مـذاكـرة الْحُــذَّاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق
للشيخ أبي مالك العوضي
الحمد لله الذي خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛
فإن هذه الشريعة المباركة عربية كما قرر الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله [1] ، وهذه الكلمة الجامعة من الشاطبي فيها فوائد وفرائد؛
فمنها أن فهم الشريعة لا يتم إلا بالغوص في بحر هذه اللغة واستخراج ما به من دُرّ وجوهر.
ومنها أن هذه نعمة عظيمة من رب العباد علينا {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف/2)
ومنها أن أكثر من ضل فإنما ضل لتنكبه طريق الفهم العربي الصَّحَاح على نهج العرب الأقحاح.
ومنها أن هذه اللغة أشرف اللغات؛ لأن الله اختارها لكتابه الذي هو أشرف الكتب، واختارها لدينه المرتضى، ولا يختار لدينه إلا الخيار.
ثم إن أهل العلم لم يألوا جهدا في البيان والتبصير، والتقريب والتحرير، والتبيين والتقرير، وجاءوا في بسط العلوم وشرحها بما يذهل العقول، وغفل عن ذلك أناس فظنوا أن كثيرا من ذلك إنما هو تضييع للأعمار فيما لا يفيد، وقد فطَن لقولهم - من قبل أن يقولوه - إمامُ الصنعة الخليل بن أحمد فقال: « لا يصل أحدٌ من علم النحو إلى ما يحتاجُ إليه، حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه » [2] ! وهذا أمر صحيح جدا في كل العلوم لو تأملته، فتأمل !
· تـمـهـيـد:
(علم الاشتقاق) من العلوم التي تكاد تكون مهجورة في هذا الزمان، فلا نكاد نسمع عن طالب يدرُسُه، ولا نكاد نرى شيخا يُدَرِّسُه، ولا يوجد له إلا القليل من الكتب ما يؤسِّسُه.
مع أنك كثيرا ما تسمع المشايخ في الدروس والمحاضرات يقولون: إن علوم العربية اثنا عشر علما، جمعها الناظم في قوله:
نحوٌ وصرفٌ عروضٌ ثم قافيةٌ وبعـدها لغـةٌ قرض وإنشاءُ
خط بيـانٌ معانٍ معْ محاضرة و(الاشتقاقُ) لها الآداب أسماءُ
ونظمها آخر فقال:
خُذْ نَظْمَ آدابٍ تَضَوَّعَ نَشْرُها فطوى شذا المنثور حين تَضُوعُ
لُغَةٌ وصَرْفٌ و(اشتقاقٌ) نَحْوُها عِلْمُ الْمَعَـانِي بِالْبَيَـانِ بَدِيعُ
وعَرُوضُ قَـافِيَةٌ وإِنْشَا نَظْمُها وكتـابةُ التـاريخِ ليسَ يَضِيعُ
وكثير من إخواننا لا يدرسون من هذه العلوم إلا النحو، ومن زاد فإنه يزيد الصرف، ومن تعمق فإنه يضيف إليها علوم البلاغة، والقليل من يدرس الباقي.
· المبادئ العشرة للعلوم
قال أبو العباس الْمَقَّرِي:
مـن رامَ فنـا فليـقـدِّمْ أولا...علـما بحَـدٍّ ثم مَوْضُـوعٍ تـلا
وواضـع ونسـبةٍ وما استـمد... منـه وفَضْـلِه وحُـكْم يُعتَـمدْ
واسـمٍ ومـا أفـاد والمسـائل... فتـلك عَشْـرٌ للمُـنى وسـائلْ
وبعضُهم منها على البعضِ اقتصرْ...ومن يكن يَـدري جميعَها انتـصرْ
وهذه هي المبادئ العشرة التي درج المتأخرون على تقديمها بين يدي دراسة العلوم، وقد كنتُ كتبتُ مبحثا في أن (كون هذه الأمور العشرة مبادئ لدراسة العلوم فيه نظر)، وخاصة عند المبتدئين، وذلك لأمور كثيرة لا مجال لذكرها الآن.
وهي وجهة نظر قد أكون مخطئا فيها.
ومع ذلك فلا يسعني أن أتخلف عن ركب أئمتنا المتأخرين الذين هذبوا وقسموا ورتبوا؛ فصار كل نظير بجنب نظيره، وكل إلف مضموما إلى مؤالفه، فقعدوا القواعد وأصلوا الأصول، وليس لي في هذا المبحث إلا النقل والترتيب، فعلى ذلك أقول:
· اسـم هذا العلم:
(الاشتقاق) أو (مقاييس اللغة)، والأول هو المشهور في كتب المصنفين، ولكن الثاني أقرب إلى المراد، وبذلك سمى ابن فارس معجمه المشهور.
· حد علم الاشتقاق ( أو تعريفه ):
علم بدلالات كلام العرب التي يعرف بها الأصل الذي ترجع إليه الألفاظ.
وقال القنوجي: [3]: « هو علم باحث عن كيفية خروج الكلم بعضها عن بعض، بسبب مناسبة بين المخرج والمخارج بالأصالة والفرعية بين الكلم، لكن لا بحسب الجوهرية، بل بحسب الهيئة »
وقال عبد الله أمين: [4]: « الاشتقاق أخذ كلمة من كلمة أو أكثر مع تناسب بين المأخوذ والمأخوذ منه في اللفظ والمعنى جميعا »
وبرغم شهرة كتاب (عبد الله أمين) في هذا العلم إلا أني لاحظتُ أنه أدخل كثيرا من المباحث الصرفية والنحوية في كتابه، والمراد هنا تحرير المسائل الخاصة بهذا العلم فقط فلذلك تحاشيت مثل هذه المسائل.
وهذا التداخل قديم، فقد قال القنوجي: [5] « ثم إن السيد والسعد تنازعا في الاشتقاق هل هو مستقل كما يقوله السيد، أو من تتمة علم الصرف كما يقوله السعد »
ويلاحظ كذلك أن علم الاشتقاق له تعلق بعلم الأصوات أو التجويد أو المخارج [6] لأن تقارب المخرج مظنة الإبدال وهو ما يدخل في أحد أنواع الاشتقاق وهو الاشتقاق الكبير فإذا كان المعنى متقاربا فهو من علم الاشتقاق وإن كان المعنى متحدا فهو من علم اللغة وهو مبحث الإبدال وفيه مصنفات مشهورة لابن السكيت وأبي تراب وغيرهما.
· موضوع علم الاشتقاق:
معرفة دلالات الألفاظ وارتباطها ببعض، وذلك بالرجوع إلى أصول معانيها المستنبطة من قياس دلالات الألفاظ المتماثلة المادة [7]
· ثمـرة علم الاشتقاق:
التعمق في فهم كلام العرب، ومن ثَمَّ في فهم كلام الشارع، ولذلك كثيرا ما تجد المفسرين يشيرون إشارات عابرة إلى أمثلة من هذا العلم، وكثير من المصنفين في العلوم يشيرون أيضا إليه إشارات عابرة عند شرح بعض الاصطلاحات وبيان وجه الاشتقاق فيها.
فغايته كما ذكر القنوجي[8] « الاحتراز عن الخلل في الانتساب الذي يوجب الخلل في ألفاظ العرب» ، والغرض منه كما قال القنوجي أيضا: [9] « تحصيل ملكة يعرف بها الانتساب على وجه الصواب»
ومما يناسب ثمرتَه أن يُذكر شيء من فوائد هذا العلم
· فمن فوائده الأمن من خطأ الاستنباط في الشرع:
قال ابن الأزرق: [10] « المثال الأول [يعني من الأخطاء الواقعة بسبب الجهل باللغة] ما يروى عن النَّظَّام أنه كان يقول: (إذا آلى المرء بغير اسم الله تعالى لم يكن موليا، قال: لأن الإيلاء مشتق من اسم الله)، وليس كذلك لأن الإيلاء من الألية وهي اليمين يقال: آلى الرجل يولي إيلاء أي حلف وأقسم ».
قلت: وقد يكون الاشتقاق سببا في الخطأ في الاستنباط، كما ذهب أبو عمرو بن العلاء إلى أن دية الجنين لا بد أن يكون أبيض عبدا كان أو أمة! لأن النبي سماه غرة، والغرة مشتقة من البياض، ولولا أن ذلك مقصود للشارع لما سماه غرة ! [11]
قال ابن خلكان: « وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قولُ أحد من الأئمة المجتهدين أم لا » [12]
· ومن فوائده معرفة الفروق اللغوية والدلالات الدقيقة للألفاظ:
قال ابن جني: [13] « فإن قيل: ولم وضع الكلام على ما كان مستقلاً بنفسه البتة، والقول على ما قد يستقل بنفسه، وقد يحتاج إلى غيره؟ أَلاِشتقاقٍ قضى بذلك؟ أم لغيره من سماعٍ مُتلقًّى بالقبول والاتباع؟ قيل: لا، بل لاشتقاق قضى بذلك دون مجرد السماع .... »
قال الرازي: [14] « إن أكمل الطرق في تعرُّف مدلولات الألفاظ طريقةُ الاشتقاق »
· ومن فوائده معرفة ما يستحسن من الأسماء وما يستقبح:
لأن الإنسان له من اسمه نصيب، كما في الحديث (إذا بعثتم رسولا فابعثوه حسن الوجه، حسن الاسم)؛ فإذا عرف اشتقاق الاسم اجتُنِب إن كان سيئا، واستُعمِل إن كان حسنا.
قال ابن دريد: [15] « واعلم أن للعرب مذاهبَ في تسمية أبنائها، فمنها ما سمَّوه تفاؤلاً على أعدائهم؛ نحو: غالب، وغَلاّب ..... ومنها ما تفاءلوا به للأبناء؛ نحو: نائل، ووائل، وناجٍ، ومُدرِك .... ومنها ما سمِّي بالسِّباع ترهيبًا لأعدائهم؛ نحو: أسد، وليث، وفراس، وذئب ...... ومنها ما سمِّي بما غلُظ وخشُن من الشجر تفاؤلاً أيضًا؛ نحو: طلحة، وسَمُرة، وسلمة، وقتادة ...... ومنها ما سمي بما غُلظ من الأرض وخشُن لمسُه وموطِئُه؛ مثل حَجَر وحُجَير، وصَخْر، وفِهر ..... ومنها أن الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمِّي ابنه بأوَّل ما يلقاه من ذلك؛ نحو: ثعلب وثعلبة، وضب وضبة، وخُزَز، وضُبَيعة، وكلبٍ وكليب، وحمار وقرد وخنزير، وجحش، وكذلك أيضًا تُسمِّى بأول ما يَسنَح أو يبرح لها من الطَّير نحو: غُرابٍ وصُرَد، وما أشبَهَ ذلك »
· ومن فوائده الثقة بالألفاظ واليقين بصحتها:
قال ابن جني: [16] « وذكر أبو بكر [بن السراج] أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها، فإذا رأى الاشتقاق قابلاً لها أنس بها وزال استيحاشه منها »
قال ابن فارس: [17] « والأصل في هذه الأبواب [يعني الرباعي المنحوت] أنَّ كلَّ ما لم يصحَّ وجهُه من الاشتقاق الذي نذكره فمنظورٌ فيه، إلاّ [ما] رواه الأكابر الثقات »
· ومن فوائده معرفة الأصلي من الزائد:
استعمل ابن سيده الاشتقاق في إثبات زيادة تاء ( ترتب)؛ لأنه من الشيء الراتب.
وحكم العلماء على زيادة نون الحنظل بالزيادة؛ لأنهم يقولون: حظلت الإبل، كما قال ابن مالك:
وامنعْ زيـادةً بلا قيـد ثبَتْ إن لم تَبَيَّن حجـةٌ كحَظِـلت
قال ابن جني: [18]« فالمذهب أن يحكم في جميع هذه النونات والتاءات وما يجري مجراها - مما هو واقع موقع الأصول مثلها - بأصليته، مع تجويزنا أن يَرِدَ دليلٌ على زيادة شيء منه؛ كما ورد في (عنسل) و(عنبس) ما قطعنا به على زيادة نونهما، وهو الاشتقاق المأخوذ من عبس) و(عسل)، وكما قطعنا على زيادة نون (قنفخر) لقولهم: (امرأة قفاخرية)، وكذلك تاء (تألب)؛ لقولهم: ألب الحمار طريدته يألبها »
· ومن فوائده ترجيح معنى على معنى في الكلام:
لأن الكلمة إذا كانت تحتمل معاني عدة، فعادةً ما يكون أسعدُها بالترجيح الأقربَ منها للاشتقاق، كما ذكر ابن تيمية في اشتقاق الشهر من الاشتهار، وكذلك ما ذهب أهل العلم من أن الخمر ما خامر العقل، وليست مقصورة على العنب.
والزمخشري يكرر كثيرًا قوله (والاشتقاقُ يشهد لذلك)، كما قال في تفسير ( أحقابا )، وكما ذكر أيضا الخطابي في تفسير صفة ( الصمد ).
· ومن فوائده معرفة الدخيل من الأصيل أو العربي من المعرب:
لأن الكلمة إن عرف اشتقاقها وصلاحية وزنها لهذا الاشتقاق دل ذلك على عربيتها.
وإن لم يُعرف لها أصل، أو كان الأصل يفيد أن وزنها لا يجري على الأوزان العربية دل ذلك على أنها من المعرب [19]
· ومن فوائده تصَرُّفُ المتكلم البليغ في مناحي الكلام:
لأن ذلك يزيد الكلام بهاءً وحلاوة، ويكسوه جمالا وطلاوة، وهو قريب من التجنيس، فينظُر في اللفظ وما يقاربه معنى، وفي الكلم وما ينتمي إليه.
ومن ذلك في كتاب الله: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ } ( الروم 43) { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } (يونس 107) { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ } ( المائدة 31 )
وفي الحديث « أَسْلَمُ سالمها الله، وغِفَار غفر الله لها، وعُصَيَّة عصت الله ورسوله » (متفق عليه من حديث أبي هريرة (البخاري 3323، ومسلم 2516) .
ومن ذلك قول أبي تمام:
وأنْجَدْتُم من بعد إتهامِ داركم فيا دمعُ أنجدني على ساكني نجدِ
فإنه لولا معرفته باشتقاق ( نجد ) ما طاوعه مثلُ هذا البيت.
ومن ذلك قول صفي الدين الحلي:
لم يلق مرحبُ منهُ مرحبًا ورأى ضدَّ اسمه عند حد الحصن والأُطُمِ
ومن ذلك قول ابن معصوم:
لم تُبْقِ بدرٌ لهم بـدرًا وفي أُحُدٍ لم يبقَ من أَحَـدٍ عند اشتقاقهم
ومن ذلك قول الشاعر:
أردى (أبا لهب) نصفُ اسمه أبدا لفِعْلِ أولِـهِ عن واضـح اللقم
وقريب من هذا الباب قول أبي نواس:
عباسُ عباسٌ إذا احتدم الوغى والفضـلُ فضلٌ والربيعُ ربيعُ
وقريب من هذا الباب قول خالد بن صفوان:« هشمتك هاشم، وأمَّتك أمية، وخَزَمَتك مخزوم »
· ومن فوائده وضع ألفاظ جديدة على قياس كلام العرب:
وهذه المسألة تجرنا إلى مسألة القياس في اللغة؛ فيكاد يُجمع أهل اللغة على أنه لا يجوز القياس فيها، وهذا إن كان الكلمُ الموضوع منسوبا للعرب، أما إن كان اصطلاحًا فلا مشاحة في الاصطلاح، لا سيما إن كان اللفظ موضوعا لشيء جديد مخترع كالهاتف والتلفاز والحاسوب ونحو ذلك، وقد نص على ذلك صاحب الفوائد الخاقانية، واعترضه القنوجي بقوله: [20]: « والحق أن اعتبار العمل زائد غير محتاج إليه، وإنما المطلوب العلم باشتقاق الموضوعات، إذ الوضع قد حصل وانقضى على أن المشتقات مرويات عن أهل اللسان ».
وكلام القنوجي صحيح لا إشكال فيه فلا يصح وضع ألفاظ جديدة مخالفة لما تكلم به العرب، وإنما مقصد المخالف ما سبق ذكره، والله أعلم.
· واضـع علم الاشتقاق:
يعدُّ ابنُ دريد أولَ من أفرده بتصنيف يشتمل على كثير من أصوله في كتابه (الاشتقاق)، مع أن كثيرا من كلامه مأخوذ من الخليل بن أحمد، إلا أن الخليل لم يفرده بتصنيف.
وأما ابن فارس فهو باري قوس هذا العلم بكتابه (مقاييس اللغة).
وهناك بعض المحاولات والمنثورات قبلهما خاصة من قِبَل الخليل بن أحمد.
· ويحسن هنا أن نذكر بعض الكتب المصنفة في هذا العلم:
- اشتقاق الأسماء للأصمعي[21]
- الاشتقاق لأبي بكر بن دريد [22]
- الاشتقاق لأبي العباس المبرد[23]
- الاشتقاق لأبي إسحاق الزجاج [24]
- الاشتقاق لأبي بكر بن السراج[25]
- مقاييس اللغة لابن فارس [26]
- نزهة الأحداق للشوكاني [27]
- العلم الخفاق في علم الاشتقاق للقِنَّوجي [28]
- الاشتقاق لعبد الله أمين [29]
وهناك كتب أخرى لا نطيل بذكرها [30]
· ( فائدة )
القطب الأساسي في كتاب الاشتقاق لابن دريد بيانُ أن كل اسم من أسماء الأعلام عند العرب فإن له معنى عندهم، وله اشتقاق وأصل معروف، وأن هذه الأسماء لم توضع سبهللا.
أما القطب الأساسي في مقاييس اللغة لابن فارس فهو بيان أن كل الألفاظ الموجودة في مادة واحدة ترجع لأصل واحد في المعنى أو لعدد يسير من الأصول.
· ومن الكتب التي تعرضت لمباحث الاشتقاق دون إفراد بتصنيف:
- الخصائص لابن جني
- الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس
- المثل السائر لابن الأثير
- المزهر في علوم اللغة للسيوطي
- نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها للكرملي
· حكم تعلم الاشتقاق:
فرض كفاية؛ كما قرر أهل العلم أن علوم الآلة جميعا فروض كفاية.
· فضل علم الاشتقاق:
لا شك أن ما ساعد على فهم النصوص الشرعية فهو علم فاضل، ولذلك يكثر ذكره في كتب التفسير، والاستنباطات عند ذكر الخلافات الفقهية.
· ( تنبيه )
لا يقدح في علم الاشتقاق ما قال (وستنفلد) في مقدمته تحقيق اشتقاق ابن دريد: [31] « ومن المعروف أن علم الاشتقاق من نقط الضعف في تاريخ الثقافة العربية؛ لأن الاشتقاق يتطلب الاطلاع على مختلف اللغات المتقاربة حتى تفهم مكانة الكلمة لغويا وعلاقتها بغيرها، ومع ذلك لم تهتم أمةٌ اهتمامَ العرب بلغتها؛ لذلك نرى أن بعض الشرح وتفسير الأعلام لا يطمأن إليه »
لأن العلماء لم يهملوا ذلك، بل كانوا يتكلمون في الاشتقاق بافتراض أن الكلمة عربية، وكانوا يحترزون في كلامهم بذكر ألا يكون الاسم أعجميا، كما تراه كثيرا في كلام ابن دريد وغيره.
· نسبة علم الاشتقاق:
يعد من علوم اللغة العربية النقلية مع الإعمال العقلي، ويمكن عده جزءا من (فقه اللغة)، وفيه اشتراك مع (علم التصريف) في بعض المباحث من وجه، والفرق بينهما أن علم التصريف يبحث في الأوزان الظاهرة ودلالة كل وزن، أما الاشتقاق فيبحث في الدلالة الباطنة وارتباط المعاني في المادة الواحدة.
قال القنوجي: [32] « واعلم أن مدلول الجواهر بخصوصها يعرف من اللغة، وانتساب البعض إلى البعض على وجه كلي؛ إن كان في الجوهر فالاشتقاق، وإن كان في الهيئة فالصرف، فظهر الفرق بين العلوم الثلاثة، وإن الاشتقاق واسطة بينهما، ولهذا استحسنوا تقديمه على الصرف، وتأخيره عن اللغة في التعليم، ثم إنه كثيرًا ما يذكر في كتب التصريف، وقلما يدون مفردًا عنه؛ إما لقلة قواعده، أو لاشتراكهما في المبادئ، حتى إن هذا من جملة البواعث على اتحادهما، والاتحاد في التدوين لا يستلزم الاتحاد في نفس الأمر».
· استمداد علم الاشتقاق:
يمكن الاستعانة على معرفة الاشتقاق بكلام العرب وأحوالهم وإشاراتهم التي يستفاد منها القرائن التي تدل على اتفاق ألفاظ المادة في اللغة.
ومن وسائل استمداده كذلك المناسبة بين الألفاظ والمعاني في المادة ولذلك فاستنباط بعض العلماء في هذا العلم يكون قياسا أو اجتهادا وليس عن دليل ظاهر أو نقل محض.
وإن الباحث في الاشتقاق ينبغي له أن يجمع ألفاظ المادة كاملة بقدر ما يستطيع وينظر في تصرف العرب في كلامها في ألفاظ هذه المادة وكيف تستعملها في مجازها وتوسعها وأشعارها وبيانها وبلاغتها؛ لأن ذلك خيرُ معين على معرفة أصل المادة ومعناها العام.
· مسائل علم الاشتقاق:
أما مسائل هذا العلم، فمنها معرفة أصول الأسماء (أعلاما كانت أو غيرها) والكلمات والمواد العربية والبحث في الأصول المعنوية التي ترجع إليها.
قال القنوجي: [33] « مسائله: القواعد التي يعرف منها أن الأصالة والفرعية بين المفردات بأي طريق يكون، وبأي وجه يعلم، ودلائله مستنبطة من قواعد علم المخرج وتتبع ألفاظ العرب واستعمالاتها »
وإن بعض مسائل هذا العلم تجدها مذكورة باستفاضة في العلوم الأخرى فلا نطيل بذكرها؛
- كمسألة اشتقاق (الاسم)؛ فهو من السُّمُو عند البصريين ومن السِّمَة عند الكوفيين.
- وكذلك مسألة اشتقاق المصدر من الفعل عند الكوفيين، أو الفعل من المصدر عند البصريين.
- وكذلك مسألة اشتقاق اسم (الله)، ناقشها كثير من الشراح عند كلامهم على البسملة.
قال الخليل بن أحمد [34] : « وليس [الله] من الاسماء التي يجوز منها اشتقاق فعل، كما يجوز في الرحمن الرحيم ».
وقال أبو بكر بن دريد: [35]« فأما اشتقاق اسم الله عز وجل فقد أقَدَم قومٌ على تفسيره، ولا أحبُّ أن أقول فيه شيئًا »
وقال أبو بكر الصولي في أدب الكتاب:« و(الله) - تبارك اسمه - اسم خاص للمعبود جل وعلا، لا يسمى به سواه. قال الله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ( مريم 65)، قال المفسرون: لا يعلم من تسمى الله إلا الله عز وجل، ولا يعرف لهذا الاسم اشتقاق من فعل. ولا أحب ذكر ما قاله النحويون فيه لأنه تكلف لا يضر تركه »
ولكن نشير إلى بعض المسائل من أصول هذا العلم لتكون أصلا لمن أراد التوسع فيه
· ( مسألة – هل كانوا يعرفون الاشتقاق قديما؟ )
جاء في الحديث القدسي « أنا الرحمن وهي الرحم؛ شققتُ لها اسمًا من اسمي؛ فمن وصلها وصلتُه ومن قطعها قطعته » [36] ، وفي الحديث المشهور « أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها وعصية عصت الله ورسوله » ، وفي حديث آخر « إذا بعثتم رسولا فابعثوه حسن الوجه ،حسن الاسم»[37] ، وكان النبي r يغير الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة، كتغييره حَزْنًا إلى سَهْل، وغير ذلك.
وقال حسان بن ثابت: [38]
وشَـقَّ له من إِسْمِه ليُجِـلَّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ
قال ابن دريد: ذكر الأصمعيُّ أنَه إنّما سُمِّي مهلهلاً لأنَّه كان يُهلهِل الشِّعر، أي يرقِّقه ولا يُحكِمه.
· ( مسألة – لا بد للاشتقاق من حد ينتهي إليه )
قال ابن دريد: [39]« ... ولم نتعد ذلك إلى اشتقاق أسماء صنوف النَّامى من نبات الأرض؛ نَجمها وشجرها وأعشابها، ولا إلى الجماد من صخرها ومَدَرها، وحَزْنها وسهلها، لأنّا إن رُمْنا ذلك احتجنا إلى اشتقاق الأَول التي نشتقُّ منها، وهذا ما لا نهاية له »
وقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن نشأة اللغات كلها من الأصوات والأوضاع الطبيعية، وأنها بدأت على حرفين حرفين، ثم احتاجوا إلى التوسع في كلامهم فنشأ من ذلك الثلاثي والرباعي وغيره على خلاف بينهم في تفاصيل هذا المذهب [40]
· ( مسألة – هل علم الاشتقاق له حقيقة )
قد أنكر هذا العلمَ بعضُ الظاهرية، وذكر أن اشتقاق بعض الكلم من بعض دعوى بغير دليل، وأن ذلك كذب على العرب !
وهذا خلاف ما عليه أئمة اللغة والنحو قديما وحديثا حتى يكاد يكون ذلك متواترا عنهم.
وأما القصة التي وردت في كتاب العين: [41] « قلت للخليل: من أين قلت (عكش) مهمل، وقد سمت العرب بعكاشة ؟ قال: ليس على الأسماء قياس، وقلنا لأبي الدقيش: ما الدقيش ؟ قال: لا أدري، ولم أسمع له تفسيرا. قلنا: فتكنيتَ بما لا تدري؟ قال: الأسماء والكنى علامات، من شاء تسمى بما شاء، لا قياس ولا حتم »
فهذه القصة أنكرها ابن دريد [42] فقال: « واحتجوا بما ذكره الخليل بزعمهم: أنه سألَ أبا الدُّقيش: ما الدُّقيش؟ فقال: لا أدري إنما هي أسماء نسمعها ولا نعرفُ معانيهَا. وهذا غلط على الخليل، وادعاء على أبي الدقيش، وكيف يَغبَى على أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد نصر الله وجهه مثلُ هذا ؟! وقد سمع العرب سمَّت: دَقْشًا ودُقَيشا ودَنقْشا، فجاءوا به مكبَّرًا ومحقَّرًا، ومعدولاً من بنات الثلاثة إلى بنات الأربعة بالنون الزائدة. والدَّقش معروف وسنذكره في جملة الأسماء التي عَمُوا عن معرفتها »
وقريب من هذه القصة قصة شبيل مع رؤبة؛ قال ابن دريد: [43]« أخبرنا أبو حاتمٍ عن الأصمعي قال: كان يونسُ في حلقة أبي عمرو بن العلاء، فجاء شُبَيل بن عَزْرةَ الضُّبَعي فسلَّم على أبي عمرو بن العلاء، فرفعه في مجلسه وألقى له لِبْدَ بغلته، فقال شُبَيل: ألا تعجبون لرؤبتكم هذا؟ سألتهُ عن اشتقاق اسمِه فلم يدر ما هو؟ .... » إلخ
قلت: ليس في القصتين ما يستوجب الإنكار، ولا فرق بينهما، فكيف يطعن في الأولى دون الثانية؟!
وحكاية الخليل موجودة في كتاب العين، والخليل معروف بالأخذ عن أبي الدقيش، ويبعد أن تكون من زيادات الليث، وقد نقلها الأزهري في تهذيبه ولم ينتقدها مع أن عادته أن ينتقد ما لا يعرفه من كلام الليث، وكذلك نقلها ابن فارس في مقاييسه وقال: ولا يبعد أن يكون هذا صحيحا، وليس خفاءُ بعض اشتقاق الكلم على بعض العلماء بدليل على الطعن في علم الاشتقاق جملة، ولا في الجهل به جملة! فالأمر كما قال ابن فارس رحمه الله [44] بعد أن حكى لفظا شذ عن الخليل: « وقد يشِذُّ عن العالِم البابُ من الأبواب، والكلام أكثر من ذلك »
وأما وقوع الاشتقاق فقد قال ابن فارس: [45] « أجمع أهل اللغة إلا من شذ عنهم أن للغة العرب قياسًا، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض .... وعلى هذا سائر كلام العرب، علِم ذلك من علم وجهِله من جهل ... وليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبُطلانَ حقائقها »
وقال ابن فارس أيضا: [46] « إن للغة العرب مقاييسَ صحيحة، وأصولا تتفرع منها فروع، وقد ألف الناس في جوامع اللغة ما ألفوا، ولم يعربوا في شيء من ذلك عن مقياس من تلك المقاييس، ولا أصل من الأصول، والذي أومأنا إليه باب من العلم جليل، وله خطر عظيم ».
وقال ابن دحية في التنوير: [47]« الاشتقاق من أغرب كلام العرب وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله r »، ثم ذكر حديث الرحم.
· ( تنبيـه )
قد يُستشكَلُ - مع ما تقدم من تقرير ثبوت المقاييس في اللغة - اتفاقُ أكثر أهل اللغة والنحو على أن اللغة لا تثبت قياسا، وهذا منصوص عليه عندهم، ويشبه الإجماع عندهم.
وهذا لا إشكال فيه إن شاء الله تعالى؛ لأن المقصود مما تقدم بالقياس إظهار العلاقة بين الألفاظ الثابتة عن العرب، وضم النظير إلى نظيره، وأما منعُ القياس في اللغة فالمقصود به إنشاء كلمات أو إطلاقات جديدة لم ترد سماعا عن العرب، ومثال ذلك أننا نعرف بدلالة الاشتقاق أن القارورة سميت بذلك لأن الماء يستقر فيها، ومع ذلك لا يصح أن نسمي البيت قارورة لأن الناس يستقرون فيه.
· وهذه مناظرة جرت بين (أبي إسحاق الزجاج) و(يحيى بن علي المنجم) في الاشتقاق: [48]
المنجم: من أي شيء اشتق الجرجير؟
الزجاج: لأن الريح تجرجره
المنجم: وما معنى تجرجره؟
الزجاج: تجرره ومن هذا قيل للحبل الجَرير؛ لأنه يجر على الأرض
المنجم: والجرة لم سميت جرة
الزجاج: لأنها تجر على الأرض
المنجم: لو جرت على الأرض لانكسرت!! والمجرة لم سميت مجرة
الزجاج : لأن الله جرها في السماء جرا
المنجم : فالجرجور الذي هو اسم المائة من الإبل لم سميت به؟
الزجاج: لأنها تجر بالأزِمَّة وتقاد
المنجم: فالفصيل المجر الذي شق طرف لسانه لئلا يرضع أمه، ما قولك فيه
الزجاج: لأنهم جروا لسانه حتى قطعوه
المنجم: فإن جروا أذنه فقطعوها تسميه مجرا
الزجاج: لا يجوز ذلك
المنجم: قد نقضت العلة التي أتيت بها على نفسك ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حس له.
قلت: هذا الكلام لا يلزم الزجاج ولا نقض فيه؛ لأنه إنما اعتل لكلام العرب، وأظهر ما ترجح لديه من أسباب الاشتقاق، ولم يزعم أنه بذلك يجوز اشتقاق ألفاظ جديدة بناء على العلة؛ لأنها ليست علة بالمعنى الأصولي، بل قد تكون حكمة، وقد تكون جزءَ علة، وقد تكون معارضة في ألفاظ أخرى بعلل أخرى أقوى منها، فالخلاصة أن كلام المنجم لا يلزم أهل العلم ولم يدعِ الزجاج أصلا ذلك كما يتضح من آخر كلامه، والله تعالى أعلم.
ولهذا تجد ابن فارس في مقاييسه كثيرا ما يقول: (ولا أدري مم اشتقاقه) [49]
أو يقول: (هذا مما وضع وضعا ولم أعرف له اشتقاقا) [50]
ويقول أيضا: [51] « والأصل في هذه الأبواب أنَّ كلَّ ما لم يصحَّ وجهُه من الاشتقاق الذي نذكره فمنظورٌ فيه، إلاّ ما رواه الأكابر الثقات ».
وقال في فقه اللغة: [52]« وهذا مبني أيضا على ما تقدم من أن اللغة توقيف فإن الذي وقفنا على أن الاجتنان الستر هو الذي وقفنا على أن الجن مشتق منه وليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها .. ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسا نقيسه الآن نحن ».
· ( مسألة – كيف يعرف الاشتقاق ؟ )
الأصول في الاشتقاق تعرف بالنظر والتأمل مع سعة العلم والاطلاع على كلام العرب، ومع ذلك فقد يتردد البصير بكلام العرب بين أصلين أو أكثر في رد الكلام إليه، كما يقول ابن دريد كثيرا في الاشتقاق: (واشتقاق كذا من أحد شيئين) أو (اشتقاق كذا من أشياء)
وإذا اختلف العلماء في الاشتقاق فيمكن رد أحد الأقوال في إرجاع المادة إلى أصل واحد بذكر فرد لا يندرج تحت هذا الأصل.
أو رد قوله في ذكر الأصل ببيان وجه المناسبة مع أصل آخر أقوى، أو ببيان ضعف المناسبة المذكورة بالنسبة لغيرها.
وهذا كلام نفيس للإمام الجليل (الخليل بن أحمد) عن علل النحو، ولكنه ينطبق أيضا على علم الاشتقاق؛ ذكره أبو القاسم الزجاجي في (إيضاح علل النحو) قال:
« ... وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد رحمه الله سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتَها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال:
إنَّ العربَ نطقت على سجيتها وطباعها، وعرَفتْ مواقعَ كلامها، وقام في عقولِها عِلَلُه، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللتُ أنا بما عندي أنَّهُ عِلةٌ لما عللته منه، فإن أكن أصبتُ العلةَ فهو الذي التمستُ، وإن تكن هناك علةٌ غيرُ ما ذكرتُ فالذي ذكرتُه محتمل أن يكون علة، ومَثَلِي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا محكمةَ البناءِ عجيبةَ النظمِ والأقسام، وقد صحت عنده حكمةُ بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقفَ هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلةِ كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، لِعِلَّةٍ سنحت له وخطرت بباله محتملة أن تكون علة لتلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنحَتْ لغيري علةٌ لما علَّلْتُه من النحو هي أليقُ مما ذكرتُه بالمعلول فليأتِ بها ».
قال الزجاجي معلقا:« وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه »
أنـواع الاشـتـقاق
· ( النوع الأول: الاشتقاق الصغير أو الأصغر ) [53]
وذلك في تركيبات المادة الواحدة، قال ابن الأثير: [54]
« فالصغير: أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، كترتيب (س ل م)، فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه، نحو (سلم) و(سالم) و(سلمان) و(سلمى)، والسليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة »
وقال أيضا: [55]« الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه »
وقد صنف فيه ابن السراج، وقال ابن جني عنه إنه: «لم يأل فيه نصحا وإحكاما وصنعة وتأنيسا»[56]
قال القنوجي: [57]« والمراد من الاشتقاق الواقع في قولهم هذا اللفظ مشتق من ذلك اللفظ هو الاشتقاق الأصغر غالبًا »
· ( النوع الثاني: الاشتقاق الكبير ) [58]
وبعضهم يسميه الاشتقاق الأوسط [59] وبعضهم يسميه الاشتقاق الصغير ويجعل السابق أصغر.
وبعضهم يسميه الاشتقاق الأكبر ويجعل السابق صغيرا، وهذا عند من يجعل القسمة ثنائية.
ويكون هذا بتقليب حروف المادة، بالتقديم والتأخير حتى ينتظم جميعَ المواد المحتملة من ذلك معنًى واحد يضم شتاتها، قال ابن الأثير: [60]
« وأما الاشتقاق الكبير فهو: أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل إليها »
وقال أيضا: [61] « والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا »
وهذا النوع لم يشتهر في علم الاشتقاق إلا بعد كلام ابن جني في الخصائص؛
قال في شرح التسهيل: [62]
« وهذا مما ابتدعه الإمامُ أبو الفتح ابن جني وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به يسيرًا، وليس معتمدًا في اللغة ولا يصح أن يستنبط به اشتقاقٌ في لغة العرب، وإنما جعله أبو الفتح بيانا لقوة ساعده وردِّه المختلفات إلى قدر مشترك، مع اعترافه وعلمه بأنه ليس هو موضوع تلك الصيغ »
وقد أشار إليه ابن دريد إشارة فقال: [63]
« وجَدنٌ: موضع، واشتقاقُه فيما أرى مقلوبٌ من قولهم: أرضٌ جَنَدٌ، وأرض جَدَن، وهي الغليظة المتراكِبة »
وقال: [64]
« وحِدْرِجان: فِعْلِلان وهو من الحدرجة والحدرجة والجحدرة واحد، والشيء المجحدر والمحدرج واحد، والحدرجة مشي متقارب الخطو »
والقلب أخص من إرجاع جميع تقاليب المادة لأصل واحد كما لا يخفى.
وكثيرا ما تجد أهل العلم يتطرقون بتوسع شديد لمسائل من هذا الاشتقاق في غير مظنتها، وهذه مُثُلٌ من ذلك:
- ( ع ر ب ) ذكر الوزير المغربي في أوائل (أدب الخواص) فيها ثلاثة عشر قولا!
- ( ق و ل ) في مقدمة الخصائص لابن جني
- ( ح ر ف ) في مقدمة سر الصناعة لابن جني
- ( ع ج م ) في مقدمة سر الصناعة أيضا
- ( و س ق ) في المثل السائر
- ( ق م ر ) في المثل السائر
قال ابن الأثير: [65] « واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق؛ لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمالُ تركيب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها »
وقال أيضا: [66]« واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة، بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها؛ لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد، وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه »
وقال في شرح التسهيل: [67]«ولا ينكر مع ذلك أن يكون بين التراكيب المتحدة في المادة معنى مشترك بينها، هو جنس لأنواع موضوعاتها. ولكن التحيل على ذلك في جميع مواد التراكيب كطلب لعنقاء مغرب، ولم تحمل الأوضاع البشرية إلا على فهوم قريبة غير غامضة على البديهة، فلذلك إن الاشتقاقات البعيدة جدا لا يقبلها المحققون »
وينظر ما ذكره الفخر الرازي عن الاشتقاق الكبير في مقدمة تفسيره [68]
· ( النوع الثالث: الاشتقاق الأكبر ) [69]
وبعضهم يسميه الاشتقاق الكُبَار (بتخفيف الباء)، وذلك بتغير يحصل في بعض حروف الكلمة التي تكون عادة متقاربة المخارج؛ قال في المراقي:
والْجَبْذُ والْجَذْبُ كبير ويَرى للأكبر الثَّلْمَ وثَلْبًا من دَرَى
قال الشوكاني في نزهة الأحداق: [70]« هذا القسم هو الذي يحتاج إلى فضل فكر وقوة واطلاع ».
قال ابن جني: [71]« ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد يُعلم بعدُها، ولا يُحاط بقاصيها، ازدحامُ الدال، والتاء، والطاء، والراء، واللام، والنون، إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما.
من ذلك الدالف للشيخ الضعيف، والشيء التالف، والطليف والظليف المجان وليست له عصمة الثمين، والطنف، لما أشرف خارجا عن البناء وهو إلى الضعف؛ لأنه ليست له قوة ... والدنف: المريض، ومنه التنوفة وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك؛ ألا تراهم يقولون لها: مهلكة، وكذلك قالوا لها: بيداء، فهي فعلاء من باد يبيد. ومنه الترفة، لأنها إلى اللين والضعف، وعليه قالوا: الطرف؛ لأن طرف الشيء أضعف من قبله وأوسطه .... ومنه الفرد لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو .... والفارط المتقدم، وإذا تقدم انفرد، وإذا انفرد أعرض للهلاك .... ومنه الفرات لأنه الماء العذب، وإذا عذب الشيء ميل عليه ونيل منه ... ومنه الفتور للضعف، والرفت للكسر، والرديف، لأنه ليس له تمكن الأول، ومنه الطفل للصبي لضعفه، والطفل للرخص، وهو ضد الشثن، والتفل للريح المكوهة، فهي منبوذة مطروحة .... وقالوا للدنيا أم دفر سب لها وتوضيع منها، ومنه الفلتة لضعفة الرأي، وفتل المغزل، لأنه تثن واستدارة، وذاك إلى وهي وضعفة، والفطر: الشق، وهو إلى الوهن »
وقد أفرده ابن جني بالحديث في باب ( في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني ) [72]
وقال ابن فارس: [73] « إنّ لله تعالى في كلِّ شيءٍ سِرًّا ولطيفةً؛ وقد تأمّلْت في هذا الباب [أي دمن] من أوّله إلى آخره؛ فلا تَرَى الدّالَ مؤتلفةً مع اللام بحرفٍ ثالث إلا وهي تدلُّ على حركةٍ ومجيءٍ، وذَهابٍ وزَوَالٍ من مكانٍ إلى مكان، والله أعلم ».
· ( مثال على الاشتقاق الأكبر: العين والميم مع ما يثلثهما )
قال الصفدي في نكت الهميان: « قد تتبعت أفراد وضع اللغة العربية، فرأيت العين المهملة والميم، كيفما وقعتا في الغالب وبعدهما حرف من حروف المعجم لا يدّل المجموع إلا على ما فيه معنى الستر أو ذهاب الصواب على الرأي ».
ثم شرح ذلك مفصلا على تراجم المواد المختلفة، وأشكل عليه بعض المواد التي تدل على طول، فقال: « ... ولا بدّ للفرس إذا طال، أن يكون فيه بعض التواء، وذهاب على غير استواء. وكذلك الطريق إذا طالت ».
وقال ابن فارس:(ع م ت): « العين والميم والتاء أصل صحيح يدلُّ على التباسِ الشيء والتوائه »
(ع م ج): « العين والميم والجيم أصلٌ صحيح يدلُّ على التواءٍ واعوجاج »
(ع م د): « العين والميم والدال ... ترجع إلى ... الاستقامة في الشيء، منتصبا أو ممتدا »
(ع م ر): « العين والميم والراء أصلان صحيحان، أحدهما يدلُّ على بقاءٍ وامتداد زمان، والآخر على شيءٍ يعلو »
(ع م س): « العين والميم والسين أصلٌ صحيح يدلُّ على شدّة في اشتباهٍ والتواءٍ في الأمر »
(ع م ش): « العين والميم والشين كلمتانِ صحيحتان، متباينتان جدًّا. فالأولى ضعفٌ في البصر، والأخرى صلاحٌ للجسم »
(ع م ي): « العين والميم والحرف المعتل أصلٌ واحد يدلُّ على سَترٍ وتغطية »
(ع م ه): « العين والميم والهاء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على حَيرة وقِلّة اهتداء »
ومما ذكره الصفدي:
(ع م ق): « العمق بفتح العين وضمها قعر البئر والفج والوادي. قيل فيه ذلك لما استتر عن العين»
(ع م ل): « اعتمل الرجل إذا اضطرب في العمل ... قيل فيه ذلك لأن الاضطراب حركة على غير استواء »
(ع م م): « عمم العمامة ما يوضع على الرأس، وهي تستره. واعتم النبت إذا اكتهل أي ستر الأرض »
قال ابن جني: [74]« فهذه الطرائق التي نحن فيها حَزْنة المذاهب، والتورُّد لها وَعْر المسلك، ولا يجب مع هذا أن تُستنكر، ولا تُستبعد، فقد كان أبو علي رحمه الله يراها ويأخذ بها ..... وشاهدته غير مرة، إذا أشكل عليه الحرف: الفاء، أو العين، أو اللام، استعان على علمه ومعرفته بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه. فهذا أغرب مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق ....... على أن هذا وإن لم يطرد وينقد في كل أصل، فالعُذْر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد، من غير تقليب لشيء من حروفه، فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه، ولامه، أسهل، والمعذرة فيه أوضح. وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته، وتركت الضجر وتحاميته، لم تكد تعدم قرب بعض من بعض، وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله »
· ( النوع الرابع: الاشتقاق الكُبَّار – النحت )
من أول من أشار إليه ابن دريد، فقال: [75]
« وعبدلٌ: اللام فيه زائدة، كأنَّه اسمٌ مشتقٌّ من اسمَين، كأنَّه من (عبد الله) فقال عَبدَل »
وأشار إليه ابن فارس أيضا فقال: [76]
« فبعضُه مشتقٌّ ظاهر الاشتقاق، وبعضُه منحوت بادي النَّحْت، وبعضه موضوعٌ وضعًا على عادة العربِ في مِثْله »
وأول من سماه بهذا الاسم عبد الله أمين في كتابه (الاشتقاق)، والله أعلم.
أمثلة من فروع مسائل الاشتقاق
· ( اشتقاق قرآن )
وفيه خمسة أقوال: الأول - أنه مشتق من (قرأ) بمعنى تلا، ويكون على هذا مصدرا بمعنى القراءة.
الثاني - أنه مشتق من القَرْء بمعنى الجمع؛ تقول: قرأت الماء في الحوض أي جمعته؛ لجمعه الآيات والسور في كتاب واحد.
الثالث - أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه؛ لقِران الآيات والسور فيه.
الرابع - أنه مشتق من القرائن؛ لأن الآيات والقصص يشبه بعضها بعضا، فهي أشباه ونظائر.
الخامس - أنه اسم علم غير مشتق من شيء كالتوراة والإنجيل.
والقول الأول قول أكثر العلماء، والقول الثاني قول الزجاج
والقول الثالث قول الأشعري، والقول الرابع قول الفراء. والقول الخامس قول الشافعي
والأرجح هو القول الأول؛ لأن قراءة التسهيل يمكن ردها إلى قراءة الهمز بخلاف العكس، والله أعلم.
· ( اشتقاق عرفات )
ذكر أبو تراب الظاهري [77] أن « اشتقاق كلمة عرفات مختلف فيها على أربعة أقوال:
الأول: أنه مشتق من الاعتراف ....
الثاني: أنه مشتق من العُرف - بضم العين - بمعنى الصبر وهو صبر الحجاج على مشاق الوصول إليه.
الثالث: أنه مشتق من العَرف - بفتح العين - وهو الرائحة الطيبة، وتوجيهه أن الحجاج يتطهرون من الذنوب ويكتسبون رائحة طيبة. الرابع: مشتق من المعرفة ..... »
· ( اشتقاق ختامه مسك )
قال ابن جزي: [78] « وفي معناه ثلاثة أقوال:
أحدها أنه من الختم على الشئ بمعنى جعل الطابع عليه فالمعنى أنه ختم على فم الإناء الذي هو فيه بالمسك كما يختم على أفواه آنية الدنيا بالطين إذا قصد حفظها وصيانتها.
الثاني أنه من ختم الشئ أي تمامه فمعناه خاتم شربه مسك أي يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك ولذته.
الثالث أن معناه مزاجه مسك أي يمزج الشراب بالمسك وهذا خارج عن اشتقاق اللفظ »
· ( مسألة - قد يكون الاشتقاق من شيء ممات أو بعد العهد به )
قال الخليل: [79] « والقيعون من العشب: ....... يقال: اشتقاقه من القعن كاشتقاق القيصوم من القصم.
ونحو هذه الأشياء اشتقت من الأسماء ، وأميتت أصولها، ولكن يعرف ذلك في تقدير الفعل »
وقال ابن دريد: [80]« واشتقاق قُنفُذ من فعلٍ ممات ....... والقَفْذ: كلامٌ قديم متروك، وأصله زعموا التفبُّض والتجمُّع. قَفِذَ يَقْفَذ قَفَذًا، وتقفذا، إذا اجتمع ودخلَ بعضُه في بعض »
وقال ابن دريد: [81]« وحُنجود إن كانت النون والواو زائدتين فهو من الحَجْد، والحجْد ليس من كلامهم ......... وليست حُنجود إذا حُذِفت الزوائدُ له أصلٌ في كلامهم، فرجعنا فيه إلى ما يرجعون إليه من أسمائهم المشتقة من الأفعال التي أميتت.
وسألت أبا عثمان الأُشنانْدانيَّ عنه فقال: لا أدري ممَّا اشتُقّ »
وقال ابن دريد: [82]« نسب حمير .... وهذه أسماءٌ قد أُمِيتت الأفعال التي اشتُقّت منها. وزعم بعض أهل اللُّغة أنَّه سمِّي حِمْيرَ لأنَّه كان يلبس حُلّة حُميراء. وهذا لا أدري ما هو »
وقال ابن دريد: [83]« قبائل ذي الكَلاع مما أمكن تفسيرُه من العربية. وقد عرَّفْتُك آنفًا أنّ هذه الأسماء الحِميريّةَ لا تقف لها على اشتقاق، لأنَّها لغة قد بَعُدَت وقَدُمَ العهد بمن كان يعرفها »
وقال ابن جني: [84] « ... وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا، ألا ترى إلى قول سيبويه: "أو لعل الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر" ، يعني أن يكون الأول الحاضر شاهد الحال، فعرف السبب الذي له ومن أجله ما وقعت عليه التسمية، والآخر - لبعده عن الحال - لم يعرف السبب للتسمية، ألا ترى إلى قولهم للإنسان إذا رفع صوته: (قد رفع عقيرته)، فلو ذهبت تشتق هذا، بأن تجمع بين معنى الصوت، وبين معنى (ع ق ر) لبعد عنك وتعسفت. وأصله أن رجلاً قطعت إحدى رجليه، فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم صرخ بأرفع صوته، فقال الناس: رفع عقيرته. وهذا مما ألزمه أبو بكر [بن السراج] أبا إسحاق [الزجاج] فقبله منه، ولم يردده »
وقال أيضا: [85] « ولهذا الموضع نفسه ما توقف أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق، واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها، ولم ندر ما حديثها، ومثل له بقولهم " رفع عقيرته " إذا رفع صوته. قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم " ع ق ر " من معنى الصوت لبعد الأمر جدًّا، وإنما هو أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته، فقال الناس: رفع عقيرته، أي رجله المعقورة. قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق: لست أدفع هذا. ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر، يعني ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل.
...... فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا، وكأنه حاضر معنا، مناج لنا »
· ( مسألة - هل الأصل المعنوي أسبق أو الأصل المادي؟ )
اختلف علماؤنا في اشتقاق الأصول المعنوية والمادية، ويسمون ذلك الجواهر والمصادر أو نحو ذلك، والأقرب للنظر العقلي أن الأصل المادي أسبق؛ لأن الوجود الخارجي أسبق من الوجود الذهني كما هو معروف.
قال د. صبحي الصالح : [86] « إلا أننا نرجح دائما أن الحسي أسبق في الوجود من المعنوي المجرد وهذا ما يجعلنا ننتصر للرأي القائل بأن أصل المشتقات هي الأسماء لا الأفعال ولا سيما أسماء الأعيان »
ولكن ظاهر كلام ابن دريد عكس ذلك فقد بنى كتابه كله على اشتقاق أسماء الأعلام من أصول معنوية، بل في أسماء الأجناس كذلك فقد قال: [87] « يقال: تنَّمر فلانٌ لفلانٍ، إذا أظهرَ تهدُّدًا؛ وأصلُه من شراسة الخُلق، وبه سمِّي النَّمِر السَّبُع المعروف »
وعكَسَ في اشتقاق المنافق فقال: [88]« والنَّفَق: السَّرَب في الأرض. ونافِقاء اليربوع من هذا، وهو سَرَبه الذي يدْخُل فيه. والمنافق من هذا اشتقاقه، لأنّه يدخل في الكفر وهو يظهر غيره »
وقال أيضا: [89]« وكلُّ شيء ضيَّقتَ عليه فقد أسرتَه. ومنه إسار القَتَب والمِحْمَل، وهو أن يُشَدَّ بالقِدّ. ومنه اشتقاق الأسير »
فجعل الإسار – وهو مادي – مشتقا من الأسْر – وهو معنوي، ثم جعل الأسير – وهو معنوي – مشتقا من الإسار – وهو مادي.
والخليل بن أحمد أيضا يدل كلامه على سبق الجواهر للمصادر كما قال: [90]
« الوعث من الرمل: ما غابت فيه القوائم، ومنه اشتق وعثاء السفر، يعني: المشقة »
وقال: [91] « يقال: تهزع فلان لفلان، واشتقاقه من هزيع الليل، وتلك ساعة وحشة »
ولكنه عكس في بعض المواضع كما قال: [92] « والخروف ..... واشتقاقه أنه يخرف من هنا وهنا وبه سمي الخريف، لأنه يخرف فيه كل شئ أي يؤخذ ويجتني في حينه »
وقال [93] « والسليقة: مخرج النسع في دف البعير، واشتقاقه من: سلقت الشئ بالماء الحار »
وقال [94] « والأكتل: من أسماء الشديدة من شدائد الدهر، اشتق من الكتال، وهو سوء العيش وضيقه »
فالذي يظهر – والله أعلم – أنهم يذهبون مذهب الأكثرين في الاشتقاق وهو أن المقصود رد أحد اللفظين إلى الآخر في المعنى لا على أن أحدهما سابق على الآخر في الزمان.
ويدل على ذلك أيضا ما قاله الحليمي: « فأصل قوله : أنا الرحمن وهي الرحم ، شققت لها اسما من اسمي : أن (الرحمن) و(الرحم) اسمان مشتقان من الرحمة »
وقال ابن القيم أيضا: [95] « لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله ......... فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمن بالكسر مشتقا والمتضمن بالفتح مشتقا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى »
ومما يؤيد ذلك أن في الحديث القدسي المشهور « قال الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي »، ومع ذلك تجد أهل العلم أحيانا يقولون: الرحمن مشتق من الرحمة!
وقال الزمخشري: « معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنًى واحدٌ ».
وبهذا تفهم أن الزمخشري لا يقصد السبق في مثل قوله: [96]
« واشتقاق الإقلال من القلة لأن الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلاً »
ومثل قوله: [97] « واشتقاق البرج من التبرج لظهوره »
لِمَا بين القولين من التناقض، فمقصوده انتظام المعنى الواحد لهما، كما هو صريح كلامه السابق.
وبهذا الجمع ينحل لك كثير من الإشكالات التي تجدها في كلام أهل العلم بأن كذا مشتق من كذا، فلا يلزم من ذلك أنهم يعنون سبق أحد اللفظين على الآخر، بل المراد أنه ينتظمهما معنى واحد كما أشار الزمخشري.
ولذلك تجد أهل العلم أحيانا يشيرون إلى أن اللفظ الحسي مشتق من المعنى العقلي، وأحيانا يشيرون إلى أن المعنى العقلي مشتق من اللفظ الحسي، ويشعر القارئ بدأة ذي بَدِيءٍ أن هذا من التناقض والتعارض.
- كما ذكروا مثلا أن اشتقاق آدم من أديم
للشيخ أبي مالك العوضي
الحمد لله الذي خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛
فإن هذه الشريعة المباركة عربية كما قرر الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله [1] ، وهذه الكلمة الجامعة من الشاطبي فيها فوائد وفرائد؛
فمنها أن فهم الشريعة لا يتم إلا بالغوص في بحر هذه اللغة واستخراج ما به من دُرّ وجوهر.
ومنها أن هذه نعمة عظيمة من رب العباد علينا {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف/2)
ومنها أن أكثر من ضل فإنما ضل لتنكبه طريق الفهم العربي الصَّحَاح على نهج العرب الأقحاح.
ومنها أن هذه اللغة أشرف اللغات؛ لأن الله اختارها لكتابه الذي هو أشرف الكتب، واختارها لدينه المرتضى، ولا يختار لدينه إلا الخيار.
ثم إن أهل العلم لم يألوا جهدا في البيان والتبصير، والتقريب والتحرير، والتبيين والتقرير، وجاءوا في بسط العلوم وشرحها بما يذهل العقول، وغفل عن ذلك أناس فظنوا أن كثيرا من ذلك إنما هو تضييع للأعمار فيما لا يفيد، وقد فطَن لقولهم - من قبل أن يقولوه - إمامُ الصنعة الخليل بن أحمد فقال: « لا يصل أحدٌ من علم النحو إلى ما يحتاجُ إليه، حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه » [2] ! وهذا أمر صحيح جدا في كل العلوم لو تأملته، فتأمل !
· تـمـهـيـد:
(علم الاشتقاق) من العلوم التي تكاد تكون مهجورة في هذا الزمان، فلا نكاد نسمع عن طالب يدرُسُه، ولا نكاد نرى شيخا يُدَرِّسُه، ولا يوجد له إلا القليل من الكتب ما يؤسِّسُه.
مع أنك كثيرا ما تسمع المشايخ في الدروس والمحاضرات يقولون: إن علوم العربية اثنا عشر علما، جمعها الناظم في قوله:
نحوٌ وصرفٌ عروضٌ ثم قافيةٌ وبعـدها لغـةٌ قرض وإنشاءُ
خط بيـانٌ معانٍ معْ محاضرة و(الاشتقاقُ) لها الآداب أسماءُ
ونظمها آخر فقال:
خُذْ نَظْمَ آدابٍ تَضَوَّعَ نَشْرُها فطوى شذا المنثور حين تَضُوعُ
لُغَةٌ وصَرْفٌ و(اشتقاقٌ) نَحْوُها عِلْمُ الْمَعَـانِي بِالْبَيَـانِ بَدِيعُ
وعَرُوضُ قَـافِيَةٌ وإِنْشَا نَظْمُها وكتـابةُ التـاريخِ ليسَ يَضِيعُ
وكثير من إخواننا لا يدرسون من هذه العلوم إلا النحو، ومن زاد فإنه يزيد الصرف، ومن تعمق فإنه يضيف إليها علوم البلاغة، والقليل من يدرس الباقي.
· المبادئ العشرة للعلوم
قال أبو العباس الْمَقَّرِي:
مـن رامَ فنـا فليـقـدِّمْ أولا...علـما بحَـدٍّ ثم مَوْضُـوعٍ تـلا
وواضـع ونسـبةٍ وما استـمد... منـه وفَضْـلِه وحُـكْم يُعتَـمدْ
واسـمٍ ومـا أفـاد والمسـائل... فتـلك عَشْـرٌ للمُـنى وسـائلْ
وبعضُهم منها على البعضِ اقتصرْ...ومن يكن يَـدري جميعَها انتـصرْ
وهذه هي المبادئ العشرة التي درج المتأخرون على تقديمها بين يدي دراسة العلوم، وقد كنتُ كتبتُ مبحثا في أن (كون هذه الأمور العشرة مبادئ لدراسة العلوم فيه نظر)، وخاصة عند المبتدئين، وذلك لأمور كثيرة لا مجال لذكرها الآن.
وهي وجهة نظر قد أكون مخطئا فيها.
ومع ذلك فلا يسعني أن أتخلف عن ركب أئمتنا المتأخرين الذين هذبوا وقسموا ورتبوا؛ فصار كل نظير بجنب نظيره، وكل إلف مضموما إلى مؤالفه، فقعدوا القواعد وأصلوا الأصول، وليس لي في هذا المبحث إلا النقل والترتيب، فعلى ذلك أقول:
· اسـم هذا العلم:
(الاشتقاق) أو (مقاييس اللغة)، والأول هو المشهور في كتب المصنفين، ولكن الثاني أقرب إلى المراد، وبذلك سمى ابن فارس معجمه المشهور.
· حد علم الاشتقاق ( أو تعريفه ):
علم بدلالات كلام العرب التي يعرف بها الأصل الذي ترجع إليه الألفاظ.
وقال القنوجي: [3]: « هو علم باحث عن كيفية خروج الكلم بعضها عن بعض، بسبب مناسبة بين المخرج والمخارج بالأصالة والفرعية بين الكلم، لكن لا بحسب الجوهرية، بل بحسب الهيئة »
وقال عبد الله أمين: [4]: « الاشتقاق أخذ كلمة من كلمة أو أكثر مع تناسب بين المأخوذ والمأخوذ منه في اللفظ والمعنى جميعا »
وبرغم شهرة كتاب (عبد الله أمين) في هذا العلم إلا أني لاحظتُ أنه أدخل كثيرا من المباحث الصرفية والنحوية في كتابه، والمراد هنا تحرير المسائل الخاصة بهذا العلم فقط فلذلك تحاشيت مثل هذه المسائل.
وهذا التداخل قديم، فقد قال القنوجي: [5] « ثم إن السيد والسعد تنازعا في الاشتقاق هل هو مستقل كما يقوله السيد، أو من تتمة علم الصرف كما يقوله السعد »
ويلاحظ كذلك أن علم الاشتقاق له تعلق بعلم الأصوات أو التجويد أو المخارج [6] لأن تقارب المخرج مظنة الإبدال وهو ما يدخل في أحد أنواع الاشتقاق وهو الاشتقاق الكبير فإذا كان المعنى متقاربا فهو من علم الاشتقاق وإن كان المعنى متحدا فهو من علم اللغة وهو مبحث الإبدال وفيه مصنفات مشهورة لابن السكيت وأبي تراب وغيرهما.
· موضوع علم الاشتقاق:
معرفة دلالات الألفاظ وارتباطها ببعض، وذلك بالرجوع إلى أصول معانيها المستنبطة من قياس دلالات الألفاظ المتماثلة المادة [7]
· ثمـرة علم الاشتقاق:
التعمق في فهم كلام العرب، ومن ثَمَّ في فهم كلام الشارع، ولذلك كثيرا ما تجد المفسرين يشيرون إشارات عابرة إلى أمثلة من هذا العلم، وكثير من المصنفين في العلوم يشيرون أيضا إليه إشارات عابرة عند شرح بعض الاصطلاحات وبيان وجه الاشتقاق فيها.
فغايته كما ذكر القنوجي[8] « الاحتراز عن الخلل في الانتساب الذي يوجب الخلل في ألفاظ العرب» ، والغرض منه كما قال القنوجي أيضا: [9] « تحصيل ملكة يعرف بها الانتساب على وجه الصواب»
ومما يناسب ثمرتَه أن يُذكر شيء من فوائد هذا العلم
· فمن فوائده الأمن من خطأ الاستنباط في الشرع:
قال ابن الأزرق: [10] « المثال الأول [يعني من الأخطاء الواقعة بسبب الجهل باللغة] ما يروى عن النَّظَّام أنه كان يقول: (إذا آلى المرء بغير اسم الله تعالى لم يكن موليا، قال: لأن الإيلاء مشتق من اسم الله)، وليس كذلك لأن الإيلاء من الألية وهي اليمين يقال: آلى الرجل يولي إيلاء أي حلف وأقسم ».
قلت: وقد يكون الاشتقاق سببا في الخطأ في الاستنباط، كما ذهب أبو عمرو بن العلاء إلى أن دية الجنين لا بد أن يكون أبيض عبدا كان أو أمة! لأن النبي سماه غرة، والغرة مشتقة من البياض، ولولا أن ذلك مقصود للشارع لما سماه غرة ! [11]
قال ابن خلكان: « وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قولُ أحد من الأئمة المجتهدين أم لا » [12]
· ومن فوائده معرفة الفروق اللغوية والدلالات الدقيقة للألفاظ:
قال ابن جني: [13] « فإن قيل: ولم وضع الكلام على ما كان مستقلاً بنفسه البتة، والقول على ما قد يستقل بنفسه، وقد يحتاج إلى غيره؟ أَلاِشتقاقٍ قضى بذلك؟ أم لغيره من سماعٍ مُتلقًّى بالقبول والاتباع؟ قيل: لا، بل لاشتقاق قضى بذلك دون مجرد السماع .... »
قال الرازي: [14] « إن أكمل الطرق في تعرُّف مدلولات الألفاظ طريقةُ الاشتقاق »
· ومن فوائده معرفة ما يستحسن من الأسماء وما يستقبح:
لأن الإنسان له من اسمه نصيب، كما في الحديث (إذا بعثتم رسولا فابعثوه حسن الوجه، حسن الاسم)؛ فإذا عرف اشتقاق الاسم اجتُنِب إن كان سيئا، واستُعمِل إن كان حسنا.
قال ابن دريد: [15] « واعلم أن للعرب مذاهبَ في تسمية أبنائها، فمنها ما سمَّوه تفاؤلاً على أعدائهم؛ نحو: غالب، وغَلاّب ..... ومنها ما تفاءلوا به للأبناء؛ نحو: نائل، ووائل، وناجٍ، ومُدرِك .... ومنها ما سمِّي بالسِّباع ترهيبًا لأعدائهم؛ نحو: أسد، وليث، وفراس، وذئب ...... ومنها ما سمِّي بما غلُظ وخشُن من الشجر تفاؤلاً أيضًا؛ نحو: طلحة، وسَمُرة، وسلمة، وقتادة ...... ومنها ما سمي بما غُلظ من الأرض وخشُن لمسُه وموطِئُه؛ مثل حَجَر وحُجَير، وصَخْر، وفِهر ..... ومنها أن الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمِّي ابنه بأوَّل ما يلقاه من ذلك؛ نحو: ثعلب وثعلبة، وضب وضبة، وخُزَز، وضُبَيعة، وكلبٍ وكليب، وحمار وقرد وخنزير، وجحش، وكذلك أيضًا تُسمِّى بأول ما يَسنَح أو يبرح لها من الطَّير نحو: غُرابٍ وصُرَد، وما أشبَهَ ذلك »
· ومن فوائده الثقة بالألفاظ واليقين بصحتها:
قال ابن جني: [16] « وذكر أبو بكر [بن السراج] أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها، فإذا رأى الاشتقاق قابلاً لها أنس بها وزال استيحاشه منها »
قال ابن فارس: [17] « والأصل في هذه الأبواب [يعني الرباعي المنحوت] أنَّ كلَّ ما لم يصحَّ وجهُه من الاشتقاق الذي نذكره فمنظورٌ فيه، إلاّ [ما] رواه الأكابر الثقات »
· ومن فوائده معرفة الأصلي من الزائد:
استعمل ابن سيده الاشتقاق في إثبات زيادة تاء ( ترتب)؛ لأنه من الشيء الراتب.
وحكم العلماء على زيادة نون الحنظل بالزيادة؛ لأنهم يقولون: حظلت الإبل، كما قال ابن مالك:
وامنعْ زيـادةً بلا قيـد ثبَتْ إن لم تَبَيَّن حجـةٌ كحَظِـلت
قال ابن جني: [18]« فالمذهب أن يحكم في جميع هذه النونات والتاءات وما يجري مجراها - مما هو واقع موقع الأصول مثلها - بأصليته، مع تجويزنا أن يَرِدَ دليلٌ على زيادة شيء منه؛ كما ورد في (عنسل) و(عنبس) ما قطعنا به على زيادة نونهما، وهو الاشتقاق المأخوذ من عبس) و(عسل)، وكما قطعنا على زيادة نون (قنفخر) لقولهم: (امرأة قفاخرية)، وكذلك تاء (تألب)؛ لقولهم: ألب الحمار طريدته يألبها »
· ومن فوائده ترجيح معنى على معنى في الكلام:
لأن الكلمة إذا كانت تحتمل معاني عدة، فعادةً ما يكون أسعدُها بالترجيح الأقربَ منها للاشتقاق، كما ذكر ابن تيمية في اشتقاق الشهر من الاشتهار، وكذلك ما ذهب أهل العلم من أن الخمر ما خامر العقل، وليست مقصورة على العنب.
والزمخشري يكرر كثيرًا قوله (والاشتقاقُ يشهد لذلك)، كما قال في تفسير ( أحقابا )، وكما ذكر أيضا الخطابي في تفسير صفة ( الصمد ).
· ومن فوائده معرفة الدخيل من الأصيل أو العربي من المعرب:
لأن الكلمة إن عرف اشتقاقها وصلاحية وزنها لهذا الاشتقاق دل ذلك على عربيتها.
وإن لم يُعرف لها أصل، أو كان الأصل يفيد أن وزنها لا يجري على الأوزان العربية دل ذلك على أنها من المعرب [19]
· ومن فوائده تصَرُّفُ المتكلم البليغ في مناحي الكلام:
لأن ذلك يزيد الكلام بهاءً وحلاوة، ويكسوه جمالا وطلاوة، وهو قريب من التجنيس، فينظُر في اللفظ وما يقاربه معنى، وفي الكلم وما ينتمي إليه.
ومن ذلك في كتاب الله: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ } ( الروم 43) { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } (يونس 107) { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ } ( المائدة 31 )
وفي الحديث « أَسْلَمُ سالمها الله، وغِفَار غفر الله لها، وعُصَيَّة عصت الله ورسوله » (متفق عليه من حديث أبي هريرة (البخاري 3323، ومسلم 2516) .
ومن ذلك قول أبي تمام:
وأنْجَدْتُم من بعد إتهامِ داركم فيا دمعُ أنجدني على ساكني نجدِ
فإنه لولا معرفته باشتقاق ( نجد ) ما طاوعه مثلُ هذا البيت.
ومن ذلك قول صفي الدين الحلي:
لم يلق مرحبُ منهُ مرحبًا ورأى ضدَّ اسمه عند حد الحصن والأُطُمِ
ومن ذلك قول ابن معصوم:
لم تُبْقِ بدرٌ لهم بـدرًا وفي أُحُدٍ لم يبقَ من أَحَـدٍ عند اشتقاقهم
ومن ذلك قول الشاعر:
أردى (أبا لهب) نصفُ اسمه أبدا لفِعْلِ أولِـهِ عن واضـح اللقم
وقريب من هذا الباب قول أبي نواس:
عباسُ عباسٌ إذا احتدم الوغى والفضـلُ فضلٌ والربيعُ ربيعُ
وقريب من هذا الباب قول خالد بن صفوان:« هشمتك هاشم، وأمَّتك أمية، وخَزَمَتك مخزوم »
· ومن فوائده وضع ألفاظ جديدة على قياس كلام العرب:
وهذه المسألة تجرنا إلى مسألة القياس في اللغة؛ فيكاد يُجمع أهل اللغة على أنه لا يجوز القياس فيها، وهذا إن كان الكلمُ الموضوع منسوبا للعرب، أما إن كان اصطلاحًا فلا مشاحة في الاصطلاح، لا سيما إن كان اللفظ موضوعا لشيء جديد مخترع كالهاتف والتلفاز والحاسوب ونحو ذلك، وقد نص على ذلك صاحب الفوائد الخاقانية، واعترضه القنوجي بقوله: [20]: « والحق أن اعتبار العمل زائد غير محتاج إليه، وإنما المطلوب العلم باشتقاق الموضوعات، إذ الوضع قد حصل وانقضى على أن المشتقات مرويات عن أهل اللسان ».
وكلام القنوجي صحيح لا إشكال فيه فلا يصح وضع ألفاظ جديدة مخالفة لما تكلم به العرب، وإنما مقصد المخالف ما سبق ذكره، والله أعلم.
· واضـع علم الاشتقاق:
يعدُّ ابنُ دريد أولَ من أفرده بتصنيف يشتمل على كثير من أصوله في كتابه (الاشتقاق)، مع أن كثيرا من كلامه مأخوذ من الخليل بن أحمد، إلا أن الخليل لم يفرده بتصنيف.
وأما ابن فارس فهو باري قوس هذا العلم بكتابه (مقاييس اللغة).
وهناك بعض المحاولات والمنثورات قبلهما خاصة من قِبَل الخليل بن أحمد.
· ويحسن هنا أن نذكر بعض الكتب المصنفة في هذا العلم:
- اشتقاق الأسماء للأصمعي[21]
- الاشتقاق لأبي بكر بن دريد [22]
- الاشتقاق لأبي العباس المبرد[23]
- الاشتقاق لأبي إسحاق الزجاج [24]
- الاشتقاق لأبي بكر بن السراج[25]
- مقاييس اللغة لابن فارس [26]
- نزهة الأحداق للشوكاني [27]
- العلم الخفاق في علم الاشتقاق للقِنَّوجي [28]
- الاشتقاق لعبد الله أمين [29]
وهناك كتب أخرى لا نطيل بذكرها [30]
· ( فائدة )
القطب الأساسي في كتاب الاشتقاق لابن دريد بيانُ أن كل اسم من أسماء الأعلام عند العرب فإن له معنى عندهم، وله اشتقاق وأصل معروف، وأن هذه الأسماء لم توضع سبهللا.
أما القطب الأساسي في مقاييس اللغة لابن فارس فهو بيان أن كل الألفاظ الموجودة في مادة واحدة ترجع لأصل واحد في المعنى أو لعدد يسير من الأصول.
· ومن الكتب التي تعرضت لمباحث الاشتقاق دون إفراد بتصنيف:
- الخصائص لابن جني
- الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس
- المثل السائر لابن الأثير
- المزهر في علوم اللغة للسيوطي
- نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها للكرملي
· حكم تعلم الاشتقاق:
فرض كفاية؛ كما قرر أهل العلم أن علوم الآلة جميعا فروض كفاية.
· فضل علم الاشتقاق:
لا شك أن ما ساعد على فهم النصوص الشرعية فهو علم فاضل، ولذلك يكثر ذكره في كتب التفسير، والاستنباطات عند ذكر الخلافات الفقهية.
· ( تنبيه )
لا يقدح في علم الاشتقاق ما قال (وستنفلد) في مقدمته تحقيق اشتقاق ابن دريد: [31] « ومن المعروف أن علم الاشتقاق من نقط الضعف في تاريخ الثقافة العربية؛ لأن الاشتقاق يتطلب الاطلاع على مختلف اللغات المتقاربة حتى تفهم مكانة الكلمة لغويا وعلاقتها بغيرها، ومع ذلك لم تهتم أمةٌ اهتمامَ العرب بلغتها؛ لذلك نرى أن بعض الشرح وتفسير الأعلام لا يطمأن إليه »
لأن العلماء لم يهملوا ذلك، بل كانوا يتكلمون في الاشتقاق بافتراض أن الكلمة عربية، وكانوا يحترزون في كلامهم بذكر ألا يكون الاسم أعجميا، كما تراه كثيرا في كلام ابن دريد وغيره.
· نسبة علم الاشتقاق:
يعد من علوم اللغة العربية النقلية مع الإعمال العقلي، ويمكن عده جزءا من (فقه اللغة)، وفيه اشتراك مع (علم التصريف) في بعض المباحث من وجه، والفرق بينهما أن علم التصريف يبحث في الأوزان الظاهرة ودلالة كل وزن، أما الاشتقاق فيبحث في الدلالة الباطنة وارتباط المعاني في المادة الواحدة.
قال القنوجي: [32] « واعلم أن مدلول الجواهر بخصوصها يعرف من اللغة، وانتساب البعض إلى البعض على وجه كلي؛ إن كان في الجوهر فالاشتقاق، وإن كان في الهيئة فالصرف، فظهر الفرق بين العلوم الثلاثة، وإن الاشتقاق واسطة بينهما، ولهذا استحسنوا تقديمه على الصرف، وتأخيره عن اللغة في التعليم، ثم إنه كثيرًا ما يذكر في كتب التصريف، وقلما يدون مفردًا عنه؛ إما لقلة قواعده، أو لاشتراكهما في المبادئ، حتى إن هذا من جملة البواعث على اتحادهما، والاتحاد في التدوين لا يستلزم الاتحاد في نفس الأمر».
· استمداد علم الاشتقاق:
يمكن الاستعانة على معرفة الاشتقاق بكلام العرب وأحوالهم وإشاراتهم التي يستفاد منها القرائن التي تدل على اتفاق ألفاظ المادة في اللغة.
ومن وسائل استمداده كذلك المناسبة بين الألفاظ والمعاني في المادة ولذلك فاستنباط بعض العلماء في هذا العلم يكون قياسا أو اجتهادا وليس عن دليل ظاهر أو نقل محض.
وإن الباحث في الاشتقاق ينبغي له أن يجمع ألفاظ المادة كاملة بقدر ما يستطيع وينظر في تصرف العرب في كلامها في ألفاظ هذه المادة وكيف تستعملها في مجازها وتوسعها وأشعارها وبيانها وبلاغتها؛ لأن ذلك خيرُ معين على معرفة أصل المادة ومعناها العام.
· مسائل علم الاشتقاق:
أما مسائل هذا العلم، فمنها معرفة أصول الأسماء (أعلاما كانت أو غيرها) والكلمات والمواد العربية والبحث في الأصول المعنوية التي ترجع إليها.
قال القنوجي: [33] « مسائله: القواعد التي يعرف منها أن الأصالة والفرعية بين المفردات بأي طريق يكون، وبأي وجه يعلم، ودلائله مستنبطة من قواعد علم المخرج وتتبع ألفاظ العرب واستعمالاتها »
وإن بعض مسائل هذا العلم تجدها مذكورة باستفاضة في العلوم الأخرى فلا نطيل بذكرها؛
- كمسألة اشتقاق (الاسم)؛ فهو من السُّمُو عند البصريين ومن السِّمَة عند الكوفيين.
- وكذلك مسألة اشتقاق المصدر من الفعل عند الكوفيين، أو الفعل من المصدر عند البصريين.
- وكذلك مسألة اشتقاق اسم (الله)، ناقشها كثير من الشراح عند كلامهم على البسملة.
قال الخليل بن أحمد [34] : « وليس [الله] من الاسماء التي يجوز منها اشتقاق فعل، كما يجوز في الرحمن الرحيم ».
وقال أبو بكر بن دريد: [35]« فأما اشتقاق اسم الله عز وجل فقد أقَدَم قومٌ على تفسيره، ولا أحبُّ أن أقول فيه شيئًا »
وقال أبو بكر الصولي في أدب الكتاب:« و(الله) - تبارك اسمه - اسم خاص للمعبود جل وعلا، لا يسمى به سواه. قال الله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ( مريم 65)، قال المفسرون: لا يعلم من تسمى الله إلا الله عز وجل، ولا يعرف لهذا الاسم اشتقاق من فعل. ولا أحب ذكر ما قاله النحويون فيه لأنه تكلف لا يضر تركه »
ولكن نشير إلى بعض المسائل من أصول هذا العلم لتكون أصلا لمن أراد التوسع فيه
· ( مسألة – هل كانوا يعرفون الاشتقاق قديما؟ )
جاء في الحديث القدسي « أنا الرحمن وهي الرحم؛ شققتُ لها اسمًا من اسمي؛ فمن وصلها وصلتُه ومن قطعها قطعته » [36] ، وفي الحديث المشهور « أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها وعصية عصت الله ورسوله » ، وفي حديث آخر « إذا بعثتم رسولا فابعثوه حسن الوجه ،حسن الاسم»[37] ، وكان النبي r يغير الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة، كتغييره حَزْنًا إلى سَهْل، وغير ذلك.
وقال حسان بن ثابت: [38]
وشَـقَّ له من إِسْمِه ليُجِـلَّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ
قال ابن دريد: ذكر الأصمعيُّ أنَه إنّما سُمِّي مهلهلاً لأنَّه كان يُهلهِل الشِّعر، أي يرقِّقه ولا يُحكِمه.
· ( مسألة – لا بد للاشتقاق من حد ينتهي إليه )
قال ابن دريد: [39]« ... ولم نتعد ذلك إلى اشتقاق أسماء صنوف النَّامى من نبات الأرض؛ نَجمها وشجرها وأعشابها، ولا إلى الجماد من صخرها ومَدَرها، وحَزْنها وسهلها، لأنّا إن رُمْنا ذلك احتجنا إلى اشتقاق الأَول التي نشتقُّ منها، وهذا ما لا نهاية له »
وقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن نشأة اللغات كلها من الأصوات والأوضاع الطبيعية، وأنها بدأت على حرفين حرفين، ثم احتاجوا إلى التوسع في كلامهم فنشأ من ذلك الثلاثي والرباعي وغيره على خلاف بينهم في تفاصيل هذا المذهب [40]
· ( مسألة – هل علم الاشتقاق له حقيقة )
قد أنكر هذا العلمَ بعضُ الظاهرية، وذكر أن اشتقاق بعض الكلم من بعض دعوى بغير دليل، وأن ذلك كذب على العرب !
وهذا خلاف ما عليه أئمة اللغة والنحو قديما وحديثا حتى يكاد يكون ذلك متواترا عنهم.
وأما القصة التي وردت في كتاب العين: [41] « قلت للخليل: من أين قلت (عكش) مهمل، وقد سمت العرب بعكاشة ؟ قال: ليس على الأسماء قياس، وقلنا لأبي الدقيش: ما الدقيش ؟ قال: لا أدري، ولم أسمع له تفسيرا. قلنا: فتكنيتَ بما لا تدري؟ قال: الأسماء والكنى علامات، من شاء تسمى بما شاء، لا قياس ولا حتم »
فهذه القصة أنكرها ابن دريد [42] فقال: « واحتجوا بما ذكره الخليل بزعمهم: أنه سألَ أبا الدُّقيش: ما الدُّقيش؟ فقال: لا أدري إنما هي أسماء نسمعها ولا نعرفُ معانيهَا. وهذا غلط على الخليل، وادعاء على أبي الدقيش، وكيف يَغبَى على أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد نصر الله وجهه مثلُ هذا ؟! وقد سمع العرب سمَّت: دَقْشًا ودُقَيشا ودَنقْشا، فجاءوا به مكبَّرًا ومحقَّرًا، ومعدولاً من بنات الثلاثة إلى بنات الأربعة بالنون الزائدة. والدَّقش معروف وسنذكره في جملة الأسماء التي عَمُوا عن معرفتها »
وقريب من هذه القصة قصة شبيل مع رؤبة؛ قال ابن دريد: [43]« أخبرنا أبو حاتمٍ عن الأصمعي قال: كان يونسُ في حلقة أبي عمرو بن العلاء، فجاء شُبَيل بن عَزْرةَ الضُّبَعي فسلَّم على أبي عمرو بن العلاء، فرفعه في مجلسه وألقى له لِبْدَ بغلته، فقال شُبَيل: ألا تعجبون لرؤبتكم هذا؟ سألتهُ عن اشتقاق اسمِه فلم يدر ما هو؟ .... » إلخ
قلت: ليس في القصتين ما يستوجب الإنكار، ولا فرق بينهما، فكيف يطعن في الأولى دون الثانية؟!
وحكاية الخليل موجودة في كتاب العين، والخليل معروف بالأخذ عن أبي الدقيش، ويبعد أن تكون من زيادات الليث، وقد نقلها الأزهري في تهذيبه ولم ينتقدها مع أن عادته أن ينتقد ما لا يعرفه من كلام الليث، وكذلك نقلها ابن فارس في مقاييسه وقال: ولا يبعد أن يكون هذا صحيحا، وليس خفاءُ بعض اشتقاق الكلم على بعض العلماء بدليل على الطعن في علم الاشتقاق جملة، ولا في الجهل به جملة! فالأمر كما قال ابن فارس رحمه الله [44] بعد أن حكى لفظا شذ عن الخليل: « وقد يشِذُّ عن العالِم البابُ من الأبواب، والكلام أكثر من ذلك »
وأما وقوع الاشتقاق فقد قال ابن فارس: [45] « أجمع أهل اللغة إلا من شذ عنهم أن للغة العرب قياسًا، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض .... وعلى هذا سائر كلام العرب، علِم ذلك من علم وجهِله من جهل ... وليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبُطلانَ حقائقها »
وقال ابن فارس أيضا: [46] « إن للغة العرب مقاييسَ صحيحة، وأصولا تتفرع منها فروع، وقد ألف الناس في جوامع اللغة ما ألفوا، ولم يعربوا في شيء من ذلك عن مقياس من تلك المقاييس، ولا أصل من الأصول، والذي أومأنا إليه باب من العلم جليل، وله خطر عظيم ».
وقال ابن دحية في التنوير: [47]« الاشتقاق من أغرب كلام العرب وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله r »، ثم ذكر حديث الرحم.
· ( تنبيـه )
قد يُستشكَلُ - مع ما تقدم من تقرير ثبوت المقاييس في اللغة - اتفاقُ أكثر أهل اللغة والنحو على أن اللغة لا تثبت قياسا، وهذا منصوص عليه عندهم، ويشبه الإجماع عندهم.
وهذا لا إشكال فيه إن شاء الله تعالى؛ لأن المقصود مما تقدم بالقياس إظهار العلاقة بين الألفاظ الثابتة عن العرب، وضم النظير إلى نظيره، وأما منعُ القياس في اللغة فالمقصود به إنشاء كلمات أو إطلاقات جديدة لم ترد سماعا عن العرب، ومثال ذلك أننا نعرف بدلالة الاشتقاق أن القارورة سميت بذلك لأن الماء يستقر فيها، ومع ذلك لا يصح أن نسمي البيت قارورة لأن الناس يستقرون فيه.
· وهذه مناظرة جرت بين (أبي إسحاق الزجاج) و(يحيى بن علي المنجم) في الاشتقاق: [48]
المنجم: من أي شيء اشتق الجرجير؟
الزجاج: لأن الريح تجرجره
المنجم: وما معنى تجرجره؟
الزجاج: تجرره ومن هذا قيل للحبل الجَرير؛ لأنه يجر على الأرض
المنجم: والجرة لم سميت جرة
الزجاج: لأنها تجر على الأرض
المنجم: لو جرت على الأرض لانكسرت!! والمجرة لم سميت مجرة
الزجاج : لأن الله جرها في السماء جرا
المنجم : فالجرجور الذي هو اسم المائة من الإبل لم سميت به؟
الزجاج: لأنها تجر بالأزِمَّة وتقاد
المنجم: فالفصيل المجر الذي شق طرف لسانه لئلا يرضع أمه، ما قولك فيه
الزجاج: لأنهم جروا لسانه حتى قطعوه
المنجم: فإن جروا أذنه فقطعوها تسميه مجرا
الزجاج: لا يجوز ذلك
المنجم: قد نقضت العلة التي أتيت بها على نفسك ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حس له.
قلت: هذا الكلام لا يلزم الزجاج ولا نقض فيه؛ لأنه إنما اعتل لكلام العرب، وأظهر ما ترجح لديه من أسباب الاشتقاق، ولم يزعم أنه بذلك يجوز اشتقاق ألفاظ جديدة بناء على العلة؛ لأنها ليست علة بالمعنى الأصولي، بل قد تكون حكمة، وقد تكون جزءَ علة، وقد تكون معارضة في ألفاظ أخرى بعلل أخرى أقوى منها، فالخلاصة أن كلام المنجم لا يلزم أهل العلم ولم يدعِ الزجاج أصلا ذلك كما يتضح من آخر كلامه، والله تعالى أعلم.
ولهذا تجد ابن فارس في مقاييسه كثيرا ما يقول: (ولا أدري مم اشتقاقه) [49]
أو يقول: (هذا مما وضع وضعا ولم أعرف له اشتقاقا) [50]
ويقول أيضا: [51] « والأصل في هذه الأبواب أنَّ كلَّ ما لم يصحَّ وجهُه من الاشتقاق الذي نذكره فمنظورٌ فيه، إلاّ ما رواه الأكابر الثقات ».
وقال في فقه اللغة: [52]« وهذا مبني أيضا على ما تقدم من أن اللغة توقيف فإن الذي وقفنا على أن الاجتنان الستر هو الذي وقفنا على أن الجن مشتق منه وليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها .. ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسا نقيسه الآن نحن ».
· ( مسألة – كيف يعرف الاشتقاق ؟ )
الأصول في الاشتقاق تعرف بالنظر والتأمل مع سعة العلم والاطلاع على كلام العرب، ومع ذلك فقد يتردد البصير بكلام العرب بين أصلين أو أكثر في رد الكلام إليه، كما يقول ابن دريد كثيرا في الاشتقاق: (واشتقاق كذا من أحد شيئين) أو (اشتقاق كذا من أشياء)
وإذا اختلف العلماء في الاشتقاق فيمكن رد أحد الأقوال في إرجاع المادة إلى أصل واحد بذكر فرد لا يندرج تحت هذا الأصل.
أو رد قوله في ذكر الأصل ببيان وجه المناسبة مع أصل آخر أقوى، أو ببيان ضعف المناسبة المذكورة بالنسبة لغيرها.
وهذا كلام نفيس للإمام الجليل (الخليل بن أحمد) عن علل النحو، ولكنه ينطبق أيضا على علم الاشتقاق؛ ذكره أبو القاسم الزجاجي في (إيضاح علل النحو) قال:
« ... وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد رحمه الله سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتَها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال:
إنَّ العربَ نطقت على سجيتها وطباعها، وعرَفتْ مواقعَ كلامها، وقام في عقولِها عِلَلُه، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللتُ أنا بما عندي أنَّهُ عِلةٌ لما عللته منه، فإن أكن أصبتُ العلةَ فهو الذي التمستُ، وإن تكن هناك علةٌ غيرُ ما ذكرتُ فالذي ذكرتُه محتمل أن يكون علة، ومَثَلِي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا محكمةَ البناءِ عجيبةَ النظمِ والأقسام، وقد صحت عنده حكمةُ بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقفَ هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلةِ كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، لِعِلَّةٍ سنحت له وخطرت بباله محتملة أن تكون علة لتلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنحَتْ لغيري علةٌ لما علَّلْتُه من النحو هي أليقُ مما ذكرتُه بالمعلول فليأتِ بها ».
قال الزجاجي معلقا:« وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه »
أنـواع الاشـتـقاق
· ( النوع الأول: الاشتقاق الصغير أو الأصغر ) [53]
وذلك في تركيبات المادة الواحدة، قال ابن الأثير: [54]
« فالصغير: أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، كترتيب (س ل م)، فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه، نحو (سلم) و(سالم) و(سلمان) و(سلمى)، والسليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة »
وقال أيضا: [55]« الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه »
وقد صنف فيه ابن السراج، وقال ابن جني عنه إنه: «لم يأل فيه نصحا وإحكاما وصنعة وتأنيسا»[56]
قال القنوجي: [57]« والمراد من الاشتقاق الواقع في قولهم هذا اللفظ مشتق من ذلك اللفظ هو الاشتقاق الأصغر غالبًا »
· ( النوع الثاني: الاشتقاق الكبير ) [58]
وبعضهم يسميه الاشتقاق الأوسط [59] وبعضهم يسميه الاشتقاق الصغير ويجعل السابق أصغر.
وبعضهم يسميه الاشتقاق الأكبر ويجعل السابق صغيرا، وهذا عند من يجعل القسمة ثنائية.
ويكون هذا بتقليب حروف المادة، بالتقديم والتأخير حتى ينتظم جميعَ المواد المحتملة من ذلك معنًى واحد يضم شتاتها، قال ابن الأثير: [60]
« وأما الاشتقاق الكبير فهو: أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل إليها »
وقال أيضا: [61] « والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا »
وهذا النوع لم يشتهر في علم الاشتقاق إلا بعد كلام ابن جني في الخصائص؛
قال في شرح التسهيل: [62]
« وهذا مما ابتدعه الإمامُ أبو الفتح ابن جني وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به يسيرًا، وليس معتمدًا في اللغة ولا يصح أن يستنبط به اشتقاقٌ في لغة العرب، وإنما جعله أبو الفتح بيانا لقوة ساعده وردِّه المختلفات إلى قدر مشترك، مع اعترافه وعلمه بأنه ليس هو موضوع تلك الصيغ »
وقد أشار إليه ابن دريد إشارة فقال: [63]
« وجَدنٌ: موضع، واشتقاقُه فيما أرى مقلوبٌ من قولهم: أرضٌ جَنَدٌ، وأرض جَدَن، وهي الغليظة المتراكِبة »
وقال: [64]
« وحِدْرِجان: فِعْلِلان وهو من الحدرجة والحدرجة والجحدرة واحد، والشيء المجحدر والمحدرج واحد، والحدرجة مشي متقارب الخطو »
والقلب أخص من إرجاع جميع تقاليب المادة لأصل واحد كما لا يخفى.
وكثيرا ما تجد أهل العلم يتطرقون بتوسع شديد لمسائل من هذا الاشتقاق في غير مظنتها، وهذه مُثُلٌ من ذلك:
- ( ع ر ب ) ذكر الوزير المغربي في أوائل (أدب الخواص) فيها ثلاثة عشر قولا!
- ( ق و ل ) في مقدمة الخصائص لابن جني
- ( ح ر ف ) في مقدمة سر الصناعة لابن جني
- ( ع ج م ) في مقدمة سر الصناعة أيضا
- ( و س ق ) في المثل السائر
- ( ق م ر ) في المثل السائر
قال ابن الأثير: [65] « واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق؛ لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمالُ تركيب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها »
وقال أيضا: [66]« واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة، بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها؛ لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد، وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه »
وقال في شرح التسهيل: [67]«ولا ينكر مع ذلك أن يكون بين التراكيب المتحدة في المادة معنى مشترك بينها، هو جنس لأنواع موضوعاتها. ولكن التحيل على ذلك في جميع مواد التراكيب كطلب لعنقاء مغرب، ولم تحمل الأوضاع البشرية إلا على فهوم قريبة غير غامضة على البديهة، فلذلك إن الاشتقاقات البعيدة جدا لا يقبلها المحققون »
وينظر ما ذكره الفخر الرازي عن الاشتقاق الكبير في مقدمة تفسيره [68]
· ( النوع الثالث: الاشتقاق الأكبر ) [69]
وبعضهم يسميه الاشتقاق الكُبَار (بتخفيف الباء)، وذلك بتغير يحصل في بعض حروف الكلمة التي تكون عادة متقاربة المخارج؛ قال في المراقي:
والْجَبْذُ والْجَذْبُ كبير ويَرى للأكبر الثَّلْمَ وثَلْبًا من دَرَى
قال الشوكاني في نزهة الأحداق: [70]« هذا القسم هو الذي يحتاج إلى فضل فكر وقوة واطلاع ».
قال ابن جني: [71]« ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد يُعلم بعدُها، ولا يُحاط بقاصيها، ازدحامُ الدال، والتاء، والطاء، والراء، واللام، والنون، إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما.
من ذلك الدالف للشيخ الضعيف، والشيء التالف، والطليف والظليف المجان وليست له عصمة الثمين، والطنف، لما أشرف خارجا عن البناء وهو إلى الضعف؛ لأنه ليست له قوة ... والدنف: المريض، ومنه التنوفة وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك؛ ألا تراهم يقولون لها: مهلكة، وكذلك قالوا لها: بيداء، فهي فعلاء من باد يبيد. ومنه الترفة، لأنها إلى اللين والضعف، وعليه قالوا: الطرف؛ لأن طرف الشيء أضعف من قبله وأوسطه .... ومنه الفرد لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو .... والفارط المتقدم، وإذا تقدم انفرد، وإذا انفرد أعرض للهلاك .... ومنه الفرات لأنه الماء العذب، وإذا عذب الشيء ميل عليه ونيل منه ... ومنه الفتور للضعف، والرفت للكسر، والرديف، لأنه ليس له تمكن الأول، ومنه الطفل للصبي لضعفه، والطفل للرخص، وهو ضد الشثن، والتفل للريح المكوهة، فهي منبوذة مطروحة .... وقالوا للدنيا أم دفر سب لها وتوضيع منها، ومنه الفلتة لضعفة الرأي، وفتل المغزل، لأنه تثن واستدارة، وذاك إلى وهي وضعفة، والفطر: الشق، وهو إلى الوهن »
وقد أفرده ابن جني بالحديث في باب ( في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني ) [72]
وقال ابن فارس: [73] « إنّ لله تعالى في كلِّ شيءٍ سِرًّا ولطيفةً؛ وقد تأمّلْت في هذا الباب [أي دمن] من أوّله إلى آخره؛ فلا تَرَى الدّالَ مؤتلفةً مع اللام بحرفٍ ثالث إلا وهي تدلُّ على حركةٍ ومجيءٍ، وذَهابٍ وزَوَالٍ من مكانٍ إلى مكان، والله أعلم ».
· ( مثال على الاشتقاق الأكبر: العين والميم مع ما يثلثهما )
قال الصفدي في نكت الهميان: « قد تتبعت أفراد وضع اللغة العربية، فرأيت العين المهملة والميم، كيفما وقعتا في الغالب وبعدهما حرف من حروف المعجم لا يدّل المجموع إلا على ما فيه معنى الستر أو ذهاب الصواب على الرأي ».
ثم شرح ذلك مفصلا على تراجم المواد المختلفة، وأشكل عليه بعض المواد التي تدل على طول، فقال: « ... ولا بدّ للفرس إذا طال، أن يكون فيه بعض التواء، وذهاب على غير استواء. وكذلك الطريق إذا طالت ».
وقال ابن فارس:(ع م ت): « العين والميم والتاء أصل صحيح يدلُّ على التباسِ الشيء والتوائه »
(ع م ج): « العين والميم والجيم أصلٌ صحيح يدلُّ على التواءٍ واعوجاج »
(ع م د): « العين والميم والدال ... ترجع إلى ... الاستقامة في الشيء، منتصبا أو ممتدا »
(ع م ر): « العين والميم والراء أصلان صحيحان، أحدهما يدلُّ على بقاءٍ وامتداد زمان، والآخر على شيءٍ يعلو »
(ع م س): « العين والميم والسين أصلٌ صحيح يدلُّ على شدّة في اشتباهٍ والتواءٍ في الأمر »
(ع م ش): « العين والميم والشين كلمتانِ صحيحتان، متباينتان جدًّا. فالأولى ضعفٌ في البصر، والأخرى صلاحٌ للجسم »
(ع م ي): « العين والميم والحرف المعتل أصلٌ واحد يدلُّ على سَترٍ وتغطية »
(ع م ه): « العين والميم والهاء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على حَيرة وقِلّة اهتداء »
ومما ذكره الصفدي:
(ع م ق): « العمق بفتح العين وضمها قعر البئر والفج والوادي. قيل فيه ذلك لما استتر عن العين»
(ع م ل): « اعتمل الرجل إذا اضطرب في العمل ... قيل فيه ذلك لأن الاضطراب حركة على غير استواء »
(ع م م): « عمم العمامة ما يوضع على الرأس، وهي تستره. واعتم النبت إذا اكتهل أي ستر الأرض »
قال ابن جني: [74]« فهذه الطرائق التي نحن فيها حَزْنة المذاهب، والتورُّد لها وَعْر المسلك، ولا يجب مع هذا أن تُستنكر، ولا تُستبعد، فقد كان أبو علي رحمه الله يراها ويأخذ بها ..... وشاهدته غير مرة، إذا أشكل عليه الحرف: الفاء، أو العين، أو اللام، استعان على علمه ومعرفته بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه. فهذا أغرب مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق ....... على أن هذا وإن لم يطرد وينقد في كل أصل، فالعُذْر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد، من غير تقليب لشيء من حروفه، فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه، ولامه، أسهل، والمعذرة فيه أوضح. وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته، وتركت الضجر وتحاميته، لم تكد تعدم قرب بعض من بعض، وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله »
· ( النوع الرابع: الاشتقاق الكُبَّار – النحت )
من أول من أشار إليه ابن دريد، فقال: [75]
« وعبدلٌ: اللام فيه زائدة، كأنَّه اسمٌ مشتقٌّ من اسمَين، كأنَّه من (عبد الله) فقال عَبدَل »
وأشار إليه ابن فارس أيضا فقال: [76]
« فبعضُه مشتقٌّ ظاهر الاشتقاق، وبعضُه منحوت بادي النَّحْت، وبعضه موضوعٌ وضعًا على عادة العربِ في مِثْله »
وأول من سماه بهذا الاسم عبد الله أمين في كتابه (الاشتقاق)، والله أعلم.
أمثلة من فروع مسائل الاشتقاق
· ( اشتقاق قرآن )
وفيه خمسة أقوال: الأول - أنه مشتق من (قرأ) بمعنى تلا، ويكون على هذا مصدرا بمعنى القراءة.
الثاني - أنه مشتق من القَرْء بمعنى الجمع؛ تقول: قرأت الماء في الحوض أي جمعته؛ لجمعه الآيات والسور في كتاب واحد.
الثالث - أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه؛ لقِران الآيات والسور فيه.
الرابع - أنه مشتق من القرائن؛ لأن الآيات والقصص يشبه بعضها بعضا، فهي أشباه ونظائر.
الخامس - أنه اسم علم غير مشتق من شيء كالتوراة والإنجيل.
والقول الأول قول أكثر العلماء، والقول الثاني قول الزجاج
والقول الثالث قول الأشعري، والقول الرابع قول الفراء. والقول الخامس قول الشافعي
والأرجح هو القول الأول؛ لأن قراءة التسهيل يمكن ردها إلى قراءة الهمز بخلاف العكس، والله أعلم.
· ( اشتقاق عرفات )
ذكر أبو تراب الظاهري [77] أن « اشتقاق كلمة عرفات مختلف فيها على أربعة أقوال:
الأول: أنه مشتق من الاعتراف ....
الثاني: أنه مشتق من العُرف - بضم العين - بمعنى الصبر وهو صبر الحجاج على مشاق الوصول إليه.
الثالث: أنه مشتق من العَرف - بفتح العين - وهو الرائحة الطيبة، وتوجيهه أن الحجاج يتطهرون من الذنوب ويكتسبون رائحة طيبة. الرابع: مشتق من المعرفة ..... »
· ( اشتقاق ختامه مسك )
قال ابن جزي: [78] « وفي معناه ثلاثة أقوال:
أحدها أنه من الختم على الشئ بمعنى جعل الطابع عليه فالمعنى أنه ختم على فم الإناء الذي هو فيه بالمسك كما يختم على أفواه آنية الدنيا بالطين إذا قصد حفظها وصيانتها.
الثاني أنه من ختم الشئ أي تمامه فمعناه خاتم شربه مسك أي يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك ولذته.
الثالث أن معناه مزاجه مسك أي يمزج الشراب بالمسك وهذا خارج عن اشتقاق اللفظ »
· ( مسألة - قد يكون الاشتقاق من شيء ممات أو بعد العهد به )
قال الخليل: [79] « والقيعون من العشب: ....... يقال: اشتقاقه من القعن كاشتقاق القيصوم من القصم.
ونحو هذه الأشياء اشتقت من الأسماء ، وأميتت أصولها، ولكن يعرف ذلك في تقدير الفعل »
وقال ابن دريد: [80]« واشتقاق قُنفُذ من فعلٍ ممات ....... والقَفْذ: كلامٌ قديم متروك، وأصله زعموا التفبُّض والتجمُّع. قَفِذَ يَقْفَذ قَفَذًا، وتقفذا، إذا اجتمع ودخلَ بعضُه في بعض »
وقال ابن دريد: [81]« وحُنجود إن كانت النون والواو زائدتين فهو من الحَجْد، والحجْد ليس من كلامهم ......... وليست حُنجود إذا حُذِفت الزوائدُ له أصلٌ في كلامهم، فرجعنا فيه إلى ما يرجعون إليه من أسمائهم المشتقة من الأفعال التي أميتت.
وسألت أبا عثمان الأُشنانْدانيَّ عنه فقال: لا أدري ممَّا اشتُقّ »
وقال ابن دريد: [82]« نسب حمير .... وهذه أسماءٌ قد أُمِيتت الأفعال التي اشتُقّت منها. وزعم بعض أهل اللُّغة أنَّه سمِّي حِمْيرَ لأنَّه كان يلبس حُلّة حُميراء. وهذا لا أدري ما هو »
وقال ابن دريد: [83]« قبائل ذي الكَلاع مما أمكن تفسيرُه من العربية. وقد عرَّفْتُك آنفًا أنّ هذه الأسماء الحِميريّةَ لا تقف لها على اشتقاق، لأنَّها لغة قد بَعُدَت وقَدُمَ العهد بمن كان يعرفها »
وقال ابن جني: [84] « ... وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا، ألا ترى إلى قول سيبويه: "أو لعل الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر" ، يعني أن يكون الأول الحاضر شاهد الحال، فعرف السبب الذي له ومن أجله ما وقعت عليه التسمية، والآخر - لبعده عن الحال - لم يعرف السبب للتسمية، ألا ترى إلى قولهم للإنسان إذا رفع صوته: (قد رفع عقيرته)، فلو ذهبت تشتق هذا، بأن تجمع بين معنى الصوت، وبين معنى (ع ق ر) لبعد عنك وتعسفت. وأصله أن رجلاً قطعت إحدى رجليه، فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم صرخ بأرفع صوته، فقال الناس: رفع عقيرته. وهذا مما ألزمه أبو بكر [بن السراج] أبا إسحاق [الزجاج] فقبله منه، ولم يردده »
وقال أيضا: [85] « ولهذا الموضع نفسه ما توقف أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق، واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها، ولم ندر ما حديثها، ومثل له بقولهم " رفع عقيرته " إذا رفع صوته. قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم " ع ق ر " من معنى الصوت لبعد الأمر جدًّا، وإنما هو أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته، فقال الناس: رفع عقيرته، أي رجله المعقورة. قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق: لست أدفع هذا. ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر، يعني ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل.
...... فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا، وكأنه حاضر معنا، مناج لنا »
· ( مسألة - هل الأصل المعنوي أسبق أو الأصل المادي؟ )
اختلف علماؤنا في اشتقاق الأصول المعنوية والمادية، ويسمون ذلك الجواهر والمصادر أو نحو ذلك، والأقرب للنظر العقلي أن الأصل المادي أسبق؛ لأن الوجود الخارجي أسبق من الوجود الذهني كما هو معروف.
قال د. صبحي الصالح : [86] « إلا أننا نرجح دائما أن الحسي أسبق في الوجود من المعنوي المجرد وهذا ما يجعلنا ننتصر للرأي القائل بأن أصل المشتقات هي الأسماء لا الأفعال ولا سيما أسماء الأعيان »
ولكن ظاهر كلام ابن دريد عكس ذلك فقد بنى كتابه كله على اشتقاق أسماء الأعلام من أصول معنوية، بل في أسماء الأجناس كذلك فقد قال: [87] « يقال: تنَّمر فلانٌ لفلانٍ، إذا أظهرَ تهدُّدًا؛ وأصلُه من شراسة الخُلق، وبه سمِّي النَّمِر السَّبُع المعروف »
وعكَسَ في اشتقاق المنافق فقال: [88]« والنَّفَق: السَّرَب في الأرض. ونافِقاء اليربوع من هذا، وهو سَرَبه الذي يدْخُل فيه. والمنافق من هذا اشتقاقه، لأنّه يدخل في الكفر وهو يظهر غيره »
وقال أيضا: [89]« وكلُّ شيء ضيَّقتَ عليه فقد أسرتَه. ومنه إسار القَتَب والمِحْمَل، وهو أن يُشَدَّ بالقِدّ. ومنه اشتقاق الأسير »
فجعل الإسار – وهو مادي – مشتقا من الأسْر – وهو معنوي، ثم جعل الأسير – وهو معنوي – مشتقا من الإسار – وهو مادي.
والخليل بن أحمد أيضا يدل كلامه على سبق الجواهر للمصادر كما قال: [90]
« الوعث من الرمل: ما غابت فيه القوائم، ومنه اشتق وعثاء السفر، يعني: المشقة »
وقال: [91] « يقال: تهزع فلان لفلان، واشتقاقه من هزيع الليل، وتلك ساعة وحشة »
ولكنه عكس في بعض المواضع كما قال: [92] « والخروف ..... واشتقاقه أنه يخرف من هنا وهنا وبه سمي الخريف، لأنه يخرف فيه كل شئ أي يؤخذ ويجتني في حينه »
وقال [93] « والسليقة: مخرج النسع في دف البعير، واشتقاقه من: سلقت الشئ بالماء الحار »
وقال [94] « والأكتل: من أسماء الشديدة من شدائد الدهر، اشتق من الكتال، وهو سوء العيش وضيقه »
فالذي يظهر – والله أعلم – أنهم يذهبون مذهب الأكثرين في الاشتقاق وهو أن المقصود رد أحد اللفظين إلى الآخر في المعنى لا على أن أحدهما سابق على الآخر في الزمان.
ويدل على ذلك أيضا ما قاله الحليمي: « فأصل قوله : أنا الرحمن وهي الرحم ، شققت لها اسما من اسمي : أن (الرحمن) و(الرحم) اسمان مشتقان من الرحمة »
وقال ابن القيم أيضا: [95] « لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله ......... فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمن بالكسر مشتقا والمتضمن بالفتح مشتقا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى »
ومما يؤيد ذلك أن في الحديث القدسي المشهور « قال الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي »، ومع ذلك تجد أهل العلم أحيانا يقولون: الرحمن مشتق من الرحمة!
وقال الزمخشري: « معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنًى واحدٌ ».
وبهذا تفهم أن الزمخشري لا يقصد السبق في مثل قوله: [96]
« واشتقاق الإقلال من القلة لأن الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلاً »
ومثل قوله: [97] « واشتقاق البرج من التبرج لظهوره »
لِمَا بين القولين من التناقض، فمقصوده انتظام المعنى الواحد لهما، كما هو صريح كلامه السابق.
وبهذا الجمع ينحل لك كثير من الإشكالات التي تجدها في كلام أهل العلم بأن كذا مشتق من كذا، فلا يلزم من ذلك أنهم يعنون سبق أحد اللفظين على الآخر، بل المراد أنه ينتظمهما معنى واحد كما أشار الزمخشري.
ولذلك تجد أهل العلم أحيانا يشيرون إلى أن اللفظ الحسي مشتق من المعنى العقلي، وأحيانا يشيرون إلى أن المعنى العقلي مشتق من اللفظ الحسي، ويشعر القارئ بدأة ذي بَدِيءٍ أن هذا من التناقض والتعارض.
- كما ذكروا مثلا أن اشتقاق آدم من أديم