[فلسفة نيتشه وأثرها على الفكر العالمي
تعد فلسفة نيتشه إطلالة فكرية ومعرفية ، وقد أسهمت بشكل واضح المعالم في حقل الفلسفة الأوربية على مدى قرن من الزمن ، ففكرة (موت الإله) النيتشوية أثرت بشكل واسع وكبير في الأوساط الفكرية العالمية بحيث " لم يعد يوجد في الغرب تيار فكري أو نظرية مهمة ومؤثرة في أي من الحقول المعرفية تقول بوجود (الله) فتيارات الفكر الغربي الرئيسة أو فلسفاته ونظرياته في العلوم الإنسانية وغيرها ذات شخصية علمانية ( Secular ) بالدرجة الأولى ، وهذه الشخصية العلمانية هي التي بدأت تسيطر على الحضارة الغربية ككل منذ عصر النهضة ، وقد أصبحت في عداد البدهيات التي لا تحتاج إلى ذكر …"(1).
والثقافة الغربية التي ورثت خطيئة نيتشه بحكمها على (الإله) بالموت ، وانطلقت لتشكيل المشهد الفكري العالمي افترضت أسطورية الأديان ، ثم وهمية المفاهيم والقيم التقليديـة ، وأصبح المعيار الرئيس في عالم خالٍ من الألوهية والمقدسات هو مقدار الفكر(المتفتح) من التخلص من آثار الميتافيزيقيا (المنغلقة)(2) ، التي كانت تسهم في رسم انحدار الإنسان نحو التخلف والجهل ـ حسب نيتشه ـ(3) ، فبموت (الإله) ستسقط المثالية (Idealism) وترتفع العدمية ، وستسمو معالم التجاوز والرفعة والتعالي العدمي الذي يعمل على تجريد القيم العليا من وظيفتها .
لقد قدّم نيتشه للفكر الغربي حلولاً عدة تبدأ من التخلص من هيمنة اللوجوس (Logos) وصولا إلى تمزيق الأقنعة التي تخفي وراءها الزيف ، للوصول إلى اللانظام ، واللاحقيقة ، واللإانسان ، واللإانسجام ، وخلخلة مركزية العقل الأوربي ، وانتهاء باستسلام العقل للاعقلانية الجديدة التي يطرحها نيتشة لأنها ـ كما يرى ـ هي الأضمن لتطور الإنسان وسيادته ، وهي التي ستقوده إلى إرادة العدمية " فالإنسان يفضل أن تكون له إرادة العدم على أن لا تكون له إرادة بالمرة "(4).
لقد أراد نيتشة الحطّ من قيمة الميتافيزيقيا للوصول إلى مصارعة الميتافيزيقا ، لكنه انشأ في الوقت نفسه ميتافيزيقا خاصة به اتسمت ببعد الخيال ، والبناء على أسس وهمية ، والتحرر من كل القيم والأخلاق ، وعدّ الإله مجرد ابتكار ، اخترعه الإنسان ليقيّد نفسه به(5) ، فعلى الإنسان ـ حسب نيتشه ـ أن يخلع عنه براءته ويعلن إلحاده ، لانّ الإلحاد يحرر من البـراءة ، وينتصر للغرائز ، ويفجّر إرادة القوة ، وعندما نجحد الإله ـ يقول نيتشه ـ ننقذ العالم ونصوغ مملكتنا الجديدة(6).
وبهذا وضع نيتشه العالم الغربي أمام خيارين بقوله : " إما أن تلغوا مقدساتكم وإما أن تلغوا أنفسكم … "(7) ، ثم يختار طريقه هو بالقول : " إنّ العدمية هي الكلمة الأخيرة " ، إنّ كل ما ينتجه العقل من مفاهيم وأنظمة فلسفية وعلمية هو ـ حسب نيتشه ـ مجرد تأويلات وأوهام تتحول تدريجيا إلى أصنام (Idoles) ، وأنّ (إرادة القوة) هي الكفيلة بالتصدي لتلك الأصنام وتحطيمها ، ولا يشكل العالم وفقا لذلك إلاّ مسرحاً تتخذ منه إرادات القوى وسطاً لصراعاتها ، للوصول إلى قوة أكثر قدرة على تفعيل سلطتها ، انطلاقا من قانون التطور المؤدي ـ حسب نيتشه ـ إلى الخلاص(8).
لقد بلغ نيتشه مرحلة (التشريع) عندما أباح لنفسه صياغة إلهٍ جديد يحل محل الإله المقتـول ، الذي قتلته عدمية الديانات ، والإله المقتول يصوره نيتشه على أنّه إلهٌ مزيفٌ صنعه الرسل والكهنة والقديسون ، والإله البديل الحقيقي يتجلى في الإنسان الخارق (السوبرمان)(9) بمعنى أنّ نيتشه عَمد إلى تأليه الإنسان وإعطائه دوراً لا يستحقه من انتزاع ملكية السلطة الإلهية ، وأنسنتها للوصول إلى المُبتغى النيتشوي في سيادة الواقع والتحكم فيه .
أما على الصعيد الأخلاقي ، فما طرحه نيتشه قد لاقى آذاناً صاغية في الفكر الأوربي ، فالخُلق النيتشوي المطروح هو خُلق الانحطاط وتبني الشرّ ، والانعتاق من التقاليد والأعراف والدفاع عن نموذج البشر ، الذي لا يحتاج إلى غفران السماء بعد الآن ـ حسب نيتشــه ـ ، بل إنّ النموذج الجديد يجب عليه أن يُؤسِس أخلاقه انطلاقا من الانفصال عن المعطيات اللاهوتية والقيام بعملية عزل الإله واستلاب قدراته وصفاته ، ومنحها للإنسان الجديد ، ورفع شعار إنّ كلّ شي مباح ، ولا توجد عوائق بين رغبات الإنسان وبين القيام بها أيّاً كانت . وقد ربط نيتشة هذه المسألة بزوال الإله ، لان هذا الزوال سيقتضي انبعاث فلسفة خلقية جديدة ذاتية الطرح ، وإلحادية المنشأ ، ومثالية التوجه ، وعدمية المسيـرة ، وانحلالية الهدف .
إنّ مشكلة الأخلاق عند نيتشه هي مشكلة الحقيقة والتطابق مع إرادة القوة ، بوصفها الجوهر الوجودي المتمثل بالموجودات ، إنّها مشكلة غُربة المثال مع الواقع ، ومشكلة انهيار القيم العليا وتفكك القيم القبلية ، إنّها مشكلة النقد الجذري للضياع ، ونكران إنسانية الإنسان(10).
وتأثير نيتشه في معطيات المفاهيم النقدية المعاصرة كان نشطاً ، إذ مارست فرضياته مهمة تحديد الهوية (Identity) النقدية الجديدة ، وتحقيق السيطرة على عمليات التحول التي تطال مسيرة النقد العالمي ، وقد عمدت هذه المسيرة إلى إنشاء شبكة تضم عدداً من النقاد ، أُنيطت لها مهمة تحضير الأفكار النيتشوية ، وتكييف كافة الجهود النقدية لتمثلها ، وتأهيلها لتكون سنداً للطرح النقدي المعاصر ، فضلاً عن إقامة هيئات ومدارس تتبنى البيانات النيتشوية وتحولها إلى واقع نقدي تطبيقي .
إنّ تلك المحاولات لم تتسم بالتعميم الساذج أو السهل ، بل تَطلُبُ جهوداً كبيرة في تحضير وترويض الرأي النقدي العالمي واتخاذ التدابير اللازمة لإفرازات تلك الجهود التي حاولت تحسين المعطى النقدي لضمان تداوله ، لأن عملية التحول الجريئة الحاصلة في معطيات المناهج النقدية بشكل عام ، وما بعد البنيوية بشكل خاص ، فرضت اعتماد الصيغ النصية وابتعدت بل تجاهلت الصيغ الميتافيزيقية ، وسهلت عمليات دمج الآراء لمحاربة السياسة النقدية المضادة كما حصل عند رواد مدرسة تيل كيل الفرنسية ، أو مدرسة ييل الامريكية .
ومن البوادر المهمة والخطرة في الوقت نفسه التي انبثقت من تبني الطرح النيتشوي في النقد المعاصر هي : العلمانية (Secularism) التي تشير في الأصل إلى فصل الدين عن الدولة ، وهي ظاهرة كامنة في كل المجتمعات ، فالأشياء والظواهر والأفكار المحيطة بهذا العالم تجسد نموذجاً حضارياً متكاملاً ، وتستند إلى رؤية شاملة ، وهي تمثل عمليات علمنة بنيوية ، لأن سمات المُنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تُولد العلمانية هي جزء عضوي لا يتجزأ من بنية هذا المُنتج المادي الذي لا قداسة ولا ضمان فيه لأي شيء ، عالم خالٍ من المعنى ، لا قيمة فيه ولا غاية ، لا كليات فيه ولا مطلقات(11) ، وبهذا أرادت العلمانية إقامة اتحاد مع الإله الجديد (الإنسان الخارق) لإزاحة المعنى المعياري ، وهيمنة القيم النفعية ، وتعطيل نماذج الطرح الميتافيزيقي والديني الكنسي .
إنّ المعطيات النيتشوية مغرية بالتبني بالنسبة للنهج النقدي المعاصر ، لأنّها تمثل نظرية في القيم ، فاللاحقيقة التي أشاعها نيتشه تحمل قيمة أكثر مما تحمله الحقيقة نفسها ـ بالنسبة للنقد الحديث ـ ، لأن الإنسان هو الذي يخلع القيمة على الأشياء ويحددها ويضفي عليها المعنى ، وبفضل القيمة النيتشوية استطاع النهج النقدي المعاصر من اكتشاف إبداعية المفاهيم بعد أن تحرر من سلطان المفارقة الغيبية وانخرط في تشكيل مدارات الطرح المعاصر وفلسفته التي تمثل بشكل عام فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم(12) .
ويتسم التعامل النقدي المعاصر مع القيم النيتشوية بما يأتي :
1. توظيف تعددية تلك القيم لصالح توازن التحليل النصي .
2. توسيع مجالات التوظيف لتشمل قطاعات أخرى تستفيد من الطرح النقدي ، وامكاناته من الناحية العملية.
3. تطوير وإنشاء خطط لمعالجة الطرح النقدي التقليدي المعتمد على خارجيات النص ، لتنظيم عمليات التقارب بين النص والمتلقي ، بمعنى تفعيل عملية القراءة .
4. ظهور مؤشرات أساسية تؤكد صلاحية الطرح النيتشوي للمسيرة السياسية المعاصـرة ، وهذا يقود إلى توسيع المؤشرات النقدية في تبني ذلك الطرح.
ويمكن القول أنّ الطرح النيتشوي قد أسس لمرحلة ما بعد النيتشوية من خلال تبني نقادها له ، لا سيما جاك دريدا الذي استمد صورة تفكيكيه من الهدم النيتشوي ، وحمل الجهاز الدلالي له ، إذ دشن نيتشه فجر التفكيك بعملية طالت العقلانية السائدة ، وراجعت فرضياته تاريخ الميتافيزيقيا لتصفيتها والكشف عن منابع قيمها ، وكل ما أنتجه العقل البشري راغباً في الوصول إلى الجذور لتفتيتها ، وبناء أسس جديدة تصل حدودها القصوى بالإعلان عن (موت الإله) وتعرية كل التأويلات وتمزيق وإطاحة صنمية المفاهيم ، وهذا تحديداً ما فعله دريدا في الطرح النقدي لما بعد البنيوية .
وما فعله دريدا فعله فوكو أيضاً فمنهجه الحفري طال كل التأويلات والمفاهيم الرئيسة التي بُنيت عليها اليقينيات القديمة ، وحاول تأسيس إمكانية قيام تأويل جديد ، لقد وصلت النيتشوية الهدمية إلى كلّ أركان وأسس النقد المعاصر انطلاقا من دريدا وبارت وفوكو وريكور وصولاً إلى دولوز وتودرورف الذي أعلن تبنيه للطرح النيتشوي بقوله " نحن ندرك أننا لم نعد بحاجة إلى أخلاق … كل شيء مباح لأننا جربنا نتائجها "(13) ، في حين ذكر الناقد الفرنسي (شاتليه) أنّ المسار النقدي العالمي اليوم آيلٌ إلى العدمية إلى اللاشيء ، وإلى إفراغ الإرادة من كل جوهر ، وتحويل القدسية إلى سلسلة من الإجراءات والفن إلى تركيبة من الوصفات ، والحكومة إلى نظام من التهديدات ، والفلسفة إلى مجمل من البيانات ، والأخلاق والعلم إلى شبكة من المعتقدات ، وذكر أنّ عمليات التحول تلك ليست بريئة ، وأنّها تقترن بتنظيم معين لإخضاع الإنسان ، وإحلال قيم تقود إلى استعباد الفرد(14) .
لقد أصبحت الحقيقة مع تبني الطرح النيتشوي عبارة عن سلسلةِ تأويلاتٍ تُوظف شبكة من
الاستعارات ، وتستخدم فنون عدّة واستراتيجيات ، وممارسات قوة مختلفة ، وعدّ (لوفيفر) العدمية النيتشوية بوصفها اختباراً جذرياً تعلن عن مستقبل جديد ، وتتسم بفقدان البراءة، وتراكم التناقضات والنزعات الدوغمائية ، واللجوء إلى السلطة ، وإباحة الاستلاب ، وتوسيع الحضارة بعد تلاشي جوهرها السامي(15) .
وقد كان النقد المعاصر أمام صنمين من أصنام نيتشه الأول هو (العقل) والثاني هو (الإله) وكما أنّ إرادة الحياة والقوة عند نيتشه كانت كفيلة بإسقاط صنميه بالنزوع نحو السيادة والتوسع والالتزام (بلا أخلاق وبلا معيار وبلا تحديد) والسعي دائماً وأبداً نحو التشامخ والتعالي والحطّ من قيمة الآخرين(16) ، كذلك كان النقد المعاصر الذي اتجه صوب إزالة بعض المفاهيم النقدية المرتبطة بمحيط النص والانتقال من الخلاف حول وظيفة الدليل المتحصل من التحليل النقدي للنص، وعلاقته بالدال والمدلول إلى تفعيل الدال وتعدد المدلول ـ مع بارت ـ ، وإلى تفعيل الدال وتوالده مع غياب المدلول ـ عند دريدا ـ ضمن ما يصطلح عليه بـ(نظرية اللعب).
الهوامش :
(1) ما وراء المنهج ، سعد البازعي ، ضمن كتاب إشكالية التجيز ، تحرير: عبد الوهاب المسيري: 2/283.
(2) المصدر نفسه : 289.
(3) The will to power , Nietzche , in : Deconstruction in context : 191 .
(4) أصل الأخلاق : 156 .
(5) إنساني مفرط في إنسانيته ، ت : محمد الناجي : 12 .
(6) أصل الأخلاق : 85 . وينظر : أُفول الأصنام ، ت : حسّان بورقية ومحمد الناجي : 56 .
(7) ما وراء الخير والشر ، ت : محمد عُضيمة : 178 .
(8) ينظر : ميتافيزيقيا الإرادة : 75 ـ 76 . The will to power , in : deconstruction in Context : 191 .
(9) ينظر : المصدر نفسه : 136 ، 148 .
(10) ينظر : فلسفة نيتشه : 153 ، 184 .
(11) ينظر : العلمانية تحت المجهر ، عبد الوهاب المسيري وعزيز العظمة : 14 ، 20 .
(12) ما هي الفلسفة ، جيل دولوز ، ت : مطاع صفدي : 28 .
(13) فتح أمريكا ، ت : بشير السباعي : 264 .
(14) الحداثة في الفلسفة ، ت : علي حقي ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 6 لسنة 1989 : 37 .
(15) ما الحداثة ، ت : كاظم جهاد : 105 .
(16) العلم الجذل ، نيتشه ، ت : سعاد حرب ، مجلة إتجاه ، العدد 18 لسنة 2001 : 135 .
حسين الخزاعي (الفوهرر) - العراق
تعد فلسفة نيتشه إطلالة فكرية ومعرفية ، وقد أسهمت بشكل واضح المعالم في حقل الفلسفة الأوربية على مدى قرن من الزمن ، ففكرة (موت الإله) النيتشوية أثرت بشكل واسع وكبير في الأوساط الفكرية العالمية بحيث " لم يعد يوجد في الغرب تيار فكري أو نظرية مهمة ومؤثرة في أي من الحقول المعرفية تقول بوجود (الله) فتيارات الفكر الغربي الرئيسة أو فلسفاته ونظرياته في العلوم الإنسانية وغيرها ذات شخصية علمانية ( Secular ) بالدرجة الأولى ، وهذه الشخصية العلمانية هي التي بدأت تسيطر على الحضارة الغربية ككل منذ عصر النهضة ، وقد أصبحت في عداد البدهيات التي لا تحتاج إلى ذكر …"(1).
والثقافة الغربية التي ورثت خطيئة نيتشه بحكمها على (الإله) بالموت ، وانطلقت لتشكيل المشهد الفكري العالمي افترضت أسطورية الأديان ، ثم وهمية المفاهيم والقيم التقليديـة ، وأصبح المعيار الرئيس في عالم خالٍ من الألوهية والمقدسات هو مقدار الفكر(المتفتح) من التخلص من آثار الميتافيزيقيا (المنغلقة)(2) ، التي كانت تسهم في رسم انحدار الإنسان نحو التخلف والجهل ـ حسب نيتشه ـ(3) ، فبموت (الإله) ستسقط المثالية (Idealism) وترتفع العدمية ، وستسمو معالم التجاوز والرفعة والتعالي العدمي الذي يعمل على تجريد القيم العليا من وظيفتها .
لقد قدّم نيتشه للفكر الغربي حلولاً عدة تبدأ من التخلص من هيمنة اللوجوس (Logos) وصولا إلى تمزيق الأقنعة التي تخفي وراءها الزيف ، للوصول إلى اللانظام ، واللاحقيقة ، واللإانسان ، واللإانسجام ، وخلخلة مركزية العقل الأوربي ، وانتهاء باستسلام العقل للاعقلانية الجديدة التي يطرحها نيتشة لأنها ـ كما يرى ـ هي الأضمن لتطور الإنسان وسيادته ، وهي التي ستقوده إلى إرادة العدمية " فالإنسان يفضل أن تكون له إرادة العدم على أن لا تكون له إرادة بالمرة "(4).
لقد أراد نيتشة الحطّ من قيمة الميتافيزيقيا للوصول إلى مصارعة الميتافيزيقا ، لكنه انشأ في الوقت نفسه ميتافيزيقا خاصة به اتسمت ببعد الخيال ، والبناء على أسس وهمية ، والتحرر من كل القيم والأخلاق ، وعدّ الإله مجرد ابتكار ، اخترعه الإنسان ليقيّد نفسه به(5) ، فعلى الإنسان ـ حسب نيتشه ـ أن يخلع عنه براءته ويعلن إلحاده ، لانّ الإلحاد يحرر من البـراءة ، وينتصر للغرائز ، ويفجّر إرادة القوة ، وعندما نجحد الإله ـ يقول نيتشه ـ ننقذ العالم ونصوغ مملكتنا الجديدة(6).
وبهذا وضع نيتشه العالم الغربي أمام خيارين بقوله : " إما أن تلغوا مقدساتكم وإما أن تلغوا أنفسكم … "(7) ، ثم يختار طريقه هو بالقول : " إنّ العدمية هي الكلمة الأخيرة " ، إنّ كل ما ينتجه العقل من مفاهيم وأنظمة فلسفية وعلمية هو ـ حسب نيتشه ـ مجرد تأويلات وأوهام تتحول تدريجيا إلى أصنام (Idoles) ، وأنّ (إرادة القوة) هي الكفيلة بالتصدي لتلك الأصنام وتحطيمها ، ولا يشكل العالم وفقا لذلك إلاّ مسرحاً تتخذ منه إرادات القوى وسطاً لصراعاتها ، للوصول إلى قوة أكثر قدرة على تفعيل سلطتها ، انطلاقا من قانون التطور المؤدي ـ حسب نيتشه ـ إلى الخلاص(8).
لقد بلغ نيتشه مرحلة (التشريع) عندما أباح لنفسه صياغة إلهٍ جديد يحل محل الإله المقتـول ، الذي قتلته عدمية الديانات ، والإله المقتول يصوره نيتشه على أنّه إلهٌ مزيفٌ صنعه الرسل والكهنة والقديسون ، والإله البديل الحقيقي يتجلى في الإنسان الخارق (السوبرمان)(9) بمعنى أنّ نيتشه عَمد إلى تأليه الإنسان وإعطائه دوراً لا يستحقه من انتزاع ملكية السلطة الإلهية ، وأنسنتها للوصول إلى المُبتغى النيتشوي في سيادة الواقع والتحكم فيه .
أما على الصعيد الأخلاقي ، فما طرحه نيتشه قد لاقى آذاناً صاغية في الفكر الأوربي ، فالخُلق النيتشوي المطروح هو خُلق الانحطاط وتبني الشرّ ، والانعتاق من التقاليد والأعراف والدفاع عن نموذج البشر ، الذي لا يحتاج إلى غفران السماء بعد الآن ـ حسب نيتشــه ـ ، بل إنّ النموذج الجديد يجب عليه أن يُؤسِس أخلاقه انطلاقا من الانفصال عن المعطيات اللاهوتية والقيام بعملية عزل الإله واستلاب قدراته وصفاته ، ومنحها للإنسان الجديد ، ورفع شعار إنّ كلّ شي مباح ، ولا توجد عوائق بين رغبات الإنسان وبين القيام بها أيّاً كانت . وقد ربط نيتشة هذه المسألة بزوال الإله ، لان هذا الزوال سيقتضي انبعاث فلسفة خلقية جديدة ذاتية الطرح ، وإلحادية المنشأ ، ومثالية التوجه ، وعدمية المسيـرة ، وانحلالية الهدف .
إنّ مشكلة الأخلاق عند نيتشه هي مشكلة الحقيقة والتطابق مع إرادة القوة ، بوصفها الجوهر الوجودي المتمثل بالموجودات ، إنّها مشكلة غُربة المثال مع الواقع ، ومشكلة انهيار القيم العليا وتفكك القيم القبلية ، إنّها مشكلة النقد الجذري للضياع ، ونكران إنسانية الإنسان(10).
وتأثير نيتشه في معطيات المفاهيم النقدية المعاصرة كان نشطاً ، إذ مارست فرضياته مهمة تحديد الهوية (Identity) النقدية الجديدة ، وتحقيق السيطرة على عمليات التحول التي تطال مسيرة النقد العالمي ، وقد عمدت هذه المسيرة إلى إنشاء شبكة تضم عدداً من النقاد ، أُنيطت لها مهمة تحضير الأفكار النيتشوية ، وتكييف كافة الجهود النقدية لتمثلها ، وتأهيلها لتكون سنداً للطرح النقدي المعاصر ، فضلاً عن إقامة هيئات ومدارس تتبنى البيانات النيتشوية وتحولها إلى واقع نقدي تطبيقي .
إنّ تلك المحاولات لم تتسم بالتعميم الساذج أو السهل ، بل تَطلُبُ جهوداً كبيرة في تحضير وترويض الرأي النقدي العالمي واتخاذ التدابير اللازمة لإفرازات تلك الجهود التي حاولت تحسين المعطى النقدي لضمان تداوله ، لأن عملية التحول الجريئة الحاصلة في معطيات المناهج النقدية بشكل عام ، وما بعد البنيوية بشكل خاص ، فرضت اعتماد الصيغ النصية وابتعدت بل تجاهلت الصيغ الميتافيزيقية ، وسهلت عمليات دمج الآراء لمحاربة السياسة النقدية المضادة كما حصل عند رواد مدرسة تيل كيل الفرنسية ، أو مدرسة ييل الامريكية .
ومن البوادر المهمة والخطرة في الوقت نفسه التي انبثقت من تبني الطرح النيتشوي في النقد المعاصر هي : العلمانية (Secularism) التي تشير في الأصل إلى فصل الدين عن الدولة ، وهي ظاهرة كامنة في كل المجتمعات ، فالأشياء والظواهر والأفكار المحيطة بهذا العالم تجسد نموذجاً حضارياً متكاملاً ، وتستند إلى رؤية شاملة ، وهي تمثل عمليات علمنة بنيوية ، لأن سمات المُنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تُولد العلمانية هي جزء عضوي لا يتجزأ من بنية هذا المُنتج المادي الذي لا قداسة ولا ضمان فيه لأي شيء ، عالم خالٍ من المعنى ، لا قيمة فيه ولا غاية ، لا كليات فيه ولا مطلقات(11) ، وبهذا أرادت العلمانية إقامة اتحاد مع الإله الجديد (الإنسان الخارق) لإزاحة المعنى المعياري ، وهيمنة القيم النفعية ، وتعطيل نماذج الطرح الميتافيزيقي والديني الكنسي .
إنّ المعطيات النيتشوية مغرية بالتبني بالنسبة للنهج النقدي المعاصر ، لأنّها تمثل نظرية في القيم ، فاللاحقيقة التي أشاعها نيتشه تحمل قيمة أكثر مما تحمله الحقيقة نفسها ـ بالنسبة للنقد الحديث ـ ، لأن الإنسان هو الذي يخلع القيمة على الأشياء ويحددها ويضفي عليها المعنى ، وبفضل القيمة النيتشوية استطاع النهج النقدي المعاصر من اكتشاف إبداعية المفاهيم بعد أن تحرر من سلطان المفارقة الغيبية وانخرط في تشكيل مدارات الطرح المعاصر وفلسفته التي تمثل بشكل عام فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم(12) .
ويتسم التعامل النقدي المعاصر مع القيم النيتشوية بما يأتي :
1. توظيف تعددية تلك القيم لصالح توازن التحليل النصي .
2. توسيع مجالات التوظيف لتشمل قطاعات أخرى تستفيد من الطرح النقدي ، وامكاناته من الناحية العملية.
3. تطوير وإنشاء خطط لمعالجة الطرح النقدي التقليدي المعتمد على خارجيات النص ، لتنظيم عمليات التقارب بين النص والمتلقي ، بمعنى تفعيل عملية القراءة .
4. ظهور مؤشرات أساسية تؤكد صلاحية الطرح النيتشوي للمسيرة السياسية المعاصـرة ، وهذا يقود إلى توسيع المؤشرات النقدية في تبني ذلك الطرح.
ويمكن القول أنّ الطرح النيتشوي قد أسس لمرحلة ما بعد النيتشوية من خلال تبني نقادها له ، لا سيما جاك دريدا الذي استمد صورة تفكيكيه من الهدم النيتشوي ، وحمل الجهاز الدلالي له ، إذ دشن نيتشه فجر التفكيك بعملية طالت العقلانية السائدة ، وراجعت فرضياته تاريخ الميتافيزيقيا لتصفيتها والكشف عن منابع قيمها ، وكل ما أنتجه العقل البشري راغباً في الوصول إلى الجذور لتفتيتها ، وبناء أسس جديدة تصل حدودها القصوى بالإعلان عن (موت الإله) وتعرية كل التأويلات وتمزيق وإطاحة صنمية المفاهيم ، وهذا تحديداً ما فعله دريدا في الطرح النقدي لما بعد البنيوية .
وما فعله دريدا فعله فوكو أيضاً فمنهجه الحفري طال كل التأويلات والمفاهيم الرئيسة التي بُنيت عليها اليقينيات القديمة ، وحاول تأسيس إمكانية قيام تأويل جديد ، لقد وصلت النيتشوية الهدمية إلى كلّ أركان وأسس النقد المعاصر انطلاقا من دريدا وبارت وفوكو وريكور وصولاً إلى دولوز وتودرورف الذي أعلن تبنيه للطرح النيتشوي بقوله " نحن ندرك أننا لم نعد بحاجة إلى أخلاق … كل شيء مباح لأننا جربنا نتائجها "(13) ، في حين ذكر الناقد الفرنسي (شاتليه) أنّ المسار النقدي العالمي اليوم آيلٌ إلى العدمية إلى اللاشيء ، وإلى إفراغ الإرادة من كل جوهر ، وتحويل القدسية إلى سلسلة من الإجراءات والفن إلى تركيبة من الوصفات ، والحكومة إلى نظام من التهديدات ، والفلسفة إلى مجمل من البيانات ، والأخلاق والعلم إلى شبكة من المعتقدات ، وذكر أنّ عمليات التحول تلك ليست بريئة ، وأنّها تقترن بتنظيم معين لإخضاع الإنسان ، وإحلال قيم تقود إلى استعباد الفرد(14) .
لقد أصبحت الحقيقة مع تبني الطرح النيتشوي عبارة عن سلسلةِ تأويلاتٍ تُوظف شبكة من
الاستعارات ، وتستخدم فنون عدّة واستراتيجيات ، وممارسات قوة مختلفة ، وعدّ (لوفيفر) العدمية النيتشوية بوصفها اختباراً جذرياً تعلن عن مستقبل جديد ، وتتسم بفقدان البراءة، وتراكم التناقضات والنزعات الدوغمائية ، واللجوء إلى السلطة ، وإباحة الاستلاب ، وتوسيع الحضارة بعد تلاشي جوهرها السامي(15) .
وقد كان النقد المعاصر أمام صنمين من أصنام نيتشه الأول هو (العقل) والثاني هو (الإله) وكما أنّ إرادة الحياة والقوة عند نيتشه كانت كفيلة بإسقاط صنميه بالنزوع نحو السيادة والتوسع والالتزام (بلا أخلاق وبلا معيار وبلا تحديد) والسعي دائماً وأبداً نحو التشامخ والتعالي والحطّ من قيمة الآخرين(16) ، كذلك كان النقد المعاصر الذي اتجه صوب إزالة بعض المفاهيم النقدية المرتبطة بمحيط النص والانتقال من الخلاف حول وظيفة الدليل المتحصل من التحليل النقدي للنص، وعلاقته بالدال والمدلول إلى تفعيل الدال وتعدد المدلول ـ مع بارت ـ ، وإلى تفعيل الدال وتوالده مع غياب المدلول ـ عند دريدا ـ ضمن ما يصطلح عليه بـ(نظرية اللعب).
الهوامش :
(1) ما وراء المنهج ، سعد البازعي ، ضمن كتاب إشكالية التجيز ، تحرير: عبد الوهاب المسيري: 2/283.
(2) المصدر نفسه : 289.
(3) The will to power , Nietzche , in : Deconstruction in context : 191 .
(4) أصل الأخلاق : 156 .
(5) إنساني مفرط في إنسانيته ، ت : محمد الناجي : 12 .
(6) أصل الأخلاق : 85 . وينظر : أُفول الأصنام ، ت : حسّان بورقية ومحمد الناجي : 56 .
(7) ما وراء الخير والشر ، ت : محمد عُضيمة : 178 .
(8) ينظر : ميتافيزيقيا الإرادة : 75 ـ 76 . The will to power , in : deconstruction in Context : 191 .
(9) ينظر : المصدر نفسه : 136 ، 148 .
(10) ينظر : فلسفة نيتشه : 153 ، 184 .
(11) ينظر : العلمانية تحت المجهر ، عبد الوهاب المسيري وعزيز العظمة : 14 ، 20 .
(12) ما هي الفلسفة ، جيل دولوز ، ت : مطاع صفدي : 28 .
(13) فتح أمريكا ، ت : بشير السباعي : 264 .
(14) الحداثة في الفلسفة ، ت : علي حقي ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 6 لسنة 1989 : 37 .
(15) ما الحداثة ، ت : كاظم جهاد : 105 .
(16) العلم الجذل ، نيتشه ، ت : سعاد حرب ، مجلة إتجاه ، العدد 18 لسنة 2001 : 135 .
حسين الخزاعي (الفوهرر) - العراق