تأسس النحو على يد أهل البصرة الأوائل ، فهم الذين وضعوا قواعده وقننوا قوانينه وأقاموا أسسه ، ثم أسلموه لأهل الكوفة الذين شرعوا في الاشتغال به بعد مدرسة البصرة بنحو قرن كانوا في خلاله مشغولين بالسير والتراجم والأخبار والأشعار ونحو ذلك .
ويعد الأخفش واحدا من أعلام مدرسة البصرة المقدمين ، وأكبر أئمتها بعد سيبويه ، وهو نحوي عظيم ملأ الدنيا نحوا ولغة وخلد ذكره بما ترك من آثار وآراء ومواقف في الدرس النحوي واللغوي ، فهو لم يكن دارسا معتادا ممن طواهم التاريخ فلا يذكرهم الناس إلا لماما ، وإنما هو واحد من أبرز المشاهير الخالدين ، بل هو أحد من تميزوا فيهم .
ويؤكد منهج الأخفش العام بصريته ، وذلك على الرغم من خروجه المتكرر على بعض قواعد مدرسته البصرية ، ومحاولته المستمرة الإتيان بجديد في بعض جوانب البحث النحوي ، واشتهاره بالإكثار من مخالفة قومه البصريين ولا سيما أستاذه سيبويه أو بالزيادة عليهم وبمتابعة الكوفيين له في هذه المخالفات والزيادات ، أو بمتابعته الكوفيين في آرائهم في كثير من الأحيان .
وكان من المفروض أن يلتزم الأخفش كغيره من نحاة البصرة بخط قومه البصريين التزاما دقيقا ، وينهج نهجهم ، فلا يحيد عنه ولا يخرج منه ، ولكنه ذهب إلى بغداد لينتقم من الكسائي الكوفي لهزيمة أستاذه سيبويه إمام البصريين أمامه في المناظرة الشهيرة في المسألة الزنبورية ، فكان ذهابه نقطة التحول الرئيسة في حياته العلمية ، إذ لم يلبث أن انقلب هدفه بعد وصوله إلى عاصمة الخلافة ولقائه مع الكسائي ، ونسي أو تناسى ما جاء من أجله وأصبحت الدنيا همه ، وتوارى الغرض العلمي من زيارة بغداد ليحل محله الغرض الدنيوي ، لما رآه فيها مما لم يألف رؤيته في البصرة من دعة العيش ورفاهة ، ومن النفوذ الذي شاهد النحاة الكوفيين ينعمون به والمجد الذي عاينهم يتقلبون في أعطافه إلى جوار الخلفاء العباسيين ، الذين أحبوهم وقربوهم ؛ لأنهم كانوا شيعة لهم ، في حين كان البصريون شيعة للأمويين فتطلع إلى أن يصبح مثلهم وينعم بنحو ما ينعمون به فيقضي سائر أيام حياته في خير ونعمة لن يتاحا له لو بقي في مدينته البصرة .
وهكذا تحول الأخفش من نحوي بصري الهوى والالتزام إلى صديق للكسائي رأس الكوفيين وللفراء إمامها ولغيرهما من أقطابهم ، واستحال تحرشه بهم محبة لهم وتعلقا بهم وتقربا منهم ، ثم إن الكوفيين أنفسهم لم يكرهوا ذلك ، بل قربوه وصادقوه وبجلَّوه ، وقرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه سرا ، وأطعمه بالمال وقربه منه ووكل إليه أمر تدريس أولاده ، بل أتاح له أن يقوم فيما بعد بتأديب أولاد الخلفاء العباسيين وغيرهم من الأمراء والوجهاء .
كل هذا جعل هوى الكوفيين يتسرب إلى نفسه ، والميل إليهم يملأ قلبه فشرع يقف معهم في آرائهم أو يقفون معه في آرائه ، وكثر خروجه على قومه واختلافه معهم ومخالفته لأحكامهم ، ومال إلى اللين والتساهل في مواقفه كالكوفيين ، ورجع عن كثير من آرائه السابقة إرضاء لهم أو قناعة بهم ، واستمر على هذا إلى أن عاد فيما بعد إلى موطنه في البصرة فعاد إليه شيء من الالتزام ومقدار من التشدد وعدم التسمح ، ولعل في هذا ما يفسر اضطراب آرائه في شطر لا بأس به من فروع النحو ومسائله .
وقد تمكن الأخفش بذكائه وعلمه الواسع بلغات العرب ، وبإفساحه المجال لهذه اللغات جميعا حتى للشاذ منها ، وبكثرة اعتراضه على الخليل وسيبويه . . أقول : لقد تمكن بكل هذا من أن ينفذ إلى آراء مبتكرة ، ومن أن يتبوأ مكانته العليا في الدرس النحوي في البصرة ، بل في الكوفة أيضا التي يعد ذا تأثير فيها ؛ لأنه كان أستاذ الكسائي رأس الكوفيين ، الذي أقرأه كتاب سيبويه كما ذكرنا ؛ ولأن الكوفيين حملوا عنه لغاته وآرائه ومخالفاته ، ومضوا يتوسعون فيها ويضيفون إليها ، فتكونت من حصيلة ذلك كله ومن غيره مدرستهم ، وأصبح الأخفش بمثابة من أقام الأساس لها ، وهذا يجعل القول بأن ديدنه كان مخالفة قومه البصريين ومتابعة أخصامهم الكوفيين فحسب - غير دقيق ، فهو الذي فتح لتلميذيه الكسائي والفراء قطبي الكوفيين أبواب الخلاف واسعة على قطبي البصريين الخليل وسيبويه بما بسط من وجوهه ، فتابعاه في كثير منها ، ثم مضيا ومن بعدهما من نحاة الكوفة يتخذون من آرائه منطلقا إلى آرائهم الخاصة بهم .
وفي كتب النحو فيض من الفروع التي وافق فيها الكسائي والفراء بخاصة والكوفيون بعامة - الأخفش في رأيه ، أو في بعض رأيه ، والتي تابع الأخفش فيها الكوفيين ، والتي خالف فيها سيبويه وجمهور البصريين ، والتي زاد فيها عليهم ، والتي وقف فيها موقفا مستقلا ، وغير ذلك ، من هذه الفروع .
ذهب الأخفش - ويتبعه الفراء - إلى أن الضمير في لولاي ولولاك ولولاه مبتدأ ، وقد أناب العرب فيها الضمير المخفوض عن الضمير المرفوع ، فأنابوا لولاي عن لولا أنا ، ولولاك عن لولا أنت ، ولولاه عن لولا هم قياسا على إنابتهم ضمير الرفع عن ضمير الجر في قولهم : ما أنا كأنت ، خلافا لسيبويه الذي ذهب إلى أن لولاه جارة لهذه الضمائر .
- وذهابه إلى جواز دخول الواو على خبر كان وأخواتها إذا كان جملة ؛ نحو : كان محمد ولا حق عنده ، وليس شيء إلا وفيه نقص ، قياسا على قول الشاعر :
مـــــا كـــــان مــــن بشــــر إلا وميتتــــه محتومـــــة لكـــــن الآجـــــال تخـــــتلف
وعلى قول آخر :
ليس شــــــــيء إلا وفيـــــــه إذا مـــــــا قابلتــــــه عيــــــن البصــــــير اعتبــــــار
خلافا لسيبويه ، الذي لا يجيز ذلك ويؤول ما جاء منه عن العرب على حذف الخبر .
- وذهابه إلى أن لا سيما من أدوات الاستثناء ، خلافا لسيبويه وجمهور البصريين في أن سي اسم لا النافية للجنس مبني على الفتح ، وما بعدها إما مجرور بإضافة سي إليه وعد ما زائدة ، وإما مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وما موصولة بمعنى الذي والتقدير لا سي الذي هو زيد ، وإما منصوب على التمييز .
- وزيادته على البصريين في العوامل المعنوية ، ففي حين رأوها اثنين هما الابتداء في المبتدأ ، والتجرد من الناصب والجازم في المضارع المرفوع ، أضاف إليهما العامل في الخبر ، فهو معنوي عنده ، وهو الابتداء ، والعامل في النعت والتوكيد والبدل وهو معنوي عنده لأنه التبعية للمنعوت والمؤكد والمبدل منه .
- ومتابعته الكوفيين في جواز إلغاء العامل مع تقدمه على المعمول سواء أكان هذا العامل فعلا أم حرفا ، فيجوز القول : ظننت زيد قائم ، قياسا على قول كعب بن زهير :
أرجــــــو وآمــــــل أن تدنــــــو مودتهـــــا ومـــــا إخـــــال لدينـــــا منـــــك تنــــويل
وعلى قول غيره :
كــذاك أدبـــت حـــتى صــار مــن خــلقي أنـــــي وجـــــدت ملاك الشــــيمة الأدب
وكذلك ورد قول الشاعر :
لـــولا فـــوارس مـــن ذهـــل وأســـرتهم يــــوم الصليفــــاء لــــم يوفـــون بالجـــار
على إلغاء عمل "لم" .
- تجويزه اشتقاق صيغة التعجب من غير الفعل الثلاثي مباشرة نحو : ما أتقنه وما أخطأه ، كما جوز ذلك مباشرة من العاهات نحو : ما أعوره وما أعرجه ، وتبعه فيهما الكسائي ، خلافا لسيبويه وجمهور البصريين .
- وتجويزه - وتبعه الكوفيون - حذف الجزء الثالث من جمع ؛ مثل : فرزدق ، فيقولون : فرادق ، خلافا لسيبويه والبصريين الذين يرون القياس في جمعه فرازق بحذف الحرف الرابع .
- ذهابه إلى أن وزن "هجرع" بمعنى الطويل ، و"هبلع" بمعنى الأكول "هفعل" بزيادة الهاء فيهما ؛ لأن الأولى مشتقة عنده من الجرع أي المكان السهل ، والثانية مشتقة من البلع ، خلافا لسيبويه الذي ذهب إلى أنه "فعلل" .
وذهابه - وتبعه الكسائي - إلى أن "من" الجارة تزاد في الإيجاب مثل : وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ .
- قوله - وتابعه الفراء - بجواز تأخير الخبر إذا كان المبتدأ مبدوءا بأن مفتوحة الهمزة نحو : أن العلم نور قول مشهور ، فقد قاسه الأخفش على مجيء الخبر مؤخرا مع أن المصدرية في نحو : وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ .
- وقوله : - وتابعه الكوفيون - إن المبتدا إذا كان اسم فاعل أغنى فاعله عن الخبر بدون اعتماد على نفي أو استفهام مثل : قائم الزيدان ، وكذلك إذا كان اسم الفاعل اسما لإن ؛ نحو : إن قائما الزيدان .
- إجازته - وتابعه الكوفيون - حذف الاسم الموصول إذا علم ؛ كقول حسان :
فمـــن يهجــــو رســــول اللــــه منكــــم ويمدحـــــــــه وينصـــــــــره ســـــــــواء
أي : ومن يمدحه .
- ذهابه مع يونس البصري والكوفيين وتبعهم ابن مالك إلى عدم وجوب إعادة الخافض إذا عطف على الضمير المتصل المخفوض ، مستدلين بقراءة حمزة من السبعة وابن عباس والحسن البصري : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ بخفض ( الأرحام ) وعدم إعادة الباء ، وذلك خلافا لأكثر البصريين الذين يأخذون بقراءة جمهور السبعة المرسومة في المصحف وهي "تساءلون به والأرحام" على تقدير "واتقوا الأرحام أن تقطعوها" .
لا يجوز عند جمهور البصريين أن نقول : "كم غلمانا عندك ؟" خلافا للكوفيين ، الذين يجوزون جمع تمييز ( كم ) الاستفهامية كهذا المثال ، وكقولنا : "كم شهودا لك ؟" وذهب الأخفش إلى جواز جمع تمييز ( كم ) الاستفهامية شريطة أن يكون الاستفهام والسؤال عن الجماعات والأصناف كهذين المثالين إذا أردت منهما أصنافا من الغلمان وجماعات من الشهود .
يستغنى عن تثنية أجمع وجمعاء بكلا وكلتا كما استغنوا بتثنية سي عن تثنية سواء ، فقالوا : سيان ، ولم يقولوا : سواءان ، إلا نادرا ، وأجاز الأخفش والكوفيون تثنية أجمع وجمعاء . فقالوا : جاء الزيدان أجمعان وجاءت الهندان جمعاوان ، وهذا الخلاف جار أيضا بين الفريقين في تثنية ما وازنهما نحو : أكتع وكتعاء وأبصع وبصعاء .
يرى جمهور البصريين أن البدل إن كان غير دال على الإحاطة فإنه يمنع بدل الكل من الكل ، وقول الشاعر : -
بكـــم قــــريش كفينــــا كــــل معضلــــة وأم نهــــج الهــــدى مـــن كـــان ضلـــيلا
محل خلاف ، فهذا الجمهور لا يثبتون بدل الكل فيه ؛ لأن البدل في البيت غير دال على الإحاطة ، والأخفش والكوفيون يقولون به تمسكا بهذا البيت ويرون أن قريشا بدل كل من ضمير الحاضر وهو الكاف في "بكم" على الرغم من أن البدل لم يدل على الإحاطة ، فهم لا يشترطون ذلك فيه .
"يا تميم كلهم أو كلكم" هذا مثال لتابع التوكيد المعنوي المضاف الذي يجب نصبه عند النحاة ، ويوجد مع تابع المنادى في هذا المثال ضمير ، وهذا الضمير يجوز أن يؤتى به دالا على الغيبة باعتبار الأصل ، فيقال : "كلهم" ، وأن يؤتى به دالا على الحضور باعتبارالحال فيقال : "كلكم" ، لكن الأخفش منع مراعاة الحال وقال في "يا تميم كلكم" يجوز رفع التوكيد ونصبه ، فإن رفع فهو مبتدأ وخبره محذوف أي "كلكم مدعو" وإن نصب فبفعل محذوف أي "كلكم دعوت" .
"ثم" حرف عطف يفيد الجمع والترتيب والمهلة ، وذهب الأخفش إلى أن "ثم" قد تتخلف عن التراخي بدليل قولك : "أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب" لأن ثم في هذا القول جاءت في الترتيب الإخباري ولا تراخي بين الإخبارين .
قال الشاعر :
لكنـــــه شـــــاقه أن قيـــــل ذا رجـــــب يــــا ليــــت عــــدة حــــول كلـــه رجـــب
توكيد النكرة "حول" توكيدا معنويا بـ"كله" كما في هذا البيت صحيح ، لكنه شاذ عند جمهور البصريين ، لأنه نادر أو قليل فيحفظ ولا يقاس عليه ، وقد تابعهم ابن هشام على ذلك في بعض كتبه كالشذور والقطر .
ورأى الأخفش وجمهور الكوفيين أن توكيد النكرة توكيدا معنويا صحيح مطرد شريطة أن يكون هذا النوع من التوكيد للنكرة مفيدا ، وأنشدوا هذا البيت ونحوه دليلا على ذلك ، وقد تابعهم ابن هشام على رأيهم هذا في بعض كتبه الأخرى كالتوضيح ، واختار هذا الرأي أيضا ابن مالك والرضي الإستراباذي والشاطبي .
بعد هذه الأمثلة الكثيرة يمكن القول إن الأخفش قد التقى في مسائل كثيرة مع الكوفيين من خلال التأثير المتبادل بينهم وبينه ، لكن تأثيره فيهم وإعانته لهم على تحقيق غرضهم في إنشاء مذهب خاص بهم مغاير في أطره العامة وفي كثير من فروعه لمذهب البصريين - كانا أشد وضوحا وأكثر ظهورا .
وقد بدا تأثر الأخفش بالكوفيين خاصة في المسائل التي كان له فيها أولا رأي كرأي البصريين ثم ما لبث أن تركه إلى رأي آخر يماثل رأيهم ، ومن العسير فيما عدا هذا أن نحدد أي المسائل وافق فيه الكوفيين وأيها وافقوه فيه .
ويعد الأخفش واحدا من أعلام مدرسة البصرة المقدمين ، وأكبر أئمتها بعد سيبويه ، وهو نحوي عظيم ملأ الدنيا نحوا ولغة وخلد ذكره بما ترك من آثار وآراء ومواقف في الدرس النحوي واللغوي ، فهو لم يكن دارسا معتادا ممن طواهم التاريخ فلا يذكرهم الناس إلا لماما ، وإنما هو واحد من أبرز المشاهير الخالدين ، بل هو أحد من تميزوا فيهم .
ويؤكد منهج الأخفش العام بصريته ، وذلك على الرغم من خروجه المتكرر على بعض قواعد مدرسته البصرية ، ومحاولته المستمرة الإتيان بجديد في بعض جوانب البحث النحوي ، واشتهاره بالإكثار من مخالفة قومه البصريين ولا سيما أستاذه سيبويه أو بالزيادة عليهم وبمتابعة الكوفيين له في هذه المخالفات والزيادات ، أو بمتابعته الكوفيين في آرائهم في كثير من الأحيان .
وكان من المفروض أن يلتزم الأخفش كغيره من نحاة البصرة بخط قومه البصريين التزاما دقيقا ، وينهج نهجهم ، فلا يحيد عنه ولا يخرج منه ، ولكنه ذهب إلى بغداد لينتقم من الكسائي الكوفي لهزيمة أستاذه سيبويه إمام البصريين أمامه في المناظرة الشهيرة في المسألة الزنبورية ، فكان ذهابه نقطة التحول الرئيسة في حياته العلمية ، إذ لم يلبث أن انقلب هدفه بعد وصوله إلى عاصمة الخلافة ولقائه مع الكسائي ، ونسي أو تناسى ما جاء من أجله وأصبحت الدنيا همه ، وتوارى الغرض العلمي من زيارة بغداد ليحل محله الغرض الدنيوي ، لما رآه فيها مما لم يألف رؤيته في البصرة من دعة العيش ورفاهة ، ومن النفوذ الذي شاهد النحاة الكوفيين ينعمون به والمجد الذي عاينهم يتقلبون في أعطافه إلى جوار الخلفاء العباسيين ، الذين أحبوهم وقربوهم ؛ لأنهم كانوا شيعة لهم ، في حين كان البصريون شيعة للأمويين فتطلع إلى أن يصبح مثلهم وينعم بنحو ما ينعمون به فيقضي سائر أيام حياته في خير ونعمة لن يتاحا له لو بقي في مدينته البصرة .
وهكذا تحول الأخفش من نحوي بصري الهوى والالتزام إلى صديق للكسائي رأس الكوفيين وللفراء إمامها ولغيرهما من أقطابهم ، واستحال تحرشه بهم محبة لهم وتعلقا بهم وتقربا منهم ، ثم إن الكوفيين أنفسهم لم يكرهوا ذلك ، بل قربوه وصادقوه وبجلَّوه ، وقرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه سرا ، وأطعمه بالمال وقربه منه ووكل إليه أمر تدريس أولاده ، بل أتاح له أن يقوم فيما بعد بتأديب أولاد الخلفاء العباسيين وغيرهم من الأمراء والوجهاء .
كل هذا جعل هوى الكوفيين يتسرب إلى نفسه ، والميل إليهم يملأ قلبه فشرع يقف معهم في آرائهم أو يقفون معه في آرائه ، وكثر خروجه على قومه واختلافه معهم ومخالفته لأحكامهم ، ومال إلى اللين والتساهل في مواقفه كالكوفيين ، ورجع عن كثير من آرائه السابقة إرضاء لهم أو قناعة بهم ، واستمر على هذا إلى أن عاد فيما بعد إلى موطنه في البصرة فعاد إليه شيء من الالتزام ومقدار من التشدد وعدم التسمح ، ولعل في هذا ما يفسر اضطراب آرائه في شطر لا بأس به من فروع النحو ومسائله .
وقد تمكن الأخفش بذكائه وعلمه الواسع بلغات العرب ، وبإفساحه المجال لهذه اللغات جميعا حتى للشاذ منها ، وبكثرة اعتراضه على الخليل وسيبويه . . أقول : لقد تمكن بكل هذا من أن ينفذ إلى آراء مبتكرة ، ومن أن يتبوأ مكانته العليا في الدرس النحوي في البصرة ، بل في الكوفة أيضا التي يعد ذا تأثير فيها ؛ لأنه كان أستاذ الكسائي رأس الكوفيين ، الذي أقرأه كتاب سيبويه كما ذكرنا ؛ ولأن الكوفيين حملوا عنه لغاته وآرائه ومخالفاته ، ومضوا يتوسعون فيها ويضيفون إليها ، فتكونت من حصيلة ذلك كله ومن غيره مدرستهم ، وأصبح الأخفش بمثابة من أقام الأساس لها ، وهذا يجعل القول بأن ديدنه كان مخالفة قومه البصريين ومتابعة أخصامهم الكوفيين فحسب - غير دقيق ، فهو الذي فتح لتلميذيه الكسائي والفراء قطبي الكوفيين أبواب الخلاف واسعة على قطبي البصريين الخليل وسيبويه بما بسط من وجوهه ، فتابعاه في كثير منها ، ثم مضيا ومن بعدهما من نحاة الكوفة يتخذون من آرائه منطلقا إلى آرائهم الخاصة بهم .
وفي كتب النحو فيض من الفروع التي وافق فيها الكسائي والفراء بخاصة والكوفيون بعامة - الأخفش في رأيه ، أو في بعض رأيه ، والتي تابع الأخفش فيها الكوفيين ، والتي خالف فيها سيبويه وجمهور البصريين ، والتي زاد فيها عليهم ، والتي وقف فيها موقفا مستقلا ، وغير ذلك ، من هذه الفروع .
ذهب الأخفش - ويتبعه الفراء - إلى أن الضمير في لولاي ولولاك ولولاه مبتدأ ، وقد أناب العرب فيها الضمير المخفوض عن الضمير المرفوع ، فأنابوا لولاي عن لولا أنا ، ولولاك عن لولا أنت ، ولولاه عن لولا هم قياسا على إنابتهم ضمير الرفع عن ضمير الجر في قولهم : ما أنا كأنت ، خلافا لسيبويه الذي ذهب إلى أن لولاه جارة لهذه الضمائر .
- وذهابه إلى جواز دخول الواو على خبر كان وأخواتها إذا كان جملة ؛ نحو : كان محمد ولا حق عنده ، وليس شيء إلا وفيه نقص ، قياسا على قول الشاعر :
مـــــا كـــــان مــــن بشــــر إلا وميتتــــه محتومـــــة لكـــــن الآجـــــال تخـــــتلف
وعلى قول آخر :
ليس شــــــــيء إلا وفيـــــــه إذا مـــــــا قابلتــــــه عيــــــن البصــــــير اعتبــــــار
خلافا لسيبويه ، الذي لا يجيز ذلك ويؤول ما جاء منه عن العرب على حذف الخبر .
- وذهابه إلى أن لا سيما من أدوات الاستثناء ، خلافا لسيبويه وجمهور البصريين في أن سي اسم لا النافية للجنس مبني على الفتح ، وما بعدها إما مجرور بإضافة سي إليه وعد ما زائدة ، وإما مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وما موصولة بمعنى الذي والتقدير لا سي الذي هو زيد ، وإما منصوب على التمييز .
- وزيادته على البصريين في العوامل المعنوية ، ففي حين رأوها اثنين هما الابتداء في المبتدأ ، والتجرد من الناصب والجازم في المضارع المرفوع ، أضاف إليهما العامل في الخبر ، فهو معنوي عنده ، وهو الابتداء ، والعامل في النعت والتوكيد والبدل وهو معنوي عنده لأنه التبعية للمنعوت والمؤكد والمبدل منه .
- ومتابعته الكوفيين في جواز إلغاء العامل مع تقدمه على المعمول سواء أكان هذا العامل فعلا أم حرفا ، فيجوز القول : ظننت زيد قائم ، قياسا على قول كعب بن زهير :
أرجــــــو وآمــــــل أن تدنــــــو مودتهـــــا ومـــــا إخـــــال لدينـــــا منـــــك تنــــويل
وعلى قول غيره :
كــذاك أدبـــت حـــتى صــار مــن خــلقي أنـــــي وجـــــدت ملاك الشــــيمة الأدب
وكذلك ورد قول الشاعر :
لـــولا فـــوارس مـــن ذهـــل وأســـرتهم يــــوم الصليفــــاء لــــم يوفـــون بالجـــار
على إلغاء عمل "لم" .
- تجويزه اشتقاق صيغة التعجب من غير الفعل الثلاثي مباشرة نحو : ما أتقنه وما أخطأه ، كما جوز ذلك مباشرة من العاهات نحو : ما أعوره وما أعرجه ، وتبعه فيهما الكسائي ، خلافا لسيبويه وجمهور البصريين .
- وتجويزه - وتبعه الكوفيون - حذف الجزء الثالث من جمع ؛ مثل : فرزدق ، فيقولون : فرادق ، خلافا لسيبويه والبصريين الذين يرون القياس في جمعه فرازق بحذف الحرف الرابع .
- ذهابه إلى أن وزن "هجرع" بمعنى الطويل ، و"هبلع" بمعنى الأكول "هفعل" بزيادة الهاء فيهما ؛ لأن الأولى مشتقة عنده من الجرع أي المكان السهل ، والثانية مشتقة من البلع ، خلافا لسيبويه الذي ذهب إلى أنه "فعلل" .
وذهابه - وتبعه الكسائي - إلى أن "من" الجارة تزاد في الإيجاب مثل : وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ .
- قوله - وتابعه الفراء - بجواز تأخير الخبر إذا كان المبتدأ مبدوءا بأن مفتوحة الهمزة نحو : أن العلم نور قول مشهور ، فقد قاسه الأخفش على مجيء الخبر مؤخرا مع أن المصدرية في نحو : وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ .
- وقوله : - وتابعه الكوفيون - إن المبتدا إذا كان اسم فاعل أغنى فاعله عن الخبر بدون اعتماد على نفي أو استفهام مثل : قائم الزيدان ، وكذلك إذا كان اسم الفاعل اسما لإن ؛ نحو : إن قائما الزيدان .
- إجازته - وتابعه الكوفيون - حذف الاسم الموصول إذا علم ؛ كقول حسان :
فمـــن يهجــــو رســــول اللــــه منكــــم ويمدحـــــــــه وينصـــــــــره ســـــــــواء
أي : ومن يمدحه .
- ذهابه مع يونس البصري والكوفيين وتبعهم ابن مالك إلى عدم وجوب إعادة الخافض إذا عطف على الضمير المتصل المخفوض ، مستدلين بقراءة حمزة من السبعة وابن عباس والحسن البصري : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ بخفض ( الأرحام ) وعدم إعادة الباء ، وذلك خلافا لأكثر البصريين الذين يأخذون بقراءة جمهور السبعة المرسومة في المصحف وهي "تساءلون به والأرحام" على تقدير "واتقوا الأرحام أن تقطعوها" .
لا يجوز عند جمهور البصريين أن نقول : "كم غلمانا عندك ؟" خلافا للكوفيين ، الذين يجوزون جمع تمييز ( كم ) الاستفهامية كهذا المثال ، وكقولنا : "كم شهودا لك ؟" وذهب الأخفش إلى جواز جمع تمييز ( كم ) الاستفهامية شريطة أن يكون الاستفهام والسؤال عن الجماعات والأصناف كهذين المثالين إذا أردت منهما أصنافا من الغلمان وجماعات من الشهود .
يستغنى عن تثنية أجمع وجمعاء بكلا وكلتا كما استغنوا بتثنية سي عن تثنية سواء ، فقالوا : سيان ، ولم يقولوا : سواءان ، إلا نادرا ، وأجاز الأخفش والكوفيون تثنية أجمع وجمعاء . فقالوا : جاء الزيدان أجمعان وجاءت الهندان جمعاوان ، وهذا الخلاف جار أيضا بين الفريقين في تثنية ما وازنهما نحو : أكتع وكتعاء وأبصع وبصعاء .
يرى جمهور البصريين أن البدل إن كان غير دال على الإحاطة فإنه يمنع بدل الكل من الكل ، وقول الشاعر : -
بكـــم قــــريش كفينــــا كــــل معضلــــة وأم نهــــج الهــــدى مـــن كـــان ضلـــيلا
محل خلاف ، فهذا الجمهور لا يثبتون بدل الكل فيه ؛ لأن البدل في البيت غير دال على الإحاطة ، والأخفش والكوفيون يقولون به تمسكا بهذا البيت ويرون أن قريشا بدل كل من ضمير الحاضر وهو الكاف في "بكم" على الرغم من أن البدل لم يدل على الإحاطة ، فهم لا يشترطون ذلك فيه .
"يا تميم كلهم أو كلكم" هذا مثال لتابع التوكيد المعنوي المضاف الذي يجب نصبه عند النحاة ، ويوجد مع تابع المنادى في هذا المثال ضمير ، وهذا الضمير يجوز أن يؤتى به دالا على الغيبة باعتبار الأصل ، فيقال : "كلهم" ، وأن يؤتى به دالا على الحضور باعتبارالحال فيقال : "كلكم" ، لكن الأخفش منع مراعاة الحال وقال في "يا تميم كلكم" يجوز رفع التوكيد ونصبه ، فإن رفع فهو مبتدأ وخبره محذوف أي "كلكم مدعو" وإن نصب فبفعل محذوف أي "كلكم دعوت" .
"ثم" حرف عطف يفيد الجمع والترتيب والمهلة ، وذهب الأخفش إلى أن "ثم" قد تتخلف عن التراخي بدليل قولك : "أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب" لأن ثم في هذا القول جاءت في الترتيب الإخباري ولا تراخي بين الإخبارين .
قال الشاعر :
لكنـــــه شـــــاقه أن قيـــــل ذا رجـــــب يــــا ليــــت عــــدة حــــول كلـــه رجـــب
توكيد النكرة "حول" توكيدا معنويا بـ"كله" كما في هذا البيت صحيح ، لكنه شاذ عند جمهور البصريين ، لأنه نادر أو قليل فيحفظ ولا يقاس عليه ، وقد تابعهم ابن هشام على ذلك في بعض كتبه كالشذور والقطر .
ورأى الأخفش وجمهور الكوفيين أن توكيد النكرة توكيدا معنويا صحيح مطرد شريطة أن يكون هذا النوع من التوكيد للنكرة مفيدا ، وأنشدوا هذا البيت ونحوه دليلا على ذلك ، وقد تابعهم ابن هشام على رأيهم هذا في بعض كتبه الأخرى كالتوضيح ، واختار هذا الرأي أيضا ابن مالك والرضي الإستراباذي والشاطبي .
بعد هذه الأمثلة الكثيرة يمكن القول إن الأخفش قد التقى في مسائل كثيرة مع الكوفيين من خلال التأثير المتبادل بينهم وبينه ، لكن تأثيره فيهم وإعانته لهم على تحقيق غرضهم في إنشاء مذهب خاص بهم مغاير في أطره العامة وفي كثير من فروعه لمذهب البصريين - كانا أشد وضوحا وأكثر ظهورا .
وقد بدا تأثر الأخفش بالكوفيين خاصة في المسائل التي كان له فيها أولا رأي كرأي البصريين ثم ما لبث أن تركه إلى رأي آخر يماثل رأيهم ، ومن العسير فيما عدا هذا أن نحدد أي المسائل وافق فيه الكوفيين وأيها وافقوه فيه .