فلسفة الاخلاق - الجزء الاول
الأخلاق morale طراز سلوك إنساني نوعي لا تخلو منه حياة بشرية في أي مجتمع غابر أو حاضر، بل وقادم كذلك في أرجح احتمال.
والخُلُق هو واقع نفسي متصل بالفعل، وعنه تصدر أفعال حسنة وأخرى سيئة. وهاتان السمتان، سمة الحسن وسمة السوء، تتميزان بجدل موقفين قيميين يعربان عن مفهومين متلازمين ومتقابلين، وهما مفهوما الخير والشر.
الوجود الأخلاقي
البحث في الأخلاق بحث إنساني حصراً.وهو يدخل في الاهتمامات الفلسفية الرئيسة، ويُعرف باسم الفلسفة العملية، أو الحكمة. فإذا خُصص لفظ الفلسفة النظرية، أو الفلسفة، بمعنى معرفة الوجود بما هو موجود، كانت الحكمة جزءها العملي أو السلوكي. وهي حصيلة إِعمال الإنسان عقله في ما ينهض به من فعال تلقى مدحاً، فتنتسب إلى الخير، أو ذماً فتُنسب إلى الشر. إن المدح والقدح، أو الاستحسان والاستهجان، هما أمارتا تحبيذ ما ينبغي فعله، ونبذ ما يجب تحاشيه. وهما كاشفا الخير والشر من الناحية الاجتماعية التي يتردد صداها داخل الذات الفردية في ما يسمى الضمير أو الوجدان أو الشعور الأخلاقي، وهو يواكب ضروباً أخرى من الشعور، ويتفاعل معها، مثل الشعور الديني، والشعور الجمالي، والشعور المعرفي.
والإنسان من بين الموجودات كلها ينفرد بأنه الذي يُلتمس له الخلق المحمود، والأفعال المرضية.
فإذا اتجه النظر إلى أفعاله التي يشارك فيها سائر الموجودات، كان ذلك من حق علم الطبيعة.
ولكن أفعاله وقواه وقدراته التي يختص بها من حيث هو إنسان، وبها تتم إنسانيته وفضائله، هي الأمور الإرادية التي تتعلق بها قوة التفكير والتمييز، وإن النظر فيها يسمى «الفلسفة العملية».
إن الفلسفة هي فلسفة الأمور الإرادية التي تنتسب إلى الإنسان بوصفه فاعلاً متميزاً ومسؤولاً. وهي تمتد من التصور والرغبة إلى النية فالقصد، وإلى التحقق والإنجاز، والأخلاق إضافة إلى الوجود الإنساني أشبه بطبيعة مكتسبة، طبيعة ثانية لا طبيعية، لأنها ترفض، في جلّ الأحوال، معطيات الطبيعة العفوية، أي الغريزية، بما في ذلك أخلاط المزاج أو الطبع أو السجية. فهي تنطلق من هذه المعطيات، وتسعى إلى تكييفها مع المثل الأعلى الأخلاقي، أي الخير، وذلك بتحويرها أو كبتها، أو منعها، أو تصعيدها تسامياً بدوافعها وحوافزها، فتستعيض عن الواقع الراهن بواقع مراد مرموق يتوخى تحقيق ما يطمح البشر إلى تحقيقه لنيل سعادتهم في الحياة. ويؤكد مسكويه [ر] أن فعل الإنسان الخاص هو ما يصدر عن قوته المميزة. «فكل من كان تمييزه أصدق، واختياره أفضل، كان أكمل في إنسانيته». والحق أن الأخلاق سباق في هذا المضمار، مضمار الفكر والحرية والإرادة.
والأخلاق تحدد للفاعل الأخلاقي، فرداً أو جماعةً، أنماط الحياة الأفضل، وأغراض الوجود الأسمى، وتحضّه على المضي شطر المثل الأعلى المرموق، أي الخير الذي تقره جُمَاعةُ جَماعةٍ، في عصر أو ثقافة تختلف عن عصر آخر، أو ثقافة مباينة. ولذا يصح القول بتفاوت الأخلاق البدائية أو الصينية أو اليونانية أو الرومانية أو العربية. وقد قيل «لكل شعب أخلاقه التي تحددها شروط حياته»، بل إن الأخلاق لتختلف داخل المجتمع الواحد تبع الأوساط الاجتماعية: الأخلاق الريفية، والأخلاق الشعبية، والأخلاق البرجوازية، أو تختلف باختلاف المهن أحياناً، أو الجنس بين أخلاق الرجال في هذه الجماعة مثلاً وأخلاق النساء.
بيد أن وراء هذا التفاوت والتنوع والاختلاف جامعاً إنسانياً ثابتاً وموصولاً، به يلتقي النوع البشري ويبذّ العجماوات حين لا يكتفي بالحفاظ على كيانه العضوي،ووجوده الحيوي، ولا يرضى بغريزة حفظ البقاء وحسب، بل ينشد البقاء الأفضل، والمصير الذي لا تفرضه الطبيعة عليه. وقد فطن كَنت [ر] إلى أن الغريزة لو كانت تكفي البشر هادياً في السلوك لكان من أنواعها «غريزة أخلاقية» تغنيهم عن مؤونة الجهد العقلي والإرادي، وتجعل سلوكهم واحداً متماثلاً آلياً أشبه بسلوك النباتات والعجماوات، ويتجه السلوك الأخلاقي الصحيح بأسره شطر المستقبل، ويستهدف في جميع الحالات تنفيذاً لاحقاً لتصور راهن، عقلي، إرادي، لدى الأفراد والجماعات. إن السلوك الغريزي سلوك تكرار كسول ومملّ، وليس فيه بوجه التقريب أية فرصة لتخيل مبدع، ولا لحرص على تطلع إلى ما يُعدّ هو الأفضل، والأحسن، والأسعد، والأكمل.
ذلك أن الوجود الأخلاقي نشاط متميز بإحكام ارتباط الوسائل بالغايات، يستوي في ذلك العمل في مجالات الحياة الشخصية الخاصة، أو الحياة الاجتماعية العامة في شتى ميادينها الثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية حتى الأسرية والمجتمعية. وهذا الارتباط «الغائي» اللازب ينشد اضطلاع الفاعلين الأخلاقيين بما «يجب أن يكون»، وما «ينبغي أن يراد وأن يفعل»، وهذا هو سلوك «التقدير» أو «التقويم».
المعرفة الأخلاقية
إن المعرفة الأخلاقية، والبحث الأخلاقي، بل دراسة علم الأخلاق، ضرورة ملحّة توجبها مقتضيات الوقائع الإنسانية، فضلاً عن نفعها الموصول. ذلك أن لا ندحة للإنسان «العارف» من تعمق تجربة سلوكه الشخصي والاجتماعي، و«فهم» سلوكه وسلوك الآخرين أفراداً وجماعات، ثم «تفسير» هذا السلوك، في الأنفس والآفاق، حتى تتبين دقائق الخير والشر، ويصار إلى تمييز الفاضل والأفضل، أو السيئ والأسوأ، وتنجلي أحكام الوجوب أو أحكام القيمة، مع العلم أن القيمة على الدوام مطلب ذهني يدعو إلى التحقق والإنجاز.
الخير هو «ما يجب صنعه». ومعرفة الخير تبدأ على صعيد الفكر بتمييز فارق أساسي بين الأخلاق المعاشة، وهي جملة الأعمال التي ينهض بها الفاعل تقليداً أو اتباعاً، إن لم يكن رضوخاً وخضوعاً لمشيئة خارجة عن إرادته واختياره، وبين الأخلاق «الانتقادية» أي الواعية، وهي أخلاق المذاهب ذات المنازع الثلاثة الكبرى وهي «الديني والعلمي والفلسفي». وكل منزع يمثل وجهة نظر تحظى بتأييد رواد وأنصار.
المنزع الأول، وهو المنزع الديني، أو الاعتقادي، وقوامه الإيمان بأن الخير والشر يحددان بأوامر المعبود ونواهيه، تستوي فيه في الدعوة إلى التخلق الديانات اللاسماوية والديانات السماوية. ومن شأن الأديان كافة أن تنشد خلاص الإنسان ونجاته، وفوزه الأكبر في الدارين. إن الله خالق الكون والناس. ومشيئتة مصدر ما يجب أن يفعل العباد في سلوكهم الأخلاقي على جميع الصعد، ومنذ عهد التكليف حتى الممات. وإنما بطاعة التعاليم «المنزلة» يحظى المؤمن الخلوق بسعادة الدارين.
ويشترك المنزعان الثاني والثالث في أنهما «إنسانيان» ينطلقان من أن الخير والشر مفهومان «وضعيان» أبدعهما الإنسان في حياته الأرضية ليحظى بمزيد من كمال إنسانيته، ويحقق ما يريد، بل ما يجب، من المثل المقررة العليا.
وهذان المنزعان يعملان، من جهة أخرى، على فحص المشاهد من الأخلاق الراهنة بحثاً عما يسوّغ السلوك الأخلاقي بالاستناد إلى معيار أو مبدأ محدد قابل للتعميم الكلي.
إن المنزع الثاني هو المنزع «العلمي»، وهو يمعن في استجلاء الأصل اللغوي الذي تشتق منه الكلمات الدالة في الثقافات الغربية على معنى الأخلاق. وقد اتضح أن الأصل اللاتيني لكلمة «مورال» morale يعني العرف والاستعمال الذائع. وقد آل جهد الباحثين المتمسكين بمعرفة الأخلاق معرفة علمية موضوعية إلى مماثلة دراسات العلوم الرياضية (رنوفيه) أو العلوم الاجتماعية (دوركهايم) أو العلوم الطبيعية (ليفي - برول)، وانتهوا إلى ادعاء إمكان استخلاص ما يجب أن يكون مما هو كائن موجود، ولو كره العالم الرياضي المعروف هنري بوانكاريه، ومثال هذا المنزع ما نجده في محاولة ألبير بايّة إقامة «علم الحوادث الأخلاقية» و«الفن الأخلاقي العقلي»، وما نجده من محاولات في علمية النظريات الاشتراكية الماركسية وعلمانيتها، أو في مساعي التحليل النفسي للسلوك الأخلاقي (المدرسة الفرويدية) أو المدارس اللاقمعية (مركيوز، رَيْخ).
أما المنزع الثالث، وهو المنزع الفلسفي، فإنه غني بمذاهبه النامية نمو الفكر الإنساني وتنوعه وغناه. وهو يرى أن من الممتنع استخلاص ما يجب مما هو موجود، وأن العقل الإنساني وحده هو مصدر الحقيقة في مجالي النظر والسلوك.
ولهذا المنزع منحيان أساسيان: أولهما المنحى الوجودي (ontologie = أنطولوجية) والآخر المنحى القيمي (axiologie = أكسيولوجية).
إن الفلسفة الأخلاقية «المدرسية» تندرج كلها في كنف فلسفات الوجود. وكل مذهب أخلاقي من مذاهبها يعتمد مبدأ يفسر بالتسويغ الحقيقة الأخلاقية في نظره. ويعرف هذا الضرب من النظر باسم فلسفة الأخلاق، ويدل عليه بكلمة ethique أو ethics ذات الأصل الإغريقي. ومن أمثلة هذا المنزع أخلاق الحكمة في الفكر اليوناني القديم (سقراط، أفلاطون، أرسطو) وأخلاق اللذة (ارستيب، أبيقور) وأخلاق الفضيلة (الرواقيون)، ثم أخلاق العقل (ديكارت، سبينوزا، ليبنز) والعقل الانتقادي (كَنت) وأخلاق العاطفة (هوبز، شفسبوري، فولتير، روسو، آدم سميث، شوبنهور، رينان)، فأخلاق المنفعة (بنتام، ستورت مل) وأخلاق الجدل (هيغل، ماركس، أنغلز، لينين) وأخلاق الحياة (سبنسر، غويو، نيتشه) وأخلاق التجربة (روه، برغسون) وأخلاق الذرائعية (وليم جمس، ديوي).