن أراد تكلم في الدينِ ، ولو خالف الأئمةَ الأولين والآخرين ، أو أفتى ولو جاء بما لم يقل به أحدٌ من المفتين ...
فما للدينِ لا يجدُ من يحميهِ ؟ لقد كانوا يقولون قديماً :
لقدْ هزلتْ حتى بدا من هُزالها * * * * سلاها وحتى سامها كلُّ مفلسِ
فماذا نقولُ وقد زاد بها الهزالُ حتى لم يبق منها إلا العظام ، وحتى أقدمت عليها السباعُ والضباعُ والهوامُ " .ا.هـ.
وصدقَ - رحمهُ اللهُ - .
فائدةٌ لغويةٌ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/9) : " حتى أنّ مديرَ مدرستنا الابتدائية التي كنتُ أدرّسُ فيها في أوائلِ العشرينيات " لا العشرينات " من هذا القرنِ " .ا.هـ.
تصحيحٌ لمفهومٍ خاطىءٍ عن النعامةِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/10) : " ... فهل نصيرُ كالنعامةِ التي كذبوا عليها فزعموا أنها تدفنُ رأسها في الرملِ تظنُ أنها إن لم ترَ عدوها فإنه لا يراها ، وهي لا تفعلُ ذلك ولكنها فريةٌ افتروها عليها ، وهي لا تملكُ لساناً تردُّ به عن نفسها ، أما أنا فإني أملكُ بحمدِ اللهِ لساني وقلمي " .ا.هـ.
مناظرةٌ مع نصراني :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي - رحمهُ اللهُ - (8/11 - 12) : " ذلك أنهُ كان من عادةِ رؤساءِ الجمهوريةِ في دمشق أنهم يدعون القضاةَ والعلماءَ ، ومن يسمونهم برجالِ الدينِ إلى مائدةِ الإفطارِ في رمضان ، وقد ذهبتُ مرتين فقط إلى دعوتين من الرئيسينِ هاشم بك الأناسي وشكري بك القوتلي رحمةُ اللهِ عليهما ، فجمع أحدهما بيننا نحن قضاة الشرعِ والمشايخِ ورجالِ الدين من النصارى ، وكانت أحاديث مما يُتحدثُ به في أمثالِ تلك المجالسِ ، أحاديث تمسُ المشكلاتِ ولا تخترقها ، وتطيفُ بها ولا تداخلها ، ففاجأنا مرةً واحدٌ من كبارهم يعتبُ علينا ، إننا ندعوهم كفاراً .
فجزع الحاضرون ووجموا ، وعرتِ المجلسُ سكتةً مفاجأةً ، فقلتُ للرئيسِ : تسمح لي أن أتولى أنا الجواب ؟ وسألتهُ : هل أنت مؤمنٌ بدينك ؟ قال : نعم ، قلتُ : ومن هم الذين تدعونهم مؤمنين بهِ : أليسوا هم الذين يعتقدون بما تعتقد ؟ قال : بلى ، قلتُ : وماذا تسمي من لا يعتقدُ بذلك ؟ ألا تدعوه كافراً ؟ فسكت . قلتُ إن الكافرَ عندك هو الذي يرفضُ أن يأخذَ بما تراهُ أنت من أسس الدينِ ، وأصولِ العقائدِ ، وكذلك نحنُ فالناسُ عندنا بين مسلمٍ يؤمنُ بما نؤمنُ به من رسالةِ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - ، وإن القرآن أنزلهُ اللهُ عليهِ ، وآخرُ لا يؤمنُ بذلك فنسميه كافراً فهل أنت مسلم ٌ ؟ فضحك وقال : لا ، طبعاً ، قلتُ : وهل أنا في نظرك وبمقاييس دينك مؤمنٌ بما لدى النصارى أو كافرٌ به ؟ فسكت وسكتوا ، قلتُ : أنا أسألك ، فإن لم تجب أجبتُ عنك ، أنا عندك كافرٌ لأني لا أعتقدُ بأن المسيحَ ابنُ اللهِ ، ولا بأنهم ثلاثةٌ الأبُ والابنُ وروحُ القدسِ ، والثلاثةُ واحدٌ ، ولا بمسألةِ الفداءِ ، ولا بامثالِ ذلك مما هو من أصولِ عقائدِ النصارى . وأنت عندي كافرٌ لأنك تقولُ بها ، فلماذا تنكرُ عليّ ما تراهُ حقاً لك ؟ إن ديننا ظاهرٌ معلنٌ ، ليس فيه خبايا ولا خفايا ولا أسرار ، والقرآنُ يتلى في كلِّ إذاعةٍ في الدنيا ، حتى أنني سمعتهُ مرةً في إذاعةِ إسرائيل ، والقرآنُ يقول : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ " [ المائدة : 17 ] ، ويقولُ في الآيةِ الثانيةِ : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " [ المائدة : 73 ] ، فالكفرُ والإيمانُ إذن مسألةٌ نسبيةٌ ، ما تسميه أنت كفراً أسميه أنا إيماناً ، وما أسميه أنا كفراً تسميه أنت إيماناً ، واللهُ هو الذي يفصلُ بيننا يومَ القيامةِ ، فسكتوا " .ا.هـ.
نسيانُ الأمةِ لعظمائها :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/36) : " وكان الرئيسُ هو الأستاذُ مصباح محرم ، وهو قاض كبير نسيهُ الناسُ كما نسوا من أمثالهِ الكثير ، لأن مكانهم في أذهانهم امتلأ بأسماءِ المغنين والممثلين ولاعبي الكرة في الملعبِ واللاعبين بمصالحِ الأممِ من السياسين في المجالسِ والأحزابِ " .ا.هـ.
عاقبةُ التفرقِ والانفرادِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/38 - 39) : " ... حتى ظهر مصطفى كمال فألقى القناعَ الأبيضَ المزورَ ، فظهر من ورائهِ الوجهُ الأسودُ القبيحُ ، لما بدأت تظهرُ نوايا الاتحاديين ألفت أحزابٌ ، وتجمعت جماعاتٌ لمقاومةِ دعوتهم إلى تتريكِ العناصرِ العثمانيةِ ، فكان منها ) الجمعية المحمدية ( ومنها ) حزب الحرية والائتلاف ( الذي كان الشيخُ مسعودٌ من أكبر العاملين له ، والساعين لإنشائهِ .
تنبه العربُ لمكايدِ الاتحاديين ، ولكنهم على عادتهم يخالفون دائماً أمرَ ربهم ، فيعمدون إلى التفرقِ والانفرادِ ، بدل التجمعِ والاتحادِ ، فيعملُ كلٌ وحدهُ وفق اجتهادهِ ولا يعملون معاً ، لذلك لم تفلح واحدةٌ من هذه الجماعاتِ وهذه الأحزابِ وبقي حزبُ " الاتحادِ والترقي " هو الحاكمُ ، حتى أدخلنا بسوءِ رأيهِ ، وفسادِ طويتهِ في الحربِ العالميةِ الأولى ، وجعلنا في الجانبِ الخاسرِ ، فكان السبب في انهيارِ هذا الصرحِ العظيمِ الذي ظل يقارعُ الأحداثَ ويثبتُ على الزلازلِ والهزاتِ خمسةَ قرونٍ : صرحُ الدولةِ العثمانيةِ على ما كان منها " .ا.هـ.
خطبةٌ في مكانٍ أسفله وأعلاه بنكٌ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي )8/49( : " وكان إلى جنبِ المشيريةِ مسجدٌ ) هو مسجدُ عيسى باشا ( وأمامها مسجدٌ . أما الذي إلى جنبها فقد أقيمت في مكانهِ عمارةٌ كبيرةٌ جعلوا للمسجدِ طبقةً منها ، وفي الطبقةِ التي تحتها مصرفٌ ) بنك ( وفي الطبقةِ التي فوقها مصرفٌ ) بنك ( . خطبتُ فيه مرةً خطبةَ الجمعةِ ، فقلتُ للناسِ : " إني أقومُ على هذا المنبرِ أقولُ إن اللهَ حرم الربا ، فيقولُ لي من هو تحتي : " كذابٌ " ، ويقولُ الذين هم فوقي : " كذابٌ " .
وجعلُ المساجد طبقة في عمارةٍ كبيرةٍ بدعة لم أعرفها في غير الشام وبيروت ، وهي حرامٌ ، لأن أرضَ المسجدِ وسماءهُ له فلا يجوزُ أن يملك تحته ولا ما فوقه " .ا.هـ.
وصفٌ غالبٌ في السِّمَانِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/51) : " والسِّمانُ عادةً يكونون خفافَ الروحِ ويكونون من أظرفِ الناسِ ، كأن الذي زاد في شحمهم ولحمهم خفف من دمهم . هذا هو الغالبُ عليهم فإن وجدتم فيهم من ثقُل دمهُ كما ثقُل جسمهُ فتلك هي المصيبةُ الكبرى . ولحملُ صخرةٍ تصعدُ بها الجبل ، أهونُ من مجالسةِ سمينٍ ثقيل الدم " .ا.هـ.
هِمَّةُ الشيخِ عليًّ الطنطاوي في القراءةِ :
قال الشيخُ عليًّ الطنطاوي (8/58) : " قلتُ : ومن يقرأُ أكثر مني ؟ أنا من سبعين سنةِ إلى الآن ، من يوم كنتُ صبياً ، أقرأُ كلَّ يومٍ مئةَ صفحة على الأقل ،وأقرأُ أحياناً ثلاث مئة أو أكثر ، ما لي عمل إلا القراءة ، لا أقطعها إلا أن أكون مريضاً أو على سفرٍ ، فاحسبوا كم صفحة قرأتُ في عمري . لقد قرأتُ أكثرَ من نصفِ مليون صفحة وأعرفُ من قرأ أكثر مني كالأستاذ العقاد والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحب الدين الخطيب رحمهم الله " .ا.هـ.
موقفٌ طريفٌ في مصر :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/67) : " ذهبتُ في إحدى سفراتي أزورُ الأستاذَ الزيات ، وكان قد انتقل إلى ( المنيل ) إلى شارعٍ سماه لي شارع ( مسجد السلطان قايتباي ) فأخذتُ سيارةً وذهبتُ المنيل أسألُ عن هذا الشارع فلم يعرفهُ أحدٌّ ممن سألتهُ عنهُ ، وطُفتُ في المكانِ خمسةَ أشواطٍ وأنا لا أعرفُ أين يقعُ هذا الشارع حتى كانت مصادفةٌ من أعجب المصادفاتِ ، أرويها لكم على حقيقتها وأحسبكم ستشكون فيها ، هي أنني وقفتُ على بابِ محلٍ تجاريٍّ أسألُ صاحبهُ عن الشارعِ فاهتم بي ، ولكن ما عرفهُ ، فرفعتُ رأسي وغذا لوحةٌ باسم الشارعِ على الجدارِ فوق هذا المحلِ فلما نبهتهُ إليها عجب كثيراً وضحك طويلاً وأقسم أنه لم ير اللوحةَ إلا الآن " ا.هـ.
كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل