رباني الأمة
عالم رباني وداعية مجاهد وأديب تميز بجمال الأسلوب وصدق الكلمات، إنه الداعية الكبير ورباني الأمة الشيخ أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ صاحب كتاب من أشهر كتب المكتبة الإسلامية في هذا القرن وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"
--------------------------------------------------------------------------------
من هو أبو الحسن الندوي؟
الشيخ أبو الحسن الندوي غني عن التعريف فقد عرفه الناس من خلال مؤلفاته الرائدة التي تعد من المصابيح التي أضاءت الطريق أمام طلاب العلم من جيله والأجيال التي تلته، ونذكر هنا سطورا ومواقف لا تنسى من حياته.
ولد بقرية تكية، مديرية رائي بريلي، الهند عام 1332هـ/ 1913م.
تعلم في دار العلوم بالهند (ندوة العلماء)، والتحق بمدرسة الشيخ أحمد علي في لاهور، حيث تخصص, في علم التفسير، ومن يوم تخرجه أصبح شعلة للنشاط الإسلامي سواء في الهند أو خارجها، وقد شارك رحمه الله في عدد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية، ومنها تأسيس المجمع العلمي بالهند، وتأسيس رابطة الأدب الإسلامي كما أنه: عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو المجلس التنفيذي لمعهد ديوبند، ورئيس مجلس أبناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية.
يعد من أشهر العلماء المسلمين في الهند، وله كتابات وإسهامات عديدة في الفكر الإسلامي، فله من الكتب: موقف الإسلام من الحضارة الغربية، السيرة النبوية، من روائع إقبال، نظرات في الأدب، من رجالات الدعوة، قصص النبيين للأطفال وبلغ مجموع مؤلفاته وترجماته 700 عنواناً، منها 177 عنوانا بالعربية، وقد ترجم عدد من مؤلفاته إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى.
كان سماحة الشيخ كثير السفر إلى مختلف أنحاء العالم لنصرة قضايا المسلمين والدعوة للإسلام وشرح مبادئه، وإلقاء المحاضرات في الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات تولى منصب رئيس ندوة العلماء منذ عام 1961م وظل فيه حتى وفاته، وقد منح عددا من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
ثناء العلماء عليه
قال عنه الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ: هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه، لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتاً إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها، إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر -رضي الله عنه- بين رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أبو الحسن الندوي - فيما أعلم - هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.
وقد أصدر الدكتور يوسف القرضاوي بيانا من الدوحة نعى فيه العالم الكبير الشيخ أبا الحسن مؤكدا أن الشيخ الندوي كان يمثل نسيجا مميزا من العلماء المسلمين ينضم إلى العلماء الكبار الذين فقدتهم الأمة الإسلامية خلال العام الأخير من القرن العشرين "ابتداء بعلامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مرورا بأديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي ومن بعده الفقيه المجدد العلامة الشيخ مصطفى الزرقا وبعده المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني".
وقال الشيخ القرضاوي في نعيه أن الشيخ الندوي كان يتمتع بخمس صفات تميزه عن غيره من العلماء فهو إمام رباني إسلامي قرآني محمدي عالمي.
فأما أنه رباني فلأن سلف الأمة قد أجمعوا على أن الرباني هو من يعلم ويعمل ويعلِّم وهي الصفات الثلاثة التي كان يتحلى بها الشيخ، وأما أنه إسلامي فلأن الإسلام كان محور حياته ومرجعه في كل القضايا والدافع الذي يدفعه إلى الحركة والعمل والسفر والكتابة والجهاد، ساعيا لأن يقوي الجبهة الداخلية الإسلامية في مواجهة الغزوة الخارجية عن طريق تربية الفرد باعتباره اللبنة الأساسية في بناء الجماعة المسلمة، وأما أنه قرآني فلأن القرآن هو مصدره الأول الذي يستمد منه ويعتمد عليه ويرجع إليه ويستمتع به ويعيش في رحابه ويستخرج منه اللآلئ والجواهر، وأما أنه محمدي فليس لمجرد أنه من نسل الإمام الحسن حفيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكم من حسنيين وحسينيين تناقض أعمالهم أنسابهم [ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه] بل لأنه جعل من الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها واتخذ سيرته نبراسا له في تعبده وزهده وإعراضه عن زخارف الدنيا وزينتها فهو يعيش في الخلف عيشة السلف.
--------------------------------------------------------------------------------
مواقف لاتنسى
وفي حياة الشيخ الندوي مواقف كثيرة فيها دروس وعبر للعاملين على طريق الدعوة ومنها ما يرويه الشيخ يوسف القرضاوي فيقول: أذكر أنه حينما زارنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا في قطر، وكان يشكو من قلة موارد (دار العلوم) بندوة العلماء، اقترح عليه بعض الإخوة أن نزور بعض الشيوخ وكبار التجار، نشرح لهم ظروف الدار ونطلب منهم بعض العون لها فقال:
لا أستطيع أن أفعل ذلك! وسألناه: لماذا؟ قال: إن هؤلاء القوم مرضى، ومرضهم حب الدنيا، ونحن أطباؤهم، فكيف يستطيع الطبيب أن يداوي مريضه إذا مد يده إليه يطلب عونه؟ أي يطلب منه شيئاً من الدنيا التي يداويه منها؟!
قلنا له: أنت لا تطلب لنفسك، أنت تطلب للدار ومعلميها وتلاميذها حتى تستمر وتبقى. قال: هؤلاء لا يفرقون بين ما تطلبه لنفسك وما تطلبه لغيرك ما دمت أنت الطالب، وأنت الآخذ!! وكنا في رمضان، وقلنا له حينذاك: ابق معنا إلى العشر الأواخر، ونحن نقوم عنك بمهمة الطلب. فقال: إن لي برنامجًا في العشر الأواخر لا أحب أن أنقضه أو أتخلى عنه لأي سبب، إنها فرصة لأخلو بنفسي وربي. وعرفنا أن للرجل حالاً مع الله، لا تشغله عنه الشواغل، فتركناه لما أراد، محاولين أن نقلده فلم نستطع، وكل ميسر لما خلق له.
--------------------------------------------------------------------------------
مآثر الشيخ الشخصية والأخلاقية
يقول ا.د.يوسف القرضاوى: الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد أعلام الدعاة إلى الإسلام في عصرنا، بلا ريب ولا جدال، عبَّرت عن ذلك: كتبه ورسائله ومحاضراته التي شرقت وغربت، وقرأها العرب والعجم، وانتفع بها الخاص والعام.
كما أنبأت عن ذلك رحلاته وأنشطته المتعددة المتنوعة في مختلف المجالس والمؤسسات، وبعض كتبه قد رزقها الله القبول، فطبعت مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، وترجمت إلى لغات عدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والحق أن الشيخ - رحمه الله - قد آتاه الله من المواهب والقدرات، ومنحه من المؤهلات والأدوات ما يمكنه من احتلال هذه المكانة الرفيعة في عالم الدعوة والدعاة.
فقد آتاه الله: العقل والحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] والحكمة أولى وسائل الداعية إلى الله تعالى، كما قال -عز وجل- {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
ولهذا نجده يقول الكلمة الملائمة في موضعها الملائم، وفي زمانها الملائم، يشتد حيث تلزم الشدة، حتى يكون كالسيل المتدفق، ويلين حيث ينبغي اللين، حتى يكون كالماء المغدق، وهذا ما عرف به منذ شبابه الباكر إلى اليوم.
--------------------------------------------------------------------------------
الثقافة الواسعة
ويوضح الدكتور القرضاوي أن الثقافة الواسعة هي أهم جوانب حياة الشيخ الندوي فقد آتاه الله: الثقافة التي هي زاد الداعية الضروري في إبلاغ رسالته، وسلاحه الأساسي في مواجهة خصومه، وقد تزوَّد الشيخ بأنواع الثقافة الستة التي يحتاجها كل داعية وهي: الثقافة الدينية، واللغوية، والتاريخية، والإنسانية، والعلمية، والواقعية، بل إن له قدمًا راسخة وتبريزًا واضحًا في بعض هذه الثقافات، مثل الثقافة التاريخية، كما برز ذلك في أول كتاب دخل به ميدان التصنيف، وهو الكتاب الذي كان رسوله الأول إلى العالم العربي قبل أن يزوره ويتعرف عليه، وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي نفع الله به الكثيرين من الكبار والصغار، ولم يكد يوجد داعية إلا واستفاد منه.
وكما تجلَّى ذلك في كتابه الرائع التالي: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" في جزئه الأول، ثم ما ألحق به من أجزاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن الإمام السرهندي: والإمام الدهلوي، ثم عن أمير المؤمنين علي (المرتضى) رضي الله عنه.
وقد ساعده على ذلك: تكوينه العلمي المتين، الذي جمع بين القديم والحديث، ومعرفته باللغة الإنجليزية إلى جوار العربية والأردية والهندية والفارسية، ونشأته في بيئة علمية أصيلة، خاصة وعامة، فوالده العلامة عبد الحي الحسني صاحب موسوعة "نزهة الخواطر" في تراجم رجال الهند وعلمائها، ووالدته التي كانت من النساء الفضليات المتميزات فكانت تحفظ القرآن، وتنشئ الشعر، وتكتب وتؤلف، ولها بعض المؤلفات، ومجموع شعري. كما نشأ في رحاب "ندوة العلماء" ودار علومها، التي كانت جسرًا بين التراث الغابر، والواقع الحاضر، والتي أخذت من القديم أنفعه، ومن الجديد أصلحه، ووفقت بين العقل والنقل، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والإيمان، وبين الثبات والتطور، وبين الأصالة والمعاصرة.
--------------------------------------------------------------------------------
الملكة الأدبية
ووهب الله للشيخ الندوي البيان الناصع والأدب الرفيع، كما يشهد بذلك كل من قرأ كتبه ورسائله، وكان له ذوق وحس أدبي، فقد نشأ وتربي في حجر لغة العرب وأدبها منذ نعومه أظفاره، وألهم الله شقيقه الأكبر أن يوجهه هذه الوجهة في وقت لم يكن يعني أحد بهذا الأمر، لحكمة يعلمها الله تعالى، ليكون همزة وصل بين القارة الهندية وأمة العرب، ليخاطبهم بلسانهم، فيفصح كما يفصحون، ويبدع كما يبدعون، بل قد يفوق بعض العرب الناشئين في قلب بلاد العرب.
يقول الدكتور القرضاوي: لقد قرأنا الرسائل الأولى للشيخ الندوي التي اصطحبها معه حينما زارنا في القاهرة سنة 1951م، ومنها: من العالم إلى جزيرة العرب، ومن جزيرة العرب إلى العالم.. معقل الإنسانية دعوتان متنافستان.. بين الصورة والحقيقة.. بين الهداية والجباية.. وغيرها، فوجدنا فيها نفحات أدبية جديدة في شذاها وفحواها، حتى علّق الشيخ الغزالي -رحمه الله- على تلك الرسالة بقوله: هذا الدين لا يخدمه إلا نفس شاعرة! فقد كانت هذه الرسائل نثرًا فيه روح الشعر، وعبق الشعر. وقرأنا بعدها مقالة: اسمعي يا مصر.. ثم اسمعي يا سورية. اسمعي يا زهرة الصحراء.. اسمعي يا إيران.. وكلها قطرات من الأدب المُصفى.
وقرأنا ما كتبه في مجلة "المسلمون" الشهرية المصرية، التي كان يصدرها الداعية المعروف الدكتور سعيد رمضان البوطي: ما كتبه من قصص رائع ومشوق عن حركة الدعوة والجهاد، التي قام بها البطل المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، وما كتبه من مقالات ضمنها كتابة الفريد "الطريق إلى المدينة" الذي قدمه أديب العربية الأستاذ علي الطنطاوي -رحمه الله-، وقال في مقدمته: يا أخي الأستاذ أبا الحسن! لقد كدت أفقد ثقتي بالأدب، حين لم أعد أجد عند الأدباء هذه النغمة العلوية، التي غنى بها الشعراء، من لدن الشريف الرضي إلى البرعي، فلما قرأت كتابك وجدتها، في نثر هو الشعر، إلا أنه بغير نظام. أ. هـ.
ولا غرو أن رأيناه يحفظ الكثير والكثير من شعر إقبال، وقد ترجم روائع منه إلى العربية، وصاغه نثرًا هو أقرب إلى الشعر من بعض من ترجموا قصائد لإقبال شعرًا.
عالم رباني وداعية مجاهد وأديب تميز بجمال الأسلوب وصدق الكلمات، إنه الداعية الكبير ورباني الأمة الشيخ أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ صاحب كتاب من أشهر كتب المكتبة الإسلامية في هذا القرن وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"
--------------------------------------------------------------------------------
من هو أبو الحسن الندوي؟
الشيخ أبو الحسن الندوي غني عن التعريف فقد عرفه الناس من خلال مؤلفاته الرائدة التي تعد من المصابيح التي أضاءت الطريق أمام طلاب العلم من جيله والأجيال التي تلته، ونذكر هنا سطورا ومواقف لا تنسى من حياته.
ولد بقرية تكية، مديرية رائي بريلي، الهند عام 1332هـ/ 1913م.
تعلم في دار العلوم بالهند (ندوة العلماء)، والتحق بمدرسة الشيخ أحمد علي في لاهور، حيث تخصص, في علم التفسير، ومن يوم تخرجه أصبح شعلة للنشاط الإسلامي سواء في الهند أو خارجها، وقد شارك رحمه الله في عدد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية، ومنها تأسيس المجمع العلمي بالهند، وتأسيس رابطة الأدب الإسلامي كما أنه: عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو المجلس التنفيذي لمعهد ديوبند، ورئيس مجلس أبناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية.
يعد من أشهر العلماء المسلمين في الهند، وله كتابات وإسهامات عديدة في الفكر الإسلامي، فله من الكتب: موقف الإسلام من الحضارة الغربية، السيرة النبوية، من روائع إقبال، نظرات في الأدب، من رجالات الدعوة، قصص النبيين للأطفال وبلغ مجموع مؤلفاته وترجماته 700 عنواناً، منها 177 عنوانا بالعربية، وقد ترجم عدد من مؤلفاته إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى.
كان سماحة الشيخ كثير السفر إلى مختلف أنحاء العالم لنصرة قضايا المسلمين والدعوة للإسلام وشرح مبادئه، وإلقاء المحاضرات في الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات تولى منصب رئيس ندوة العلماء منذ عام 1961م وظل فيه حتى وفاته، وقد منح عددا من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
ثناء العلماء عليه
قال عنه الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ: هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه، لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتاً إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها، إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر -رضي الله عنه- بين رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أبو الحسن الندوي - فيما أعلم - هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.
وقد أصدر الدكتور يوسف القرضاوي بيانا من الدوحة نعى فيه العالم الكبير الشيخ أبا الحسن مؤكدا أن الشيخ الندوي كان يمثل نسيجا مميزا من العلماء المسلمين ينضم إلى العلماء الكبار الذين فقدتهم الأمة الإسلامية خلال العام الأخير من القرن العشرين "ابتداء بعلامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مرورا بأديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي ومن بعده الفقيه المجدد العلامة الشيخ مصطفى الزرقا وبعده المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني".
وقال الشيخ القرضاوي في نعيه أن الشيخ الندوي كان يتمتع بخمس صفات تميزه عن غيره من العلماء فهو إمام رباني إسلامي قرآني محمدي عالمي.
فأما أنه رباني فلأن سلف الأمة قد أجمعوا على أن الرباني هو من يعلم ويعمل ويعلِّم وهي الصفات الثلاثة التي كان يتحلى بها الشيخ، وأما أنه إسلامي فلأن الإسلام كان محور حياته ومرجعه في كل القضايا والدافع الذي يدفعه إلى الحركة والعمل والسفر والكتابة والجهاد، ساعيا لأن يقوي الجبهة الداخلية الإسلامية في مواجهة الغزوة الخارجية عن طريق تربية الفرد باعتباره اللبنة الأساسية في بناء الجماعة المسلمة، وأما أنه قرآني فلأن القرآن هو مصدره الأول الذي يستمد منه ويعتمد عليه ويرجع إليه ويستمتع به ويعيش في رحابه ويستخرج منه اللآلئ والجواهر، وأما أنه محمدي فليس لمجرد أنه من نسل الإمام الحسن حفيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكم من حسنيين وحسينيين تناقض أعمالهم أنسابهم [ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه] بل لأنه جعل من الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها واتخذ سيرته نبراسا له في تعبده وزهده وإعراضه عن زخارف الدنيا وزينتها فهو يعيش في الخلف عيشة السلف.
--------------------------------------------------------------------------------
مواقف لاتنسى
وفي حياة الشيخ الندوي مواقف كثيرة فيها دروس وعبر للعاملين على طريق الدعوة ومنها ما يرويه الشيخ يوسف القرضاوي فيقول: أذكر أنه حينما زارنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا في قطر، وكان يشكو من قلة موارد (دار العلوم) بندوة العلماء، اقترح عليه بعض الإخوة أن نزور بعض الشيوخ وكبار التجار، نشرح لهم ظروف الدار ونطلب منهم بعض العون لها فقال:
لا أستطيع أن أفعل ذلك! وسألناه: لماذا؟ قال: إن هؤلاء القوم مرضى، ومرضهم حب الدنيا، ونحن أطباؤهم، فكيف يستطيع الطبيب أن يداوي مريضه إذا مد يده إليه يطلب عونه؟ أي يطلب منه شيئاً من الدنيا التي يداويه منها؟!
قلنا له: أنت لا تطلب لنفسك، أنت تطلب للدار ومعلميها وتلاميذها حتى تستمر وتبقى. قال: هؤلاء لا يفرقون بين ما تطلبه لنفسك وما تطلبه لغيرك ما دمت أنت الطالب، وأنت الآخذ!! وكنا في رمضان، وقلنا له حينذاك: ابق معنا إلى العشر الأواخر، ونحن نقوم عنك بمهمة الطلب. فقال: إن لي برنامجًا في العشر الأواخر لا أحب أن أنقضه أو أتخلى عنه لأي سبب، إنها فرصة لأخلو بنفسي وربي. وعرفنا أن للرجل حالاً مع الله، لا تشغله عنه الشواغل، فتركناه لما أراد، محاولين أن نقلده فلم نستطع، وكل ميسر لما خلق له.
--------------------------------------------------------------------------------
مآثر الشيخ الشخصية والأخلاقية
يقول ا.د.يوسف القرضاوى: الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد أعلام الدعاة إلى الإسلام في عصرنا، بلا ريب ولا جدال، عبَّرت عن ذلك: كتبه ورسائله ومحاضراته التي شرقت وغربت، وقرأها العرب والعجم، وانتفع بها الخاص والعام.
كما أنبأت عن ذلك رحلاته وأنشطته المتعددة المتنوعة في مختلف المجالس والمؤسسات، وبعض كتبه قد رزقها الله القبول، فطبعت مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، وترجمت إلى لغات عدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والحق أن الشيخ - رحمه الله - قد آتاه الله من المواهب والقدرات، ومنحه من المؤهلات والأدوات ما يمكنه من احتلال هذه المكانة الرفيعة في عالم الدعوة والدعاة.
فقد آتاه الله: العقل والحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] والحكمة أولى وسائل الداعية إلى الله تعالى، كما قال -عز وجل- {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
ولهذا نجده يقول الكلمة الملائمة في موضعها الملائم، وفي زمانها الملائم، يشتد حيث تلزم الشدة، حتى يكون كالسيل المتدفق، ويلين حيث ينبغي اللين، حتى يكون كالماء المغدق، وهذا ما عرف به منذ شبابه الباكر إلى اليوم.
--------------------------------------------------------------------------------
الثقافة الواسعة
ويوضح الدكتور القرضاوي أن الثقافة الواسعة هي أهم جوانب حياة الشيخ الندوي فقد آتاه الله: الثقافة التي هي زاد الداعية الضروري في إبلاغ رسالته، وسلاحه الأساسي في مواجهة خصومه، وقد تزوَّد الشيخ بأنواع الثقافة الستة التي يحتاجها كل داعية وهي: الثقافة الدينية، واللغوية، والتاريخية، والإنسانية، والعلمية، والواقعية، بل إن له قدمًا راسخة وتبريزًا واضحًا في بعض هذه الثقافات، مثل الثقافة التاريخية، كما برز ذلك في أول كتاب دخل به ميدان التصنيف، وهو الكتاب الذي كان رسوله الأول إلى العالم العربي قبل أن يزوره ويتعرف عليه، وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي نفع الله به الكثيرين من الكبار والصغار، ولم يكد يوجد داعية إلا واستفاد منه.
وكما تجلَّى ذلك في كتابه الرائع التالي: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" في جزئه الأول، ثم ما ألحق به من أجزاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن الإمام السرهندي: والإمام الدهلوي، ثم عن أمير المؤمنين علي (المرتضى) رضي الله عنه.
وقد ساعده على ذلك: تكوينه العلمي المتين، الذي جمع بين القديم والحديث، ومعرفته باللغة الإنجليزية إلى جوار العربية والأردية والهندية والفارسية، ونشأته في بيئة علمية أصيلة، خاصة وعامة، فوالده العلامة عبد الحي الحسني صاحب موسوعة "نزهة الخواطر" في تراجم رجال الهند وعلمائها، ووالدته التي كانت من النساء الفضليات المتميزات فكانت تحفظ القرآن، وتنشئ الشعر، وتكتب وتؤلف، ولها بعض المؤلفات، ومجموع شعري. كما نشأ في رحاب "ندوة العلماء" ودار علومها، التي كانت جسرًا بين التراث الغابر، والواقع الحاضر، والتي أخذت من القديم أنفعه، ومن الجديد أصلحه، ووفقت بين العقل والنقل، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والإيمان، وبين الثبات والتطور، وبين الأصالة والمعاصرة.
--------------------------------------------------------------------------------
الملكة الأدبية
ووهب الله للشيخ الندوي البيان الناصع والأدب الرفيع، كما يشهد بذلك كل من قرأ كتبه ورسائله، وكان له ذوق وحس أدبي، فقد نشأ وتربي في حجر لغة العرب وأدبها منذ نعومه أظفاره، وألهم الله شقيقه الأكبر أن يوجهه هذه الوجهة في وقت لم يكن يعني أحد بهذا الأمر، لحكمة يعلمها الله تعالى، ليكون همزة وصل بين القارة الهندية وأمة العرب، ليخاطبهم بلسانهم، فيفصح كما يفصحون، ويبدع كما يبدعون، بل قد يفوق بعض العرب الناشئين في قلب بلاد العرب.
يقول الدكتور القرضاوي: لقد قرأنا الرسائل الأولى للشيخ الندوي التي اصطحبها معه حينما زارنا في القاهرة سنة 1951م، ومنها: من العالم إلى جزيرة العرب، ومن جزيرة العرب إلى العالم.. معقل الإنسانية دعوتان متنافستان.. بين الصورة والحقيقة.. بين الهداية والجباية.. وغيرها، فوجدنا فيها نفحات أدبية جديدة في شذاها وفحواها، حتى علّق الشيخ الغزالي -رحمه الله- على تلك الرسالة بقوله: هذا الدين لا يخدمه إلا نفس شاعرة! فقد كانت هذه الرسائل نثرًا فيه روح الشعر، وعبق الشعر. وقرأنا بعدها مقالة: اسمعي يا مصر.. ثم اسمعي يا سورية. اسمعي يا زهرة الصحراء.. اسمعي يا إيران.. وكلها قطرات من الأدب المُصفى.
وقرأنا ما كتبه في مجلة "المسلمون" الشهرية المصرية، التي كان يصدرها الداعية المعروف الدكتور سعيد رمضان البوطي: ما كتبه من قصص رائع ومشوق عن حركة الدعوة والجهاد، التي قام بها البطل المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، وما كتبه من مقالات ضمنها كتابة الفريد "الطريق إلى المدينة" الذي قدمه أديب العربية الأستاذ علي الطنطاوي -رحمه الله-، وقال في مقدمته: يا أخي الأستاذ أبا الحسن! لقد كدت أفقد ثقتي بالأدب، حين لم أعد أجد عند الأدباء هذه النغمة العلوية، التي غنى بها الشعراء، من لدن الشريف الرضي إلى البرعي، فلما قرأت كتابك وجدتها، في نثر هو الشعر، إلا أنه بغير نظام. أ. هـ.
ولا غرو أن رأيناه يحفظ الكثير والكثير من شعر إقبال، وقد ترجم روائع منه إلى العربية، وصاغه نثرًا هو أقرب إلى الشعر من بعض من ترجموا قصائد لإقبال شعرًا.